يعتمد العالم الغربي على طبقة الانتلجنسيا في إدارة مرافقه التنموية، وهذا لا يخضع للاعتبارات الحزبية بل إلى معياري الكفاءة والخبرة. وإن التغير الذي قد يطرأ على الحكومة نتيجة الانتخابات لا يمس الوظائف والخبرات التي قد لا تكون من نفس حزب الحكومة المنتخبة، لأن السلطة تخضع لمؤسسات الدولة وليس العكس كما هو الحال في النظام الشمولي الذي تفرض السلطة سطوتها على مؤسسات الدولة وتشترط أحزابها الشمولية خضوع تلك المؤسسات وكوادرها إلى منطلقاتها الفكرية. كما أنها تشترط أن يكون القائم على رأس تلك المؤسسات أحد أزلامها وبغرض النظر عن أهليته وكفاءته العلمية والإدارية ويكون صاحب القرار الأوحد فيها.
وبالضد من ذلك نجد في دولة كالسويد مثلاً هناك وزير (ممثلاً للحزب الحاكم) يتسنم أربع وزارات مختلفة، ولكن إدارته لتلك الوزارات شكلية حيث لا يمكنه اتخاذ قراراً منفرداً دون الرجوع إلى نائبه والكادر من المستشارين المحيط به في كل وزارة. وقد حصل أن أدلى الوزير بتصريح لا يتناسب وسياسة وزارة من وزارته وفي اليوم التالي طالبه نائبه عبر الأعلام الاعتذار مهدداً بتقديم استقالته، وأضطر الوزير حينها لتقديم الاعتذار علناً!!.
فالوزير، منصب إداري شكلي يخضع لمجلس استشاري في كل وزارة، وهذا المجلس مؤلف من الخبراء وهو الذي يقرر سياسة تلك الوزارة أي أن الوزارة مؤسسة قائمة بذاتها ولا تخضع في عملها الأساس للقرار السياسي.
في النظام الاشتراكي المنهار، كانت مؤسسات الدولة تخضع للقرار السياسي، أي لمنطلقات الحزب الشمولي. الصراع بين الأنظمة الشمولية والمثقفين:
تنظر الأنظمة الشمولية إلى المثقفين كفئة برجوازية يجب أن تخضع لديكتاتورية البروليتارية. وتلك المنطلقات تسببت في هدر طاقات العديدة من المثقفين في الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تعرض العديد منهم لعقوبة للسجن و النفي، وأنعكس هذا القمع لاحقاً على أداء النظام السوفيتي بالكامل وأدى إلى انهياره.
أن التحدي التكنولوجي-العلمي الذي برز في نهاية القرن الماضي، وبداية هذا القرن تسبب في هزيمة المنطلقات الفكرية الشمولية وبالتالي انحسارها وتراجعها لصالح متطلبات العصر الجديد.
هذا الأمر أدى إلى احتكار الدولة والشركات العملاقة في العالم الغربي لنتاج طبقة الانتلجنسيا مما أدى إلى خلق ديكتاتورية جديدة تقودها الدولة والشركات لتحقيق أهدافها في السيطرة ليس فقط على رأس المال المادي وإنما على رأس المال الثقافي وإعادة تسويقه وفقاً لمتطلبات رأسمال المادي لتحقيق أكبر قدر من الأرباح.
ويمكن القول هناك بوارد لتحالف بين الطبقة الرأسمالية وطبقة الانتلجنسيا وذلك لتوظيف العلوم والثقافة في خدمة رأسمال المادي وبالتالي احتكار أوجه النشاط العلمي- الإنتاجي لتحقيق مونوبول عالمي يتحكم بسرعة التقدم التكنولوجي للدول ويسيطر على القنوات العلمية والإنتاجية على المستوى العالمي.
وإن الرأسمال المادي لم يعد له القدرة على النمو والتطور دون أن يمر عبر مرشحات طبقة الانتلجنسيا التي تتحكم بمرافق العلوم التكنولوجية المختلفة، فما حققه رأسمال من أرباح على مدى عقود من الزمن بفعل المنافسة..وغيرها تمكن شخص واحد من طبقة الانتلجنسيا تحقيق تلك الأرباح خلال ثلاثة سنوات كما هو الحال مع مخترع برنامج الميكروسوفت الذي يتقاضى على استخدام نظامه المعلموماتي أضعاف ما يحققه من أرباح الرأسمال المادي عند استثماره في أي قطاع إنتاجي.
إذاً طبقة الانتلجنسيا المحتكرة للعلوم المختلفة قادرة على خلق ديكتاتورية جديدة لوحدها في العالم، لكن توظيف تلك العلوم يحتاج إلى رأسمال المادي لتثميرها وتحقيق العوائد المتواخاة منها.
في العالم النامي اتجه رأسمال المادي للاستثمار في المجال الثقافي عبر خلق دور للنشر وتوزيع الكتاب وحققو (الوراقيون) أرباحاً طائلة على حساب المثقفين، وأكثر (الشطًّار) في هذا المجال كان (السياسي) الذي استثمر رأسمال المادي (للحزب) لخلق عصابة جديدة تدير الأنشطة الثقافية لا من أجل الثقافة نفسها، بل من أجل تحقيق الأرباح وإذلال المثقفين الذي اكتشفوا بوقت مبكر أحابيل السياسي (الشاطر) وقاطعوه.
ويجد ((غولدنر)) إن الانتلجنسيا في الشرق والغرب هي طبقة تتحكم بإنتاج رأس المال الثقافي وتوزيعه. وهذا الرأسمال الثقافي يفوق رأس المال المادي من حيث الأول ينطوي بخلاف الثاني على علاقة سيطرة وتحكم مُريعين في المجتمع، ولا سيما أن كثيراً من المثقفين يديرون مؤسسات ثقافية ويتحكمون بالمعلومات التقنية اللازمة لتيسير أي مجتمع حديث.
وبما أن المجتمع الرأسمالي، مجتمعاً ديناميكياً تحكمه أسس ديمقراطية، برزت بعض الأصوات من طبقة الانتلجنسيا نفسها وأخذت ترفض هذا التحكم بشكل مبكر حتى لا يؤدي بالنتيجة إلى ديكتاتورية جديدة لا تقل تسلطاً عن ديكتاتورية البروليتاريا.
ويجد ((صلاح الدين حافظ)) بأن النخبة المثقفة هي قاطرة الشد، وعامل التحريك الديناميكي في كل مجتمع. وإن اختلفت النسب والمهام والقدرة على الإنجاز من مجتمع للأخر طبقاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة.
وإن القائمين على رأس مؤسسات المجتمع المدني في العالم الغربي، هم من طبقة الانتلجنسيا التي أخذت ترفض المنطلقات الجديدة للرأسمال المادي الذي يتجه نحو إخضاع الرأسمال الثقافي له والإعداد لديكتاتورية جديدة تجمع بين الرأسمال والثقافة للتحكم بالشعوب!!.
وأنصار الفكر الشمولي، وجدوا ظالتهم في هذا التحول الجديد في النظام الرأسمالي من أجل استعادة سطوتهم السابقة فباشروا العمل على إخضاع مؤسسات المجتمع المدني خاصة في العالم النامي إلى منطلقاتهم الفكرية بغية تجير هذا الصراع ولو بشكل خفٍ لصالحهم وزج مؤسسات المجتمع المدني في حروبهم المحتملة. فمؤسسات المجتمع المدني في العالم بدأت تمارس نضالها على شكل (حرب عصابات) مع العولمة الجديدة. لذا فإن الفكر الشمولي يسعى لحصد النتائج والعودة إلى ديكتاتورية البروليتارية عبر إيهام طبقة الانتلجنسيا بأنهم حلفاء حقيقيون لها!.
أو لربما انتحال أساليب ومفاهيم طبقة الانتلجنسيا في صراعها مع العولمة الجديدة عبر خلق مؤسسات (ثقافية) وهمية لزج أكبر عدد من المثقفين في هذا الصراع لحساب منطلقاتها الفكرية.
واستغلت الأحزاب الشمولية حرية العمل للمنظمات المهنية، وراحت تستخدم (مثقفها الشاطر- الانتهازي والحزبي) لتمري تلك المشاريع (المؤسسات الوهمية).
ويجد ((علي الخليلي)) إن طريق (المثقف الشاطر) الذي يتحسس الحال ويفهمه على إيقاع العصر، يستند إلى ثلاثة عناصر أو ثلاثة إمكانات وهي: أولاً تقديم اقتراح لمشروع ثقافي وثانياً: مشروع الميزانية التمويلية لهذا المشروع الثقافي وثالثاً: أسماء حفنة من المثقفين. فإذا تكاملت هذه العناصر الثلاثة في الشخص (الحرك) لدى العنوان الصحيح في الجهة الأوربية أو اليابانية أو الأمريكية وحتى الإسرائيلية، ويجب بالطبع أن تكون إسرائيلية ذات طابع تقدمي (سلمي، إنساني) وتطبيعي جداً. حينها يتمكن ذلك الشاطر من التحول الفوري من مجرد (نفر مثقف) إلى مؤسسة أهلية واجتماعية وثقافية كاملة الصفات الوطنية في شبكة (المنظمات) غير الحكومية.
ولم تكتفِ الأحزاب الشمولية بالحصة المالية التي تسرقها من منظمات المجتمع المدني، وإنما سعت لخلق أكبر عدد من المنظمات الوهمية. وتسجيليها في شبكة المنظمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة من أجل الهيمنة مستقبلاً على الشبكة وتجير أهدافها السامية لخدمة منطلقاتها الفكرية، وبالتالي تفريغ منطلقات تلك الشبكة التي تسعى عبر نضالها لتحقيق المطالبات الشعبية وانتزاع الحقوق من دول الشمال الغني.
ومن خلال هذه العودة للأحزاب الشمولية وبلباسها الجديد، سيتم استنزاف المثقفين في صراعين كبيرين هما صراع مع ديكتاتورية رأسمال الثقافي المستجدة وصراع مع الطارئين على الحركة الثقافية من أنصار الفكر الشمولي.