كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 2098 - 2007 / 11 / 13 - 11:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا أشعر بالسعادة أو الراحة النفسية حين أجد نفسي أمام حالة فريدة كالتي تواجهني اليوم. فمنذ فترة وجيزة كتبت مقالاً أدافع فيه عن السيد الدكتور سعد الدين إبراهيم بسبب الهجرة القسرية التي فرضها على نفسه خشية اغتياله في مصر , بعد أن قرأت ما ذكره بهذا الصدد في إحدى مقابلاته الصحفية الأخيرة. واليوم أعود لأكتب مقالاً مختلفاً فيه ومخالفا لوجهة نظر الدكتور سعد الدين إبراهيم بسبب مقالين كتبهما تحت عنوان "فيتنام والبحث عن مستقبل للعراق؟" الذي نشر في موقع مركز أبن خلدون الإلكتروني في شهر تشرين الأول / أكتوبر 2007, ومقال آخر نشر في تشرين الثاني/نوفمبر 2007 تحت عنوان " من فيتنام.. للجزائر.. للعراق" في موقع كاتب الإلكتروني. وقد قرأت عدة مقالات كتبت معارضة وجهة نظر الزميل سعد الدين إبراهيم , ومنها مقال الصديق الدكتور عبد الخالق حسين تحت عنوان "رد على مقال الدكتور سعد الدين إبراهيم (من فيتنام.. للجزائر.. للعراق( " , ومقال السيد هوشنك بروكا تحت عنوان "لا فرق بين الزرقاوي وهوشي مينه إلا بالتقوى" على الإنترنت. وقبل ذاك كانت هناك مقالات أخرى ضد مقالات ومواقف نشرها الدكتور سعد الدين إبراهيم , ومنها مقالات الدكتور السيد القمني.
لا شك بأني سأبقى أدافع عن حرية هذا الرجل وعن حقه في التفكير والكتابة بما يتفق أو يختلف مع أي فكر وموقف سياسي آخر , بغض النظر عن اختلافنا في الفكر والسياسة والمواقف. وحين اعتقل في القاهرة بسبب اتهامه بالعمل مع الولايات المتحدة أو لصالحها أو حصول مركز أبن خلدون على دعم مالي باعتباره منظمة غير حكومية, وقفت إلى جانبه واعتبرت تهمة العمل مع الولايات المتحدة غير واردة ولم أصدقها. وقد أفرج عنه أيضاً. ولا شك في أني سأبقى أحترم الدكتور سعد الدين إبراهيم لأرائه ومواقفه الكثيرة التي عبر فيها عن قضايا تمسنا جميعاً في منطقة الشرق الأوسط وحرك باتجاه العمل من أجل مجتمع مدني ديمقراطي علماني ومن أجل حقوق الإنسان , إضافة إلى مواقفه السليمة إزاء القوميات الأخرى في الدول العربية. والاختلاف في الرأي يفترض أن يحفظ الود والاحترام بين المتناقشين. ولن ينفع التشديد في الكلمات , بل يفترض أن يناقش الإنسان الأمور بهدوء وموضوعية للوصول إلى إقناع من يختلف معه بوجهة نظره ’ أو أن يقنع هو الآخر بوجهة نظره , فالنقاش درب باتجاهين وليس باتجاه واحد.
قرأت المقالين اللذين كتبها السيد الدكتور سعد الدين إبراهيم فوجدت فيه نقاط مهمة كان ينبغي أن لا تفوت على من ناقشه لإبراز المتفق عليه معه أولاً ثم مناقشته على الأفكار الأخرى , لكي لا يبدو المناقش أنه وحيد الجانب.
في المقالين المشار إليهما تحدث الدكتور إبراهيم عن تجربتين مهمتين عشناها في القرن العشرين وكنا شاهدين على أحداثِهما, هما تجربة فيتنام وتجربة الجزائر. أؤيد بحرارة كل ما جاء في هذين المقالين من ملاحظات واستنتاجات حول تجربتي فيتنام والجزائر وحول السلوك والسياسة الأمريكية والفرنسية, وخاصة أهمية ابتعاد الشعوب عن اجترار الماضي والسقوط في شباك التفكير بالمؤامرة , بل العمل من أجل بناء المستقبل والمنجزات التي يحققها شعب فيتنام بالقياس مع النواقص التي رافقت تجربة البناء في الجزائر بعد التحرير مثلاً والعوامل الكامنة رواء هذا التباين في سيرورة وصيرورة البناء والتنمية في هاتين التجربتين.
كما أتفق مع السيد الدكتور إبراهيم بان الولايات المتحدة التي دخلت العراق لتحريره من الدكتاتورية الطاغية , لم تعمل كما ينبغي لتحقيق ما وعدت به , بل نعرف كلنا ما فعله بريمر بتوجيه من الرئيس الأمريكي بوش والمحافظين الجدد. وإذ كانت الطائفية موجودة في العراق في زمن الطاغية صدام حسين بصورة غير رسمية ولكنها ممارسة يومية , فإنها فيما بعد وبعد سقوطه اتخذت طابعاً ووجهة رسمية بمساعدة مباشرة من الولايات المتحدة , وهي الحالة التي ما يزال العراق كله يعاني منها. كما أن الولايات المتحدة وعلى مدى أربع سنوات لم تعد النظر بجدية في استراتيجيتها في العراق وفي المنطقة , وهي الآن تحاول ذلك بطريقة بطيئة ومعقدة جداً أشبه بولادة قيصرية معقدة. علينا أن لا نبخس حق الزميل سعد الدين إبراهيم في الملاحظات النقدية التي أشار إليها , خاصة وأن الكاتبين السيد الدكتور عبد الخالق حسين والسيد هوشنك بروكا كانا باستمرار ولا زالا ينتقدان القصور في السياسة الأمريكية والوضع الطائفي في العراق وينبهان إلى مخاطر استمراره , بل كان لا بد من الإشارة إليه والاعتراف بصوابه لكي نتبين بوضوح أين نتفق معه وأين نختلف وإياه , وأين يفترض فيه , كرجل علم , أن يعيد النظر في مواقفه بهدف الوصول إلى درب يسهل علينا السير فيه ومواصلة النقاش معه ويسهل بالتالي الوصول إلى نتائج إيجابية.
حين قرأت المقالين اللذين كتبهما الدكتور سعد الدين إبراهيم فوجئت بالمقال الثاني حين وضع اسم العراق بجوار فيتنام والجزائر بسبب الاختلاف الكبير بين الحالتين الأولى والثانية من جهة , والحالة الثالثة التي تمس العراق من جهة أخرى. وفوجئت أكثر حين قرأت النص التالي :
"فما هي الخطوط التي تجمع بين فيتنام والجزائر والعراق؟ ـ الخط الأول هو الاحتلال الأجنبي.
ـ الخط الثاني هو المقاومة.
ـ الخط الثالث هو الكفاح الشعبي المسلح.
وقد اتضح من تجارب عديدة أن «الاحتلال الأجنبي»، مهما كانت أسبابه ومبرراته، لا بد أن يفرز «مقاومة وطنية»، حتي لو كان المحتلون «ملائكة». ومهما كانت هناك أسباب موضوعية، مثل استيفاء ديون، ومهما كانت المبررات وجيهة، مثل تخليص شعب من حاكم ديكتاتوري، أو من نظام دموي مستبد، وحتي لو رحب به بعض الناس في البداية، فإن عاجلاً أو آجلاً، يستيقظ الضمير الوطني، وتبدأ الدعوة لإنهاء الاحتلال.. وتكون هذه الدعوة في البداية سلمية. ولكن عدم الاستجابة من قوي الاحتلال يدفع أبناء البلد المحتل لرفع السلاح، وهو ما حدث ويحدث في البلدان الثلاثة، التي وردت أسماؤها في عنوان المقال.
فحينما احتلت فرنسا فيتنام والجزائر، كانت مبرراتها هي أن لديها «رسالة حضارية»، وهي تمدين الشعبين. وحينما انسحبت فرنسا من فيتنام وحلت محلها أمريكا كقوة محتلة، ادعت أنها ذهبت إلي هناك لإنقاذ الشعب الفيتنامي من «الخطر الشيوعي» الذي يهدده من الشمال، أي الصين الشعبية، أو قوات هوتشيه منه، والذي كان بدوره شيوعياً، وحليفاً للصين وللاتحاد السوفييتي.
وفي حالة العراق، فإن أمريكا ادعت أنها ذهبت إلي هناك لتخليص الشعب العراقي من طغيان صدام حسين، ومن استبداد حزب البعث، وللبحث عن أسلحة الدمار الشامل، التي يمكن أن تهدد المنطقة والعالم. وفي حالة أفغانستان، كان المبرر هو القضاء علي تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان»، وخاصة بعد تفجيرات مركز التجارة العالمي في نيويورك، والبنتاجون في واشنطن". (راجع: مقال "من فيتنام.. للجزائر .. للعراق". موقع كاتب الإلكتروني).
مقالات الدكتور سعد الدين إبراهيم الأخيرة بهذا الصدد تتسم بثلاث مؤشرات خطيرة , وهي :
1. اعتبار ما يجري في العراق مماثلاً لما كان يجري في الجزائر وفيتنام من نضال ضد المستعمرين , سواء أكانوا فرنسيين أم أمريكيين.
2. وهذا يعني دون أدنى مواربة تأييده للعنف الجاري في العراق باعتباره مقاومة وطنية.
3. وهذا يعني بدورة منحه براءة ذمة لكل قوى الإسلام السياسي المتطرفة والسلفية الإرهابية والقوى البعثية الصدامية التي ماست ولا تزال تمارس القتل العمد والوحشي عبر الجماعات والسيارات المفخخة والاغتيالات التي حصدت حتى الآن مئات ألوف العراقيين , باعتبار ما يمارسونه في العراق يدخل ضمن نشاط المقاومة المسلحة المطلوبة لمقاومة المحتل.
ولكن ماذا يعني هذا الحكم المطلق على ما يجري في العراق حالياً وتبرئة ساحة قوى الإرهاب؟
ابتداءً لا بد من أن أضع شكوكي أمام جميع القارئات والقراء لكي يقوموا معي بالتفكير بما يمكن أن يؤول إليه الإرهاب الفكري الذي تمارسه قوى الإسلام السياسي في مصر على فكر بعض المثقفين. إذ يبدو لي بصراحة ما يلي:
• إن الدكتور سعد الدين إبراهيم الذي اتهم بالعمل مع دولة أجنبية , وهي الولايات المتحدة , يعاني من استمرار ملاحقته من قبل قوى سياسية معينة في مصر , وبالتالي يسعى إلى تبرئة ذمته من كل علاقة له بالولايات المتحدة من خلال الهجوم عليها وبالطريقة غير المعهودة في كتاباته السابقة.
• وأن الدكتور سعد الدين إبراهيم بدأ , ومنذ خروجه من السجن , باتخاذ مواقف فيها الكثير من الحماس لقوى وحركة الإسلام السياسي السلفية , وخاصة الإخوان المسلمين بكل أجنحتها , وخاصة الجناح العسكري المتشدد الذي يعتبر أسامة بن لادن وأيمن الظواهري , والمقتول أبو مصعب الزرقاوي جزءاً منه. إذ أن المقال لا يميز بين القتلة في العراق , بل أطلق عليهم جميعاً بالمقاومة الشعبية أو الوطنية , وهنا يكون السؤال: هل نشأ هذا الموقف خشية من هذا التيار أو تعاطفاً معه أو تحولاً صوبه. ونحن نعرف أن عدداً غير قليل من الناس إما أجبروا على التحول أو أعلنوا التوبة لأسباب كثيرة أو صار لديهم تحول فكري فعلي. حتى الأستاذ الفاضل السيد القمني أجبر لفترة الكف عن الكتابة تحت تهديد وإرهاب الإسلام السياسي , ثم عاد إلى الكتابة بنفس النهج العلماني والديمقراطي.
ولكن لِمَ لم يحاول الدكتور إبراهيم البدء بحوار أو نقاش مفتوح مع القوى اللبرالية والديمقراطية العراقية حول الوضع في العراق قبل أن يصدر أحكاماً بهذه الصورة. لِمَ لم يحاول زيارة بغداد حين كان في إقليم كُردستان , ولِمً لم يعبر عن هذا الرأي هناك لكي يناقشه مباشرة , بل نشره في صحف قطرية معروفة في موقفها من أحداث العراق , وهو لا يختلف في ما طرحه عن العراق ما تطرحه قناة الجزيرة ذات الولاءات المعروفة لنا جميعاً.
ليس هناك من يؤيد الاحتلال أو استمرار وجود قوات احتلال في العراق؟ وكان على الزميل إبراهيم وهو السياسي أن يسأل نفسه : ألم يكن صدام حسين وطغمته مسئولة عن جلب القوات الأمريكية إلى العراق؟ ولماذا لا يفكر بأن إزالة الاحتلال لا تتم بالسلاح باستمرار , بل يمكن خوض النضال بطرق أخرى كثيرة بعد أن يكون المجتمع قد استطاع تحسين الوضع الداخلي الذي أشعلته قوى صدام حسين وقوى القاعدة فترة طويلة. وهل يمكن استخدام السلاح في كل الظروف أم يفترض معرفة ميزان القوى وسبل التعامل مع الأحداث. هو نفسه يقول : وبعد أن تعجز عن استخدام الأساليب السلمية تلجأ القوى الوطنية إلى ممارسة المقاومة. ولكن ألا يدري بأن هذه القوى بدأت بالنهب والسلب وإشاعة الفوضى في البلاد منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام ومن ثم رفعت السلاح لا بوجه قوات الاحتلال , بل بوجه الشعب وقتلت أكثر من 300 أستاذ جامعي وما يقارب ذلك من الصحفيين وعشرات الألوف من الناس العراقيين.
لم يميز الرجل بين طبيعة الاحتلال التي تعرضت لها فيتنام وتلك التي كانت في الجزائر ومن ثم أسباب دخول القوات الأمريكية إلى العراق. لقد كنت رافضاً للحرب , ولكن كيف يفترض أن يكون الموقف بعد أن أصبحت القوات الأجنبية في العراق وسقط أسوأ وأخس وأحط دكتاتور عرفه العراق طيلة تاريخه , دكتاتور عنصري وطائفي ومارس القتل الجماعي والإبادة البشرية وأغرق العراق بالحروب والغزو وملأ أرض العراق بالمقابر الجماعية. لم يقبل العراقيون بقرار الاحتلال , ولكنهم يتعاملون بطرق مختلفة للخلاص من وجود القوات الأجنبية بعد أن ينهوا الإرهاب الدموي الذي عاشه العراق طيلة السنوات الأربع المنصرمة.
لم يستطع الرجل أن يميز بين المقاومة الوطنية وبين القوى الظلامية التي تريد فرض نظام مماثل لنظام طالبان الأفغاني في العراق , سواء على الطريقة السنية أم الشيعية. برزت في العراق قوى سنية مثل هيئة علماء المسلمين الحليف الفعلي للقاعدة في العراق ومانح الحماية لها , وقوى شيعية تريد فرض النفوذ الإيراني في العراق بحجة الخلاص من الاحتلال الأمريكي هو قوى جيش المهدي بتياره الصدري الفاعل , وكلاهما يشكل خطراً على العراق. وهذا لا يعني أن قوى الإسلام السياسي الأخرى لا تشكل على مستقبل عراق مدني ديمقراطي علماني حديث , بل سيبقى الخطر قائماً ما دامت هناك قوى وأحزاب سياسية تقوم على أساس ديني , لا بد أن يكون طائفياً في ظروف العراق الملموسة.
كم كان ضرورياً للدكتور إبراهيم أن لا يقع في مطب دعم قوى الإرهاب بحجة دعم المقاومة الشعبية التي يعتقد أن الدكتور خير الدين حسيب أو عبد الجبار الكبيسي أو عزة الدوري أو حارث الضاري. إن هؤلاء جميعاً قد تحالفوا منذ سنوات مع كل القوى الإرهابية في العراق بصيغ وأساليب مختلفة. وهي ذات القوى التي كانت جزءاً من النظام أو ساندت وجوده ودعمت سياساته بصورة مباشرة ا غير مباشرة.
السؤال الذي يفترض الإجابة عنه هو : من الذي يقتل بنات وأبناء الشعب العراقي أليست ذات القوى القومية اليمينية المتطرفة وقوى الإسلام السياسي وبعض قوى اليسار المتطرفة التي لا تمتلك قاعدة شعبية لها على الأرض ولكنها تكثر الصراخ والعويل على استقلال البلاد, والتي تسميها بالمقاومة الشعبية والتي تشترك معك بهذا الرأي. وهي ذات التي قامت بقتل الناس في فترة حكم صدام حسين أو سكتت كلية عن الجرائم الفردية والجماعية والإبادة البشرية التي مارسها صدام حسين في العراق؟
هل تعتقد حقاً أن المجرمين أتباع صدام حسين وأتباع القاعدة هم من المناضلين على غرار هوشي منّه وأتباعه الشجعان , أو أنهم يماثلون في نضالهم قوى جبهة التحرير الجزائرية؟ لا شك في أن من يفكر بهذه الطريقة قد ترك خلفه النضال في سبيل حقوق الإنسان والحرية الفردية والديمقراطية , وهو ما لا أرجوه للسيد الدكتور إبراهيم.
العراق حالياً لا يعرف الديمقراطية بسبب الطائفية السائدة فيه , ولكن أليس من واجبنا ونحن نكافح الطائفية ونسعى لإنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق أن نناضل ضد من يعمل بجهد مثابر على إبقاء القوات الأجنبية في العراق من خلال مواصلة قتل الناس الأبرياء من العراقيات والعراقيين. ألا ترى كيف اجبر الناس في الفلوجة والرمادي وديالى أن تناضل ضد أولئك المجرمين الذين حولوا مجتمعات تلك المدن والمحافظات إلى رهائن في أيديهم. وهل تعتقد بأن جماعة جيش المهدي المتهمة بتلطيخ أيديها مع غيرها من الجماعات المتطرفة والإرهابية بدماء العراقيات والعراقيين من شيعة وسنة ومن مسيحيين وصائبة وفي مختلف المدن الجنوبية والوسطى من العراق وفي كركوك أيضاً , هي التي تمثل المقاومة الشعبية ضد المحتلين في العراق؟ من المؤسف أن أقول بأنك ترتكب خطأ فادحاً بتأييدك لهذه الجماعات الدموية , بل تصبح دون أن تشعر شريكاً لهم في الفكر والممارسة النظرية ودافعاً لاستمرار عملياتهم الإجرامية ضد الشعب العراقي. الاختلاف في الرأي فضيلة , ولكن إعلان تأييد قوى إرهابية لا تزال توغل في قتل العراقيات والعراقيين هو الذي لم يكن ينتظره أي إنسان ديمقراطي في العراق من عالم الاجتماع الدكتور إبراهيم , وأرجو أن لا يكون الأمر بهذا الشكل.
ليست مشكلة أن تنتقد الوضع القائم في العراق , فأنا من اشد المنتقدين للوضع القائم بسبب السياسات الطائفية وتوزيع الحكم والمؤسسات الدستورية والتنفيذية والقضائية على أسس طائفية مقيتة , وليس مشكلة أن تنتقد غياب الديمقراطية الحقيقة والحرية الفردية بسبب سيادة الإرهاب الدموي في العراق وبسبب هيمنة الطائفية , فانا وعشرات الكاتبات والكتاب العراقيين يمارسون هذا النقد يومياً , بل يفترض أن تشترك معنا في هذا النقد من أجل إصلاح الوضع في العراق , ولكن ليس من المروءة بمكان أن تؤيد قوى الإرهاب الدموي في العراق وتشبه القتلة في بلادي بمناضلين أشداء قاوموا الاحتلال في فيتنام والجزائر , ولكنهم لم يقتلوا بنات وأبناء شعبهم.
لم أكف عن التذكير بوجود أجندة أمريكية خاصة لها في العراق وفي الشرق الأوسط , وهي جزء من أجندتها الدولية. ولكن السؤال كيف نعمل من أجل أن تنتصر أجندتنا العراقية؟ لا يمكن يا زميلي الفاضل أن تنتصر أجندتنا ما لم نتخلص من الإرهاب الدموي من القتلة الذين , كما يبدو تريد جعلهم في خانة المقاومة الشعبية. ولا يمكن أن ننتهي من الإرهاب ودول الجوار , إيران وسوريا وتركيا غيرها , تتدخل في الشأن العراقي و وما دام العراق لا يزال ضعيفاً وعاجزاً عن الدفاع عن نفسه.
أشعر بخيبة أمل من مواقفك وأنت المحسوب على التيار اللبرالي الديمقراطي العلماني لا لأنك ضد الاحتلال في العراق ولا لأنك تطالب بخروج هذه القوات من العراق ولا لأنك تنتقد الوضع في العراق وتنتقد سلوك القوات الأجنبية , فإنا وغيري والشعب كله معها , بل لأنك تجرأت بخلط الأوراق ودافعت عن مجرمين قتلة مارسوا القتل يومياً ولا زال البعض منهم يمارسه يومياً حتى الآن. ألم تسمع عن القتلة الذي شردوا المسيحيين والصابئة من أرض العراق أولم تسمع بقتلة الإيزيديين الكُرد في الشيخان وسنجار , فهل تحولت إلى يا أخي إلى مدافع عن قتلة الأقليات القومية والدينية بعد أن كنت مدافعاً عن القوميات وحقوق القوميات في منطقة الشرق الأوسط؟ دافعت عن كُردستان حين كنت فيها , ولكنك سكت عن قتل الإيزيديين الكُرد وهم من أصل أهل كُردستان حين غادرتها.
أتمنى أن تعيد النظر بمواقفك لا لترضي أحداً , بل لتستنير بالفكر الذي حملته أو لا تزال تحمله , الفكر الديمقراطي الحر والعلمانية.
الملحق
أعيد هنا نشر المقالين المقصودين بالمناقشة للدكتور سعد الدين إبراهيم لغرض الاطلاق والتدقيق في النقاش
مقالا
فيتنام والبحث عن مستقبل للعراق؟!
10-07
في الأسبوع الماضي صرّح رئيس الأركان الأمريكي السابق، الجنرال ريكاردو سانشيز، "إن استراتيجية البيت الأبيض في العراق، هو كابوس، ولا يمكنها أن يؤدي إلى النصر" (13/10/2007).
كان الجنرال سانشيز في الخدمة، حينما غزت بلاده العراق (19/3/2003). وقتها وخلال الأعوام الثلاثة التالية، لم نسمع منه إلا ما يؤكد عدالة الغزو لإنقاذ الشعب العراقي من طغيان ودموية صدام حسين. كذلك لم نسمع منه كلمة نقد واحدة لاستراتيجية بلادة في العراق، أو لسياسات الرئيس جورج بوش في الشرق الأوسط. وربما كان ذلك ما تفرضه التقاليد العسكرية. فما دام أحد أفراد القوات المسلحة ما يزال في الخدمة، ويرتدي زيّها الرسمي، فإنه يلتزم أصول الضبط والربط، ويطيع أوامر قياداته، ولا يتحدث في السياسة. وفي الولايات المتحدة، كما في معظم بلدان العالم، فإن رئيس الجمهورية، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. ومن ثم يلزم جميع أفرادها، بما في ذلك رئيس الأركان بأوامر وتوجيهات الرئيس. ولكن بمجرد التقاعد وخلع الزي العسكري الرسمي، يتحول الضابط السابق إلى مواطن مدني لاحق، له كل حقوق المواطنة، بما في ذلك حق الانغماس في الشأن العام ونقد سياسات حكومته. وهذا ما حدث في حالة الجنرال سانشيز.
وتذكرت على التو جنرال أمريكي آخر هو وليام وستمورلند، قائد القوات الأمريكية أثناء حربها الممتدة في فيتنام (1968/1975)، والتي انتهت بهزيمة كاسحة، لم تتعود عليها الولايات المتحدة طوال المائتي سنة، التي كانت هي كل تاريخها، منذ الاستقلال (1776). وكانت مرارة الهزيمة هي الأشد على العسكريين الأمريكيين. فهم لم يخسروا أي معركة في تلك الحرب الطويلة، على امتداد أثنى عشر عاماً. ومن حيث قوة النيران، وأعداد القتلى، كانوا هم دائماً الجانب الأرجح. ولكنهم في النهاية خسروا الحرب، وكان انسحابهم من أخر مواقعهم في سايجوت، عاصمة جنوب فيتنام انسحاباً مرتبكاً ومخزياً. ونقلت الكاميرات التليفزيونية الأمريكية والعالمية مشهد أخر طائرات الهليوكوبتر، وهو يقلع، وآخر الجنود المدنيين الفيتناميين وقد تعلقوا بعجلاتها في الهواء، حتى لا تأسرهم قوات الفيتكونج المعادية، التي كانت تحاصر سايجوت! وقد ألقى الجنرال وستمور لاند وقتها باللوم على البيت الأبيض والسياسيين الأمريكيين في واشنطن. ويبدو أن الجنرال ريكاردو سانشيز لا يريد لبلاده أن تلقى هزيمة وانسحاباً مماثلاً من العراق، بعد 32 سنة من ذلك المشهد المخزي في سايجوت (1975).
لقد تزامنت الحرب في فيتنام مع سنوات دراستي للدكتوراه في الولايات المتحدة. وكنت في أثنائها رئيساً منتخباً للطلبة العرب، وحيث كانت مشاعرنا، كمواطنين من العالم الثالث أكثر تعاطفاً مع الشعب الفيتنامي الذي كان مقاتلوه من الفيتكونج، بأجسامهم النحيلة، وبيجاماتهم السوداء، يقاومون آلة الحرب الأمريكية الهائلة، بجنودها الأضخم حجماً، ومعهم دبّاباتهم وطائراتهم الأكثر فتكاً. وكلما صمدت مقاومة الفيتكونج، رغم خسائرهم الفادحة من الأرواح التي كانت تحصدها آلة الحرب الأمريكية يومياً، كلما اشتد الجنون في البيت الأبيض والبنتاجون، وكلما ضاعفوا من تدميرهم للموارد المحدودة لفيتنام، جنوبها وشمالها، مزارعها وغاباتها، طرقها وجسورها. وألقت القاذفات الأمريكية من القنابل على فيتنام، أكثر مما ألقته كل الجيوش في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك ظل الفيتناميون يقاومون سنة بعد أخرى، وكان الشباب الأمريكي يشاهد أخبار الحرب يومياً، بالصوت والصورة، على شاشات التليفزيون ولأنه كان الجيل الأول، الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه نشأ يسأل ويتساءل قياداته السياسية: لماذا الحرب في فيتنام؟ وكانت تأتيه إجابات من قبيل: "نحن الأمريكيون هناك دفاعاً عن الحرية ونشر الديمقراطية، في وجه الزحف الشيوعي". وبالطبع صدق معظم الأمريكيون ذلك في بداية سنوات الحرب. ولكن مع استمرار القتل والدمار، تناقص المؤيدون وتزايد المعارضون للحرب في فيتنام بين الشباب الأمريكي، وخاصة في الجامعات. فبدأوا ينظمون المظاهرات والاعتصامات، فيما أصبح يُعرف "بحركة مناهضة الحرب" (Anti war movement ). وشارك الطلبة العرب وغيرهم من طلبة العالم الثالث الذين كانوا يدرسون في الولايات المتحدة وقتها زملاؤهم الأمريكيين.
وفي الواقع كان لقاءي بأحد الفتيات الأمريكيات، من مناهضات الحرب ضمن مسيرات تلك الحركة ، وهي، باربارا ليثم، التي ستصبح زوجتي ورفيقة حياتي، منذ أكتوبر 1971. وقد رزقت منها بابنتي المحامية رندا، وابني المهندس أمير. ومثل كل الأبناء سمعت رندا وأمير قصة لقاء والديهما أثناء حركة مناهضة الحرب في فيتنام. ويبدو أن ذلك ترسب في أعماق وعيهما. وذلك حينما سنحت الفرصة، اختار ابني المهندس أمير فيتنام، دون اختيارات أخرى كانت متاحة أمامه، لكي يساعد فقرائها من الفلاحين، في توفير مصادر رخيصة للطاقة. وأعد لنا الابن البار مفاجأة، بدعوتنا (أمه وأبيه) للاحتفال بعيد زواجنا السادس والثلاثين في فيتنام، ولسان حاله يقول أنه لولا تضامنكما مع نضال الشعب الفيتنامي لربما لم تلتقيا، ولم تتزوجا، ولم تنجباني أنا وشقيقتي رندا، وقد سعدنا، أنا وأمه بركة (باربارا) بلفتته الرقيقة، ولبينا الدعوة على الفور.
وها أنا بعد عدة أيام من التجوال والمشاهدات الميدانية، والحديث مع كل من استقطعت الحديث معهم من الفيتناميين، أكتب هذا المقال من العاصمة الأسطورية هانوي، ومن موقع يطل على "النهر الأحمر"، الذي يشق المدينة، التي أعادت بناء ما دمرته الحروب المتعاقبة طوال القرن العشرين.
إلى جانب حب استطلاعي عن الشعب والمجتمع والحزب والدولة في فيتنام، كنت حريصاً على معرفة كيف أعادوا بناء بلادهم واقتصادهم، وكيف جذبوا آلاف الشركات الأجنبية للاستثمار عندهم؟، وكيف وازنوا بين هذا التدفق الرأسمالي من ناحية واقتصادهم الاشتراكي ـ الماركسي من ناحية أخرى؟ وكيف غفروا أو سامحوا تلك القوى الأجنبية، التي استعمرتهم، ونهبتهم، ودمرت بلادهم وقتلت منهم ما يقرب من المليون خلال الثلاثين عاماً، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (1945-1975)، فضلاً عن القرنين السابقين (1750-1945)؟.
كانت هناك إجابة عامة واحدة من الفيتناميين أنفسهم، وصدّق عليها الأجانب الذين التقيتهم، وخاصة من الأمريكيين والفرنسيين، وهي "أن الفيتناميين، كشعب وكثقافة، لا يتوقفون كثيراً عند الماضي، ولا يجترون الآلام، أو يمعنون في جلد ألذات، أو الاستمتاع بدور "الضحية". إنهم عمليين للغاية (الكلمة الإنجليزية Pragmatic )، ينظرون إلى الحاضر ويتطلعون دائماً إلى المستقبل. وقد أكد ذلك ليّ المحامي الأمريكي جون بنتلي (John Bentley )، الذي عاش في مصر خمسة عشر عاماً، ساعد فيها السلطات المصرية على صياغة قوانين الانفتاح، والتحول إلى اقتصاديات السوق. وقد استدعته السلطات الفيتنامية عام 1994، لكي يساعدهم لتحقيق نفس الشيء. وحينما سألته عن المقارنة بين خبرته في مصر وخبرته في فيتنام، قال "أنهم هنا أشد فقراً، حيث متوسط الدخل الفردي لا يتجاوز ستمائة دولار، أي ثلث مثيله في مصر، ولكنهم أكثر جدية، ولا يضيعون وقتهم وطاقتهم في معارك الماضي، أو الانشغال بمؤامرات وهمية، يقوم بها الآخرون ضدهم". لقد استغرب المحامي الأمريكي أنهم دعوه إلى بلادهم في المقام الأول، واستغرب أكثر أنه خلال السنوات الاثنى عشر التي قضاها في فيتنام، لم يثر أحد الحديث عن الماضي إلا مرتين، وحتى ذلك كان بمناسبة فيلم سينمائي عن حرب فيتنام. ويضيف جون بنتلي، أنه ربما لهذا السبب تحقق فيتنام معدلاً من النمو الاقتصادي السنوي، مثل جارتها الشمالية وهي الصين ـ وهو 9%! فهي نمر اقتصادي صاعداً.
من فيتنام.. للجزائر.. للعراق(*)
بقلم د.سعد الدين إبراهيم ٣/١١/٢٠٠٧
نعم، وأنا أتجول في فيتنام مع زوجتي وابني، ونتحدث مع الفيتناميين وبعض الزائرين الأجانب، كنت أسترجع حكايات من التاريخ، وأتذكر سيرة القيادات التاريخية العملاقة لهذا البلد الأسيوي الفقير، الذين قادوا مقاومته الشعبية ضد ثلاث قوي أجنبية محتلة في القرن العشرين ـ وهي اليابان، وفرنسا، والولايات المتحدة، وانتصر عليها جميعاً، رغم تضحيات جسيمة من دماء أبنائه.
كان أحد المشاهد التي طافت بخاطري، هو مشهد استسلام القوات الفرنسية في قلعة «ديان - بيان - فو» للمقاتلين الفيتناميين في ربيع ١٩٥٤، وكان الزعيم الفيتنامي الأسطورة «هوتشيه منه» هو الذي بدأ حركة المقاومة الشعبية، ضد الاستعمار الفرنسي لبلاده، منذ ثلاثينيات القرن العشرين أي أنه حينما سقطت آخر معاقل الفرنسيين في «ديان - بيان - فو» عام ١٩٥٤، كان قد مضي علي بداية حركة المقاومة الشعبية المسلحة حوالي عشرين عاماً، تخللتها الحرب العالمية الثانية واحتلال ياباني آخر لفيتنام، أي أنه في بعض مراحل المقاومة المبكرة هذه، واجه الفيتناميون فرنسا، ثم اليابان، ثم فرنسا مرة أخري، وبعد ذلك الولايات المتحدة لعشرين سنة أخري.
كنت مازلت في بداية مرحلة الدراسة الثانوية في مصر، حينما سمعنا وقرأنا عن هزيمة واستسلام الفرنسيين في ديان - بيان - فو، في أوائل ١٩٥٤، واسترعي نظري في ذلك الوقت أن بعض الجنود الفرنسيين الذين استسلموا كانت سحناتهم سمراء، وملامحهم عربية وأفريقية. وعرفت في ذلك الوقت المبكر أن فرنسا كانت تجند أبناء مستعمراتها في شمال أفريقيا ـ وخاصة الجزائر ـ ليحاربوا، نيابة عنها في مستعمراتها في «الهند الصينية»، وخاصة فيتنام، ولأن التاريخ حلقات متصلة ومتداخلة، فإن مشهد الاستسلام في ديان- بيان - فو أثبت للجنود المغاربة والجزائريين الذين كانوا ضمن قوات الاحتلال الفرنسية، أن الإنسان الأوروبي الأبيض، الذي كان يبدو لهم «سوبرمان»، يمكن أن ينهزم ويستسلم لإنسان آسيوي أصفر.
لذلك حينما عاد الجنود المغاربة والجزائريون إلي بلادهم بعد انسحابهم مع القوات الفرنسية من فيتنام، نقلوا تفاصيل المشهد لأقرانهم الذين كانوا يقاومون الاستعمار الفرنسي لبلادهم بالطرق التقليدية المعتادة، وهي المظاهرات والهتافات والشعارات اللفظية، من قبيل «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»! بدأ «العائدون من فيتنام» يدعون لأسلوب جديد في الكفاح، وهو المقاومة الشعبية المسلحة. ولذلك لم تكن صدفة أن انفجرت الثورة الجزائرية المسلحة في نوفمبر ١٩٥٤ أي بعد ديان - بيان - فو بستة أشهر.
وهكذا يتجلي ما يسميه البعض «مكر التاريخ»، ويسميه علماء الاجتماع «النتائج غير المقصودة للسلوك الإنساني». أو هي قبل ذلك وبعد ذلك مصداقاً لقوله عز وجل «ويمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين» فلم يعتقد الفرنسيون حينما استحدثوا سياسة تجنيد أبناء المستعمرات هنا، لإخضاع أبناء المستعمرات هناك، أن تلك السياسة ذاتها ستكون هي مسامير نعوشها، وهي تجلو عن تلك المستعمرات، فكما حدث لها بعد ديان - بيان - فو عام ١٩٥٤، سيحدث لها بعد ثماني سنوات ومليون شهيد من الثورة الجزائرية المسلحة عام ١٩٦٢.
فما هي الخطوط التي تجمع بين فيتنام والجزائر والعراق؟ ـ الخط الأول هو الاحتلال الأجنبي.
ـ الخط الثاني هو المقاومة.
ـ الخط الثالث هو الكفاح الشعبي المسلح.
وقد اتضح من تجارب عديدة أن «الاحتلال الأجنبي»، مهما كانت أسبابه ومبرراته، لا بد أن يفرز «مقاومة وطنية»، حتي لو كان المحتلون «ملائكة». ومهما كانت هناك أسباب موضوعية، مثل استيفاء ديون، ومهما كانت المبررات وجيهة، مثل تخليص شعب من حاكم ديكتاتوري، أو من نظام دموي مستبد، وحتي لو رحب به بعض الناس في البداية، فإن عاجلاً أو آجلاً، يستيقظ الضمير الوطني، وتبدأ الدعوة لإنهاء الاحتلال.. وتكون هذه الدعوة في البداية سلمية. ولكن عدم الاستجابة من قوي الاحتلال يدفع أبناء البلد المحتل لرفع السلاح، وهو ما حدث ويحدث في البلدان الثلاثة، التي وردت أسماؤها في عنوان المقال.
فحينما احتلت فرنسا فيتنام والجزائر، كانت مبرراتها هي أن لديها «رسالة حضارية»، وهي تمدين الشعبين. وحينما انسحبت فرنسا من فيتنام وحلت محلها أمريكا كقوة محتلة، ادعت أنها ذهبت إلي هناك لإنقاذ الشعب الفيتنامي من «الخطر الشيوعي» الذي يهدده من الشمال، أي الصين الشعبية، أو قوات هوتشيه منه، والذي كان بدوره شيوعياً، وحليفاً للصين وللاتحاد السوفييتي.
وفي حالة العراق، فإن أمريكا ادعت أنها ذهبت إلي هناك لتخليص الشعب العراقي من طغيان صدام حسين، ومن استبداد حزب البعث، وللبحث عن أسلحة الدمار الشامل، التي يمكن أن تهدد المنطقة والعالم. وفي حالة أفغانستان، كان المبرر هو القضاء علي تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان»، وخاصة بعد تفجيرات مركز التجارة العالمي في نيويورك، والبنتاجون في واشنطن.
وعادة ما يكون بعض هذه الأسباب والمبررات صحيحاً. ولكن الغالب الأعم هو أنها تخفي أجندة أخري غير معلنة ـ مثل استغلال الموارد الطبيعية أو احتكار الأسواق، أو الاستفادة من الموقع الجغرافي الاستراتيجي أو لنشر أفكار وقيم أيديولوجية معينة.
وسرعان ما تتضح الأجندة الحقيقية للمحتلين، فتتبلور المقاومة الوطنية تدريجياً، ثم تأخذ في بعض الأحيان صورة الكفاح المسلح. لقد حدث ذلك في فيتنام بعد حوالي مائة عام من الاحتلال، وفي الجزائر بعد مائة وثلاثين عاماً، وفي العراق في غضون عدة شهور.
ولأن المقاومة الوطنية عادة ما تواجه قوات احتلال أكثر تنظيماً وعتاداً وتسليحاً، فإن خسائر المقاومة الوطنية تكون عادة فادحة، إلي أن تتعلم هذه المقاومة استراتيجية "الحرب الشعبية الممتدة"، وتكتيكات العصابات، التي تعتمد علي «الضرب والهرب» Hit and Run وفي حالة فيتنام ارتبطت إجادة هذه الاستراتيجية باسم الجنرال «جياب»، الذي كان تلميذاً نابهاً لزعيمه هوتشيه منه.
وفي حالة الجزائر، ارتبطت نفس الاستراتيجية بأسماء عديدين منهم أحمد بن بيلا، وهواري بومدين، وفي حالة أفغانستان ارتبطت بأسماء غير أفغانية أهمها أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، واسم أفغاني واحد هو الملا عمر، ولا نعرف بعد أسماء قيادات المقاومة في العراق.
وهناك توصيف آخر للحروب الشعبية الممتدة، وهي «حروب الاستنزاف»wars of
Attrition وقد سُميت كذلك لأن نفقاتها
المادية باهظة علي جيش الاحتلال. فاستخدام الطائرات والدبابات والآليات الأخري باهظ التكاليف. من ذلك علي سبيل المثال أن تكاليف قوات الاحتلال الأمريكي في العراق هي حوالي تسعة مليارات دولار شهرياً، أي أكثر من مائة مليار سنوياً. وربما هذا الاستنزاف المادي هو الذي يوقظ دافعي الضرائب عند قوي الاحتلال فيبدأ التبرم، ثم السخط علي القيادات التي روجت ونفذت الاحتلال في المقام الأول.
ثم حينما تبدأ أعداد القتلي تتزايد، فإن الشباب من أبناء البلد الذي أمرت حكومته بالاحتلال، تتظاهر ضد حكومتهم. وهذا ما حدث أثناء حرب فيتنام، علي نحو ما ذكرت في مقالي السابق. وهو ما يحدث الآن في حالة العراق، فالشباب الأمريكي هو الذي يقتل يومياً بسبب احتلال قوات بلاده للعراق.
وهذا هو السبب الذي دفع الجنرال المتقاعد ريكاردو سانشيز، للتعليل قبل أسبوعين، بأنه لا يمكن لأمريكا أن تكسب الحرب في العراق. ولم تكسب أي قوة محتلة ـ أمريكية أو فرنسية أو بريطانية أو إسرائيلية ـ الحرب ضد مقاومة شعبية مسلحة مستخدمة استراتيجية حروب الاستنزاف الممتدة، لذلك فأنا علي يقين أن أمريكا ستخرج مهزومة من العراق، إن آجلاً أو عاجلاً، كما حدث لها ولفرنسا في فيتنام من قبل، وكما حدث لإسرائيل في جنوب لبنان وفي غزة من بعد. ولكن ماذا بعد هزيمة الاحتلال؟ هذا موضوع آخر لمقال آخر.
(*)نقلا عن المصري اليوم
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟