ما قبل الاخير
هكذا هو العمل الابداعي العظيم .!! كما هو في مجمل الاعمال الثقافية والفنية , حالة خلق !! وهنا ايضاً ! وقف المخرج فؤاد عوض امام المسرح, كرسام يتحدى المساحة البيضاء على مسطح لوحة لم تولد بعد ! لوحة بتول.. تدعوه للخلق والتورط في المجازفة .!! وكأني بعوض يحرك ادواته المسرحية بطريقة حركة فرشاة رسام متمرس على بساط الابيض الرهيب. فمزج جدلية اللغة بين الممثلين بصيغة دمج الالوان المتنافرة والمتقاربة, المنصاعة والممتنعة, الرافضة والقابلة ايضاً .. بما يترأى له في لحظة ضوء هنا وانعكاس ظلال هناك .
لقد نجح عوض بذلك حقاً ..! بان خلق صورة واقعنا الممزق فعلاً , من خلال تحطيم كل النوافذ والمرايا .. فإذا بكل مركبات الصراع الفلسطيني الاسرائيلي لا تصنع سوى ما يريده لها الاخرون .!! كل قوة تعمل كإنعكاس ضوء يبثه الآخر .. فتظهر بجلاء حقيقة واقعنا كشظايا لا تكف عن التحطم تحت ضربات الصراع المدمر لكل امكانيات البقاء والحياة .!!
اختلطت الالوان , وتحولت الفكرة التي وضع تصورها الاول الشاعر ايمن اغبارية .. كعلاقة استطرادية ما بين البحث عن المال التائه في حقيبة الدولارات ومتابعة الحياة .. وبين مهمة الثائر للكرامة الشخصية والوطنية المهزومة, والصارخة كطرق مطرقة لا تتوقف, علها تنهي قصة هذا العذاب اليومي , والعصي على الاستمرار في متابعة الحياة.!! الا ان المخرج في عملية خلقه الذاتي, وباستعماله الادوات المحذورة للكشف والتحطيم , تلك الظاهرة والمتلاشية تحت طبقات غير مرئية من الالوان المتاركمة للبحث عن الحقيقة .. في مشهديات عرضه المتلاحقة والمتحولة بانعكاساتها المجردة, من اي حالة ثابتة لتفسير اي واقع ما , جعلها تتحول الى واقع يفسر التحولات المتصارعة على ساحة فلسطين التاريخية, بمصيرها الحتمي المشترك .!! ذلك المؤدي في حتمية استمراره الحالي الى الدمار الشامل .. الدمار الذي لن يكون بعده سوى ما تبقى من هاروشيما .. رمادٌ في رمادٍ في رمادْ .
اولاً
في الطريق الى هناك .. لحضور مسرحية الباص التي كتبها الشاعر ايمن اغباري , وهو الغائب عنها عنوة بحكم تواجده في امريكا, لمتابعة دراسته الاكاديمية للحصول على لقب الدكتوراه .. كان قد اودع مخطوطته بين يدي المخرج المسرحي فؤاد عوض ليخرجها لصالح مسرح الجوال السخنيني , ضمن مشروع مهرجان عكا "للمسرح الآخر" في هذا العام .
في الطريق الى هناك .. انتابني الشعور المتردد بالذهاب تحت طائل التعب من ايام عمل متواصلة, لتحدي تخلف يعصف بنا بشكل صارخ ايام الانتخابات للسلطات المحلية .. وبأن المسرحية لن تضيف لي شيئاً جديداً , فقد قرأت النص الاخير المتفق عليه ما بين كاتبها ومخرجها, وتناقشنا وصديقي فؤاد عوض على كل شاردة وواردة فيها.. وتوقفنا بجدية امام كل الامور الهامة التي يستعرضها الكاتب في محاولته الجادة لكتابة رؤية مسرحية محلية جيدة !! واكثر من ذلك , فقد حدثني فؤاد عن العديد من الافكار التي ود لو يستطيع ان يجسدها, ضمن الامكانيات القليلية المتاحة من الناحية المادية ومكان العرض.. تلك الآتية من خلال جدلية العرض والتلقي في مسار رؤيته الفنية الخاصة, والتي يخضعها فؤاد لخصوصية العمل ذاته وشمولية منظاره والتزامه بادواته الفنية والانسانية قبل كل شيء.. فتلاحقت الافكار كل ساعة وكل يوم, لما امكن انجازه في محلة العرض المتاحة هناك.. وما لم يحتمله المكان تنحى جانباً بانتظار ان تمنحه الايام فرصة الحياة للظهور امام الخلق في عرض آخر ومسرح آخر وجمهور آخر ايضاً ..!
فأي شيء آخر يمكن ان التقيه تحت ظلال الاسوار الرابضة بوجه بحر عكا منذ قرون , هناك في فراغاتها الانشائية التي بناها الاقدمون من اجل بقاء حكمهم الى الابد .!! فاذا بجدران قلاعهم بعد رحيلهم تتحول الى جدلية اسطورية متجددة, تبحث عن الحقيقة بالف منظار واسلوب ورؤية .!!
ثانياً
وصلت الى هناك كما اتفقنا .. الا انني حين أُصبحُ في مكان يعج باحداث تاريخ الامس.!! تخاطبك جدرانه بصدى الاصوات المختبئة بذرات موجات الهواء وخلف كل حبة رمل وحصاة تحت حجر .. اصاب بالذهول !! فمن اين لي قوة الاحتمال بعد .. وانا المثقل بهموم بحث يمر عبر ساعات ايامي كل يوم , كتقاطع جميع طرقات الزمن في نقطة واحدة عنوانه " شفاعمرو - اسماء وتاريخ ووطن" ..! وهنا الان ايضاً في وطن واسماء وتاريخ .!!
بالكاد وصلت الى محلة العرض .. وجدوا مكان لي كما اتفق ! وللحقيقة , فان اغلب الحاضرين احتلوا اماكنهم كما اتفق .. الا انه لسوء حظي , او لحسنة العربة التي تميزني .. وجدوا لي مكاناً افضل من اماكن الآخرين ! حيث لم يفصل بيني وبين حركة الممثلين سوى متر واحد .. او في اقصى الحالات مترين .!! فخلت انني جزءاً من العمل المسرحي ذاته , اشارك مع من فيه بصمتي او بموقعي .. او بالاثنين معاً .! فلم اشارك في التصفيق ولا مرة واحدة خلال العرض , الا انني لم استطع ان اتوقف عنه عند النهاية, سوى عندما كلت يداي ولم تعد تقويان عليه .!!
ثالثاً
بدأ العرض بغمامة حزن سوداء .. انتزعنا منها هذا الراوي بوجدان الصوت والنبرة والكلمة واللحن والاداء الحداثيوا المظهر .. وبتحول دراماتيكي ما بين التراجيدي والكوميدي للكتلة المسرحية دون اية مقدمات .!! اذ دفع فؤاد عوض بكافة عناصر هذا العمل الى التواصل المستمر ما بين لغة واخرى , وما بين مشهد وآخر .. ليحتوي في رحابه ارجاء فلسطين التاريخية بأجزائها وواقعها الحالي .!!
ان مشهدية الراوي الجديد باسلوبه الحداثي وكلمات "الراب" العبرية المتلاحقة المتواصلة.. تلك التي كتبها فؤاد عوض ايضاً ! والتي اداها محمود شلبي صاحب فرقة MWR العكية, كواحد من احسن اللذين يتعاملون مع هذا النوع من الغناء.!! صنعت في ادائها عنصر المفاجأة دون شك .
هنا اعادوا تجسيد مأساة فلسطين امامي .. امام الجميع ! بما اعتصرته السنوات منذ مائة عام واكثر , ذلك اما بخلاصاتها او بأستنتاجاتها .. او برموزها المجردة كالحقيقة .!! فانها تحملك على اكتشاف الحقيقة العارية الصاعقة, بكل قذارتها ومرارتها وبؤسها وتجردها.. كما تضعك امام عدالة مطلبها التاريخي والانساني , قبل اي شيء آخر .!! وتكتشف بلحظة ايضاً , انك انعكاس لهذه الحقيقة المرة التي تتلخص بما قيل يوماً .. " مكرهاً اخاك لا بطل" .!!
تنتزعك المشاهد المتتالية بأفتتاحية الراوي (مغني الراب) اولاً .. وما يليه من عرض الطاقم بشمولية الاداء والكلمة والصوت واللحن .. لحظة ما قبل الانهيار حزناً تحت مهانة الذل الباحث عن لقمة العيش .. او لحظة ما قبل الانتعاش المتفجر سخرية وضحكاً يشق عباب الصمت حباً للحياة . لتعيدك مرة اخرى لاكتشاف مركب اضافي من مركبات حقيقة الصارع والواقع والمصير .!!
رابعاً
تلاحقت احداث المسرحية , او احداث المكان الذي اصبح الباص يمثله .. فاذ به فلسطين , كل فلسطين .!! بجزئها القوي القابع تحت وطئ الخوف المتراكم من ايام الحرب العالمية الثانية .. ومخيمات الابادة الجماعية لليهود على يد النازية القذرة .. تلك الحالة الملخصة لواقعهم بحيث قيل ان " اليهود قد خرجوا من الغيتو الا ان الغيتو لم يخرج منهم " يوسي بناي .
فهذا الخوف المتغذي من انابيب الاعاشة الممتدة الى صناديق النقد المالي للوحش الامبريالي , ورأس المال المالي المتكدس في اروقة وخزائن الشركات الكبرى والدول الكبرى , التي عمدت لان تكون اسرائيل شرطياً قابضاً, على زمام حركة حياة شعوب المنطقة للبقاء على اذدنابها لهم .. وقد اصبحت من خلال ما امتلكته من ترسانة الاسلحة المدمرة , ترزح تحت وطئ غرورها حتى حجبت البصر والبصيرة عن ابناء شعبها .. رغم انه قاسى وذاق الامرين من هول الابادة والذبح العرقي والاثني .! وبدل من ان يكون ماضيه عبرة له , من ان الشعوب لا تموت ولا يمكن القضاء عليها بأي حال من الاحوال .!! ولو ان حقيقة التاريخ غير ذلك, لما كان بقي يهودي واحد من هول ما ارتكب في حقهم عبر التاريخ , بداية من بابل مروراً بهيرودوس وختاماً بنازية هتلر .!! سوى ما تبقى من المجتمعات المنقرضة في بطن التاريخ .. الا انهم رغم كل هذا اصبحوا اداة تنفذ كل رغبات البعث الامبريالي المجرم, في امتصاصه لدم الشعوب ومقدراتها الطبيعية والانسانية.!
ليس هذا فقط .. بل شكل الممثلون في استعراضهم نماذج مختلفة من عناصر تركيبة المجتمع الاسرائيلي بكل شرائحه .! منه اليمين المتغطرس الداعي الى المزيد من الذبح والسقوط في هاوية الاجرام البشري .. والمتدينون الاصوليون المستلقون في بقائهم على فائض النقد المتحول من صناديق الدعم لصناديق التسلح وفوهات الموت .!! واليسار الصهيوني المتذبذب ما بين الحداثة والديمقراطية الغربية والاثنية القابعة في سراديب الفكر الصهيوني .. المتمثل بامتداد الصهيونية العالمية , ارضاً وفكراً وابادة .!! اضافة الى ادوات الامن ومقدرتها على الاهانة والتشنيع ما بين عنصر مدني وعنصر عسكري , كلهم في لحظة المواجهة جنود في الخندق الصهيوني .!!
يتبع يوم الدمعة القادم