هذا فصل لابد منه ونحن نتحدث عن تاريخ أربعة أزمنة من تاريخ لصوص السياسة، وليس عن أربعة لصوص، لأن هذا لو كان فذلك يعني وضعا مثاليا.
تاريخ السياسة في العراق في القرن العشرين هو تاريخ ظهور البنطلون وقد يبدو الأمر غريبا لمن تعود قراءات سياسية تقليدية وأكاديمية تتعرض للظاهرة السياسية بناء على لغة سياسية لا تضع في تفكيرها( إذا كانت تفكر!) علوم النفس والاجتماع واللغة والأسطورة والجنس والأزياء والطعام والخرافة والاقتصاد والدين الخ.
ولغة الفكر السياسي العراقي هي لغة إعلانية دعائية شعاراتية جدارية متخصصة في رسم المشهد الكبير وتغفل الظلال العميقة والخفية التي تشكل الحدث أو الأحداث. وهذه اللغة كذلك تتحدث عن الظواهر كأنها برزت توا، أي انها لغة تعليق على أخبار لا لغة بحث معمق. بمعنى نحن دائما، وأمام أي حدث، نكون أمام بداية جديدة بلا جذور عميقة.
وعودة إلى موضوع البنطلون، والأزياء بصورة عامة، فإن ظهوره في القرن الماضي لأول مرة شكل حدثا وهزة في الوعي العام وخلخل ليس الصورة النمطية لشكل العراقي بل أحدث فجوة في السلوك اليومي والتقليدي.
لقد انشطر العراقي، الرجل، إلى قسمين!
عبارة كانت ترددها قريبتي العجوز فاطمة كلما زرتها في منزلها وهي تعيش شبه مهجورة ووحيدة بعد موت ثجيل أمير غابة (ربيضة) وراعي الجاموس الباسل الذي حين شعر بقرب الموت طلب منها أن تأخذه إلى البرية لكي يموت هناك دون أن يراه أحد كما هو موت النسور ولكي لا يكون هناك أي شاهد على احتضاره الذي كان يخجل أن يراه به أحد!
وحين ظهر الدود من داخل جسمه وقد طال احتضاره ذهبت فاطمة خلسة إلى يوسف سيد الغابة بلا سيادة والراعي الذي أوشك على ذبح الشيخ لأن قطيعه دخل حقله فناداه تحقيرا: (بالمعيدي!) وفي لحظة كان خنجر يوسف على رقبة الشيخ وعضو مجلس النواب العراقي يلمع تحت الشمس وقد حبست الحاشية النفس جامدة مبهورة لكنه تركه حين قال له الشيخ المصعوق( عف انت رجل!) أي اعف عني.
ومن يومها ويوسف شيخ البراري وقد حاول الشيخ أن يتقرب منه وكان يوسف يردد:( كلما سلّم علي تحضر في بالي تلك الحادثة فاخجل!) أي أنه يشعر بمشاعر الإذلال التي عاشها خصمه وتحرقه!
هذه هي شجاعة ذلك الزمن القريب الذي تركناه وتلك شروط البسالة يوم كان الزاد قسما، والسلام عليكم عهدا، والشاي المشترك ميثاق شرف، وقد ذكرت ذلك في رواية( الأعزل) وتحدثت عن غابة ربيضة التي تحولت في الزمن الفاشي الوحشي إلى منتجع ساحر لإخوة الطاغية، وقد قلت صراحة ان ربيضة ستعود يوما كما كانت في ذلك الزمن العذري، وعادت فعلا رغم كل الصورة القاتمة،وحين زرت بودابيست عام 96 ذهلت حين وجدت في الدانوب الأزرق جزيرة تشبه ربيضة اسمها ماركريت لكنها تحتوي على مسرح ورياض أطفال ومدارس ومؤسسات وحدائق جميلة وقلت في رواية( سنوات الحريق) سنبني يوما ربيضة أجمل من ماركريت!
لا نبتعد عن موضوعنا الرئيس عن لصوص السياسة حين نذكّر بالوجه الآخر، العاري، النظيف، النقي، لرجال تلك المرحلة وهو أمر ضروري جدا لأجيال أسقطت الفاشية وأشباهها ذاكرة العراقي وحشّته بلصوص وسماسرة وخونة ومساومين وشطار بلا ذكاء أو ضمير.
ليست صورة العراقي هي صورة أحفاد علي بابا كما تذكر الحقيرة سارة أوليفر مراسلة جريدة( ميل أون صنداي) هذا الاسبوع عن العراقيين وتقول:
( العراقيون أعظم المراوغين واللصوص في العالم. هم ينحدرون من نسل طويل من العلي بابا!). وماذا سيحدث لو كان عندنا دراكولا السفاح أو ماركيز دي ساد أو راسبوتين وغيرهم الذين تمتلئ بهم المخيلة الغربية من المجرمين والسفاحين والمنحرفين والوحوش؟. إن علي بابا بشاعريته الجميلة هو صورة عن زمن من الظلم والطغيان والسيطرة. ولا أدري لماذا يجمد الخيال الغربي على صورة هذا اللص الجميل و البريء والمدهش الذي أدخل عليهم البهجة في لياليهم الحمراء وينسون تاريخ النهب الاستعماري منذ قرون وحتى اليوم على يد الرأسمالية المتوحشة؟!
غضب ثجيل في احتضاره من( خيانة) فاطمة وعاتبها بنظرة كانت الأخيرة وسكن جسده لكن تلك النظرة صارت عذابا يوميا لفاطمة تطاردها في عزلتها وهرمها ووحشتها. وحين زرتها للمرة الأخيرة وكنت على وشك الهروب، بعد أيام، قالت لي محتجة:( شبيك يُمّه مقسوم اثنين بهذا البنطلون. البس دشداشة أحسن!). وقبل أن اغادرها للمرة الأخيرة وكنت ذاهبا للخطوط الأمامية في حرب الخليج الأولى قالت معترضة:( لا تخرج. سأرمي ثلاث حجرات ونسمع!) وهذه هي طريقتها في قراءة الطالع وهو تقليد أظنه بابليا أو سومريا قديما، هو أن يرمي كل من يريد السفر او الانتقال إلى مكان آخر ثلاث حجرات وينتظر ماذا يقول المارة صدفة من كلام. فإذا قال العابر مثلا( لو تظل هيج أو هاي سودة مصخمة!) في حوار عفوي مع صاحبه فهذا يعني تأجيل السفر وقد أجلته فاطمة عدة مرات في رحلاتها إلى الأضرحة. وقد جاريتها في الموضوع حزينا ومسحوقا من الألم لأني اعرف ان هذا البيت سيكون قبرا وربما أكون آخر الزوار. ولم يمر احد في تلك اللحظة فقالت( توكل على الله يالمودع) وبكت!
وتلك آخر امرأة وآخر دمعة تودعني قبل أن تأخذني المنافي من آسيا الشاحبة حتى تخوم القطب الشمالي. لكن حكاية العراقي المشطور حكاية ممتعة ومدهشة ومهمة.
كان الشكل العام للرجل كما هو معروف عبارة عن كتلة واحدة في الثوب التقليدي: الدشاشة والعقال والصاية والسترة واليشماغ. أي عبارة عن كتلة متجانسة تنتهي بمخروط على رأسه عقال.
وظلت هذه الصورة، بما فيها من تقاليد وأعراف مقدسة، صورة نمطية ثابتة لقرون طويلة وشكلت المخيلة العامة، ودخلت في الشعر وفي الأدب والرسم وفي الصناعات الحرفية وفي النقش وفي قيم الرجولة والشجاعة والكرم وصارت جزءا عضويا من البنية العقلية. وكان سقوط عقال من رأس صاحبه في شجار يكفي لابادة عوائل أو صدام قبائل، وكان عنوانا للشرف. ومعروفة حكاية ذلك الرجل الذي قال له صاحبه مازحا في المقهى:( طين على عقالك!) فذهب إلى المنزل وذبح الأسرة كلها!
كان ظهور البنطلون حكرا على شريحة تسمى الافندية، وهؤلاء تأثروا بالأزياء الغربية على نحو كبير بسبب البعثات المدرسية والاحتلال والتجار وطبقة السياسيين الذين كانوا على صلة بالمحتل وعواصمه.
وكان ظهور العراقي، مشطورا نصفين، بعد أن كان صندوقا مستورا، هزة عنيفة في الوجدان العام حتى أن هناك أهزوجة عراقية شائعة في تلك الفترة تعزي (المعقل) صاحب العقال على هذه النكبة التي ألمت به وجعلته في نظر هذه الشريحة متخلفا وأخلت بصورته الكلاسيكية المشرفة وتقاليده الذكورية العريقة. تقول:( لا تنقهر يابو عقال، تره السدارة كالة!).اي لا تهن ولا تحزن فإن السدارة العثمانية وهي نفي للعقال لا قيمة لها وأنت مازلت سيد المرحلة.
وكان معظم الساسة يرتدون البنطلون، بل أضافوا عليه فجيعة أخلاقية ومظهرية أخرى حين أدخلت شركات التجميل الأجنبية، مع المجلات، أدوات الحلاقة الجديدة، وصورة الرجل الغربي الحليق: بلا شوارب!
وحين كنت أزور فاطمة وأحلق في الصباح كنت أتحاشى النظر إليها مباشرة لكنها تقول ضاحكة:( يمّه ليش هيج مسوي بروحك؟ جنك دبر عنزة!).
ومع هذا الانقلاب في المظهر، وزاوية النظر، والشكل العام، ظهرت مؤسسات الدولة، ومعها تقاليد عمل جديدة، وأزياء جديدة، وتحول الشكل العام القديم إلى صورة رمزية للريفي الذي تنحى زيا وقيما إلى الخلف، وقبل قانعا بهذا الوضع، متبرما بانهيار الأخلاق، وشاتما هذه الوجوه التي تشبه مؤخرة العنزة في لياليه على المواقد، وصارت تؤرقه قضية التقاط صورة أمام المصور الظريف الذي يختفي داخل كيس من القماش ولا يظهر إلا بعد أن تزهق الروح لتخرج صورة تعيده إلى وضعه الأصلي، صورة عقال وجسم متراص متماسك وشارب يربط الثور!
أما صاحبه رجل الدين ( اصطلاح غير حقيقي لأنه لا يوجد في الإسلام رجل دين!) فلقد تمترس بقوة خلق ترسانة لغوية كلاسيكية رصينة، وربما مقدسة، وحافظ على شكله العام رغم كل العواصف وحتى هذه اللحظة فارضا واقعا خاصا غير قابل للنقاش ولا للسؤال أو إعادة النظر. وكان المعقّل يجد في ذلك نوعا من العزاء والسلوى!
وكان مظهر الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ العراق ولعدة مرات يزلزل الخيال العام ويفرض، بشكله في البنطلون، مع الساسة الجدد، صورة جديدة، رغم أن الملك المرحوم فيصل الأول حافظ على تقاليده البدوية شكلا وأخلاقا. ولا ندري أن كان ذلك لمجاراة شيوخ القبائل أم من موقف نفسي شخصي صرف؟.
ومع تطور الدولة، ظهر الحراس الليليون، وهؤلاء كانوا، كما تؤكد كتب المذكرات، واليوميات، وهي كثيرة وبها يستعين الدارس والروائي والمهندس والمؤرخ وغيرهم، بلا سلاح أول الأمر ماعدا صفارات للانذار وتبديل النوبة، ثم ظهرت البنادق القديمة ودخل اللصوص المساكين، لصوص المنازل، في محنة غير متوقعة بسبب الثورة الصناعية وجنون الفريد نوبل !
ومع الوقت جاءت سيارات النجدة،بعد الشرطة الخيالة، ودخل الصراع بين المؤسسة واللصوص مرحلة جديدة على صورة مختلفة تماما. ولم يعد علي بابا المسكين وحراميته سوى ذكرى عطرة عن زمن اللصوص الشرفاء الذين تكرههم الخاتون سارة أوليفر لأنها اكتشفت هذه الأيام فقط أن العراقي أذكى مما تصورته!
في الظل المعتم، الظل المخفي، كانت هناك تتحرك أشباح بالبنطلون، لها شكل عنزة عارية، وهؤلاء كانوا يسرقون ليس أموال الفقراء فحسب، بل أموال اللصوص المساكين أحفاد علي بابا الذين عرفوا، من الأخبار، والراديو، أن كنزا أسود مسروقا عندهم، وهم بلا أحذية، يسمونه: النفط!
ولا تذكر ذلك المدام سارة اوليفر بوقاحة لكنه هو الذي شكل سخطها الحقيقي على هؤلاء( المراوغين، اللصوص، المنحدرين من نسل طويل، من نسل العلي بابا!).
وهي لا تخفي إعجابها قطعا بالنخبة الاسخريوطية( أحفاد يهوذا الاسخريوطي!) النخبة الليبرالية المتفتحة( يسخر منها الروائي الشهير غابريل ماركيز في روايته " الحب في زمن الكوليرا " حين يضع على لسان الببغاء عبارات ساخرة عنهم!) هذه النخبة المفتوحة الوعي والشرف والضمير والأفخاذ التي جاءت مع المحتل على ظهور الدبابات لتأسيس دولة عراقية هي دولة لصوص الرأسمالية المتوحشة على أنقاض دولة وحوش القرية والصحراء!