مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2092 - 2007 / 11 / 7 - 11:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مثلت فترة حياة ابن تيمية فترة صعود التصوف الشعبي و الفلسفي , كرد فعل في جانب منها على الأحداث الدامية التي عصفت بالشرق و على ضعف المؤسسة السياسية الحاكمة و معها المؤسسة الدينية أو على الأقل كرد فعل على تعليمها الأرثوذكسي الذي بدا أنه فقد فجأة قدرته على دفع البلاء عن الناس..كان التصوف لذلك ذا طبيعة مناقضة لتعاليم و تنظيم المؤسسة الدينية السائدة , كان شخصيا يتعلق بالتجربة الشخصية و يعتمد أساسا على المشاعر و الأحاسيس الإنسانية و طرق خاصة في تربيتها أو إطلاقها بعيدا عن النصوص و مقاربتها الفقهية إلا في إطار تلك الوسائل المستخدمة لإطلاق المشاعر الإنسانية و تحريرها من الواقع..كان ابن تيمية هو رد المؤسسة على هذا "الانحراف" و محاولة استعادة المبادرة من جديد لتعليم المؤسسة الدينية و شرعيتها..على خلاف المواجهة الأشعرية – المعتزلية التي دارت حول صفات الله و خاصة قدرته في مقابل قدرة الإنسان و التي كان هدف الأشاعرة منها التأكيد على "حرية الله المطلقة" بالتصرف بالكون في مواجهة قول المعتزلة بحرية الإنسان أي كونه الفاعل لأفعاله و ليس الله , كانت النقطة الأكثر تهديدا هنا لسطوة المؤسسة الدينية هي في وحدة الخالق و المخلوق , كانت النتيجة الضرورية لوحدة الوجود التي قال بها المتصوفة الفلاسفة هي في إلغاء العبادة و معها مفهوم العبودية بين الخالق و المخلوق و معها مفاهيم الثواب و العقاب و الحساب و الأمر و النهي , أي أن ما جرى كان نسفا لمجمل سطوة المؤسسة الدينية الروحية على المجتمع..يذكر أنه عندما امتحن علي بن عيسى الوزير الحلاج المتصوف وجده "صفرا من العلوم" , أي العلوم "الشرعية" التي عملت المؤسسة الدينية على إنتاجها و تدريسها , فقال له "تعلمك لطهورك و فرضك أجدى عليك من رسائل أنت لا تدري ما تقول فيها"..كان التعليم الصوفي يعتبر أن كل هذه "العلوم" لا معنى لها ما دام الاتصال و حتى الاتحاد بالمصدر الرئيسي لها ممكن بل و يشكل الطريق المؤدي إلى المعرفة الحقيقية التي تتم بها معاينة الأمور مباشرة دون واسطة نبي أو رسول ناهيك عن مؤسسة دينية مؤلفة من رجال دين..هنا كانت غاية شيخ الإسلام ابن تيمية أن يثبت شرعية كون الإنسان عرضة للحساب و للثواب و العقاب و الوعد و الوعيد , هذا لم يكن ممكنا بدون نسبة شيء من المسؤولية عن الأفعال للإنسان نفسه على العكس من الموقف الأشعري و لكن في إطار صارم من القول بسلطة الله المطلقة على الكون..طبعا كان هذا الحد الذي كان على الإنسان أن يتصرف به في أفعاله أقل بكثير مما ذهب إليه المعتزلة و بالتأكيد لا يعني الوصول إلى ذات الاستنتاج المعتزلي بحرية الإنسان أي مسؤوليته عن أفعاله كأساس للعدل الإلهي في هذا العالم..كان المطلوب إثبات أن الإنسان في حالة عبودية لله و ليس في حالة اتحاد مع الله , كان المطلوب استعادة الإنسان إلى موقف العبودية و في نفس الوقت يقع تحت طائلة الوعد و الوعيد الإلهيين الذي يعني أن المؤسسة الدينية هي ضرورة لا بد منها لاستنباط الأحكام أي لقيادة الإنسان و توجيهه و الأهم ممارسة دورها السلطوي تجاه روحه ثم وجوده الاجتماعي أي عبر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر..إن ابن تيمية يستخدم حجج القدريين ضد الجبرية الخالصة و نفيها الأسباب في إحداث الفعل ليس لإثبات حرية الإنسان بل لتكريس عبوديته و إبعاده عن مركز الكون الذي كان المتصوفة قد دفعوه إليه ليس إلى جانب الإله كما فعل المعتزلة بل متوحدا معه في نفس المرتبة كون كل شيء في هذا الكون مجرد تجليات للإله..هذا الأمر شكل انتفاضة جذرية على المؤسسة الدينية القائمة و تعاليمها..فاجأني الشيخ راشد الغنوشي في كراسه "القدر عند ابن تيمية" ( مركز الراية – الطبعة الأولى 2005 ) و هو يعتبر أن ابن تيمية أقرب إلى المعتزلة و حتى الفلسفة العربية القروسطية المشائية و أنه ربما يؤيد حرية الإنسان !؟..في حقيقة الأمر أن ابن تيمية يقف ليس إلى جانب حرية الإنسان بل إلى جانب شرعية محاسبته سواء دنيويا عبر المؤسسة الدينية و السلطة السياسية التي تستمد شرعيتها منها أو أخرويا , كان ابن تيمية جبريا خالصا "جهميا" حسب التوصيف الحنبلي فيما يتعلق بمركزية فعل الله في الكون أما في القدر فكان "قدريا" بالقدر الضروري ليثبت أن الإنسان مستحق للعقاب و الثواب فقط , هذا هو تماما نقيض الموقف المعتزلي من حرية الإنسان و الكيفية التي حدد فيها هذه الحرية و الذي أقام الثواب و العقاب على أساس العدل الإلهي و وظفه لإثبات الفعل للإنسان دون الله..إنني أزعم أن موقف ابن تيمية تلفيقي بمعنى أنه يصر على جمع المتناقضات في سبيل القضية التي يدافع عنها حتى بغض النظر عن الاتساق الفكري الداخلي أو حتى التوافق مع النص المقدس الذي يدعي ليس فقط الاتكاء عليه بل الدفاع عن وحدانيته في مواجهة "الرأي" أو الاجتهاد الإنساني طبعا , يتبدى هذا الموقف التلفيقي حتى في العلاقة مع النص المقدس و احتمالاته بل و الأساس الذي اشترطه على مقاربة العقل الإنساني للكون مثلا في اختيار ابن تيمية و أستاذه ابن حنبل الإصرار على إتباع السلف أي الآباء و إنكار أي تجديد حتى درجة تكفيره الحالة التي سخر القرآن منها بشدة لدرجة أنه اعتبر من يقوم بذلك كالحمار يحمل أسفارا..و من ذلك إقرار ابن تيمية بخوارق المتصوفة و اعتباره لها في نفس الوقت أحوالا شيطانية , دون أن يحاول حتى إقرار قاعدة ليفرق بها قارئه هذه الأحوال الشيطانية عن معجزات الأنبياء أو كرامات الأولياء , هنا يضطر ابن تيمية في محاولته لإنكار اتصال المتصوفة بالعالم الغيبي و الذي من ظواهره أو نتائجه هذه الخوارق أن يصف هذه الخوارق بهذا الوصف دون أن يستطيع أن يحدد لنا قانونا يسمح بكشف هذه الأحوال الشيطانية و هذا ليس بمحاججة ذات منطق أو أنها ترغب أساسا في مناقشة عقلية , إنها تستقوي بمفهومهما عن التكفير و الإيمان الذي يساويه بالخضوع لسلطة المؤسسة الدينية القائمة على احتكار مرجعية الحقيقة و الأكثر من ذلك إدعاؤه أنها تمثل الوسطية ( و ما يشكله هذا أيضا من تلاعب سواء بالنص أو بفكرة إنسانية عامة تعتبر الوسطية أكثر استقرار في أقل الأحوال من الخيارات الأخرى ) في استمرار لهذا التلاعب بالأفكار لصالح النتائج المحددة سلفا في سبيل تأكيد مركزية واحدة هي سيطرة المؤسسة الدينية أكثر من سيطرة الإله نفسه ( كما حاول الأشاعرة مثلا أو الغزالي من قبل في مواجهة المعتزلة و الفلاسفة العرب ) على الإنسان و روحه و حياته..ببساطة لم يسع ابن تيمية لحل أية إشكالات عقلية أو واقعية و لم يلق بالا لإقامة بناء فكري واضح , كان ينطلق أساسا من النتائج التي يريد أن ينتهي إليها و يمارس محاججة تبريرية في سبيل "الوصول" إليها..مثلا لو قابلت رجلا يقوم بالخوارق فإن ابن تيمية لا يقدم لك مقاربة منطقية شخصية يمكنك بواسطتها أن تتبين ما إذا كان ما يقوم به معجزة من عند الله أو أحوالا شيطانية , يعني هذا شيئا واحدا فقط : أن ابن تيمية أصر على أن تكون مرجعية الحق و الصواب و الخطأ هي فقط بيد المؤسسة الدينية الوصية على النص المقدس القرآني و النبوي خارج أية مقاربة عقلية يمكن ممارستها من قبل الأفراد أنفسهم , أنها هي فقط من يعطيك هذا الجواب و لذلك كانت الحلول التي جاء بها تلفيقية تهدف فقط للوصول إلى هذه النتيجة..كان ابن تيمية مشغولا باستعادة سيطرة المؤسسة الدينية الشرعية و الجماهيرية بعد الهزة العميقة التي تعرضت لها مستفيدا من موقف اتخذه سابقا أنبياء بني إسرائيل بعد انهيار دولة إسرائيل و سبي اليهود و نفيهم عندما اعتبروا كل ما جرى إنما جرى بسبب الابتعاد عن الله ( إله إسرائيل هنا ) و ضعف الالتزام بأوامره و التمسك بنواهيه و تأكيدهم الوعد الإلهي بالخلاص عن طريق الالتزام بكل ذلك , أي بكلمة واحدة بالتسليم بسيطرة المؤسسة الدينية الروحية و تحالفاتها السياسية..احتاج تحقق هذا الوعد التوراتي لقرون طويلة و بأيدي قوى اجتماعية و فكرية أبعد ما تكون عن اعتبارها المسيح المخلص , لكنه بقي الأساس لمحاولة إعادة تجميع اليهود تحت سلطة المؤسسة الدينية هذا الهدف الذي استخدمته قوى واقعية لتعبر عن نفسها و تنجز مشروعها الخاص..باختصار شديد لم تكن قضية ابن تيمية هي قضية الحرية الإنسانية خلافا لما اعتقد شيخنا الغنوشي , كانت قضيته الأساس هي تكريس ديكتاتورية المؤسسة الدينية فكريا و تحالفها مع السلطة السياسية السائدة......
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟