|
فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2077 - 2007 / 10 / 23 - 11:01
المحور:
الادب والفن
1 ـ استهلال : كأي شعب آخر ، كان لا بد للأكراد أن يسترجعوا ماضيهم بحنو وحميمية . إن حقيقة فقدانهم لمؤسسات ثقافية مستقلة ، طوال معظم القرن المنصرم ، يُفسر التشاكل القائم لديهم بين التاريخ والأسطورة . وكان من الطبيعي أن ينعكس إشكال كهذا على تاريخ آدابهم ، والتي شكّل فيها الشعر ، الأرضية الأساس . إن التأكيد على الشعر هنا ، لا يخلو أيضاً من التباس . ومرد ذلك الى ندرة الشعراء الكلاسيكيين الذين خطوا نتاجاتهم بلغتهم الأم ، وعددهم ربما ينحصر بسبعة " مختارين " ، ممن وصلتنا أخبارهم من العصر الوسيط الممتد بين القرنين العاشر والسلبع عشر ؛ أي منذ صدور" رباعيات " بابا طاهر همداني ، وحتى الفترة التي فرغ فيها أحمدي خاني من كتابة ملحمته الشعرية " مم و زين " . من النافل القول ، بأن الأكراد أمة عريقة مترسخة الجذور في البقعة الجغرافية التي تضم الهلال الخصيب ، والتي شهدت مراحلها السحيقة القدم ، حكومات أسلافهم الغوتيين والهوريين _ الميتانيين والميديين .. وغيرهم . إنه أمر شاذ ، والحالة هذه ، أن يتأخر الكرد كثيراً في تدوين أدبهم القومي . بيد أنّ التاريخ يملك منطقه وحجته : فكما احتكرت لاتينية الكنيسة الأدب المكتوب في اوربة القرون الوسيطة ، كذلك فعلت لغة القرآن الكريم بالأقوام الاسلامية ، غير العربية ؛ والأكراد من ضمنهم بطبيعة الحال ، رغم أن حظهم على ما يبدو ، كان أقل من حظوظ الآخرين . فبالرغم من نجاح الأكراد بتأسيس بعض الحكومات خلال الطور الثاني من العهد العباسي ، إلا أنهم لم يتمكنوا أبداً من لمّ شملها في دولة واحدة . ولا ريب أنها لمفارقة مأساوية بالنسبة لهذا الشعب ، أن يكون أحد أبنائه ، صلاح الدين ؛ من استطاع فرض إسمه المكلل بالمجد ، كأقوى وأشهر حاكم في عالم القرون الوسطى بأسره . ويجوز القول ، بأن إسهام الكرد ما كان أقل من ذلك في الآداب والعلوم والفنون الاسلامية ؛ إذ يكفي ذكر أسماء بعض من مبدعيهم ، كإبن الأثير وابن خلكان وأبي الفداء وزرياب .. وفي ذلك ، يقول الاكاديمي الروسي أ . اوربيلي ، أن الشعب الكردي : " فقد خيرة أبنائه من الشعراء والموسيقيين والقادة ، الذين ازدانت بأسمائهم تواريخ الشعوب المجاورة " . إنّ النسيان يتكلم ـ على حد تعبير اوكتافيو باث . إن تلك الحقيقة ، آنفة الذكر ، لا تستحق التفاتة من لدن بعض " ممثلي " الشعوب المجاورة ، من مؤرخين وأدباء وسياسيين . إنهم يستكثرون على الكرد أن يكونوا كغيرهم من أقوام الله ، ذوي تاريخ وحضارة وأدب .. وحتى لغة ! . عند هذه الفاصلة من الذاكرة المفقودة ، يتفق أصحاب هذا التوجه الاستعلائي مع نظرة بعض المستشرقين الى تراث منطقتنا ، والمستمدة غالباً من معلومات مشوهة لمبشرين وديبلوماسيين ؛ نظرة تمحض الكرد ، أيضاً ، ببعض من ترهاتهم : " شعب آسيوي غربي . إنه شعب سحيق القدم ، أتى كسينوفون على ذكره تحت اسم " كاردوخ ". والاكراد آريون من أصل ايراني ، لغتهم مزيج من التركي والعربي ذات صلة كبيرة بالفارسية . ليس لديهم أدب . وكثير من الاكراد هم رعاة محاربون نهابون ، كانوا الأداة التي استعملت ضد ارمينيا ". كما جاء في موسوعة " كييه " ، الفرنسية . تأخر الأكراد ، اذاً ، في الخروج بلغتهم ، ناجية ، من بوتقة آداب جيرانهم ؛ وبخاصة العربية الاسلامية . المدهش في الأمر، أنهم حافظوا في الآن ذاته ، على كنز نفيس من التراث الشعبي ( الفلكلور ) ، ضمّ بشكل رئيس ملاحمهم وأغانيهم . لقد استطاع مثقفو هذا الشعب ، خلال القرنين الماضيين ، تدوين جزء ضخم من التراث الشفاهي ، دون أن نغفل مساهمة المستكردين والباحثين الأجانب ، وبالدرجة الاولى من الروس والأرمن والألمان . إذ بلغ من إعجابه بالأدب الشعبي الكردي ، أنّ آبو فيان قال عنه : " خطا خطوات رائعة ، وبلغ الكمال اللازم " .. ويتابع أبو الأدب الأرمني قوله : " إن كل كردي ، ذكراً كان أم أنثى ، هو شاعر بفطرته ؛ فالأكراد يتغنون ببساطة خالية من التعقيد بوديانهم وجبالهم ، بشلالات المياه والجداول والسواقي ، بالأزهار والسلاح والخيل والمآثر الحربية ، بجمال وفتنة فتياتهم الحسناوات .. وقصارى القول ، يتغنون بكل شيء تبلغه مشاعرهم وتدركه مفاهيمهم " .
2 ـ إشراق : حينما يتعلق الحديث بالبدايات ، فإن العديد من المثقفين الكرد لا يقبلون لأدبهم المدون تاريخاً يقل عن التاريخ الذي يسبق الهجرة المحمدية والميلاد المسيحي . ثمة قناعة هنا ، بأن أشعار بير شلياري ، المنظومة باللهجة الهورامانية تحت عنوان " وصايا " ، تعود الى فترة سابقة لنزول الوحي القرآني . وفي مقدمته القيمة لملحمة " ممي آلان " الشعبية ، ينقل لنا الباحث نور الدين ظاظا ، رأي المستشرق الدانمركي كريستنسن ، والذي يعتقد يأن هذه الملحمة كانت معروفة في ميديا القديمة خلال الألف الأولى قبل الميلاد . من جهتهم ، انشغل مؤرخو الأدب الكردي في اجلاء الغموض عن سيرة شاعر من القرن العاشر الميلادي ، يُدعى علي ترموكي ، وصلت قصائد منسوبة له . وإذا وضعنا جانباً هذا النسب ، اليتيم ، فالمتفق عليه بين جمهرة المؤرخين ، أن بابا طاهر همداني ( القرن العاشر الميلادي ) ، هو الأب الخالد بالنسبة للأدب الكلاسيكي الكردي . جذور هذا الشاعر احتضنتها مدينة " همدان " ـ أو " آمدانا " القديمة ، كما كانت تدعى ، بصفتها عاصمة الميديين . من كل شعره ، لم يصلنا سوى " رباعيات " ؛ وهي إشراقات صوفية لاقت اعجاب الأجانب ، والذين ترجموها منذ وقت مبكر الى لغاتهم الاوربية . هذه الرباعيات ، كان من سوء حظها ، ربما ، أنها مكتوبة باللهجة اللورية ؛ مما أدى الى إختصام المؤرخين الكرد والفرس حول هويتها . ولقد ضمن الأولون ولاء معظم الباحثين الأجانب ، الى وجهة نظرهم التي تؤكد كردية الرباعيات . بل انّ المستشرق الألماني اوسكار مان ، ذهب أبعد من ذلك ، بتوجسه أن يكون المدونون الايرانيون ، خلال طبع هذه الأشعار ، قد أدخلوا العديد من المفردات الفارسية فيها ، وحتى نسب مقطوعات مزيفة لها. كما سبق القول ، فالنفس الصوفي يفوح من رباعيات الهمداني ؛ مفردات يغلب عليها اسماء الحبيبة الملهمة ، الدوارق البللور ، و الأبازيم العاج .. وكلها تدعي مماهاة عشق الذات الإلهية ، كما في هذه الرباعية التي تناجي ( فاطمة ) ، محبوبة الشاعر : " عيناك تتلألئان ككأسيْ شراب ومثل كنوز ملك " الريْ " حاجباك تؤجلين دوماً لقاء اليوم الى الغد والله وحده يعلم متى يكون غدك "
الحق أنّ الولادة الصعبة للكلاسيكية الكردية ، ستنتظر حلول القرن الثاني عشر الميلادي ، الذي أنجب شاعره الصوفيّ الأكبر ، ملاي جزيري . لقد وصلنا ديوانه كاملاً ، إلا أنّ ثمة نقصاً في سيرة صاحبه؛ وتحديداً ، الزمن الذي عاشه . فمن المؤرخين من تأخر به الى حدود القرن الخامس عشر. والرأي المستند الى شواهد أثبت ، تدعم التاريخ الشائع ( 1100 _ 1170 ). مدينة " بوطان " الشهيرة ؛ موئل الملاحم والاساطير ، والجنة المتراخية على ضفاف دجلة ، هي مهد هذا الشاعر العاشق ومن طبيعتها تطبّع شعره . ما كانت تنشئته لتختلف عن بقية مجايليه ، من تحصيل معارف اللغة والفقه في حلقات الدرس المسجدية. على أنّ تفوقه ، على ما يبدو ، ضمن له الإقامة في بغداد ؛ حاضرة العالم الاسلامي آنذاك ؛ إقامة ، ألف فيها نهره رغم ما كسر من رخائها أسرُ أسوار المعهد الديني . شاعرنا في موطنه مجدداً ، مضيفاً الى معارفه معرفة لغة الله ، فضلاً عن لغة شاعره الأثير " حافظ " ؛ الذى سار على منحاه في تفضيل الأوزان العربية . وكان من إجادته لهاتين اللغتين ، أيضاً ، أنه كتب بهما أشعاراً ورسائل وحواش ؛ وهو ما أضحى بمثابة تقليد معتمد ، عند من جاء بعده من شعراء . في حياة شاعرنا ، الصوفيّ ، عشق آخر ، غير ذي صلة بعشق الذات الربانيةّ ، وحلّق به الى أبعد من سمائها السابعة . شاء القدر أن تكون حبيبته ،" سلمى "، ايزيدية الديانة ، والانكى انها ابنة لأمير الطائفة . وإذ حالت الفروقات الدينية دون ظفر حبه ، إلا أنها عجزت عن منع معجزة خلوده . من كرمة شعر " جزيري " نعتصر هذا القدح : " من اولى النعم التي منّ الله بها علينا الكأس السلاف في كتاب السراط المستقيم بالله وبقدس آياته ، أنه ما لم تشرب القهوة من بديْ بائعها ، وما لم يفقد الشعور فلن تبلغ السراط المستقيم "
الملحمة الشعرية الكردية ، الاولى ، كانت على موعد مع الشاعر أحمدي خاني ( 1650 _ 1706 ؛ الشاعر المنتمي بروحانيته السرانية وفلسفته العميقة ، الى فصيل المتصوفة الكبار ‘ أمثال ابن عربي وجلال الدين الرومي والشيرازي . ومنه بالذات ، انطلق صوت الوطنية في الشعر ، وربما لأول مرة في تاريخ الكلاسيكية الكردية، مندداً خاصة بالهيمنة العثمانية والصفوية وتلاعبها بالهوى الدينيّ . ويؤكد هذه الحقيقة ، المستشرق الروسي أ . اوربيلي : " عندما نتحدث عن الوطنية في الشعر ، من الضروري ان نقارن بين ثلاثة من شعراء الشرق العظام : الفردوسي الايراني وروستافيلي الجورجي وخاني الكردي " . هنا أبيات من ملحمته " مم و زين " ، تستجلي موقف الشاعر من عصره : " إذا كانت تبعيتهم عاراً هذا العار للناس معروف خزياً للحكام والأمراء ولا ذنب للشعراء والفقراء "
اضافة للقيمة الفنية العالية لملحمة " مم وزين " ، فإن اصرار شاعرنا على كتابتها بلغته القومية ، لهو أمر يستحق إلتفاتة جديرة . فالمعروف أن الكتاب الكرد الذين سبقوه ، دأبوا على تدوين مؤلفاتهم بلغات الجيران ؛ حال ابن خلكان وشرفخان البدليسي وفضولي واوليا جلبي .. وغيرهم . لقد كان " خاني " مدركاً وعورة إختياره . وهاهو يقول في ذلك : " ماذا أفعل حين يكون كسادٌ في البازار والسلعة ليست رائجة ؟ "
فتحت مبادرة " خاني " الباب للشعراء الأكراد ، لينسجوا على منواله وشياً أضحى أكثر رواجاً في القرن التالي: حكاية " يوسف و زليخة " ، الواردة في القرآن الكريم ، أضحت قصيدة طويلة ؛ مرة بريشة سليم بن سليمان ، والاخرى بخطّ حارس التبليسي ( القرن السابع عشر ) . وهي ذي قصة العشق العربي " مجنون ليلى " ، تصبح ملحمة شعرية كردية بقلم المنوّر ملا محمود بيازيدي ( القرن التاسع عشر ) . ولعل ملحمة " مم وزين " ، هي أندر أثر كردي معروف في اللغات العالمية ، كالفرنسية والروسية والألمانية والعربية . وهذه الأخيرة ، حظيت ترجمتها بشعبية غامرة بالنظر للغة مترجمها العلامة محمد سعيد رمضان البوطي ، البديعة ، وعلى الرغم من تصرفه بالنص الأصلي . جدير بالتنويه ، أن والده الشيخ رمضان ، كان قد أنجز مع زميله الشيخ عبد المجيد بدليس ، ترجمة عربية لمؤلف " خاني " الموسوم ب" نوبهار " ، والذي صدر في دمشق في مننتصف خمسينيات القرن الماضي .
3 ـ إسراء : ثمة اسطورة ، بطلها الصوفي الكردي ، الشيخ خالد النقشبندي ، والمعروف بلقبه " مولانا " ؛ اسطورةُ حلم أخذه في اسراء عجيب الى أرض الحجاز ، ليلتقي هناك بمجذوب لا يلبث أن يعرف فيه شخص الشيخ الدهلوي ( نسبة الى التحريف الشائع آنذاك لإسم العاصمة الهندية ) ؛ قطب الطريقة الأكبر ، الذي كان قد همس له في ذالك الحلم آمراً إياه بالذهاب الى الهند : " وإلا فإن طريقك سيكون طويلاً " . نؤوب الى الخطى الاولى ، لمن سيضحي فيما بعد الخليفة المعترف به لصاحب الطريقة ، لنجده فتى يافعاً يتلقى العلم ، من فقه وتشريع ، في مدينة السليمانية ؛ حاضرة إمارة البابان ، النائية بنفسها عن حكم آل عثمان . هو الذي ابصرت عيناه النور في ريف تلك الامارة الكردستانية ، شهرزور ، في عام 1776 ، ومن سيسير منوّماً في درب حلمه ، عبر بغداد تلقياً لمزيد من العلم ومن ثم الى مكة حاجاً ، عابراً الشام الشريف في طريقه ؛ عبوراً كان قدره أن يصير إقامة دائمة له فيما بعد . نتابع الاسراء النقشبندي ، وهاهو " مولانا " في الهند يتشح بخرقة الطريقة ، عائداً وقد توّج بلقب فريد ؛ مجدد الوقت . في كردستان ، تكون له الحظوة ا لأثيرة لدى حاكمها الباباني ، بتقريبه من مجلسه وتخصيص زاوية ومسجد لطريقته رابطاً عليها الأوقاف اللازمة . إلا أن الجفاء دب أخيراً بينهما ، خاصة وأن خلق " النقشبندي " منعه من محاباة الأمراء وحاشيتهم ، دون أن ننسى خصوم طريقته اللدودين ؛ شيوخ السجادة القادرية ، الأكثر قدرة وتأثيراً في الإمارة . إلا أنه ولكي تكتمل الاسطورة ، كان لا بد أن يسري سبب آخر للخلاف . إذ ينقل لنا الرحالة الاوربي " ريج " عن أهالي المنطقة ما أسماه بحكاية " هروب النقشبندي من كردستان الى الشام "؛ وهي أن كرامات الرجل عجزت عن شفاء علة إبن الحاكم الباباني . أياً كان الأمر ، فقد احتفلت دمشق للمرة الثانية باستقبال قطب العصر ؛ دمشق التي محضها كرد ذلك الزمان شوقاً مفعماً بالمحبة والقداسة ، لما أشيع عن طهارة أرضها و حرمة جبلها ؛ وهو ما عبّر عنه المنوّر الكردي ، جكَر خوين ، بقوله : " إنهم يضعون آمالهم في الشيخ لإيصالهم الى الجنة ، ويعتقدون بأنه في يوم الحساب ، حين يهبط الله في دمشق ، فالشيخ سوف يجنبهم دخول النار ويفتح لهم بوابة الفردوس " . يصطحب شيخنا معه ركباً مديداً من الزوجات والأولاد والأحفاد ، فضلاً عن جملة من علماء اقليمه الذين صعب عليهم فراقه ، وممن صاروا فيما بعد دعاته في الديار الشامية . يلازم " مولانا " مركز المدينة ، حيث مسجده وزاويته ، ولا يلبث إثر إقامة راسخة أن يختطفه وباء الطاعون عام 1866 ، موصياً قبل رحيله بإيداع جثمانه في سفح جبل قاسيون ، المقدس ؛ السفح الذي يبرز منه مشهد تكيته الكبرى ، المشرفة من رابية ساحرة على حيّ الأكراد . عدا ديوانه ، خلف لنا أكبر شعراء الأكراد المتصوفة في القرن التاسع عشر ، العديد من المؤلفات والرسائل المكتوبة بمعظمها بالعربية والفارسية . وبما أن شعره اختلط فيه لهجتا موطنه الأول بمفردات فارسية كثيرة ، فقد شبّه لبعض المصادر أنه فارسي اللغة ؛ على أساس احتواء هذه اللغة لكم هائل من الكلمات العربية . غير أنّ هذا القول يجانب الصواب ، خاصة اذا عرفناأن العادة التي كانت شائعة عند الصوفيين ، غير العرب ، حبذت حشو الشعر بمفردات وحتى جمل كاملة من لغة الوحي السماوي . وهذه رباعية من شعر مولانا النقشبندي ، أشرنا بين قوسين للكلمات العربية الواردة فيها : " مرة اخرى ، حبيبتي ، تجلي كضوء السراج نوّري ( جبل أحد ) ، تكشفي كالنار يسّاقط طيباً ، فوح نسيم العنبر على البساط يهطل الضياء ( في الليل يلجون النهار ) "
الشعر الكلاسيكي الكردي ، المدون باللهجة الصورانية ، تأخر الى بدايات القرن التاسع عشر ؛ حقبة مجد الامارة البابانية . وعن ذلك الرجل الذي قام على قامته بنيان الشعر الكردي في العصر الحديث ، يكتب المستشرق الروسي مينورسكي : " أعتقد أن المركز الرئيس للشعراء الأكراد قد انتقل الى مدينة السليمانية ، حيث عاش الشاعر المشهور جداً ، نالي " . الإسم الحقيقي لهذا الشاعر هو ، ملا خضر ، الذي تحدر من نفس اقليم مولانا النقشبندي ؛ شهرزور ، ومولده كان في حدود العام 1800. تفتحت عيناه ، إذاً ، في اوج ازدهار الامارة البابانية ، وقدر لهما ، أيضاً ، أن تشهدا أيامها الأخيرة . في خانقاه الطريقة النقشبندية ، في مدينة السليمانية ، استقر " نالي " بهدف الاحاطة بعلوم الدين ،مكحلاً نظره ، بين صدفة وأختها ‘ بمرأى مولاه شيخ الطريقة . إلا أن دروسه الدينية ، وأسر التكية ، لم تمنعه من قضاء صباه متصبباً بعشق فتاة اسمها " حبيبة " ، دأب شعره على التغني بها حتى النهاية : " خصلات الشعر مبعثرة حول قدكِ وقد خدعتني اليوم وحالت دون معرفتك لماذا لا أبكي ، عندما تؤذين مائة مرة قلبي .. كيف لا تنسكب الخمرة ، والقدح مكسور من مائة مكان ؟ "
تأثر " نالي " بقراءاته لنتاجات الأدبين العربي والفارسي ؛ مما تشفّه نماذج من شعره الغزلي ، الذاخر بالصور الرائعة . من ناحية اخرى ، فإن المصير التراجيدي لإمارة البابان ، والتي قضت عليها " اصلاحات " الباب العالي ، خلفت جرحاً عميقاً في مشاعره القومية ؛ جرحاً ما فتيء ينزف في شعره . لقد ربطته صداقة ومودة بأحمد باشا ، آخر رجالات السلالة البابانية ، وخصه ببعض قصائد مديحه . وقدّر للرجلين ، فيما بعد ، أن يتشاركا نفس المنفى . حبّ يائس ووطن ضائع ؛ فلا غرو ، إذاً ، أن يسم الشاعر نفسه بالإسم الذي اشتهر به لاحقاً " نالي " ؛ ومعناه ( أنين ) . متغنياً بلغته الأم ، ينشد شاعرنا : " حينما تعبر بالكردية ، لغة الشاعر فيّ تضع نفسها عمداً ، أمام امتحان فارس في ميدان البلاغة ، أنا أقتحم ، فتنكص أمامي اللغات الأجنبية "
كان قد مرّ عقدان على وفاة مولانا خالد . وهو ذا مريده ، نالي ، يسلك أيضاً الاسراء المؤدي الى الفردوس : يقضي في الشام سنوات ثلاث ، مجاوراً في التكية النقشبندية بحي الأكراد ، والتي تضم تجاليد " مجدد الوقت " . يستند الى قاسيون ؛ جبل الأنبياء والاساطير ، مرسلاً طرفه الى مشهد الحاضرة الساحرة وغوطتها النضرة . في غربته الدمشقية ، يشعر نالي بشوق عارم لمدينة السليمانية ؛ موطن فتوته وأثاله ، فيكتب هناك أحسن قصائده " أفدي بضعة من غبار دربكِ " . ومن الشام ينتقل شاعرنا الى استانة العثمانيين . يلازم هناك أميره الباباني ، أحمد باشا ، والذي أضحى الآن صديقاً حميماً له ؛ صداقة المنفى الأخير التي أغمضت عينا ه عام 1856 . في العام الذي تلى وفاة الشاعر ، تسنى للمستشرق الروسي ، خودكو ، فرصة لقاء الأمير الباباني في باريس . وفيما بعد ، كتب المستشرق عن هذا اللقاء في مقالة له ، وفيها ذكر أن هذا الوجيه الكردي ، المنفي ، حدثه عن شاعر كردي كان يقيم في دمشق وإجادته للغة العربية ، والتي ترجم منها كتاباً في النحو الى لغته الأم ؛ وأن هذا الشاعر عرف بإسمه الأدبي " نالي " .
المصادر : 1 _ بيتر ليرخ ، دراسات حول الأكراد / ترجمة د . عبدي حاجي _ دمشق 1992 2 _ بروفيسور مينورسكي ، الأكراد / ترجمة د . معروف خزندار _ بغداد 1968 3 _ باسيل نيكيتين ، الأكراد / الترجمة لدار الروائع _ بيروت 1971 4 _ بروفيسور قناتي كردو ، تاريخ الأدب الكردي ( بالكردية ) _ انقرة 1992 5 _ نور الدين ظاظا ، ممي آلان ( بالكردية ) / نشر وتقديم _ دمشق 1957 6 _ أحمد فوزي ، قاسم والأكراد / غير مذكور مكان وتاريخ الطبع 7_ وليم ايغلتن الأبن ، جمهورية مهاباد الكردية / ترجمة جرجيس فتح الله _ بيروت 1972 8 _ جكر خوين ، تاريخ كردستان ( بالكردية ) / ستوكهولم 1985 9 _ د . معروف خزندار ، موجز تاريخ الأدب الكردي المعاصر / ترجمة د . عبد المجيد شبخو _ حلب 1993
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أكراد وأرمن : نهاية الأتاتوركية ؟
-
زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه
-
مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
-
جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
-
زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله
-
إنتقام القرَدة
-
زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
-
شعب واحد
-
زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
-
جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
-
هذا الشبل
-
زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
-
وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3
-
يا نائب وَحِّد القائد
-
وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 2
-
زهْرُ الصَبّار
-
وداعاً ، إسكندرية كافافيس
-
الأرمن والعنصرية اللبنانية
-
الختم السابع : بيرغمان وشعريّة السينما
-
قاض سوري للمحكمة الدولية
المزيد.....
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|