شؤون اسرائيلية
تمرد الطيارين الاسرائيليين
الخلافات الداخلية تبلغ السماء
تشكيك الطيارين في نجاعة او اخلاقية عمليات الاغتيال في المناطق المحتلة، نابع من افتقاد العمليات أي افق سياسي. الرفض يعبر عن الطريق المسدود الذي وصلت اليه السياسة والمجتمع الاسرائيلي. مع هذا يبقى البحث عن دعم سياسي لدى حزب العمل اشارة الى محدودية الظاهرة.
اوريت سودري
يوم الخميس 25 ايلول (سبتمبر) كان عاصفا في اسرائيل، فقد نشرت صحيفة "يديعوت احرونوت" رسالة موقعة من قبل 27 طيارا موجهة الى دان حلوتس، قائد سلاح الطيران الاسرائيلي. تقول الرسالة ان الموقعين ادناه يرفضون المشاركة في هجمات يشنها سلاح الطيران داخل مواقع سكنية لمدنيين فلسطينيين ابرياء. تسعة من الطيارين ال27 الموقعين على الرسالة، هم طيارون فعالون في الجيش. اما الباقي فهم طيارون قدماء من بينهم عقيدان وتسعة مقدمين.
في مقال آخر ورد في الصحيفة نفسها، وصف المحلل العسكري اليكس فيشمان معنى هذا الرفض بالكلمات التالية: "تمرد الطيارين هو هزة ارضية مدمرة، يصعب حاليا توقع ابعادها. اذا لم تتوقف هذه العاصفة في الحال، فقد تجرف معها اوساطا اخرى في الجيش، ليس فقط في سلاح الطيران".
من هم الطيارون؟
يعتبر سلاح الجو قلب الكيان الاسرائيلي، واصبح مع الوقت رمزا للتفوق العسكري الاسرائيلي على الدول العربية في المنطقة. تدمير سلاح الطيران المصري في حرب ال67، وتفجير المفاعل النووي في العراق اثناء حكومة بيغين مثلا، ساهما في تشكيل الاسطورة حول سلاح الطيران وامكانياته في الشرق الاوسط.
دورة الطيران تعتبر اكثر الدورات اهمية على الاطلاق، ويطمح المجندون بان يقبلوا لها، غير ان شروط القبول صعبة جدا، والقليل ممن تم قبولهم للدورة يتمكنون من انهائها. فالطائرات لا تسلم لايد ماهرة فحسب، بل يجب ان يحظى الجندي بثقة الجيش. آلون، احد الطيارين الذين وقعوا على الرسالة، قال ليديعوت احرونوت: "سلاح الطيران هو كالعائلة الواحدة. رفض الخدمة هو مثابة الثورة على عائلتك... وهو امر يصعب القيام به".
ظاهرة الرفض ليست بالظاهرة الجديدة على الجيش الاسرائيلي. ففي عام 2001 ظهرت رسالة رافضي الجندية من طلاب الثانوية، والتي دعت لرفض الخدمة الكلي ورفض الخدمة في المناطق المحتلة. في العام 2002 نشرت رسالة الضباط التي دعت لرفض الخدمة في المناطق المحتلة. رسائل مشابهة نشرت ايضا في مراحل سابقة، زمن الحرب على لبنان وزمن الانتفاضة الاولى. ولكن خلال كل هذه السنوات لم يتغلغل الرفض الى صفوف سلاح الجو، قدس اقداس الجيش الاسرائيلي. فما الذي تغير؟
في تموز 2002 مباشرة بعد محاولة اغتيال صالح شحادة، التي قُتل فيها مع شحادة تسعة اطفال نتيجة القصف الجوي، اجرت وسائل الاعلام مقابلة مع حلوتس، قائد سلاح الطيران. وكان رده: "ان طياري سلاح الجو ينامون جيدا في الليل". الا ان الطيارين الذين وقّعوا على العريضة يعبرون دون ادنى شك عن تردد كبير في اوساط سلاح الطيران.
احد الموقعين، يونتان، (هوياتهم محفوظة) شرح سبب رفضه بالقول: "الطيار الذي يخرج في مهمة لا يعرف سن المسافرين في السيارة التي ينوي تفجيرها، كما انه لا يعرف ما هي جريمة الشخص الذي صدر الحكم ضده في هذه اللحظة. انه لا يعرف شيئا. نحن نتلقى الاوامر فقط. لم يعد لدينا ثقة في هذا الجهاز الذي يصدر لنا الاوامر".
في تموز أُبعد شابان من الدورة وكانا على وشك اتمامها، وذلك لانهما صرحا بانهما من الممكن ان يرفضا امرا باغتيال اهداف داخل مجتمع مدني. واعترف قائد طياري الاباتشي بان "الطيارين مترددين، ويتكلمون عن الخطوط الحمراء لدى كل واحد منهم".
حتى الآن تم حل مشكلة التعامل مع موضوع التردد الاخلاقي داخل نطاق سلاح الطيران، وذلك عن طريق نقل الشخص المتردد من المهمات الحربية الى المهمات المدنية. وسمي هذا "بالرفض الرمادي". هذه الظاهرة متواجدة منذ سنوات وكانت معروفة لكل من له علاقة بالموضوع من طيارين وضباط. بالنسبة للجيش كان هذا عبارة عن حل وسط ساهم في الحفاظ على وحدة صفوفه، اما بالنسبة للطيارين "الذين لم يتمكنوا من النوم في الليل"، فقد كان ذلك حلا سهلا لم يتطلب منهم دفع ثمن باهظ. رسالة الرفض شكلت خرقا لهذا الاتفاق.
رد فعل اسرائيلي حاد
بالقدر الذي قوبلت الرسالة بالتهليل في السلطة الفلسطينية والعالم العربي، كان رد الفعل الاسرائيلي ضد الطيارين المتمردين قاسيا وحاسما. طيارون آخرون رأوا في تمرد زملائهم طعنة في الظهر، فاصدروا عرائض مضادة. وقال احدهم في مقابلة ليديعوت احرونوت بعد يوم من نشر رسالة الطيارين، انهم يُظهرون جميع الطيارين كمجرمي حرب: "قد يودي بنا هذا الامر الى المحكمة الدولية في هاغ".
وزير الدفاع شاؤول موفاز رد بان: "عريضة الطيارين هي مثابة مساعدة معنوية لألد اعداء اسرائيل، ومساعدة غير متوقعة للمنظمات الارهابية التي ترتكب اعمالا اجرامية ضد الانسانية في حين انهم يهدفون الى ابادة دولة اليهود".
السلطات الاسرائيلية قررت التعامل مع الرافضين على انهم خونة، وبدأت التشكيك بمصداقيتهم. وزارة المعارف الغت النقاش الذي كان من المفترض ان يتم بحضور طيار رافض للخدمة في مدرسة باشدود.
وتم تصعيد الاجراءات ضد الموقعين على العريضة، ففي الايام الاولى مُنع الموقعون من الطيران. اولئك الذين عملوا كمرشدي طيران عُزلوا من مناصبهم. بعد اسابيع معدودة تقرر اقالة اثنين من الطيارين.
الضغط الاجتماعي الذي وصفه الطيارون انفسهم بانه "هجوم عنيف ضدهم"، ادى باربعة منهم للانسحاب من رسالة الرفض. ولكن من جهة اخرى، ادى الضغط لانضمام خمسة طيارين آخرين للعريضة. بين الموقعين الجنرال يفتاح سبكتور الذي يعد الاب الروحي للطيارين، وكان مرشحا لمنصب قائد في سلاح الطيران، غير انه عاد لينتقد نص الرسالة دون ان يسحب توقيعه. وقد تم فيما بعد عزل سبكتور من منصبه كمرشد في مدرسة الطيران.
السياسة من وراء الرفض
ما سبب تغلغل الرفض الى سلاح الجو، الذي كان حتى الآن معقل العسكرية الاسرائيلية؟ التوقيت الذي اختاره الطيارون للتوقيع على العريضة هو المفتاح لفهم الدوافع لنشر الرسالة. يجب ان نؤكد اولا بان ادعاء الحكومة ان الامر غير متعلق بمشكلة ضميرية بل هو صادر عن دوافع سياسية محضة، هو ادعاء صحيح. اقوال الموقع يونتان نفسه، على انهم لا يثقون بالجهاز الذي يصدر الاوامر، يشير ايضا الى هذا الاتجاه. كما ان نص العريضة الذي يقول ان "العمليات غير قانونية وغير اخلاقية، وانها نتيجة مباشرة للاحتلال المستمر الذي يفسد المجتمع الاسرائيلي كله" يشير الى موقف سياسي اكثر منه الى موقف ضميري.
لم يحاول الطيارون الافصاح عما يخالج ضمائرهم بشأن العمليات العسكرية عندما كان حزب العمل مشاركا في حكومة الوحدة الوطنية مع شارون، فقد ساد الوهم بانه من الممكن التوصل الى حل مع الفلسطينيين. الا ان حكومة الوحدة تفككت، واقام شارون حكومة يمينية جدا ليس لها اي رؤية سياسية، خصوصا بعد ان سقطت حكومة ابو مازن، وبعد ان وصلت "خريطة الطريق" الى طريق مسدود، واصبح عرفات مرشحا للطرد. كما ان الآمال التي علّقها شارون على انتصار امريكا السريع في العراق تلاشت.
يشكك الطيارون في مضمون عمليات الاغتيال والتفجيرات في المناطق المحتلة لانها تفتقد أي افق سياسي. الوضع الاقتصادي والاجتماعي في اسرائيل تدهور، كما ان مصداقية شارون تراجعت على ضوء تحقيق الشرطة مع ابنيه جلعاد وعومري في شبهات فساد متورط فيها الاب شارون نفسه. الطيارون بشكل واضح يعبرون عن الطريق المسدود الذي وصلت اليه السياسة والمجتمع الاسرائيلي.
من جهة اخرى، ليس للطيارين أي موقف واضح ضد الاحتلال بحد ذاته. وليس صدفة انهم لم يضموا اسماءهم الى عرائض الرفض السابقة. نقطة انطلاقهم ليست الشعب الفلسطيني والقلق على مصيره، انما هو القلق على مصير دولة اسرائيل الموجودة اليوم في ازمات عنيفة على الصعيد السياسي والاقتصادي، وهم يرون ان سياسة شارون العدوانية في كلا المجالين، تتجه الى مزيد من التصعيد. الرسالة هي علامة انذار هدفها اشعال ضوء احمر في محاولة للجم هذه السياسة.
الطيارون غير مستعدين للخروج عن المؤسسة الصهيونية. ورغم قولهم ان الاحتلال يؤدي الى الفساد، لم يخطر ببالهم البحث عن حلفاء ضد الاحتلال من داخل الشعب الفلسطيني. عدم ثقتهم بشارون، انعكس في نهاية الامر بالبحث عن دعم داخل حزب العمل. اللقاء الودي بين سبكتور وقائد سلاح الجو يثبت ان الهزة الارضية رغم حدتها تبقى خلافا داخل العائلة.
الصبار