أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أثير كاكان - اللحظات الأخيرة في حياة رجل مهزوم















المزيد.....

اللحظات الأخيرة في حياة رجل مهزوم


أثير كاكان

الحوار المتمدن-العدد: 2070 - 2007 / 10 / 16 - 11:15
المحور: الادب والفن
    


الهزيمة تجعل الضعفاء أكثر قوة، تلهمهم بأن الأمل الكاذب لا يزال هناك مرتدياً حلته الوردية، أما أنا فقد جعلتني محترقاً ككومة نفايات بشرية يفوح منها رائحة الشواء.
لم استطع أن أطيق بعداً عن حبيبتي حتى بعد أن هجرتني في سبيل رغبة عارمة اجتاحتها في لحظة سكر بساعة نشوة لرجل كان من المفترض أن تكون قد تزوجته منذ دهر.
هل كان للحياة معنى في ذلك اليوم والرصاصة تشق طريقها نحو دماغي المنخور لحظة عبوري لسرادق أحد الموتى في حارتي الشعبية القديمة، هل كان من المفترض أن آخذ طريقاً آخر غير الذي سلكته الأيام كي لا اسقط أرضاً في النهاية، هل كان هذا هو الموت يدهمني بعرباته العسكرية وخيوله الجامحة، أم كانت طريقة مختلفة للحياة تقول فيها لا؟ لست أدري لكن الشعور الذي غمرني في تلك اللحظة وأنا أنظر في عيني قاتلي والمح فيهما نشوة القتل وبرودته أوقدت في ذهني نيران ليلة شاتيه لا أذكر موعدها ولكنها كانت بالتأكيد في شهر بارد كتموز أو آب أو ... آخ، بيد أنهما في الصيف.
الحمى تجتاح رأسي الذي صار كمرجل بخاري غاضب، وأنا أهوي معلناً دوياً شديداً بسبب ثقل جسدي أو هكذا تخيلت أذني أو ربما هذا ما كان عليه الموقف.
بمجرد أن مس جسدي الاسفلت الساخن حتى تلاشت آخر الصور الضبابية في عيوني.
هل كان الوقت طويلاً بين سقوطي ولحظة إدراكي للموت؟ هل كان الزمن الفاصل قصيراً؟
يومها قالوا أن دماً لم يخرج من رأسي ولكن رماداً ... الكثير من الرماد قد ملأ الشارع القديم قدم رغبتي أنا في نهاية هادئة الدراما، سوداء أبنوسية كعيون قطتي الوحشية وعيناها تشتعل غيرة من اللواتي ضاجعتهن مخلفات وراءهن فوق جسدي خارطة من الخربشات ترسم صوراً لموانئ حزني المدعوة وطن.
لا يفهم الآخرون أن لحظة تشردي بدأت يوم عثرت في جسدها على أرض أحسست إليها بالانتماء، شعرت فيها لأول مرة بمعنى الالتصاق بالجذور، وان باقي تفاصيل إتيانها كانت تستلب كل المعاني من حياتي وهي تمتلك هذا القدر الحضوري فيها، فأي آلهة مجنونة تلك التي تطالبني بأسباب ومبررات لما لا أعرف تفسيراً له وهي التي قد وقفت عاجزة ذات يوم عن نجدتي، فتباً لها من آلهة و تعساً لها من وجود مفرغ من نفسه يحاول التطفل على حيواتنا لمجرد أننا كنا أسفه وأجبن من أن نسلبها الذي منحناه نحن لها قبل قرون غائرة من الاستعباد.
ذلك اليوم خرجت من غرفتي المعتمة في ذلك الحي القديم متوجها نحو كشك صغير لبيع السجائر، ارتديت آخر ما تبقى لي من ملابس على عجل، وصداع قاتل يجتاح جمجمتي بحثاً عن سكينة لم أعهدها، كان الشارع هادئاً بشكل عجيب، والكتل التي تحتل مساحاتها عل خارطته تتحرك ببطء قاتم بلا نهايات، كان كل شيء يسير على الطريق المرسوم له فلا يحيد عنه مهما حاول التخلص منه، كانوا ثيراناً مربوطة إلى نواعير الزمن.
يومها قررت أن اشطب اللحظات والثواني اللواتي لم تعبق بعطور حضورها السرمدي. فأخذت مجموعة من أقلام الباستيل الملونة وجلست مع أطفال الحارة الآخرين نحاول أن نصبغ مر واقعنا بألوان أخرى غير الأسود والأحمر. فرسمت وجهها مغطى بتلاوين الطيف كما طفلة هندية ثم أضفت إليه لوني اللامكتشف بعد لتصبح هي حبيبتي.
التفت في تلك اللحظة فرأيت أحد أصدقائي القدامى يغمرني بنظراته الحانية المليئة بالإشفاق وهي ترقبني بقسوة، اقترب مني وهو يسحل خطواته الوئيدة ويجر ساقه على تلك السكة الزمنية فيما سيجارته تتدلى من جانب شفته الزرقاء المتشققة من عطش قديم. صافحني بقوة واحتضن جسدي يبحث فيه عما قد أخفيه عن العيون، رفع رأسه سألني إن كنت ابتغي حضور جنازة صديق آخر لنا كانوا قد نصبوا له سرادق عزاء في الطرف الآخر للحي.
فركت شعر رأسي بيدي حيرة ودماغي المشوش يحاول رسم صور لكلماته كي يكون قادراً على استيعاب ما يقوله، هززت رأسي نافياً ثم موافقاً بيد أن الكلمات التي خرجت من فمي كانت: لا أدري!!!
سألني أن كنت لا أزال أرى حبيبتي؟ تأملت كلماته وأنا أقاتل هذه المرة كي امنح معنى للكلمات، بيد أن كلمة واحدة توقفت على شفتي تبحث عن تفسير وسألته: حبيبتي!!!؟
نظر إلي كمن ينظر إلى أبله وأخبرني أن أحاول التركيز أكثر وأن أقلل النظر في الأوراق والكتب المتناثرة في غرفتي الباعثة على السقم وأن أحاول العثور على عمل اقتات منه بدل التسكع على المقاهي والأسواق وأن لا أكثر الهراء بشأن السلطة ورجال الدين.
ابتسمت بسخرية وحاولت أن أشرح له موقفي لكنه أمسك ذراعي بحزم وقوة ونظر إلى عيني بحدة وقال: اسمع أنا لا أعبأ بكم الهراء الذي تقوله فأنا من الذين لا يستطيعون أن يحيوا بدون هؤلاء، ولكنني أحذرك مما أرى في الأفق. هنالك من يجتمعون تحت النخلة العجوز ويستهمون في أيهم سيكون له شرف إرداءك ميتاً، هؤلاء تمكنوا من صاحبنا قبل يومين فلم تتصور أنهم سيتورعون عنك؟
أردت أن أخبره أن الموت في سبيل الحق شيء جميل بيد أنني أنا نفسي لم أكن مؤمناً بهذه التخاريف، فلم يكن أمامي بد من أنظر بحزم في عينيه وأنا أؤكد له بأنني سأفكر جدياً فيما قاله لي.
أردت الانسحاب بهدوء لكنه امسك بذراعي بقوة وكأنه يذكرني بأنه كان ولا يزال أقوى مني، التفت إليه وأنا أحاول الهروب من عينيه، بصق في وجهي كلماته دون أن يعبأ بنظراتي المليئة باللاشيء: هي أسمع لا أريدك أن تفكر، أريدك أن تفعل فقط، رجاء لأجلي هذه المرة أن لم تكن لأجل المرأة التي تحب، أنت تعلم كم أحبك وأهتم لأمرك أليس كذلك؟
هززت برأسي موافقاً وجذبني هو بقوة نحوه ليحتضنني، بشدة وشوق، شوق من يودع من سوف لا يراه ثانية.
دفعته برفق وتوجهت نحو البناية القديمة التي اقطن إحدى شققها فيما واصل الشارع مسيرته اليومية في ذلك النهار القائظ ببطء شديد وبنفس الحركات اليومية الرتيبة.
هل كان قتلتي يترقبونني عبر الشارع في المقهى القديم؟ هل تنافسوا على من سيكون له قصب السبق في أطلاق النار علي؟ هل ناقشوا مسائل كفري وإيماني؟ هل فكروا بحبيبتي وكيف ستحيى من بعدي؟ هل تداولوا فكرة إيذائها هي الأخرى؟ هل تجادلوا حول كيف سيقتسمون أثاث منزلي بعد نهبه؟ وكتبي أين سينتهي بها المطاف؟ هل سيحرقونها لما بها من رجس شيطاني عظيم وخطايا خالدة خلود الآلهة؟
دلفت إلى البناية القديمة، صعدت إلى الدور الثاني حيث ترقد شقتي وقد فغرت فاهاً بعد أن نسيت أن أغلق بابها، على أية حال لم يكن فيها ما يسرق.
رن جرس الهاتف، بحثت تحت أكوام الكتب والأوراق المتناثرة في كل مكان حتى دست عليه بقدمي، تناولته، رفعت السماعة ومن على الطرف الآخر شق صوتها الفضاء الرحب باحثاً عن فمي يريد أن يقبله وعن أذني يريد أن يلعقها ويداعبها، خدرت أعصاب جسمي وأنا أتلقى جرعات مخدرها في جسدي فيما كانت هي تبحث عن لحظة صحو في دمي كي تحذرها. أمسكت بقنينة الويسكي المطروحة على المنضدة إمامي وصببت شيئاً منه في كأس قذرة لم أعد أبالي بعدد اللامرات التي مضت منذ آخر مرة لامستها المياه، أشعلت سيجارة جديدة وأنا امسك جهاز الهاتف بيد واضعاً السماعة بين كتفي وأذني، وناهضاً من مكاني كي ابحث في الثلاجة إن كان قد بقي بعض من مكعبات الثلج في مكان ما عندما تذكرت أنها معطوبة، رجعت إلى أريكتي منبطحاً عليها وأنا لا أزال اجترع كؤوس الويسكي الساخنة والمباشرة، أحسست بها وهي تشق طريقها عبر معدتي، ساخنة حارقة كآلاف من دموع الثكالى في وطني، كحزن الألوف من الأرامل المغتصبات.
ظلت تنادي هي اسمي من الطرف الآخر مستجدية صحوي بيد أنني كنت في عالم آخر معها لا أريد أن أغادره. غير أن حروفاً راحت تخرج من فيها مجتازة عشرات الأميال وصولاً إلى أذني لتتناسق فيما بينها مشكلة كلمات لم يعد يهمني أن افهم معناها: موت، غدر، عدة، يتربصون، قتل، فقدان؟
صرخت بها: ثم ماذا؟ أنا ميت أساساً ولن يستطيعوا سلبي هزيمتي مني أبداً.
أسقطت سماعة الهاتف مني وأنا أغرق في نشوة سكري فيما لا تذكر أذنيّ في ذاكرتها الأخيرة سوى عويل يشبه ذاك الذي تدفق من سماعة الهاتف وأنا أودع صوتها الحنون للمرة الأخيرة.
استيقظت مفزوعاً وقد قارب الوقت ما بعد الحزن السابق للشفق الدامي، تأملت ساعتي، فأشارت لعدد الساعات اللاموجودة منذ غياب صوتها. ارتميت داخل خرق كنت اسميها ملابس واندفعت نحو الخارج مزيحاً الهواء المتناثر حول قدماي.
عند باب المبنى لمحت مومساً كنت قد أحببتها ذات يوم، استوقفتني وقالت أنها انتظرت نزولي لوقت طويل وبأنها كانت على وشك المغادرة لاطمئنانها من عدم نزولي هذه الليلة، أخبرتني أنها شمت رائحة الموت كثيراً هذا المساء وأنها رغم كراهيتها لي إلا أنها لم تكن تتمنى لي الموت لأجل الأيام الخوالي التي جمعتنا، ابتسمت لها وأنا أمسح خدها وأطمئنها بأنه تكاثر الأحياء في هذه الأرض لم يعد يفسح مجالاً لأموات مثلي كي يضعوا أقدامهم فيها، طبعت قبلة على جبينها وأنا أحرك أشرعة الهواء بعكس اتجاه الرياح، متجهاً إلى حيث حذروني.
كان الشارع قد جدد صمته بنوبة سكوت متصلة، اقتربت من حيث اغتيل صديقي في ذلك اليوم العابس حيث وضعوا خيمة عزائه وشممت رائحة دمه تتدفق في الهواء، رفعت رأسي نحو السماء وقلت عما قليل سألحق بك يا أبن العاهر كي نكمل حوارنا المبتور. كان البارود يعبق بالمكان باحثاً عن ضحاياه.
أطرقت برأسي نحو الأرض وأنا أتلقى دموع أمي الزرقاء وهي تودعني قبل أن أركب أجنحة ملاك النهاية، خطوت نحو السرداق وحزن يتدافع قلبي أن لن تكون عينا حبيبتي آخر ما أرى، صافحت كل الذين مروا في طريقي بميكانيكية شديدة، وجلست هناك دون أن أرفع رأسي لأنظر في عيون الحاضرين المتلهين عن الموت بأحاديث بلهاء عن الحياة.
مر الوقت دون أن ألحظ أن عيون الكل كانت متوجهة نحوي وأنا أتهيأ لخيمتي التي لن تبعد كثيراً عن هذه.
ابتسمت وأنا أرى إله النهايات يقف على الجانب الآخر منتظراً إياي بعربته المزينة بأشرطة سوداء حالكة. تطلعت إليه بازدراء ولا مبالاة شديدين وأنا أعبر نحو الضفة الأخرى، وابتسامة عنيدة تأبى مفارقة شفتي بتحد كبير.
عند الميناء الضحل لسفن الموت كان يقف وجه ملثم سرعان ما بدأ يصرخ بأسماء آلهة طالما احتقرتها وهو يشهر مسدسه اللعين في وجهي و....
انطلقت رصاصات جوفاء نحوي عابرة المسافات الفاصلة بين السكون والسكون نحو جمجمتي وعيناي تزدادان التصاقاً بعينيه وأنا أغادر في عربات الموت التي أخذت خيولها تهز الأرض الساقط جسدي عليها وهي تشق طريقها نحو سماء زرقاء مجهولة لم أعهدها بهذه الزرقة من قبل.



#أثير_كاكان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم في حياة ذاكرة تتداعى
- وطني أيها الطاغية
- مطر الذاكرة
- أنثى بلا ذاكرة


المزيد.....




- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أثير كاكان - اللحظات الأخيرة في حياة رجل مهزوم