|
حصاد زمن القحط
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 2063 - 2007 / 10 / 9 - 12:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لكل زرع حصاد ، ومثله كمثل الاجتماع والسياسة ومجالات أخر . والحصاد في أحد معانيه امتحان للأفكار والأفعال التي تتفاعل مع الحاجة .. مع الواقع . وبقدر ما تتطابق الأفكار والأفعال مع الواقع واحتياجاته يكون الحصاد أو لايكون . وإن لم يكن هناك حصاد يعني أن هناك قحط .. ويعني أن نتيجة الامتحان هي السقوط . وجدلية الزرع والحصاد ، لاتنفرد مجردة بوجودها ، وإنما هي متصلة بغيرها من الجدليات المتعلقة بعلم الزرع وعلوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة . ولذلك هي تشمل أنشطة الإنسان عامة ، وتتناول الفرد والجماعة .. الأحزاب والهيئات والأنظمة والدول . وجدلية الزرع والحصاد في السياسة هي أخطر وأعقد ما عرفته الإنسانية في أنشطتها ، باعتبارها فعل جمعي مركب تؤثر بنتائجها الإيجابية أو السلبية على مصير الجماعة . وللساسة " الزراع " في حقول السلطة وحقول المعارضة دور أساس في تحقيق جني وافر أو قحط مدمر .
وقياساً على ذلك ، لايختلف إثنان أن حصاد سوريا السياسي ، بعد مايقارب الأربعين عاماً ، ليس بمستوى الرغبات ، من جانب أهل النظام أو من جانب الآخر خارج النظام ، التي رافقت عمليات الزرع الأولى . قادة وخبراء " الحركة التصحيحية " عام 1970 قد زاوجوا بين أ سوأ ما في الأنظمة الشمولية في اوربا الشرقية وأ سوأ ما في الديكتاتوريات الآسيوية في بناء نظامهم الجديد على مستوى الداخل ، وزاوجوا بين مصالح النظام ومصالح الشرق والغرب في الحرب الباردة على مستوى الخارج . " مبدعين " إنجازاً متميزاً في فن السياسة في ذلك الحين . فهم بعد أن زجوا رفاقهم " اليساريين " الذين انقلبوا عليهم إلى جانب رفاقهم " اليمينيين " في السجن ، قد استوعبوا الأحزاب القومية " الاشتراكية " واليسارية الأساسية في حينه وأغووها بالتواطؤ معهم والانضواء تحت قيادتهم تحت عنوان " الجبهة الوطنية التقدمية " ، في صفقة تشاركية فوقية في السلطة ، مشروطة بوقف أنشطتها في أوساط الجيش والطلاب والأجهزة الأمنية ، مترافقة مع ضغوط أمنية وحزبية سلطوية متواصلة على تواجدها السياسي في أوساط العمال لاستيعاب هذا التواجد سلطوياً أو أمنياً . ومن ثم تلا ذلك التطبيق الفعلي للمادة 8 من الدستور باستحواز الحزب الحاكم على أغلبية الهيئات التمثيلية المسموح لأحزاب الجبهة المشاركة فيها تحقيقاً لدور " الحزب القائد " بقيادة الدولة والمجتمع . باستثناء القوى الدينية .. " الأخوان المسلمون " والطليعة المقاتلة ، لم يبق في المشهد السياسي قوى تذكر تشكل معارضة للنظام . ولم يبق مجال للفعل السياسي المستقل .. حسب مفهوم معارضة . ونهض حكم ديكتاتوري شمولي من نوع جديد في الشرق الأوسط .
البدايات في تشكيل المعارضة للنظام جاءت من الأجنحة المنشقة عن الأحزاب " الأم " المنضوية تحت قيادة " الجبهة الوطنية التقدمية " .. التي توحدت لاحقاً في عام ا979 في إطار " التجمع الوطني الديمقراطي " . وقد كانت أنشطة هذه الأحزاب الجديدة منصبة على مدار بضع سنوات على تكريس وبناء ذاتها . وكانت معارضتها تتركز ضد " انتهازية " الطرف الآخر منها الملتحق بجبهة النظام " الذي انحرف عن خطوط الأيديولوجيا والأهداف الاستراتيجية " دون خوض معارضة علنية مباشرة لانضواء ذاك الطرف تحت قيادة النظام أو للنظام ذاته . وقد لعبت حرب تشرين 1973 دوراً كبيراً في تجميد أو تحييد الفعل المعارض ، بتقديمها مسألة المصير الوطني على المسائل الأخرى . الخطوة الأولى لبروز الأحزاب الجديدة كمعارضة ، كانت في رفضها التدخل السوري في لبنان ، إذ أعلنت معارضتها لهذا التدخل وبينت خطورته على البلدين الشقيقين وعلى القضية الفلسطينية ، التي كانت تشكل أحد محاور الأزمة اللبنانية المتفجرة . ثم كان موقفها اللافت المتميز عن النظام في مفاوضات التسوية لنتائج حرب تشرين ، التي كانت تلامس تسوية الصراع العربي الإسرائيلي برمته . لكنها رغم تكريس وجودها المستقل عن أحزابها السابقة وعن جبهة النظام ، فإنها كانت تراعي ممنوعات النشاط السياسي المطبقة على أحزاب الجبهة ، إن لم يكن " إلتزاماً قانونياً " فممارسة على الأقل حرصاً على البقاء .
من طرف آخر ، كانت القوى الدينية تنشط كطرف معارض تنمو حدته وصداميته مع النظام مع كل خطوة داخلية أو خارجية يخطوها النظام لتكريس وتقوية وجوده ، وقد عبرت المتطرفة منها عن ذلك في سلسلة من الاغتيالات لعدد من رجال النظام الأمنيين والسياسيين ، وكانت أبرز هجماتها مجزرة مدرسة المدفعية بحلب عام 1979، التي راح ضحيتها ما يقارب المائة من طلاب الضباط الأبرياء ، التي فجرت الحرب الأهلية المأساوية المدمرة بين هذه القوى وقوى النظام ، واضعة القوى الدينية وخاصة " الأخوان المسلمون " في صدارة قوى المعارضة في المشهد السياسي ، وواضعة القوى الأخرى المعارضة في موقف حرج مازال يطبع حراك المعارضة عامة بطابعه رؤية وممارسة ومسؤولية ، وواضعة السياسة بعد إنفلات العنف والعنف الضاد ، في حالة عطالة طويلة المدى .
التقاطع الأول ، وربما الأهم الذي تلاقت عنده مختلف القوى في المرحلة المذكورة ، هو تهميش دور القوى الشعبية . النظام اعتمد على حزبه وأحزاب جبهته وجيشه ومؤسساته الأمنية لتحصين نفسه ، واعتمد العنف والاعتقالات والتصفيات والتشريد في التعاطي مع الآخر المعارض العريض الخاضع لمعيار " من ليس معنا فهو ضدنا " . والمعارضة " اليسارية والقومية " القادم معظمها من رحم أو من شجرة أحزاب جبهة النظام اعتمدت ، حسب مكوناتها ، على النخب الثقافية والسياسية فحسب ، وغابت عن برامجها مضامين مطلبية اجتماعية ، وتلاشى مع الأيام ما كان لها من صلات بأوساط عمالية أو تجمعات سكنية شعبية . والقوى الدينية الصدامية فقدت مواقعها الشعبية في المساجد ومصادرها المؤسساتية ، نتيجة وضع النظام قبضته الحديدية الأمنية عليها أو صادرها ، وانكفأت إلى العمل العصبوي تحت الأرض ، وغيبت قسراً بموجب أحكام الموت المسبقة بموجب القانون 49 .
وبعد أن ا ستفحل القحط السياسي على مدار نحو أربعين عاماً ، بعد أن كادت المعارضة أن تصل إلى طريق مسدود ، ووصل النظام إلى ذروة العزلة ، ووصلت البلاد إلى حافة الهاوية والحرب ، بات الكل يفتقد القوى الشعبية ودورها الأساس . لكنه ، وحتى الآن مازال النقص في الاحترام لهذه القوى ولدورها المطلوب سائداً . النظام يسوقها كالقطعان بحكم سلطاته في قطاعات انتاجية وشعبية كثيرة . والأحزاب النخبوية ، قليل من رموزها من يعترف بالتقصير ، والكثير منهم من يتهما ب " عدم الرغبة في التغيير " ا ستسلاماً للاستبداد ، أو " انحسار رغبتها في المعارضة والتغيير خوفاً من المصير العراقي " أو يشملها مع النخب والنظام ب " عدم الشعور بالمسؤولية " ..
الأمر الذي يوصلنا إلى التقاطع الثاني ، الذي لايقل أهمية عن التقاطع الأول ، وتتلاقى عنده مختلف القوى أيضاً ، وهو الجهل بماهية القوى الشعبية وأصالتها ومشروعية مطالبها وطموحاتها . لا أحد من مكونات هذه القوى .. يحلم أو يفكر ، من خلال خوضه النضال ضد الاستبداد وفساده وعفنه ، أن يصير وزيراً أو مديراً أو مليونيراً ، أو يصير " نجماً إعلامياً " ، أو " باحثاً ومحللاً سياسياً " تتهافت عليه الفضائيات التلفزيونية بالأسئلة والتعويضات .. كل ما يحلم ويفكر به ، هو وطن حر قوي عادل ، يوفر له حاجته من الخبز وحاجته من الحرية والكرامة ، ويؤمن لولده قلماً ودفتراً ومقعداً مجانياً في مدرسة ، ويمنح لزوجه الحامل سريراً في مستشفى ، وطبيباً يحنو عليه وعلى أسرته بالعلاج والدواء الرخيص ، وأجراً يناسب الأسعار ، وسقفاً يشعره بالدفء والأمان ، وعملاً دائماً مضموناً يقيه من الفقر الكافر والبطالة ومذلة الشيخوخة . وهذه المطالب الصغيرة الكبيرة ، من خلال وجودها الشفاف أو عدمه في مضامين السياسة هي التي تجذب القوى الشعبية للمشاركة السياسية أو تنفرها منها . هذه هي الحقيقة ، وليس أمراً آخر متعلقاً بالتطبع مع القهر ، أو توازناً سيئاً بين السئ والأسوأ ، أو عدم الشعور بالمسؤولية .. يضاف إلى ذلك ، وهذا أمر هام جداً ، أن الماضي العنفي أو السلطوي أو العلاقات الخارجية المشبوهة لبعض رموز المعارضة .. مازال سؤالاً معلقاً .
للقضاء على القحط ، يتعين على مكوناته المسؤولة عن وجوده ، العودة إلى مبادئ الزرع الجيد ، أي إلى مطابقة الأفكار والأفعال مع احتياجات الواقع الدائمة الاتساع والتنوع .. العودة إلى قوى الخير .. قوى النضال التي لاتكل ولاتنضب .. إلى الشعب . وإذا كان النظام ، أولاً وثانياً وثالثاً مسؤولاً عن حالة القحط السياسي في البلاد ، ومحكوماً بمكوناته الاستبدادية الفاسدة المتعارضة مع مطالب الشعب والخضوع لإرادته بالعجز عن القيام بهذا الانعطاف التاريخي الحاسم ، فإن المعارضة لكونها محكومة بحاجتها القصوى إلى حامل اجتماعي لبرنامجها الوطني الديمقراطي .. محكومة أن تكون شعبية جماهيرية أو لاتكون .
إن الشرط الأول كي تكون المعارضة شعبية جماهيرية ، هو أن تبدع آليات اندماج ، النخب الثقافية والسياسية الناشطة بصدق من أجل التغيير ، بقطاعات وقوى الشعب في مختلف المستويات الطلابية والعمالية والفلاحية والسكنية الشعبية ، وأن تتجاوز أسوار القمع والمنع السائدة ، بتصميم غير خاضع لمعايير الزمن وحرق المراحل ، أو بالاعتماد على متغيرات خارجية نوعية ، وإنما بانتهاج نضالات ممكنة تراكمية شفافة ، تجذب الجماهير إلى الشارع .. إلى المشاركة في عملية التغيير بثقة وقناعة راسختين أن التغيير المنشود ، معني بحقوقها ومصالحها ومطامحها ، المترابطة وثيق الارتباط بالحرية والديمقراطية والحياة الأكثر عدالة وبحماية الوطن من مخططات الطامعين المحيقة به .
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- العولمة - الأميركية قيد التطبيق .. العراق مثلاً
-
جريمة حرب معلنة في غزة
-
إشكالية الدستور واقتصاد السوق والتغيير الديمقراطي
-
الرد الأقوى على الاختراقات والتحديات
-
الحركة النقابية بين قيود السلطة ومطالب الطبقة العاملة
-
إنها لحظة انتزاع المبادرة ..
-
الجديد في - انتخابات - اللاتجديد
-
من هنا تأتي المعارضة
-
مئة عام من المقاومة .. تحولات وآفاق .. 2
-
مئة عام من المقاومة .. تحولات وآفاق .. 1 ..
-
أزمة أولويات أم أزمة نظام .. ؟
-
نداء شهداء معبر رفح
-
استحقاقات عودة الزمن النقابي
-
صفقات شيطانية
-
هل حقاً أن الشعب قد انتخب وأفتى .. ؟
-
اسقاط جدار العزل السياسي مهمة أولى
-
مأساة الديمقراطية في الشرق الأوسط
-
من أجل ضحايا الاعتقال السياسي .. والحرية
-
الجواب على سؤال الهزيمة
-
السلطة والثروة في الصراع السياسي
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|