أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زياد جيوسي - صباحكم أجمل ذهب أيلول والذكريات















المزيد.....

صباحكم أجمل ذهب أيلول والذكريات


زياد جيوسي
كاتب واعلامي


الحوار المتمدن-العدد: 2059 - 2007 / 10 / 5 - 11:25
المحور: الادب والفن
    



صباح الخير يا رام الله، صباح الخير يا وطن، صباح آخر جميل من صباحات الوطن يبدأ به الثلث الأخير من شهر الرحمة والغفران، شهر يغفر الله فيه للمخطئين والمسيئين من البشر، ولا يتسامح البشر مع بعضهم البعض، ولا يتنازلوا في حل صراع الإخوة، في الوقت الذي ينحنون فيه أمام أعدائهم، هي طبيعة النفس البشرية ودم ذوي القربى، وكما يقول مثلنا الشعبي: "الدم ثقيل على بعضه"، فيا لدمنا حين نحل سفكه بيننا، ولا نسكت عن المطالبة بالثارات ونصمت أمام العدو.
ضباب رام الله المنعش البارد في الصباح الباكر، ينعش ذاكرتي وأنا أجول وحيداً في صمت المدينة وهدوئها، فأعود بالذاكرة للطفولة وجمالها، ولا أعرف ما الذي يشدني للبدايات، ربما هي الوحدة وربما هو الحنين، وربما الألم بما أصبحت عليه الأحوال مقارنة بتلك الأيام التي كانت تفيض بالمحبة والجمال، رغم قسوة العيش والظروف المعيشية الصعبة التي كان الناس يمرون بها، ومع ذلك ومقارنة مع هذه الأيام أشعر بالفرق كم كان كبيراً.
أول ما تستعيده ذاكرتي ويشكل نقطة البدء فيها هو مدينة الكرك في جنوب الأردن، حيث كانت أول نقوش في ذاكرتي، وكنت أبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط حين سكنا الكرك، كان والدي في شرطة السير وكثير التنقل، فقد ولدت في مدينة الزرقاء بينما ولد أخي الأصغر مني بعامين والأقرب لروحي في حي الأشرفية في عمان، حيث روت لنا الوالدة أنها ولدته في "الثلجة الثانية الكبيرة" عام 1957، وقد كان الناس يربطون أحداثهم بأحداث طارئة متميزة، لكني بالتأكيد لا أذكر شيئاً من تلك الفترة، فالكرك هي أول ما أذكره في الطفولة المبكرة، كنا نسكن في حي يسمونه "حي المسنات" وهو اسم عشيرة من عشائر الكرك، وما زال في الذاكرة بعض من تفاصيل البيت وجلسات "الغليون" للسيدات، حيث كانت النساء تتجمع ويدخن التبغ بواسطة "غلايين" طويلة القصبة تمتد لمنتصف الغرفة، وما زالت في ذاكرتي بشكل واضح الكنيسة التي كان القسيس يجمعنا من البيوت ويتركنا تحت الرعاية في باحتها وقاعتها، كان يجمعنا جميعاً بغض النظر عن الديانة، فلم تكن سوسة الطائفية المقيتة لها وجود بين الناس، وكان يضع لنا بعض من الألعاب نلعب بها حتى يحين موعد إعادتنا للبيوت، ويمكنني القول أنها كانت بداية لما عرف بعدها بالحضانات، وكانت تمثل للأمهات فرصة "لضب" الأطفال والتخلص من إزعاجهم، وكان الكنيسة تقوم بهذه المهمة مقابل تبرعات قليلة غير محددة القيمة، لكنها تمثل ربما دخلاً ما لصندوق الكنيسة، وأذكر أنني مرة هربت من الكنيسة عائد للبيت، ولكن ما كدت أبتعد قليلاً حتى رأيت كلباً مربوطاً أمام بيت ونبح عليّ، فارتعبت خوفاَ وتجمدت مكاني وبدأت بالبكاء والصراخ، حتى أتى رجل وأمسكني من يدي وأعادني للكنيسة، حيث كان درسي الأول في الحياة من قبل القسيس حين قال لي وهو يمسح دموعي: هذا جزاء من لا يستأذن الكبار ويهرب، وسلمني للراهبة التي قرصت أذني بنعومة وهي تشرح لي ضرورة أن لا أخرج مرة ثانية بدون مرافقة القسيس والا أكلني الكلب.
في تلك الفترة في الكرك ولد لنا أخ جديد، كان جميل بطريقة غريبة، كان يشبه والدي بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر، وما زالت صورته منطبعة في ذاكرتي، وذهبنا وعمره سنة في زيارة لعمان لبيت جدي لأمي، حيث أصابته حمى، وانتقل لرحمته تعالى ودفن بمقبرة "مصدار عيشه"، وما زلت أذكر منظر جدتي ووالدتي وبعض النسوة وهن يبكين عليه، حتى أتى بعض الرجال من أقارب والدتي، ولفوه بالقماش وأخذوه للدفن، ولم أكن أدرك بحكم السن ماذا يحصل، وكل ما فهمته من والدتي أنه ذهب برحلة إلى السماء مع الملائكة، وكنت بعدها دوماً أنظر للسماء على أمل أن أراه يعود، وحين حضر والدي لإعادتنا للكرك فوجئ بوفاة أسامة فبكى، واستغربت لماذا يبكي وأسامة قد ذهب مع الملائكة، ولم يكن بالامكان إخباره قبل الدفن، فلم تكن هناك وسائل اتصال وهواتف كما اليوم.
لم نستمر بالكرك بفترتها فقد نقل والدي إلى عمان، وكان علينا أن نحمل أغراضنا ونرحل، وسكنا في تلك الفترة في بيت صغير في حي من أحياء جبل عمان هو حي "خرفان"، لننتقل منه بعد فترة قصيرة لبيت أكثر اتساعاً في جبل عمان أيضا، في شارع اسمه شارع "الملفوف"، وهناك وضعني أهلي عند سيدة كانت تجمع الأطفال أيضاً في بيتها، تعلمنا بعض الأناشيد وتقص علينا بعض الحكايات، كان نناديها الست ليلى، كانت حسبما انطبعت صورتها في ذاكرتي جميلة بشعرها الأسود المتدلي على كتفيها، وكان أكثر ما يعجبني في بيتها "حوش" البيت"، الذي كان يتيح لي النظر إلى البيوت القليلة المتناثرة في عمان الشرقية، مثل أحياء الأشرفية والجوفة، وكانت معظم البيوت في السفح المطل على "سيل" عمان، أما منظر "سيل" عمان فكان من أجمل ما انطبع في ذهني بتلك الفترة، فقد كان أشبه بنهر صغير تحفه الأشجار والبساتين، وحين كان يفيض في الشتاء فقد كان بجرفه للطين يعطي منظراً ذهبياً جميلاً، وخاصة بعد توقف الأمطار وبزوغ الشمس ولو قليلاً، وفي أوقات الربيع كنا نذهب برفقة الوالدة والجيران لهناك، لتناول الطعام تحت أشجاره وفي البساتين التي كانت تحف جانبيه، من رأس العين حيث كان ينبع، وصولاً لحي المحطة حيث محطة القطار، ومع الزمن بدأت المباني تحتل البساتين ومياه السيل تجف قليلا قليلاً، وآخر عهدي به في بداية سبعينات القرن الماضي، بقايا مياه قذرة تنقل الأوساخ والقاذورات معها، قبل أن يتم سقفه تماما وفتح شارع على السقف الأسمنتي الذي غطاه، وتحول اسمه من "السيل" إلى "سقف السيل"، ولم يتبقى من تلك الأشجار وعيون الماء العذبة شيئاً، فقد اندثرت ولم يبقى منها إلا ما حفظته ذاكرة من عايش تلك الأيام.
تلك الفترة من حياتي كرست محبة متميزة مني لأخي الذي يصغرني، وما زالت هذه المحبة والقرب لأخي جهاد تسكننا الاثنين بشكل متميز عن باقي أشقائنا، فمنذ رحيل أخي أسامة، وأنا وبحس توجس طفولي، كنت أخاف على جهاد أن يذهب مع الملائكة، ويتركني وحدي، بعد أن لم تعيد تلك الملائكة أخي أسامة، قبل أن أكبر في العمر وأدرك ما معنى تلك الرحلة، وأدرك معنى قضاء الله وقدره.
ذكريات تجول الذاكرة في هذا الصباح المبكر، واستعداد لبدء الخريف الذي بدأ جغرافياً منذ أيام، ووداع لشهر أيلول الذي نقش في الذاكرة آلاما كثيرة، فمن صراع دموي بين الأشقاء إلى مجزرة صبرا وشاتيلا، إلى خلق إقليمية بغيضة فصلت بين أبناء الشعب الواحد، إلى وفاة قائد لم ننساه أبدا فليرحمك الله يا أبا خالد، إلى ذكريات اعتقالات متكررة لي كان لأيلول غالباً موعد معها.
صباح الخير يا رام الله، صباح الخير يا أهلي في عمّان، صباح الخير يا والدتي العظيمة ويا والدي الكبير، كم أشتاق أن التقيكم في عمان أو في الوطن، بعد هذه السنوات العشر العجاف من البعد والفراق، صباح الخير يا أبنائي وزوجتي ويا شقيقتي الوحيدة، صباح الخير يا أصدقائي الذين فرقنا الزمن أغبط عمّان أنها تضمكم بين جنباتها.
أعود لصومعتي متأبطاً صحيفتي، أستحضر طيفي وحروفي الخمسة، أقف لنافذتي أتأمل صحو المدينة، أزيل بعض الأوراق التي بدأت تأخذ اللون الأصفر الخريفي من حوض أزهاري، واستمع لشدو فيروز:
ورقو الأصفر شهر أيلول...تحت الشبابيك، ذكرني ورق ودهب مشغول... ذكرني فيك، رجع أيلول و أنت بعيد.. بغيمة حزينة قمرها وحيد، بصير يبكيني شتي أيلول.. يفيقني عليك يا حبيبي، ليالي شتي أيلول.. بتشبه عينيك، يا ريت الريح.. إذا انتَ نسيت حبيبي.. طول الخريف و ما جيت، ينساها الحور و قمرها يغيب... و ليلها يطول، و نبقى حبيبي.. غريبة و غريب.. أنا و أيلول..
صباحكم أجمل.
زياد جيوسي
رام الله المحتلة 3-10-2007
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/



#زياد_جيوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صباحكم أجمل استعادة الروح
- السينما الفلسطينية.. صراع ضد الأمواج
- صباحكم أجمل رمضان ووحدة وذكرى عمّانية
- صباحكم أجمل شمس الأطفال والسينما
- صباحكم أجمل ندى رام الله والأمسيات
- صباحكم أجمل أم -الشرايط-


المزيد.....




- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زياد جيوسي - صباحكم أجمل ذهب أيلول والذكريات