|
-تخطيط أوليّ- لفصلٍ مّا من المذكرات
كمال سبتي
الحوار المتمدن-العدد: 2056 - 2007 / 10 / 2 - 11:15
المحور:
الادب والفن
كانت المدرسة المتوسطة مغلقةَ الباب الرئيسِ ومحروسةً برجال الإدارة : المعاون الذي يتجول في أروقتها والمدرسون والفراش الطيب الذي كان له كرسي قرب الباب ليجلس عليه عندما لا تكون هناك أوامر أخرى واجبة التنفيذ من الهيأة التدريسية..وللهرب من المدرسة أحدَثَ الطلابُ في جدار متصل بشباك كُوَّةً كافية للتسلل منها في فرصة بين درسين. كان بعضهم يهرب من المدرسة من أجل الهرب نفسه وكنت أهرب منها من أجل الذهاب إلى المكتبة العامة التي لم تكن بعيدة عن مدرستنا..الاثنتان تقعان على كورنيش نهر الفرات. كنت أهرب كلَّ يوم بعد ثلاثة دروس من الدوام اليوميّ. وكان ذلك يعني مواظبة على المجيء صباحاً إلى المكتبة كل يوم ، مثلما كان مواظبة على الهرب من المدرسة كل يوم. في المكتبة العامة كنت أقرأ كل شيء ، من الآداب الحديثة إلى التراث والعروض..علم ميزان الشعر. في السادسة عشرة من عمري نظمتُ دورة لتعليم العروض لمن لا يعرفه من الشعراء في المدينة. كان المشهد مثيراً لشيءٍ مّا : ابتسامة أو تحية إعجاب. كان المشهدُ : زملاءَ جلسوا كالتلاميذ وسبورةً وطباشيرَ وبحوراً وأمثلة شعرية من التراث وأستاذاً-هو أنا- لم تكن سنه الفعلية تؤهله لأن يكون طالبَ علمِ العروض حقاً لا مُدرِّسَّه. انتشر الخبر في الناصرية بين شعراء المدينة وأدبائها وبين مدرسي اللغة العربية. وبدأت أمشي مزهواً بـ (علمي العروضيّ) في شوارع المدينة. ولعل تلك الأيام تحتاج مني ذكرَ تفاصيل كثيرة ، أعد نفسي بإتمامها ذات يوم في كتابة تشبه المذكرات. فمازال جوّ المكتبة لا يفارق بالي ويحبب إليَّ الدخول في أية مكتبة عامة في أية مدينة ومازالت الكتبُ رواياتٍ ومسرحياتٍ ودواوينَ شعر وشروحَها وكتبَ نقد وفلسفة ودين..إلخ تطرق يإيقاعها الروحيّ باب ذاكرتي كل حين. والجو حالة في معانيه ومحيط وبيئة. ولعل أول درس في علم الاجتماع هو أن الإنسان ابن بيئته. وقد لا تكون بيئتي الفعلية اجتماعياً هي المكتبة العامة. لكنني دخلتها كما دخلت المدرسة وأنا غض غرير فهي بيئة اكتسبتها في مواجهة بيئتي الفعلية المناقضة لها والمضادة لها فاحتدم صراع فيَّ لم يهدأ حتى الان وأحسبه لن يهدأ حتى أموت.وقد يكون الانتباه لهذا الصراع في ذهن كائن مّا مدخلاً لفهم خطواته في الحياة والفن والفكر. كان هذا الجو المواظب على القراءة في المكتبة والقانونيّ في العروض وتدريسه يُكسَرُ كلَّ ليلة بجلسة سكر في نادي الموظفين مع أصدقاء آخرين من بينهم الراحلون القاص عبد الجبار العبودي أو الشاعر كاظم الركابي أو الشاعر عقيل علي..إلخ ، أو بجلسة سكر على شاطىء الفرات إذ يأتي صديقي "القوي" سهيل -الذي "أخوِّفُ" به غيري عادةً والذي سيصبح شيوعياً في ما بعد - بكؤوس وبساط ومزات وثلج يعاونه صديقي الشيوعيّ غازي غالي الذي سيغني فيروز باكياً ، والحبيب الميت عبثاً أو المنتحر ، الشيوعي أولاً والوجوديّ تالياً: القاص جواد الأزرقي وأصدقاء آخرون..ثم بعد السكر و"سماع" فيروز..نرمي كؤوسنا وفضلات جلستنا كلها في الشاطىء. كان أصدقائي شيوعيين كلهم أو في غالبهم الأعم ، ولم أكن شيوعياً..غير أنَّ السهام التي سأتلقاها طوال حياتي في ما بعد لن يكون غالبها إلاّ شيوعياً! غادرت الناصرية في ما بعد إلى بغداد. وقدمت إلى معهد الفنون الجميلة للدراسة في قسم المسرح ، اختبرتني اللجنة فرحة بشخص عضوها الأستاذ الفنان قاسم محمد وهو يتعرف إليَّ أثناء الاختبار شاعراً -سبق أن قرأني- فخرج سعيداً يعلن نبأ قبولي على الناس لكن المفاجأة كانت رفْضَ قبولي من قِبلِ ممثل الاتحاد الوطني لأنه ظن بعد سماعه حواري مع الفنان قاسم محمد أثناء الاختبار أنني شيوعيّ ! وكان عليَّ لمدة شهرين أن أثبت بطلان شيوعيتي المزعومة. ولم أثبته حتى تدخَّلَ نصفُ سكنة بغداد! في عام 1978 وكنت عائداً مع مجموعة "شيوعية أو ذات هوى شيوعيّ" من بار نؤاسيّ خللَ فرع شارع سينما سمير أميس في بغداد اصطادنا رجال الأمن أنا والصديق الشاعر البصريّ حيدر الكعبي من كل مجموعتنا فأشبعوناضرباً وأدمونا أمام أنظار الناس حتى سقطنا أرضاً من شدة ضرباتهم..وحتى تركونا واستقلوا سيارتهم ، فحمل أحدنا الآخر- بكدماتنا المتورمة وبكسورنا وبنزيف دمنا وبثيابنا الممزقة- إلى قسمي الداخلي لمعهد الفنون الجميلة في منطقة الشورجة. في تلك الأيام كتبت قصيدة بعنوان 1978 لم أنشرها في حينها بسبب العنوان المشير إلى سنة ضرب الحزب الشيوعيّ "وضرْبِنا في شارع السعدون" إلاّ في ديواني الثالث عام 1986. وفي تلك الأيام كان الأصدقاء الشيوعيون يبيتون عندي تباعاً في قسمي الداخلي هرباً من حملات "التوقيع".. وبين عامي 1978 و1979 تركت الدراسة في المعهد متهيئاً للسفر التضامني مع الشيوعيين. وذهبت إلى الناصرية لأودع أهلي وغادرتها مودَّعاً من قبل صديقي "القوي" سهيل عبد الله الذي أصبح اسمه أنكيدو باقتراح مني بعد أن كان جلجامش! لكنني عدت إلى بغداد من باريس في ما بعد. ويا لكبر لكنني هذه في تاريخي الشخصيّ. هل أعدتُ كَرَّة الهرب ؟ بعد سنوات من تلك العودة- الانتحار أو ما يشبهه وصلتُ بيت الشاعر "الشيوعيّ" سعدي يوسف في بلغراد هارباً من العراق.
#كمال_سبتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قَواربُ المليكة
-
مقالان في مهاجمة الحداثة
-
كلمات في المهب
-
كلمات في المهب / الكتابة الجديدة / 2
-
كلمات في المهب : في الكتابة الجديدة
-
الطريق إلى الحرب.. والإعلام العربيّ
-
الاختلاف الحر
-
لم أهدأْ فعرَّفني الجبلُ تائباً
-
مصائرُ السّرد
-
خَريفُ الغِياب
-
تلك السَّعادةُ غائبة
-
في الليل .. قصيدة بدر شاكر السياب والاستثناء الشعري
-
بمناسبة ذكرى رحيل السياب ..تشظّي الصّوتِ الشّعريِّ الأوّل
-
الآخَرُ ، العدوّ، عند إدوارد سعيد والشعراء العرب
-
الشاعر والتاريخ والعزلة
-
قصيدة البلاد
-
مكيدة المصائر
-
بريد عاجل للموتى
-
وسوى الرومِ خلفَ ظهرِكَ رومٌ : نشيد انتصار
-
الشاعر واصدقاؤه
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|