|
تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2049 - 2007 / 9 / 25 - 10:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم : إيهاب حسن ترجمة : محمد سمير عبد السلام أولا : مقدمة الترجمة : يصف إيهاب حسن في هذا المقال ، تحولات اللحظة الحضارية الراهنة ، انطلاقا من صيرورة سياق ما بعد الحداثة ، و قد تجاوزت نفسها كظاهرة في الهندسة المعمارية ، و الأدب ، و الفلسفة ، و الفنون منذ الستينيات ، فيما يعرف بظاهرة ما بعد الحداثية . و ينطلق إيهاب حسن من خاصية انعدام الحدود الواضحة فيما بعد الحداثية كما بدأ بوصفها مع آخرين منذ أكثر من ثلاثين عاما ، ليبدأ بوصف التناقضات ، و أسئلة الهوية المحلية ، و العالمية ، و اللغة التفاعلية الجديدة بين المحلي و العالمي على الإنترنت ، و من ثم فهو يتوقع لسياق التفاعل المفتوح أن يعيد التساؤلات الحضارية القديمة و المتجددة ، حول الهوية الثقافية ، حيث يسهب في شرح أصولها البيولوجية ، و القبلية القديمة ، ليصل إلى امكانية انفتاح الحدود بين الثقافات ، و الأفكار في تفاعلية إبداعية تجمع بين المحلي ، و العالمي ، و تتجاوز وحشية القوة المؤكدة للأنا في مقابل الآخر . و يعد هذا المقال بيانا ينتقل فيه إيهاب حسن من تكرار ظهور شبح الظاهرة ما بعد الحداثية ، و التحقق التأويلي التاريخي المتجاوز لما بعد الحداثية ، و فيه تتحرر نقاط التفاعل ، من حدود التميز القديمة التي بدأت تتسلل لظاهرة ما بعد الحداثية ، إذ يشترك الجميع بوعي أو بغير وعي في معايشة التحول الراهن لسياق ما بعد الحداثة . و يختلف وصف إيهاب حسن للسياق الثقافي / التاريخي الجديد عن غيره من المفكرين و النقاد الذين ترتكز رؤاهم حول علامات فارقة في الحقبة الراهنة بين ما بعد الحداثية ، و ما يتجاوزها ، فهم يضعون ظواهر جمالية ، و ثقافية جديدة ، أو يتحدثون عن عودة جديدة للحداثة التكنولوجية ، لكنه يجعل من تحول سياق ما بعد الحداثة مجالا مفتوحا للتفاعلية ، دون وضع لحدود أخرى . و تتميز كتابة إيهاب حسن بتأكيد تعددية الهوية ، و الجمع بين المجاز – مثل شبح ما بعد الحداثية – و السياق الثقافي ، أو التاريخي ، أو ما يدعى بالحقيقي ، كما يعيد تركيب بعض المصطلحات بشكل إبداعي ، مثل كلمة Glocal التي تجمع المحلي و العالمي معا . إن الشبح يتجانس مع خاصية انعدام التحديد التي يؤكدها حسن من بداية البيان إلى نهايته ، و أرى أنه همزة اتصال خفية بين ظاهرة ما بعد الحداثية ، و السياق التفاعلي الجديد بين الثقافات و الأفكار ، حيث يميل الآن إلى تجسد غير واع من داخل تكراره الملح في السابق ، و معاينته لأفول يحتمل بدايات جديدة . كما تتداخل في كتابة إيهاب حسن الأخيلة السردية المولدة عن الأعمال الأدبية ، و مظاهرها الواقعية على الخريطة دون انفصال ، أما اللغة التفاعلية التي يقترحها تتجاوز تأكيد الأنا لإدخاله في الروح الكونية ، و من ثم نجد الأدب حاضرا في الجغرافيا السياسية ، و النسيج الكوني معا . و لي ثلاث تعليقات على بيان إيهاب حسن : الأول : عندما وصلت نزعة الشك ، و اللامبالاة و اللعب السوداوي ، في الفن إلى الحدود القصوى بدأ إيهاب حسن يتحدث عن نهاية هذه النزعة ، و استبدالها بشيء من التصديق تنفتح فيه الحدود ، و لكن من داخل سياق التفاعل الجديد يمكن لهذه النزعات أن تعود بصور جزئية ، و ممزوجة بعناصر تاريخية ، و فنية أخرى . الثاني : خصص حسن جزءا من البيان حول علاقة ما بعد الحداثية ، بالبراجماتية الأمريكية ، و لم يتطرق للآلية السلوكية التي ميزت فكر بعض روادها مثل بيرس و ديوي و سكنر ، حيث يرتكز حسن على الأداء المتجاوز للقضايا العقلانية الكبرى ، و هنا تبدو نقطة اللقاء ، و التداخل ، و تصير احتمالا مضافا لما بعد الحداثية يدفع بها إلى ما يتجاوزها ، دون أن تكون عنصرا تكوينيا ، فاللغة التفاعلية التي تبدأ من نبذ التمركز حول القوة الذاتية تنفتح أدائيا ، في مجال النصوص ، و الجغرافيا ، و العناصر الكونية لتتلاشى النزعات الحتمية ، أو تتحول إلى فضاء أكثر اتساعا هو فضاء تجاوز ما بعد الحداثية . الثالث : مثلما يفكك إيهاب حسن العنصر الزمني المتضمن في تعبير ما بعد الحداثية ، بما يتجاوز التاريخية ، فإنه يحرص ضمن السياق الجديد أن يفكك أحادية الهويات الثقافية بما تتضمنه من احتمالات الآخر بداخلها . محمد سمير عبد السلام – مصر سبتمبر 2007 تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي إيهاب حسن ترجمة : محمد سمير عبد السلام أولا : ماذا كانت ما بعد الحداثية ، و ماذا تمثل الآن ؟ أعتقد أن ما بعد الحداثية صارت الآن شبحا ، أو عودة لمدلول منفلت من الحدود ، و كلما نظن أننا قد تخلصنا منها ، ينهض شبحها مرة أخرى ، فهي تماثل هذا الشبح ؛ إذ تستعصي على التعريف ، أو محاولة وضعها في إطار . أعرف اليوم دونما شك – القليل عن ما بعد الحداثية ، مقارنة بما كنت أعرف منذ أكثر من ثلاثين عاما ، عندما بدأت الكتابة عنها ؛ ربما لأنها قد تغيرت ، مثلما تغيرت ، و تغير العالم . هذا التغير يؤكد نفاذ بصيرة فريدريك نيتشه ؛ إذ يرى أنه إذا كان للفكرة تاريخ ، فإنها تصير تأويلا ، أو موضوعا للمراجعة ، و التنقيح في المستقبل . أما الفرار من التأويل ، و من ثم إعادة التأويل ، فهو مفهوم أفلاطوني ، أكثر انتماء للتحليل النظري ، مثل الدائرة ، و المثلث ، و الإنسانية ، و الرومانسية ، و الواقعية ، و الحداثية ، و ما بعد الحداثية ، و سوف تخضع هذه المفاهيم للتحول المستمر ، خاصة في فترة صراع الأيديولوجيات ، و النشاط المفرط للميديا . و لكن أفكار ما بعد الحداثية مازالت تتردد في خطاب الهندسة المعمارية ، و الفنون المختلفة ، و العلوم الإنسانية ، و أحيانا الفيزياء ، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية ، بل نجدها أيضا في الخطاب الشعبي ، و عوالم السياسة ، و البيزنس ، و الميديا ، و صناعات التسلية ، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة ؛ مثل طريقة طهو ما بعد حداثية ، و مطبخ ما بعد حداثي . و الخلاصة ، ليس هناك إجماع حول معنى ما بعد الحداثية . إن المصطلح ، فضلا عن المفهوم ينتمي إلى ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة المتنازع عليها جوهريا ، و بلغة أبسط ، إذا وضعت أهم المفكرين الذين ناقشوا المفهوم مثل ليسل فيدلز ، و تشارلز جنكس ، و جان فرانسوا ليوتار ، و برنارد سميث ، و روزاليند كراوس ، و ليندا هاتشون ، بالإضافة إلي ، في غرفة واحدة ، ثم أضفت الإرباك الملازم للمفهوم ، و أغلقت الغرفة ، و ألقيت بالمفتاح بعيدا ، لن يحدث اتفاق بين المناقشين ، و لو مر على اجتماعهم أسبوع ، بل ستجد خيطا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة . دعنا لا نستسلم لليأس ، فإذا كنا غير قادرين على تعريف شبح ما بعد الحداثية ، أو التخلص منه ، فيمكننا أن نقترب منه ، أو نفاجأه من أكثر من زاوية ، فربما نثيره ليدخل نطاقا جزئيا مضيئا ، و خلال هذه العملية نستطيع الكشف عن عائلة من الكلمات تتجانس مع تعبير ما بعد الحداثية ، و أشير هنا إلى بعض الاستخدامات الحالية للمصطلح : 1 - بعض أعمال الهندسة المعمارية ، درست كأمثلة لعمارة ما بعد حداثية ، مثل متحف جاجنهيم لفرانك جاري في مدينة بيلباو الأسبانية ، و قصر أشتون ريجات مكدوجال في ميلبورن بأستراليا ، و مركز سكيوبا لأرتا أيسوزوكي في اليابان ، و أصحاب هذه الأعمال تجنبوا خشونة الزوايا الهندسية للباوهاوس ، و نقاءها التجريدي ، فمثلا الأطر ذات الحد الأدنى من المعدن مع الزجاج عند فان دير روه تخلط العناصر الجمالية ، بالتاريخية ، كما تعبث بالشظايا ، و تستخدم العناصر الرديئة . 2 – في كتابه الصادر مؤخرا الإيمان و النسبية ، يستخدم البابا جون بول تعبير ما بعد الحداثية ؛ لإدانة النسبية المفرطة في النظر إلى القيم و المعتقدات ، و كذلك النزوع إلى السخرية ، و الشك في العقل السببي ، و من ثم إنكار فكرة الحقيقة . 3- في مجال الدراسات الثقافية انغمس مصطلح ما بعد الحداثية بشدة في الحقل السياسي ، و عادة ما يستخدم في مقابل ما بعد الكولونيالية ، فقد اعتبر الأول غير مبال ، و غير فعال من الناحية التاريخية ، و السياسية ، فهو الأسوأ لأنه لا يحمل تعديلا سياسيا . 4 – في نطاق الثقافة الشعبية تشير ما بعد الحداثية ، أو بو مو كما يسميها بعض المحترفين – إلى مدى واسع من الظواهر ، و الأحداث ، من أندي وارهول حتى مادونا ، و لصوق الموناليزا الكبيرة ، و قد شاهدت صورة العملاق لديفيد ميكلانجلو في إعلان شركة باشينكو في طوكيو ، و كان من الضخامة بحيث تمر الكاميرا على كل جزء من كتفه المفتولة بمعزل عن الجزء الآخر ، و كذلك شاهدته في إعلان شركة الرحلات كونتكي في نيوزلندا . في أي شيء يشترك هؤلاء ؟ حسنا يمكننا الإشارة إلى سمات مثل اختلاط الأساليب ، و الشظايا ، و النسبية ، و المحاكاة الساخرة ، و القص و اللصق ، و مقاومة الروح الشمولية ، و الأيديولوجيا . و لهذا سوف نبدأ في بناء عائلة من الكلمات تتلاءم مع ما بعد الحداثية ، و سوف نبدأ بإنتاج السياق ، إذا لم يكن هناك من حد له ، و يمكن للقارئ الذي يريد التوسع أن يراجع كتاب فكرة ما بعد الحداثية ، لهانز برتنز ، فهو أوسع مقدمة أعرفها عن الموضوع ، لكنني الآن يجب أن أقوم بحركتي الثانية ، الخدعة الثانية للاقتراب من ما بعد الحداثية من منظور مختلف . ثانيا : ما بعد الحداثية ، و ما بعد الحداثة : لم أرتكز بقدر كاف في أعمالي المبكرة ، على كشف الاختلاف بين ما بعد الحداثية ، و ما بعد الحداثة . هذا الاختلاف سيشكل النقطة الرئيسية في هذا البيان ، و سوف أعود إليه بالتفصيل لاحقا . دعني أقول ببساطة في هذه اللحظة ، بأنني أعني بما بعد الحداثية الإشارة إلى المجال الثقافي ، خاصة الأدب ، و الفلسفة ، و الفنون المختلفة ، متضمنة الهندسة المعمارية ، بينما تشير ما بعد الحداثة إلى مجال الجغرافيا السياسية ، و قد كانت أقل أهمية من تعبير ما بعد الكولونيالية المربك ، و قد انتشر في العقود الأخيرة ؛ ليبرز نطاقي العولمة ، و التموضع المحلي ، و يدمجهما بأساليب غريبة . الاختلاف هنا ليس بين بناء فوقي ، و آخر تحتي كما هو في الماركسية ، ذلك أن الحقول السياسية و الدينية ، و التقنية ، و الاقتصادية الجديدة يصعب أن تتلاءم مع الفكر الماركسي . و لا تستوي ما بعد الحداثة بتعبير ما بعد الكولونيالية ؛ فقد تشكل الأخير من خلال القلق إزاء الإرث الاستعماري . يمكننا إذا التفكير فيما بعد الحداثة بوصفها عملية عالمية ، لا يفترض أن تتماثل في كل مكان على الإطلاق ، كما أنها ليست شاملة ، و يمكن تخيلها كمظلة واسعة ، تقف تحتها مجموعة من الظواهر المختلفة ، مثل ما بعد الحداثية في الفنون ، و ما بعد البنيوية في الفلسفة ، و النسوية في الخطاب الاجتماعي ، و دراسات ما بعد الاستعمار ، و الدراسات الثقافية في الأكاديمية ، و كذلك تضم الرأسمالية العالمية ، و تكنولوجيا الاتصالات ، و الإرهاب الدولي ، و الاختلاط العرقي ، و القومي ، و الحركات الدينية ، كل هذه الظواهر تقع في سياق ما بعد الحداثة ، دون أن تكون متضمنة فيها بشكل سببي . و يمكننا أن نستنتج نقطتين مما سبق : الأولى : تتواءم ما بعد الحداثية كظاهرة ثقافية مع التقنية العالية ، و المستهلك ، و قيادة الأجهزة الإعلامية الاجتماعية . الثانية : تشير ما بعد الحداثة كعملية جغرافية سياسية عالمية ، إلى ظاهرة كوكبية تفاعلية ، يتخلل نسيجها القبلية ، و الإمبريالية ، و الأساطير ، و التكنولوجيا ، و الهوامش ، و المراكز هذه المفاهيم غير المتكافئة تخرج طاقاتها المتصارعة ، في أغلب الأحيان على شبكة الإنترنت . ذكرت من قبل أنني لم أميز بقدر كاف بين ما بعد الحداثية ، و ما بعد الحداثة ، و للإنصاف فقد لاحظت وقتها – سمة داخلية في ما بعد الحداثية نفسها ، تتفق مع السياق الكوكبي الجديد لما بعد الحداثة ، ففي مقالي المعنون ب " الثقافة ، و انعدام الحدود ، و أصالة الهوامش في العصر ما بعد الحداثي " سنة 1977 ، صغت التعبير " أصالة انعدام التحديد " لوصف ميلين متباينين في ما بعد الحداثية ، يشير الأول إلى انعدام التحديد في المجال الثقافي ، و الثاني إلى أصالة المجال التكنولوجي . مثل هذه الميول ذات الطابع الاختلافي تصير بديلا عن الجدلية ، إذ تتغير باستمرار خارج التركيب الهيجلي ، أو الماركسي . و من ثم أعتقد أنه ليس هناك شخص ينتمي إلى سياق ما بعد الحداثة بدرجة أقل من الآخر . تتضمن العناصر غير القابلة للتحديد مفاهيم عديدة منها ؛ النزوع إلى الانفتاح ، و التجزؤ ، و الغموض ، و اللامركزية ، و التعدديه ، و انقطاع المتوالية الاتصالية ، و الهرطقة ، و نقد البنية الشكلية ، أو إرجاء المدلول ، و سنجد أن المفهوم الأخير وحده يتضمن دستة من المصطلحات مثل التفكيكية ، و الإزاحة ، و التفكك ، و الاختلاف ، و الاختفاء ، و الغياب ، و مقاومة المتوالية الاتصالية ، و مقاومة التعريف ، و الحقيقة ، و النزعة الاستعمارية ، و الفكر الشمولي .. ، و بواسطة هذه العناصر ، و الحركات ستبطل مؤثرات التجسد السياسي ، و تجسد الإدراك ، و الجنس الجسدي ، و الروح الفردية ، و العالم الكامل الحقيقي في الفكر الغربي . و في مجال الأدب وحده سوف تتغير أفكارنا جميعها ، حول المؤلف ، و الجمهور ، و القراءة ، و الكتابة ، و الكتاب ، و النوع ، و النظرية النقدية ، و الأدب نفسه . كل شيء يخضع للتساؤل ، و المراجعة ؛ ليس بسبب العجز ، و إنما لإعادة الإنشاء في مسارات عديدة ، و مختلفة ، كما أن هذه العناصر فضلا عن انعدام التحديد ، و المراجعة المستمرة ، ذات طبيعة تناثرية ، و انتشارية ، نظرا لتدفق التقنيات المعاصرة . و هذا هو الميل الثاني فيما بعد الحداثية ، و أستخدمه هنا دون أصداء أيديولوجية ، لتعيين قدرة العقل على دمج نفسه في الرموز ، و يتخلل هذا الميل الطبيعة ، أكثر فأكثر ، كما يؤدي من داخل تجريده الحاص ، و يبني مشروعه الإنساني الواعي في نطاق كوني . هذا الميل العقلي يوصف بكلمات مثل الانتشار ، و التناثر ، و التغيير الأساسي ، و التفاعل ، و الاتصال ، و كلها مشتقة من حالة انبثاق البشر كحيوانات لغوية ، أو جنس تصويري إشاري ، أو مخلوقات تعيد إنشاء نفسها ، برموز جعلت ملكها ، و يمكننا أن نطلق عليها هرطقة نصية خارقة للمعرفة ، إذ يختلط الحقيقي و القصصي ، و يصير التاريخ حدثا إعلاميا ، إذ تؤخذ نماذجه كوقائع يسهل الحصول عليها ، أما علوم الاتصالات فتتحدانا بلغز الذكاء الاصطناعي ، فكمبيوتر الأزرق العميق يتحدي كاسباروف بطل الشطرنج ، كما تضع خطوط التقنية مدركاتنا الحسية على الحافة ، في أبحاث الذرة ، و الإطار الواسع للكون معا . تتفاوت هذه الميول – بلا شك من بلد لآخر ؛ ففي الولايات المتحدة ، و استراليا ، و ألمانيا ، و اليابان صارت ما بعد الحداثية مألوفة داخل الجامعة ، و خارجها ، و في أغلب المجتمعات الكبرى نراها كظاهرة ثقافية تشير إلى ميل مضاعف لتجاوز الحدود ، و الأشكال الأقرب للمتاهة ، و التشابك ، و تعود جذورها لجيل دولوز ، و غتاري . و رغم ذلك فالأرض أكثر أهمية من كوكب هوليود ، أو بنك دويتش ، أو ميتسوبيشي ، لقد تغيرت صلة ما بعد الحداثة ، بانعدام التحديد على المستوى الثقافي لما بعد الحداثية ، إلي سياق جديد من صراع النزعات المحلية و العالمية ، مثل الإبادات الجماعية ، في البوسنة ، و كوسوفو ، و ألستر ، و روندا ، و الشيشان ، و كردستان ، و سيريلنكا ، و التبت و غيرها . في الوقت نفسه تحول الجانب الثقافي في ما بعد الحداثية ، إلى التجسد في مجموعات ساخرة ، و ألعاب مسدودة النهايات ، أو مجرد إثارة في وسائل الإعلام . لقد أضفنا هنا بعض المصطلحات الجديدة لعائلة ما بعد الحداثية مثل أصالة عدم التحديد ، و النزعة النصية ، و التشابك ، و التقنية ، و المستهلك ، و القيادة الاجتماعية للإعلام ، فضلا عن مفردات أخرى ثانوية ، فهل دفعنا شبح ما بعد الحداثية إلى دائرة الضوء ؟ ربما نحتاج لدفعه أبعد من ذلك بسؤال آخر . ألم تكن هذه المقالة فحصا للأفكار و الدوافع التاريخية ؟ ألم تقترح بأن عقل ما بعد الحداثية يميل إلى الانعكاس الذاتي ، كما لو كان هدفا لكتابة سيرة ذاتية ملتبسة ؟ ثالثا : سيرة ذاتية ملتبسة : نشر إيمانويل كانط في عام 1784 مقالا بعنوان " ما هو التنوير ؟ " ، و قد تناوله بعض المفكرين ، و بخاصة ميشيل فوكو ، ليمثل المرة الأولى التي يرتد فيها الفكر إلى نفسه ، فيسأل من نحن ؟ من زاوية تاريخية ، كما يتساءل عن معنى المعاصرة ، و من ثم يتساءل العديد منا في الوقت الحاضر ، هل كنا ما بعد حداثيين ؟ و بينما يخفق فوكو في ملاحظته ، يمكننا أن نعيد طرح السؤال نفسه ، و لكن من دون ثقة كانط في إمكانية تحقق المعرفة ، و كذلك ثقته بالذات التاريخية . من الصعوبة بمكان أن نميز ما بعد الحداثية مثلما ميز كانط تعبير التنوير ؛ فهناك الشكوكيون ، و أنصار التعددية ، و اللامركزية ، و مبدعوا المحاكاة الساخرة ، و الأعمال المناهضة للهوية ، و البراجماتيون ، و غيرهم . يمكننا بدلا من محاولة التحديد ، أن نراوغ حماسة المعاصرة ظاهريا ، و كذلك قلق التسمية و المصطلحات التي انتشرت ، و ارتبطت بما بعد الحداثية مثل ما بعد الحداثية الكلاسيكية ، أو العالية ، أو البوب ، أو بو مو ، و التفكيك ، و إعادة إنشاء الرؤى ، و النبوءات ، و بعد ما بعد الحداثية ، و ما قبلها . مثل هذه الكلمات الجديدة تؤدي إلى انفجار في معمل اللغة . على أي حال يمكننا أن نتخيل بصعوبة عصرا يتعذب كثيرا حول نفسه ، فقط ليخترع صوتا تمثيليا لمهرج يدعى ما بعد الحداثية ، و مع ذلك يمكن أن نميز ما بعد الحداثية كسؤال مستمر لفكرة التحقق الذاتي ، و لا يقتصر هذا الاندفاع على ما يسمى بالغرب فقط ، و لكن يشمل تفاعلات عديدة في الكرة الأرضية ، فكثير من السكان يتحركون ، و يتدافعون ، و يتصارعون . إنه عصر التشتت ، و الاختلاف ، إذ تثار فيه الأسئلة الكثيرة حول الهوية الثقافية ، و الدينية ، و الشخصية ، و قد يصير الإحساس بها حادا و أحيانا خادعا . و في التحول من ما بعد الحداثية ، إلى ما بعد الحداثة يمكنك أن تسمع البكاء حول العالم ، مع طرح أسئلة مثل من نحن ؟ و من أنا ؟ لهذا يمكننا إضافة كلمات عديدة ، إلى عائلة ما بعد الحداثية ، مثل المعنى التاريخي ، و الانعكاس الذاتي المعرفي ، و قلق التعيين ، و التسمية ، و الأعمال متبدلة الهوية ، و الإحساس بالمعاصرة ، و تشتت الإحساس بالزمن الخطي ، و الدوري ، و النبوئي ، و الحلم بالزمن . كل هذه الأوقات الرؤيوية ، هناك ، تصاحبها هجرات ضخمة ، و مفاهيم أخرى مثل الحرية ، و القوة ، و أزمة الهويات الثقافية ، و الشخصية . رابعا : تاريخ قصير للمصطلح : هذه المحاولة من الإدراك الذاتي ، و التي أطلقت عليها سيرة ذاتية ملتبسة لما بعد الحداثية ، تبدو في التاريخ الفريد للمصطلح ، فهو يسهم في توضيح المفهوم الذي نستعمله في الوقت الحالي ، و لهذا يجب أن أحدد هذا التاريخ بدقة ، خاصة أن كلا من تشارلز جنكس ، و مارجريت روز ، قدم تفصيلا له في موضع آخر . في عام 1870 استعمل الرسام الإنجليزي جون واتكنز شابمان المصطلح ، في سياق الحديث عن ما بعد الانطباعية ، و في عام 1934 استخدمه فريدريكو دي أونز ، ليقترح من خلاله حركة مضادة للصعوبة ، و النزعة التعبيرية في الشعر الحداثي ، و يقر أرنولد توينبي المصطلح في عام 1939 ، بمدلول مختلف ، إذ يشير إلى نهاية الوضع الحداثي ، و الطلب البورجوازي الغربي الذي يعود إلى القرن السابع عشر . و في عام 1945 يستخدمه برنارد سميث ، للدلالة على حركة في الفن التشكيلي تتجاوز التجريد ، و التي نطلق عليها الواقعية الاشتراكية . و في الخمسينيات تحدث عنه في الولايات المتحدة تشارلز أولسون ، بالاتحاد مع مجموعة من الشعراء في كلية بلاك مونين ، و يرجع أولسون ما بعد الحداثية بدرجة أكبر عند عزرا باوند و ويليم كارلوس وليم ، عن الشعراء الشكليين مثل ت . س . إليوت . و في نهاية ذلك العقد جادل كل من أرفنج هاو ، و هاري ليفين على التوالي بأن ما بعد الحداثية تعني انحدارا للثقافة العالية للحداثة . و قد بدأت مع لازلي فيدلر ، و آخرين في أواخر الستينيات ، و أوائل السبعينيات في كتابة مقالات ، تناولنا فيها المصطلح بشكل متميز ، و قاطع أحيانا ، و متطور في الثقافة الأمريكية ، كتعديل نقدي للحداثية ، إن لم يكن نهاية فعلية لها . و أعتقد أنه وفقا لهذا المعنى مازالت وجوه ما بعد الحداثية ، و أقتعتها تتغير حتى اليوم . ليس في الأمر انحياز للستينيات ، لكنها بالفعل حملت كل الافتتاحيات ، و الانكسارات التي حدثت في تطور مجتمع المستهلك ، و قد دعا أندريس هايسين ذلك العقد الذي يقع بين الستينيات ، و السبعينيات ، بالخط الفاصل العظيم ، ففي خلال عشر ، أو خمس عشرة سنة واجهت الولايات المتحدة سلسلة متوالية من حركات التحرر ، و حركات المقاومة الثقافية مثل خطاب الحرية عند بركلي ، و الحركات المناهضة لحرب فيتنام ، و مجموعات السود ، و الحركات البيئية ، و النسوية ، و كذلك مسرح الشارع ، و أحداثه ، و التأليف المبني على الصدفة ، و موسيقى الروك ، و شعر العوالم الملموسة ، و المجموعات اللغوية ، و فن البوب ، و انتشار الأحداث الإعلامية ، و تعددها . و بدأت الحدود تذوب بين الثقافة العالية ، و الثقافة الشعبية ، و الفن و النظرية ، و النص و النقد ، الأطفال و الرجال ، كما يزدحم كل من رجال المقاومة ، و رهبان الزن في المشهد الطبيعي ، و نهاية التسلسل الهرمي ، كما انتقلت أشكال الفن و التفكير من الاستاتيكية ، إلى الأدائية ، و من التكنيك العالي ، إلى ما يتجاوز التكنيك ، و لهذا لم يفضل ضمن هذا السياق هيدجر ، و لكن دريدا ، و ليس ماتيس ، و لكن دوشامب ، و ليس شونبرج ، و لكن جون كيج ، و ليس همنجواي ، و لكن بارثليم ، و بشكل أوضح ليس جروبيوس ، أو ميس ، أو لي كروبيوسير ، و لكن فرانك جاري ، و رينزو بيانو ، و أيسوزوكي في الهندسة المعمارية ، و غيرهم . على أية حال ليست ما بعد الحداثية متماثلة في الفنون المختلفة كما سأناقش ذلك لاحقا . في هذا المناخ الثقافي غير المحدد ، فضلا عن مقاومة النزعة الكلية عند فرانسوا ليوتار ، نما مصطلح ما بعد الحداثية ، و اتخذ مظهره الأخير ، و أعتقد أنه مات رغم أن شبحه مازال يطارد أوربا ، و أمريكا ، و استراليا ، و اليابان . هذا الشبح يجد الآن حياة جديدة ، و اسما جديدا ، فقد ضغطت على مصطلح ما بعد الحداثية ، في محرك البحث على الإنترنت ، فتحولت إلى اثنين و تسعين ألف رابط في ست ثوان فقط .
خامسا : صعوبات مفاهيمية : مازال شبح ما بعد الحداثية يلازمنا ، لكن تأثيره أقل ؛ فهو يتصدع من الناحية الدلالية ، و ذلك منذ أن اكتشفت الصعوبات النظرية الكامنة فيه ذاتيا ، كما أن الزمن لا ينتظره ، و سوف أشير هنا إلى خمس من هذه الصعوبات : 1 – لم يكن مصطلح ما بعد الحداثية مربكا ، و ملتبسا ، و حسب ، و لكنه أوديبي أيضا ، إذ يشبه المراهق الثائر الذي لا يستطيع عزل نفسه كليا عن والده . إنه لا يبتكر لنفسه اسما جديدا مثل الباروكي ، و الركوكي، و الرومانسي ، و الرمزي ، و المستقبلي ، و التكعيبي ، و الدادي ، و التفكيكي . تظل إذا العلاقة ملتبسة ، و أوديبية طفيلية بين ما بعد الحداثية ، و الحداثية ، أو كما يشير برنارد سميث في كتابه " تارخ الحداثة " إلى بقاء حوار متصارع دائما مع الحركة الأقدم ، فالمصطلح يحمل إشكاليات عديدة بداخله . 2 – الاستعمال الخاطئ لما بعد الحداثية من قبل برنارد سميث ، و الذي يصر عليه ، يصلها دوما بالحداثية ، و ليس أبعد منها ، و حتى وقت متأخر ليس أبعد من وصف نتاج الثقافة العالية ما بين 1890 ، و 1940 ، فتعبير الحداثي في شكله النموذجي يتضمن حفظ التقدم إلى الأمام ، و التقدم التاريخي الحاد ، منذ ان استعمله كل من شكسبير و أبوت سوجر حتى وقتنا هذا . 3 – مصطلح ما بعد الحداثية غير متجانس بشكل مضاعف ، أي لا ينتمي لما بعد الحداثية ، فما بعد الحداثي ، و بخاصة ما بعد البنيوي يرفض الامتداد الخطي للزمن ، من الماضي للحاضر ، و المستقبل ، و من ثم البادئات مثل قبل ، و بعد . و قد قلت إن حقبة ما بعد الحداثية بحد ذاتها خارقة للهوية ، و تبطل التكرار المطلق ، و الخطي للزمن . و على سبيل المثال هناك متوالية مفيدة في دراسة تاريخ الأدب الإنجليزي من العصر الإليزابيثي ، و اليعقوبي ، و الكلاسيكي الجديد ، و الرومانسي ، و الفيكتوري ، و الإدواردي ، حتى الحداثي ، و ما بعد الحداثي . 4 – الأكثر أهمية أن ما بعد الحداثية لا تتجانس مع فترة زمنية معينة ، أو مع تركيب دياكروني متطور تاريخيا . فهو يعمل نظريا بشكل سنكروني ظاهراتي ، فالكتاب الأقدم مثل صمويل بيكيت ، أو خورخي لويس بورخيس ، أو رايموند راسل ، أو فلاديمير نابوكوف من الممكن أن يكونوا ما بعد حداثيين ، و ذلك في مقابل بعض الكتاب المعاصرين الأحياء مثل جون أبدايك ، أو توني موريسون ، أو نايبول الذين لا ينتمون لما بعد الحداثية . كما لا ندعي أن الأعمال التي سبقت 1960 حداثية ، و التي تلتها ما بعد حداثية ، فقد ظهرت مورفي لصمويل بيكيت عام 1938 ، و يقظة فينيجان لجيمس جويس 1939 ، و كلاهما من وجهة نظري ما بعد حداثي بامتياز . لا يمكننا إذا أن نقول إن جيمس جويس كان ينتمي للحداثية ، أو ما بعد الحداثية . أي جويس ؟ إنه في " الدبلنيون " قبل حديث ، و في " صورة الفنان في شبابه " حداثي ، و في " يقظة فنيجان " ما بعد حداثي . كل هذا يؤكد أنه يتطلب لوصف نموذج ما بعد حداثي ، مجموعة من الأساليب ، و الخصائص و الحالات توضع في سياق تاريخي بعينه . و أي واحدة من هذه الخصائص بمفردها ، مثل المحاكاة الساخرة ، أو المرح الأسود ، قد نجد من سبق إليها منذ مئة عام ، أو ألف ، مثل ستيرن ، أو يوريبيدس ، و لكن تجمعها في السياق الحالي هو ما يجعلها تنتمي إلى الظاهرة التي ندعوها ما بعد الحداثية . 5 – هل تتطور ما بعد الحداثية ، وفق الخطوط نفسها ، في الحقول الفنية و الثقافية ، بعد بناء هذا النموذج ؟ هل تظهر نفسها بصور متشابهة في الهندسة المعمارية ، و التصوير ، و الموسيقى ، و الأدب ؟ و في الأخير بمفرده ، في الشعر ، و القصة ، و المسرحية ، و المقالة ؟ و كذلك في الحقول المتباينة مثل العلم ، و الفلسفة ، و السياسة ، و الثقافة الشعبية ؟ . إننا نهاب تحديات بناء نموذج شامل لما بعد الحداثية . و لكن هل نحتاج بالأساس لهذا النموذج ؟ هل نحتاج هذا المصطلح ؟ سادسا : ما بعد الحداثية كمقولة تأويلية : يجب أن نتساءل حول نقطة الإرباك فيما بعد الحداثية ، سواء أكنا في القاهرة ، أم سيدني ، أم كوالالمبور ، و قد اقترحت إجابة واحدة هي تحول ما بعد الحداثية ، إلى ما بعد الحداثة في سياقنا المحلي / العالمي الراهن ، و سأعود لهذه النقطة لاحقا لأختتم بها فكرتي الرئيسية . و لكن هناك إجابة أخرى أكثر إلحاحا ، و هي تحول ما بعد الحداثية بحد ذاتها - بصورة واعية ، أو غير واعية - إلى أداة تفسيرية ، فهي تمس عملنا كطلاب ثقافة ، و أدب ، و فنون ، نظرا لدراسة أكثر من فترة ، و مجموعة من الأساليب ، و الاتجاهات الفنية . لقد أصبحت ما بعد الحداثية – بعد زوالها الجزئي – طريقة نرى من خلالها العالم ، و ربما كان رأي برنارد سميث صائبا حول حوارها المتصارع مع الحداثية . و لكن كلا من الحوار و المقاومة ، يصبحان مصفاة ننظر من خلالها للتاريخ ، و بها نترجم الحقيقة ، و ننظر إلى أنفسنا . ما بعد الحداثية هي الآن ظلنا الرفيق . إن كل جيل بالطبع يؤول أسلافه ، و يعيد ابتكارهم ، فإذا نظرنا للوراء سنجد أسبقية لتوجه ما بعد حداثي في أعمال مثل " تريسترام شاندي " 1759 - 1767 للورنس ستيرن ، و كذلك قلعة فرانز كافكا 1926 ، و الغثيان لجان بول سارتر ، و يقظة فنيجان لجيمس جويس 1939 . هذا يعني أننا قد قبلنا فرضيات ، و مميزات ما بعد الحداثية ، و أننا الآن نعيد قراءة الماضي ضمن شروطها . هذه النزعة حتمية لكنها من الممكن أن تصير عدوانية عندما تفكك أيديولوجيا ما بعد الحداثية الماضي ، و تدمجه كليا في نسيجها . نحتاج لاحترام آخرية الماضي ، مثلما نعيد مراجعته . من الممكن أن تصير نظرية ما بعد الحداثية مفيدة في نطاق الدراسات الأدبية بشكل عام ، فهي تمثل نموذجا قويا للإدراك الذاتي ، و كذلك النقد الذاتي لأساطيرها ، و لاهوتها السري ، و كذلك قدرتها على التسامح ، و احتمال ما لا يتطابق معها . و سنصل عند هذه النقطة للحديث عن البراجماتية ، فهي تتجنب الحدود القصوى لكل من الدوجماتية ، و الشكية المتأخرة . و كما قال ت س إليوت في ملاحظاته لتعريف الثقافة ، أن الشكية المطلقة تدفع الحضارة العالية إلى الانحدار . سابعا : ما بعد الحداثية ، و البراجماتية : نتحدث هنا عن البراجماتية في الفلسفة ، و هي من أكثر الكلمات حسما ، لكي تضاف إلى عائلتنا اللفظية المتزايدة حول ما بعد الحداثية . عندما نشرت كتابي " التحول ما بعد الحداثي " في عام 1987 ، كنت قد بدأت بالتساؤل – مثل الآخرين – عن كيفية استعادة النبض الإبداعي لما بعد الحداثية ، دون الارتداد إلى نوع آخر ، أو العودة إلى فكرة الأصل ، دون انتكاس للأشكال الأضعف ، أو الدوجماتية القاسية ، أو التعصب المذهبي . لقد افتقر الوثوق في نزعة الشك ، إلى نوع من التصديق ، مثلما كانت السياسات الأيديولوجية مملوءة بالحماسة الكاذبة . إن كلا من البراجماتية الفلسفية عند وليم جيمس ، و البراجماتية في الفن عند جون كيج ، يسمح بمساحة من التصديق ، أو روحانية غير مرتبكة ، فالبراجماتية في الفلسفة مجرد عروض ، و ليست دواء شافيا أبدا ، لكن اتساعها الفكري ، و المعرفي يجنبها الجدل حول العقل ، و القضايا الكبرى مثل ، الحرية ، و الضرورة ، و الطبيعة ، و الغذاء ، و هي تتصل بفكرة المجتمعات المفتوحة ، و المتعددة الثقافات ، و تؤيد حل القضايا بالوساطة ، و التفاهم كبديل عن القوة الديكتاتورية ، و المراسيم المقدسة . كل هذا يجعلها متجانسة مع ما بعد الحداثية ، دون قبول للعدمية المتأخرة ، و روح اللامبالاة ، و اللعب السوداوي . و إن مزايا الإمرسونيين ، و الجيمسيين فيها أعلى تأثيرا بكثير من الرورتيين ، في الدراسات الأدبية بوجه عام ، و ليس فقط على نظرية ما بعد الحداثية . إن المزايا الروحية السابقة تقاوم كبرياء النظرية ، و نفاد صبر الأيديولوجيا ، و حماسة رغباتنا ، و حاجاتنا . إنها باختصار تغذي قابلية السلب التي اعتبرها كيتس ضرورية للأدب العظيم . لقد حمل جون كيج – أحد أهم طلائع ما بعد الحداثية في الموسيقى ، و الرقص ، و الفنون البصرية – قابلية سلبية براجماتية ، تؤسس بدايات انعدام التمييز ، و التعصب ، فهو ينحدر من التفوق الأمريكي ، و كذلك من تأملية مذهب الزن . إن رؤية كيج الطقسية تطرد الغرور الذاتي ، و التمركز حول الأنا من البدء ، إلى المنتهى ، فمركباته المبنية على المصادفة ، تتفق مع السعادة الصينية ، فالفم الضاحك يحاكي المرح الصاخب للمولعين بالدين في العصور الماضية . إضافة إلى اللطف القوي الواسع في فلسفة وليم جيمس . هذا هو صوت البراجماتية الذي أحلت إليه ، حيث تهدأ الإيقاعات ، و تصير ملهمة للجميع ، و بخاصة في الدراسات الثقافية ، و ما بعد الكولونيالية . ثامنا : تجاوز ما بعد الحداثية .. التفاعل المفتوح بين المحلي و العالمي : كان السؤال المستتر خلف هذا البيان ، هو ماذا يقع وراء ما بعد الحداثية ؟ و بالطبع لا أحد يعرف حقا ، و لكن إجابتي الضمنية كانت سياق ما بعد الحداثة ، و إيجابيته على شبكة الإنترنت . و لا يدعو هذا للابتهاج ، فالواقعية تعلمنا ، أن الأزمات التاريخية ، لا تأتينا دائما بحل سعيد ، نحتاج أن نتعلم ما يمكن أن يعلمنا إياه التاريخ ، و ما لا يمكن أن يعلمه أيضا . مازال الجور قائما هناك ، و قد يكون أكثر قسوة ، و لكن ليس كله متعذر العلاج في الأشكال الجزئية التي يكمن فيها . ثمة عاملان يثيران أزمات ما بعد الحداثة في وقتنا الراهن هما ؛ التفاوتات البارزة للثروة بين الأمم ، و بداخلها ، و كذلك الغضب الذي يرتكز على الهوية الكلية ، و المشاعر الجماعية المتمركزة حول الذات الأولى ، و ما تحمله من عصبية متوقعة . هذه المشاعر تشارك وحشية علوم الاقتصاد ، و الجغرافيا السياسية . و لي بعض الملاحظات حول النقطة الثانية : يمكن قول الكثير حول الاختلاف ، و الآخرية ، لكن أغلبه يقع تحت دائرة الوعظ ، فمن ينادون بالانحياز لنوعهم لا يقبلون دائما من الأنواع الأخرى . و الحقيقة أن المخ البشري قد طفر بصورة غامضة ، قبل أكثر من مليون سنة ، لابتكار استراتيجيات سريعة من أجل البقاء ، و قد تضمنت الانفصال بين الأنا ، و الآخر ، نحن و هم . و يبدو هذا الانقسام واضحا في العالم البيولوجي ، ليس فقط بين الأنواع المختلفة ، و لكن بين أفراد النوع نفسه . تلك أعجوبة حصانتنا . إن الأنظمة التي تميل – بشكل كهرو كيميائي سريع – بالتمييز بين الأنا و الآخر يمكن أن تخدع أحيانا ، فتهاجم الأصدقاء ، و تهمل الأعداء . و يتضح الانفصام بين الأنا و الآخر في لغاتنا جميعها ، و في التراكيب التحتية للقواعد ، و في مفردات الضمائر المختلفة ، و لهذا نضع حدا بين ضميري ، أنا و أنت ، نحن و هم ... الخ ، فضلا عن ذلك فالانفصام يعمل أيضا في طبقات العقل ، كما يرى الفرويديون ، و اللاكانيون – حيث تنفصل غرائز الأنا المتمركزة نحو الذات ، و الغرائز الجنسية المتمركزة حول الآخر ، أو الطلب الرمزي في مرحلة المرآة عند جان لاكان ، و هي أكثر ارتباطا بموضوعنا . على أية حال الانقسام واضح في التطور التاريخي للعائلة ، و الجماعة ، و القبيلة . كان من الممكن أن ينقرض البشر منذ عهد بعيد في الكفاح من أجل التطور ، أمام الحيوانات الأكثر قوة ، و سرعة مثل النمر حاد الأسنان ، و من ثم كان من الممكن أن ينعدم العقل الإنساني ، و اللغات الإنسانية ، و المنظمات الاجتماعية . و من الغريزة العميقة للقبلية تطورت الهويات العرقية ، و الثقافية المختلفة . هذه الغريزة أساسية ، لكنها موغلة في البدائية . كتب البلغاري إلياس كانيتي أن الروح الجماعية تتحرك في أنفسنا كحيوان ضخم متوحش ، و بصورة أكثر جدية كتب الأحيائي إي أو ويلسون عن قواعد التخلق الجنيني المتعاقب الذي يحكم علاقات القرابة ، و ممارسات التعاون ، و الإيثار في المجتمعات الإنسانية . قد تكون الغريزة العشائرية ، و روحها الجماعية أساسية ، و لكن الخيال و الحب ، و العطف ، و الإحساس بشعور الآخرين أساسي كذلك . ربما كان انعزال الأنا عن الآخر ضروريا من قبل ؛ لأجل البقاء ، لكننا لا نحتاجه الآن كثيرا ، نحتاج لجذب أشكال مختلفة في سياقنا التفاعلي ، حيث يعتمد كل شيء على الشيء الآخر ، و أن نقبل عوالم الإنترنت ، و عصر المحلي / العالمي – هذا التعبير الجديد غير المقبول يمكن أن يستعمل لمرة واحدة في عصر ما بعد الحداثة . لا أعتقد أن الانقسام بين الأنا و الآخر ، نحن و هم سيختفي قريبا ، خاصة إذا استمرت تناقضات كل من الثروة ، و القوة ، و أفكر أن نستبدل الحديث عن جانب الانقسام ، بإمكانية أن نصنع منه ما يتجاوزه في حياتنا ، و يتطلب هذا صدقا ، و شجاعة ، و قوة في الإدراك لأنفسنا ، و ليس فقط للآخرين ، كما نحتاج لزرع الإحساس بالحوارية ، فيما يتعلق بالثقافات المتنوعة ، و كذلك الطبيعة ، و الكون الكامل نفسه ، كما نحتاج التنوع في أنماط الإعلاء لأجل البؤس الأرضي ، إذ يبطل الاندماج في المجموعات الشمولية القائمة على استبعاد المجموعات البشرية الأخرى . أعلم تماما أن قول ذلك أسهل من عمله ، خاصة للمهتم بالمسألة الجماعية . و لكنني يمكن أن أبقي التصور الروحي لسياق ما بعد الحداثة مفعما بالحيوية في الأدب و الفنون المختلفة . و بالطبع يمكن أن نعرف تصور ما بعد الحداثة ببساطة ضمن الشروط السياسية كحوار مفتوح بين المحلي و العالمي ، و الهامش و المركز ، و الأقلية و الأغلبية ، و الجزئي و الكوني ، و كذلك بين المحلي و المحلي ، و الهامشي و الهامشي ، و الأقلية و الأقلية ، و بين عالمية الأنواع المختلفة ؛ و لكن بشرط ألا ينفجر الحوار المفتوح إلى العنف . ليس لدي علاج للطخة العنف الإنساني القديمة ، و لكنني أتساءل حول إمكانية الإفادة من عملية ما بعد الحداثة . هل تصير الأرض روحا تنبثق منها القيم البيئية ، و الكوكبية الجديدة التي أسميها في النقد الهامشي " الغنوصية الجديدة " ؟ أعرف أنه خلافا للروح ، و الإحساس بالدهشة الكونية ، بالوجود ، و الفناء في الحافة الأوسع التي نشترك فيها جميعا ، نحتاج أن نطلق سراحنا من قبضة العشائرية ، و قلق التمركز حول الذات . ليست كل الموسيقى من إبداعنا في هذا العالم . • إيهاب حسن : 1925 - ... ناقد و مفكر أمريكي من أصل مصري ، من أهم المنظرين الأوائل لاتجاه ما بعد الحداثة الأدب و الثقافة ، من أهم مؤلفاته أدب الصمت – نيويورك 1967 ، و الأدب الأمريكي المعاصر 1973 ، و التحول ما بعد الحداثي 1987 ، و بين النسر و الشمس – حول آثار اليابان 1996 . و يعد هذا البيان استشرافا لتحول ما بعد الحداثية إلى ما يتجاوزها ، و قد نشره إيهاب حسن في مجلة الفلسفة و الأدب بالإنجليزية صيف 2001 ، ثم أعاد نشرة بالإنجليزية على موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت .
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي
-
أحلام الجسد البهيجة .. قراءة في مأوى الروح لمحمد عبد السلام
...
-
إعادة إبداع الإنسانية
-
عبث ما بعد الحرب ... قراءة في رواية بلا دماء
-
طيف الأنوثة المستعادة .. قراءة في هيكل الزهر ل فاطمة ناعوت
-
دالي .. حلم النص و أسطورة الفوتوغرافيا
-
جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي
-
لذة الكشف في رواية نوافذ النوافذ ل..جمال الغيطاني
-
الحكي كإبداع للوعي .. قراءة في ما لا نراه ل محمد جبريل
-
معرفة كونفوشيوس
-
توهج النهايات عند صمويل بيكيت
-
المحظور و التمثيلي و العوالم الافتراضية .. عن الأنوثة في قصص
...
-
العمل ، و إبداع العالم
-
الغياب في فضاء المحاكاة .. قراءة في فكر جان بودريار
-
العبث ، و أحلام التجدد
-
أحلام الأم المقدسة عند نوال السعداوي
-
الأسئلة الارتدادية للفن
-
القصيدة التفاعلية ، أو الامتداد الكوني للقصيدة - قراءة في لو
...
-
صخور السماء .. أنشودة الجسد
-
الأنا و تمثيل الآخر / الثقافي
المزيد.....
-
وزير دفاع السعودية يوصل رسالة من الملك سلمان لخامنئي.. وهذا
...
-
نقل أربعة أشخاص على الأقل إلى المستشفى عقب إطلاق نار في جامع
...
-
لص بريطاني منحوس حاول سرقة ساعة فاخرة
-
إغلاق المدارس في المغرب تنديدا بمقتل معلمة على يد طالبها
-
بوتين وأمير قطر في موسكو: توافق على دعم سيادة سوريا ووحدة أر
...
-
غزة البعيدة عن كندا بآلاف الأميال في قلب مناظرة انتخابية بين
...
-
عراقجي يكشف أبرز مضامين رسالة خامنئي لبوتين
-
بعد عقدين- روسيا تزيل طالبان من قائمة الجماعات الإرهابية
-
روسيا تطلب مشاورات مغلقة لمجلس الأمن الدولي بشأن -هدنة الطاق
...
-
اختتام تدريبات بحرية مصرية روسية في البحر المتوسط (صور)
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|