مثل جميع المجتمعات والنظم الاجتماعية، ولد هذا النظام العالمي في بداية حقبة تاريخية معينة ومحدّدة، وهو سوف يموت ويندثر في نهايتها، يصيبه مايصيب الفرد تماماً، فيولد وينمو، ويموت ويندثر، بسبب الكوارث التي تسببها الطبيعة ويسببها البشر، أو بسبب قانون الوجود الذي لايسمح أبداً لأي مجتمع أو نظام أو فرد أن يكون أزلياً، ثابتاً خالداً بخصائصه وملامحه ومضامينه ذاتها !
لقد بلغ هذا النظام العالمي مرحلة الموت والاندثار، ليس بسبب الكوارث الكبرى على مدى خمسة قرون فحسب ، بل أيضاً بسبب زوال الضرورات القديمة وظهور ضرورات جديدة، وزواله سوف يتحقق سواء بتغييره من قبل القوى الاجتماعية المتضررة باستمراره، أم بتبدّل مكوّناته وخلاياه وملامحه وخصائصه وعلاقاته، أم بكليهما معاً !
التبدّلات المظهرية والتبدّلات الجوهرية :
لقد تبدّلت ملامح وعلاقات هذا النظام العالمي مرات عدّة خلال القرون الخمسة الماضية التي هي تاريخ العصر الاوروبي الاميركي: من القرصنة وقطع الطرق الدولية، الى نهب وحرق وإبادة الأمم، إلى استيطان بلاد الغير واستعمار الشعوب الأخرى ، وأخيراً الى امتصاص دماء الأمم من مقراته الرئيسية بالصيرفة والربا. كذلك تبدّلت أسسه المادية : من نظام الما نيفاتورة، الى الآلة البخارية، إلى صناعة الآلات، ثم محركات الديزل والكهرباء، وأخيراً الى الصناعات الالكترونية والتكنترونية التي تشكل اليوم عنوان هذه المرحلة . غير أن هذا النظام العالمي احتفظ في جميع المراحل بخصائصه ومضامينه الجوهرية، كعصر كامل متكامل، يقوم على الاحتكار والتمييز والاستعباد، بالمعنى الشامل والعميق. واليوم، يبدو بوضوح أن خصائصه ومضامينه الجوهرية قد آذنت بالزوال، حيث الحياة الانسانية عموماً لم تعد تطيقها، أي أن حقبته التاريخية، أو طوره التاريخي المحدّد، والذي لايمكن أن يكون إلا محدّداً ، قد آذن بالزوال !
مساحة قاحلة بين عصرين :
لقد تبدّلت المرتكزات الأساسية، التحتية المادية، التي ينهض عليها هذا النظام العالمي. لقد وقع مثل هذا التبدّل وانتهى الأمر، ولن تفيد معه شيئاً محاولات الادارة الاميركية وتابعتها الانكليزية. ان الاضطراب الذي يعصف بمختلف فروع الحياة وتجلياتها هو الدليل . وبعد ذلك سوف يتبع التبدّل في البنى التحتية المادية تبدّل مناسب في البنى الفوقية السياسية والحقوقية. والى أن يتحقق مايتبع سوف يعصف الاضطراب أكثر فأكثر نتيجة لعدم التطابق بين البنى التحتية المادية التي تبدّلت ، وبين البنى الفوقية السياسية والحقوقية القديمة التي لم تتبدّل بعد ! إنها المسافة القاحلة، الموحشة، التي تفصل بين عصرين، والتي يتوجب على البشرية اجتيازها مرة أخرى .
انتهى زمن الأزمات الروتينية :
من المعروف عن هذا النظام الاحتكاري الربوي العالمي أنه نما وترعرع وازدهر بفضل الأزمات الروتينية شبه الدورية ، التي هي ظاهرة بارزة طبعت تاريخه في جميع مراحله. لقد اعتبرت تلك الأزمات مولّد الطاقة ( الدينامو ) للعصر الاوروبي الاميركي ونظامه العالمي، بمعنى أنه لايستطيع الاستمرار من دون هكذا أزمات تؤكد ذاته العبودية. إن تفريخ الأزمات الروتينية، العادية، المتوالية دورياً تقريباً، هو دليل عافيته ومقدرته على الاستمرار والازدهار. غير أن هذه الأزمات لاتطال بآثارها المدمّرة الأوساط الاجتماعية الدنيا فحسب ، بل تطال في مابعد ، وشيئاً فشيئاً، جميع المستويات الاجتماعية، وجميع المجتمعات الانسانية، كما أصبح الحال اليوم، حيث بلغت مرحلتها الأخيرة التي يلتهم الجميع فيها الجميع ! وهكذا انتهى زمن الأزمات الروتينية وبدأ زمن الأزمة المفتوحة على جميع الاتجاهات، أي زمن النهاية.
طغيان المادة ، وتلاشي الانسان !
هاهو العالم اليوم وقد سادته حالة الأزمة المفتوحة، الغامضة، تعبّر عن نفسها بما لايحصى من الأزمات التفصيلية، من جميع الأحجام والألوان وفي جميع المناطق ، حتى أن استقرار وسط اجتماعي ما ، في درجة اجتماعية ما، لم يعد يشكل سوى مظهر خارجي عابر يشير بغموض الى قوى تبدو سديمية ، فهي تتبادل المواقع على الدوام في حركة لاتلحظ ظاهرياً، ومن خلال تبدّل الألوان فحسب. وفي هذه الحركة العشوائية التبادلية، التي لاتلحظ إلا ظاهرياً فقط ،يغيب كل معنى ايجابي، وتتلاشى الفعالية الانسانية، ابتداء بمستوياتها القرابية الدنيا وانتهاء بمستوياتها القومية العليا، بعد أن تحوّل عالم البشر المتمايزين، المتكاملين ، بتأثير قوة عاتية ، إلى عالم بشر " ذرّاتيين " إن جاز التعبير ، عالم من الذرّات والهباء والهلام ، تطغى فيه المادة بمقدار مايتلاشى الانسان !
العودة الى المحاكمات الفردية :
في هذه المرحلة الأخيرة أصبح العدو شيئاً قابعاً داخل الانسان الفرد، فانتقل الصراع الاجتماعي من الفضاء الرحب ، من خارج الانسان الفرد، الى داخله، كأنما الحياة تنطلق من البداية ! وعند هذا الحّد تتوقف لعبة الأزمات الروتينية، الدينامية الفعالة ، شبه الدورية ، بعد أن أوشك الإنسان أن يفقد هويته الوطنية والقومية والثقافية الحضارية، مثلما فقدت السلع هويتها ، ومثلما فقدت الأزمات والمعارك حدودها وميادينها ومعانيها المحدّدة ، أما الإدارات العالمية ، التي فقدت بدورها هويتها وحدودها، فهي تنصرف بكليتها إلى إدارة الأزمة العامة المفتوحة، محاولة الحفاظ على قواربها سليمة وطافية فوق تيارات رهيبة صاخبة لايمكن التحكم بمساراتها !
غير انه ، تحت سطح التيارات و الظاهرات الخارجية ، التي يبدو فيها كل شيء مثل كل شيء ، يبقى الجوهر الانساني كامناً ينتظر فرصته بصبر لا حدود له ،متأهباً لمواجهة العدم في جولة قادمة حاسمة، طالما أن العدم لم ينجح في استئصال شأفة الانسان ! إن الجوهر الانساني يتأهب للإرتقاء الى مستوى التحّدي المصيري، مستوى الوجود أو اللاوجود ، ويفكر عميقاً بالمستلزمات الضرورية التي تتطلبها المستجدات الخطيرة التي سيطرت على الحياة بمجملها . إن الجوهر الانساني يتأمل بعمق اليوم في هذه المستجّدات ، وفي معاناته الرهيبة المصيرية تحت وطأتها .
لن يستمرالنظام ذاته أبداً :
وإذن ، فقد توقفت لعبة الأزمات الروتينية المعبّرة عن دينامية النظام الاحتكاري الربوي العالمي ، وبذلك كفت خلاياه الحيّة عن التجدّد ، فهو الآن محكوم بمصير تلك الحشرة التي تخرج من يرقتها المتيبّسة وقد اكتسبت جناحين تطير بهما مؤقتاً !
وعلى الرغم من الصعوبة البالغة في التبسيط ، فإن المثال الذي يمكن أن ينطبق، بصورة ما ، على حالة هذا النظام العالمي ، هو مثال الانسان الفرد في حالة احتضار طويلة نتيجة مرض عضال لا شفاء منه ، حيث المحتضر، الجاهز للرحيل عن الدنيا حتماً ، يتعذب ويعذب من حوله في علاقة لاطائل من ورائها ولا يمكن تجنبها ، وبخاصة إذا كان مرابياً شريراً . إنها حالة قد تطول وقد تقصر لكنها تبقى حالة احتضار ، وهاهنا يبرز الفارق بين رؤية ورؤية، مثلما الفارق حاسماً بين الحياة والموت، حيث البعض لايستخلصون العبر والنتائج المرجوّة ، وحيث لايجوز ان يكون الرهان على الموت و الموتى . ان المحتضر هو في حكم الميت ، و يعامل على هذا الاساس ، حتى و ان عاش بضع سنوات اخرى ، و المطلوب هو معرفة كيفية التصرف بصدد علاقات مرحلة الاحتضار،أو لنقل مرحلة الانتقال التاريخية من عصر الى عصر ، وكيفية الاستعداد للمرحلة التي تليها والمشاركة فيها بجدارة !
نقلة بنيوية نوعية تاريخية :
ليست تظاهرات ملايين البشر، في عشرات عواصم ومدن العالم، سوى المؤشر الملموس على الضغط الهائل للبنية التحتية الدولية. وسرعان ماعبّر هذا الضغط عن قوته بتلك المواقف والقرارات السياسية المتجاوبة التي ظهرت وأعلنت في مجلس الأمن وفي العواصم العالمية الرئيسية. لقد وقفت الادارة الاميركية وحدها تقريباً، يدعمها اليهود الصهاينة، بعد أن اضطرب موقف الادارة البريطانية تحت ضغوط شعبها، وكنيستها أيضاً. ويقيناً، لو أن انتخابات عامة أجريت الآن في إيطاليا واسبانيا وبريطانيا لسقطت حكوماتها سقوطاً مريعاً ،وخاصة بعد الموقف المعلن لقداسة البابا الكاثوليكي، الذي وصف الموقف الاميركي بالصليبي!
إذن ، فالبنى الفوقية الدولية سوف تتبدّل بما يتفق مع التغييرات الجذرية العميقة التي طرأت على البنى التحتية المادية والاجتماعية، والإدارة الاميركية قد تنجح على الأغلب في لجم الاندفاع في اتجاه التغييرات السياسية والحقوقية لبعض الوقت، وقد ترتكب الجرائم الفظيعة في محاولاتها الاحتفاظ بزمام العالم ، غير أن كل فعل عدواني تقدم عليه لن يعيد النقلة التي حدثت الى الوراء، بل سيجعلها أكثر صلابة ومقدرة على تحقيق نقلات أخرى ، بنيوية ونوعية وتاريخية. إن العالم سوف يتغيّر نحو الأفضل، وإن لأمتنا دوراً هاماً في ذلك ، غير أن الثمن سوف يكون باهظاً حقاً ، لأن تجار النفط والسلاح والمخدّرات لن يتخلوا عن مواقعهم وامتيازاتهم بسهولة، وكذلك حال بقية المستفيدين من النظام العالمي الحالي ، من صيارفة مرابين ووكلاء معتمدين في جميع البلدان .