مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2046 - 2007 / 9 / 22 - 05:03
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
هناك أسطورة قديمة تزعم أن الأناركيين لا يؤمنون بالتنظيم لدفع النشاط الثوري . بعثت هذه الأسطورة من مرقدها بواسطة ماركوزه في مقابلة الإكسبريس قبل عدة شهور و كررها من جديد هيوي نيوتن في مقاله "دفاعا عن الدفاع الذاتي" الذي قررت نشرة مسودات اليسار الجديد أن تعيد نشرها في عددها السنوي الوطني الجديد .
إن مناقشة سؤال "المنظمة في مقابل غياب المنظمة" سخيف , لم تكن هذه القضية موضع خلاف بين الأناركيين الجادين , ربما ما عدا "الفرديين" المعزولين الذين تنتسب إيديولوجيتهم إلى شكل متطرف من الليبرالية الكلاسيكية أكثر منها إلى الأناركية . نعم , إن الأناركيين يؤمنون بالمنظمة – منظمة وطنية و أممية . لقد تدرجت المنظمة الأناركية من حركات واسعة غير مركزية إلى حد كبير إلى حركات "طليعية" مؤلفة من آلاف عديدة كما في الفيدرالية الوطنية للعمل الإسبانية التي نشطت بأسلوب جماعي إلى حد كبير .
إن السؤال الحقيقي موضع الخلاف ليس في معارضة المنظمة بغيابها , بل هو عن أي نوع من المنظمات يجري الحديث .
ما تشترك به الأشكال المختلفة من المنظمات الأناركية هو في أنها تنشأ عضويا من الأسفل و لا يجري بناؤها من فوق . إنها حركات اجتماعية , تدمج نمط الحياة الثوري الإبداعي إلى جانب النظرية الثورية الخلاقة , و أنها ليست أحزاب سياسية , لا يمكن تمييز نمط حياتها عن البيئة البرجوازية المحيطة من حولها و التي جرى تصغير إيديولوجيتها إلى مجرد "البرامج المختبرة و المجربة" الصارمة . إن هذه المنظمات الأناركية تحاول أن تعكس بقدر ما هو ممكن إنسانيا المجتمع المتحرر الذين تطمح إلى بلوغه , لا أن تستنسخ بطريقة خانعة النظام السائد للتسلسل الهرمي , الطبقي و السلطة . تبنى هذه الحركات حول مجموعات حميمة من الإخوة و الأخوات , الذين تقوم قدرتهم على الفعل الجماعي على اقتناع توصلوا إليه بحرية و عبر المشاركة الشخصية العميقة المبادرة , و ليس حول جهاز بيروقراطي يتشكل حوله جسم المنظمة من أعضاء سهلي الانقياد يتم التلاعب بهم من الأعلى من قبل حفنة من "القادة" الذين يعرفون كل شيء .
أنا لا أعرف من يجادل هيوي عندما يتحدث عن "الأناركيين" الذين يعتقدون أن كل ما عليهم فعله هو "فقط أن يعبروا عن أنفسهم فرديا" كي يتمكنوا من تحقيق الحرية . تيم ليري ؟ ألن غينزبرغ ؟ فرقة البيتلز ؟ بالتأكيد ليس الأناركيين الشيوعيين الثوريين الذين أعرفهم – و أنا أعرف عددا كبيرا منهم يمكن اعتباره ممثلا لهم على نحو جيد . من غير الواضح من أين حصل هيوي على تلك الحقائق عن ثورة أيار مايو - حزيران يونيو** في فرنسا . "الحزب الشيوعي و سائر الأحزاب التقدمية" في "اليسار" الفرنسي لم تتقاعس فقط خلف الجماهير كما يبدو أن هيوي يعتقد بل إن هذه المنظمات "المتميزة بانضباطها" و "مركزيتها" حاولت بكل طريقة ممكنة إعاقة الثورة و إعادة توجيهها نحو الطرق البرلمانية التقليدية . و حتى المنظمة التروتسكية FER "المنضبطة" و "المركزية" و المجموعات الماوية عارضت الطلبة الثوريين على أنهم "يساريون متطرفون" , "مغامرون" و "رومانسيون" مباشرة عند أول شارع كان يقاتل في أيار مايو . من المميز أن معظم المنظمات "المنضبطة" و "المركزية" لل"يسار" الفرنسي إما أنها تقاعست بشكل شائن خلف الأحداث , و في حالة "الحزب الشيوعي و الأحزاب التقدمية" خانت بدون خجل و باعت الطلبة و العمال لحساب النظام .
إنني أجد من الغريب أنه فيم هيوي يتهم الكتاب الفرنسيين الستالينيين أنهم "تخلفوا عن الجماهير" فهو يحمل الأناركيين و داني كوهين - بنديت المسؤولية عن "إجبار الجماهير للعودة إلى ديغول" . لقد زرت فرنسا بعد ثورة أيار مايو – حزيران يونيو بفترة قصيرة و يمكنني أن أؤكد بدون أدنى صعوبة كم كان داني كوهين – بنديت حازما , لقد حاولت حركة 22 آذار مارس و الأناركيون تطوير الأشكال الجماعية للتنظيم و لجان العمل إلى "برنامج بنيوي" ( بالفعل فقد مضت بعيدا عن مجرد برنامج ) لاستبدال حكومة ديغول . أمكنني أن أرى بوضوح تام كيف حاولوا أن يدفعوا العمال للاحتفاظ بسيطرتهم على المصانع و أن يقيموا اتصالات اقتصادية مباشرة مع الفلاحين : باختصار , كيف حاولوا استبدال البنية الفرنسية السياسية و الاقتصادية بأشكال ثورية خلاقة و قابلة للحياة . و في هذا قوبلوا بالإعاقة المستمرة من الأحزاب "المنضبطة" و "المركزية" "لليسار" الفرنسي بما في ذلك مجموعة الفصائل التروتسكية و الماوية .
هناك أسطورة أخرى لا بد من تفجيرها – هي أن الثورات الاجتماعية تصنع بواسطة الكوادر شديدة الانضباط , التي توجهها قيادة شديدة المركزية . إن كل الثورات الاجتماعية العظمى هي نتاج قوى تاريخية و تناقضات أصيلة و مساهمة الثوريون و منظماتهم المحدودة جدا في معظم الأحوال قد جرى الحكم عليها خطأ بشكل كامل . لقد انفجرت الثورات عفويا . كان "الحزب العظيم" عادة ما يتخلف خلف الأحداث - أما إذا نجحت الانتفاضة فإنه يقفز إلى القيادة , يتلاعب بالثورة , و غالبا ما يحرفها . في هذه اللحظة تصل الثورة إلى المرحلة الحقيقية من أزمتها : هل سيقوم "الحزب العظيم" بإحياء نظام جديد من التركيبة الهرمية و السلطة و القمع في إطار مهمته المقدسة "لحماية الثورة" , أو أنه سوف ينحل في الثورة على التوازي مع انحلال الترتيب الهرمي و الهيمنة و السلطة أيضا ؟ إذا لم تكن المنظمة الثورية قد بنيت بحيث تكون قابلة لتنحل في الأشكال الشعبية التي خلقتها الثورة بمجرد أن تنجز مهمتها كحفاز , إذا لم تكن بنيتها تتشابه مع المجتمع الحر الذي تريد بناءه و لذلك يمكنها أن تختفي في الأشكال الثورية للمستقبل – عندها تصبح هذه المنظمة وسيلة لاستعادة أنماط الماضي إلى الثورة , تكون منظمة تعمل على تأبيد نفسها , ماكينة سلطة التي , بعيدا عن الطريق المهجور, تعمل على تأبيد كل الظروف لوجودها الخاص .
هناك أيضا أسطورة أخرى بعيدة هي الأخرى عن الواقع تزعم أن الحزب "المركزي" و "المنضبط" بشدة يسهل نجاح الثورة . لقد انشق البلاشفة و انقسموا و تغربلوا بسبب التنافر الحزبي بين أكتوبر تشرين الأول 1917 و حتى مارس آذار 1921 . من السخرية أنه فقط بعد أن تم طرد آخر الجيوش البيضاء من روسيا تمكن لينين من مركزة و ضبط حزبه نهائيا . ما يمثل الحقيقة أكثر هي تلك الخيانات التي لا تنتهي التي قامت بها الأحزاب ذات التركيبة الهرمية الصارمة شديدة "الانضباط" و "المركزية" "لليسار" كالاشتراكيين الديمقراطيين و الشيوعيين .
لقد تشكلت هذه المنظمات وفق نمط لا يعرف الرحمة , حقيقة أن كل منظمة ( مهما كانت لغتها ثورية أو أهدافها جيدة النوايا ) و التي تقيم بنيتها وفق النظام نفسه الذي تريد الإطاحة به تصبح مستوعبة بالعلاقات البرجوازية نفسها و تدمر أخيرا من قبلها . إن فعاليتها الظاهرة تصبح مصدر أكبر إخفاقاتها .
مما لا يمكن إنكاره أنه توجد هناك صعوبات , هذه الصعوبات التي يمكن حلها فقط بواسطة اللجان , بواسطة التنسيق و درجة عالية من الانضباط الذاتي . بالنسبة للأناركيين يجب حصر اللجان في المهام العملية التي يوجبها وجودها , و يجب أن تنتهي عندما تنجز مهمتها . يجب تحقيق التنسيق و الانضباط الذاتي طواعية , بفضل المستوى المعنوي و الفكري العالي للثوريين . إن ابتغاء أقل من ذلك يعني القبول ب"ثوري" , روبوت آلي بلا عقل , مخلوق التدريب التسلطي , عنصر خاضع للتلاعب صاحب شخصية و مظهر غريبين تماما , و على تضاد فعلي , لأي مجتمع يمكن اعتباره أبعد ما يمكن عن كونه حرا .
لا يوجد أي أناركي جاد سوف يختلف مع طلب هيوي ب"ضرورة إزالة التركيبة الإمبريالية بواسطة المجموعات المنظمة" . "إذا كان ذلك ممكنا بالمطلق يجب علينا العمل سوية" . يجب علينا أن ندرك أيضا أنه في الولايات المتحدة , قلب العالم الإمبريالي اليوم , جرى تطوير اقتصاد و تكنولوجيا يمكنهما , في ليلة واحدة تقريبا , إزالة كل المشاكل التي اعتقد ماركس أنها تبرر الحاجة إلى الدولة . سيكون خطأ كارثيا أن يجري التعامل مع اقتصاد الوفرة الهائلة و الإنتاج المؤتمت انطلاقا من موقف فكري تعود أصوله إلى الفترة التكنولوجية التي قامت على الفحم الحجري و الآلات البدائية و ندرة المواد . حان الوقت الآن لنتوقف عن التعلم من ماو الصين أو كاسترو كوبا - و نرى الواقع الاقتصادي الموجود أمام أعيننا الجدير بالملاحظة لأجل كل البشر كي يتمتعوا و ينعموا حالما يجري الإطاحة بالتمثال الهائل للبرجوازية الأمريكية و توضع مصادرها تحت خدمة الإنسانية .
موراي بوكشين
( أناركي أمريكي من أصل روسي )
* تسميها الأدبيات الماركسية بالفوضوية و يفضل أصحابها اسم الشيوعية التحررية
** انتفاضة الطلاب و العمال الفرنسيين عام 1968 و التي امتدت إلى مختلف أنحاء أوروبا حتى تشيكوسلوفاكيا
ترجمة : مازن كم الماز
نشرت في :
New left notes
January 15, 1969
نقلا عن //dwardmac.pitzer.edu/Anarchist_Archives/bookchin/bookchinarchive.html.
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟