نايف أبو عيشه
الحوار المتمدن-العدد: 2042 - 2007 / 9 / 18 - 10:11
المحور:
الادب والفن
في تجربة الاعتقال والاسر كل شيء متوقع حدوثه, وفي حياة الاسرى كل شيء ممكن عمله . ولكل اسير ثقافته وانتماؤه وتجربته ومهاراته وهوايته.في سجن عسقلان قال احد السجناء ان " برشه" لم ينتقل من مكانه منذ تسع سنوات . الغرفة تتسع لستة عشر شخصا , امضى معظمهم اكثر من عشر سنوات. احدهم وجد يوما عصفورا فقست البيضة عنه للتو وقد سقط من عش امه الى الارض .اخذه وظل يعتني به ويطعمه حتى كبر ونما ريشه وصار بحجم قبضة الطفل الصغير . وتعلق العصفور بصاحبه حتى صار يعرفه من بين السجناء . صنع له قفصا من الكرتون المقوى للمبيت فيه كان يضعه قرب راسه عندما ينام.وعندما كان يخرج مع زملائه "للفورة" تراه يضعه على كتفه وهو يرتدي بلوزته البيضاء النظيفة والعصفور يثبت نفسه على كتفه , بينما صاحبه يمشي بخطوات عسكرية منتظمة والابتسامة لا تفارق شفتيه. ولكن عندما كان احد زملائه يحاول المزاح مع العصفور سرعان ما ينفش ريشه ويفتح منقاره متاهبا لينقر اليد التي تحاول مداعبة ريشات ذيله القصيرة , ورغم صغر هذا الطائر الا كان متاهبا ليدافع عن نفسه مع كل حركة تستفزه من الاخرين.اما صاحب العصفور فكان يمشي متجاهلا ما يحدث بين صديقه وبقية الاسرى الذين وجدوا فيه لعبة مسلية, الا انه كان يستفز احيانا عندما تنغرز اظافر العصفور في كتفه بسبب دورانه المفاجيء, فيخاطبهم "ولكم يا عمي اتركوه بحاله . او روحوا العبوا مع اللي من اجيالكم , والا بدكم اياه يهج عني ويتركني"؟واحيانا يقول " انتم مقهورين علشان مش عارفين تعملوا مثلي لان الواحد منكم مش مربي حاله كيف يربي عصفور"؟ وكلما واصل تعليقاته كلما الحوا بالمزاح والعبث مع صديقه , وسرعان ما يمسكه ويطوح به عاليا وهو يقول " يلا روح اسرح لك شوية لان الشباب مش تاركينك بحالك وبدهم يظلوا يمزحوا ". عندها كان العصفور يطير محلقا فوق الساحة ومبنى السجن الكبير , ويدور عدة مرات ثم يهوي من طيرانه ليحط على اغصان الشجرة العالية ليستريح , وسرعان ما يطيرثانية ليحط على كتف صديقه مميزا اياه من بين زملائه الاسرى ولا يخطئه ابدا.
كان الاسير محكوما بالسجن المؤبد ,ومضى على اعتقاله اربعة عشر عاما , دون بارقة امل بالتحرر خاصة بعد صفقة تبادل 83 حيث لم تتضمنه القائمة , واعيد عشرات الاسرى للسجون التي خرجوا منها بعد ان وصل البعض منهم باب الطائرة التي اقلت المحررين بسبب تعديل بسيط على الصفقة . لذا فان العلاقة المتينة التي تربطه بهذا الطائر الصغير لها تفسيرها ومغزاها , حيث كان يرى فيه رمزا للحرية وخاصة ان العصفور يمكنه التحليق بحرية في السماء والذهاب بعيدا الى عالمه الخاص به, لذا فقد شعر ان خيطا رفيعا يربطه بالحرية عندما يحلق العصفور في السماء فتغمره مشاعرمتناقضة من السعادة احيانا والياس والمرارة احيانا اخرى, وحين يرجع العصفور ليحط على كتفه تراه يمسد على ريشه وراسه برفق كانه يقول له "ليتني عصفورا مثلك لاطير محلقا في سماء الحرية للابد , ولكن هيهات ان يحدث ذلك ". ورغم هذا يمشي وابتسامة ترتسم على محياه , فهو يريد للعصفور ان يطير كما يشاء ويمارس حريته باالطيران كما يشاء, لكنه يريده ان يعود اليه في كل مرة فهو لم يعد قادرا على فراقه,لانه يربطه بحرية نسبية يحققها له بطيرانه فوق مبنى السجن الكبير , الى ان حدثت الماساة يوما وفقد الاسير صديقه, عندما داسه بالخطا احد الاسرى خلال توزيع وجبة العشاء , ولم تنفع كل عبارات المواساة من الاخرين لتقنع صاحبه ان الحادثة ليست مقصودة , او تقنعه لياكل طعامه , وهو يصرخ بانفعال على من ارتكب الجريمة بحق صديقه , وبالكاد استطاع الجميع تهدئة خواطره وتفادي حدوث مشكلة . ووعدوه ان يساعدوه على ايجاد عصفور اخر في اقرب فرصة, لكنه ظل لساعات طويلة جالسا يدخن بعصبية والحزن يكتسي ملامحه كانما فقد ولدا من دمه ولحمه, وساد الصمت بين الاخرين , لم يقطعه الا التنبيه للعدد المسائي للسجناء . وكلما خرج للفسحة اليومية مع زملائه , يذهب لانتظار سقوط فرخ اخر من عشه عن الشجرة العالية التي كانوا يشربون وجبة الشاي اليومية تحتها ويتفيئون بظلها في فصل الصيف , ولكن دون جدوى .وعندما تم نقله الى سجن جنيد الذي تم افتتاحه في العام التالي , لم يكن امامه أي فرصة لايجاد عصفور اخر, لاختلاف طبيعة السجن وظروف الحياة فيه عن سابقه , الا ان هذا لم يمنعه من التفكير في تكرار التجربة مرة اخرى . واخيرا تحقق الحلم عندما تمت صفقة تبادل جديدة عام 85 وكان اسمه بين الاسرى الذين شملهم التحرر من الاسر , وحلقت بهم الطائرات اخيرا نحو الحرية الحقيقية , وفي الفضاء الواسع كان ينظر الى تضاريس الارض من خلال نافذة الطائرة , وسرح بخياله بعيدا للوراء وبدات الذكريات تتدفق كنهر غزير , ومن بينها تذكر صديقه العصفور وتمنى لو كان معه الان يشاركه الفرحة بالحرية التي ارتبط بها من خلاله بخيط رفيع الا انه اليوم حقيقة واقعة يعيش لحظاتها بمشاعر متناقضة ايضا , فاغرورقت عيناه بالدموع , وراى من خلالها ضوء الشمس بالوانه السبعة . افاق من ذكرياته ومشاعره على سؤال زميله :" هل تصدق اننا نحلق نحو الحرية اخيرا "؟ رد وهو يمسح اثار الدموع من عينيه " بعد ان نصل هناك يمكن لك ان تسالني ما تشاء " سال زميله بدهشة " هل تظن ان يعملوا معنا فيلم ويعيدوننا للسجن"؟ رد بنبرة جادة:" انا شخصيا لن اصدق الا عندما نصل ويقولوا لنا يلا انقلعوا عند جماعتكم , لاني لن انسى ما حصل في التبادل السابق , واعادوا العشرات الى السجن بعد ان وصلوا باب الطائرة , وتم استبدالهم باخرين . الا تذكر"؟ رد زميله " طبعا اذكر , ولكن هذه المرة تختلف عن السابق" . قال مازحا " تعرف اذا رجعونا راح اقفز من الطيارة واللي يصير يصير " علق زميله مجاريا اياه بالفكرة :" صحيح كان طلبنا منهم يعطونا مظلات للقفز " قال مقهورا :" بحياة ابوك بكفي , وخلينا نتفرج على المناظر والطبيعة الرائعة ولو انها بعيدة , ما تقول صار لي سبعة عشر سنة في السجن ما شفت الا الحيطان والقضبان والسجانين " ساله زميله فجاة " ليش عمر القاسم ما طلع معنا , رغم ان كل مجموعته في القائمة "؟ رد باقتضاب " والله ما بعرف السبب . على اية حال وقت نوصل راح اسالهم عن السبب" .ساد الصمت بينهما وغرق كل منهما في افكاره واحلامه وذكرياته وواصلت الطائرة تحليقها بهم في السماء الصافية مع نهاية ايار 1985.
#نايف_أبو_عيشه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟