نجيب المغربي
الحوار المتمدن-العدد: 2042 - 2007 / 9 / 18 - 04:03
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
1- الجنون انسلاخ ثوري الى عوالم الحرية اللامتناهية ضدا على قيود العقل و اوثان المعقولات !
نستطيع ان نقول ان فرسان العبقرية و الجنون يسيران معا في خطين مختلفين ، لكنهما حتما لا يحاكيان كل اتجاهات العقل الطبيعي التي يمشي عليها ويمتطيها الاخرون !
يتمظهر الجنون كانفلات فوضوي من قوانين العقل و المجتمع ؛ انه تمرد ثوري حاسم و نهائي على قوانين الدمج الاجتماعي و الياته القهرية !, ، ان المجنون ينزلق شيئا فشيئا و دونما وعي الى هامش المجتمع, و هو بهدا يختار الهجران الاضطراري للمعقول و المنمط الاجتماعيين, الذين يظل الاخرون يحرسونهما و يحرصون عليهما اشد الحرص !
ان الجنون ليس سوى تفجيرا للحدود الوهمية بين المعقول و اللا معقول ، لذلك فهو يقف على تخوم العبقرية !
ان ما يخلخل اندماج المجنون -على خلاف المتشرد و النهليستي - ليس مظهره الشاذ وصورته المختلفة ,، بل تمرده الدائم على العقل النمطي لصالح تبني العقل الاشد تحررا و التمركز حول الذات الى حد الاستفزاز! . لذلك فالمجنون وحده من يستطيع ان يتحرر بلا حدود من انتظاراتنا التي تشرعن كل سلوك او تحظره دون ان نحاسبه, ، ويظل يكسر افق توقعنا باستمرار دون حتى ان نلتفت اليه .
يمكننا تعريف الجنون من منظور سيكولوجي : كاضطراب مرضي يمس وظائف الذهن و النشاطين العقلاني والنفسي الطبيعيين اوهو: فقدان للتوازن النفسي - العقلي ( العضوي ) ، ,يتسبب للمريض في العجز الوظيفي عن استخدام مجمل الانساق المنطقية,، و هو ما ينعكس على سلوكه ويؤثرعلى مختلف العمليات الذهنية و الحسية و الفكرية و العاطفية : من تفكير و تذكر وتخيل و تعبير , ويؤدي الى اضطراب الاحاسيس و التمثلات و الانفعالات .
ان المجنون بفقدانه لكل حساسية تجاه ما هو شاذ ( مبتذل) او محظور ( لا مقبول) ثقافيا , يحكم على نفسه مباشرة بالنبذ الاجتماعي ؛ لكنه في مقابل دلك لا يتوانى عن استفزازنا في كل مرة يعبث فيها او يتطاول على انساقنا القيمية و الرمزية المعيارية , كانما يعيش في عالم يخلو من الاغيار !. وفوق كل هدا قد يتطرف في نبذه لعالمنا فينقطع في رفضه الى حد اختيار العزلة او الموت.
ان الجنون ليس سوى تعال محض للكينونة عن الواقع ,و انفلاتها من هيمنة العقل النموذجي و ارتماء في احضان عوالم تملؤها التخيلات والهلاوس و الاستيهامات؛ ان الجنون عقل مختلف ،لامتناه ، يرفض الاكتفاء بالمتناهي و يوثر الانسحاب و اقتلاع الكينونة لصالح الكائن المفكك المستدرك للحرية في شكلها المطلق !! لكل ذلك فالمجانين ليسوا فقط اخلافا يمشون في ركب المجتمع كما يبدو؛ انهم اساسا يقفون موقف الادانة من خديعة العقل و يزعمون حملهم للحكمة و البشائر و النبوات.
ان تخوم العبقرية و الجنون متماسان, ، حيث ان كليهما تجاوز للطبيعي و المالوف ، لذلك قد يحدث ان يفضي احدهما الى الاخر! فهل نستطيع بعد كل هذا ان نقول ان معظم العباقرة الدين ادهشونا دلفوا الى عالمنا من متاهات الجنون و اللا معقولات ! ثم هل لايزال باستطاعتنا رسم حدود نتوهمها بين العقل و اللاعقل, بين ما يتصاعد من داخل عوالم الجنون وما هو هابط من سماء المعقولات !!!
2 - الانتحار كخيار وجودي رافض لتفاهة الحياة ومعانق لسطوة الموت !
ان الانتحار كخيار مصيري؛ وان كان يدل على الفشل في مواصلة الحياة . يحمل في طياته اعظم ارادة لهزم الموت ، انه كاقسى الافعال التي يمكن انزالها اطلاقا بالجسد ، يظل يعكس بمرارة تفجرا ماساويا غامضا: كونه التجسيد الاكثر تناقضا لارادة الحياة من خلال تحقق فعل الموت ! ؛ انه بكل بساطة : التجلي الاسمى للقوة والقدرة على هزم الموت في عالم صار بلا معنى !!
ادا كانت لحظات الضعف والياس و الخوف القاسية ، هي التي تسبق فعل الانتحار؛ فان تنزيل الفعل الواعي و تنفيذه لا يمكن ان يكون سوى التحقق الاعظم و اللا متكرر لارادة القوة و التصميم الاجرأ على اختيار الموت بكل حرية .
بهذا المعنى يظهر الانتحار شامخا و متفوقا على لحظات الاحتضار الوضيعة ، حيث يصل الضعف و الانهيار بالانسان الى حالة من الاضطراب تسيطر عليه فيها مزيج من مشاعر الخوف و الاستعطاف والهوان و الخنوع !
ان الانتحار ، بما هو تجسيد اخير للقوة من خلال الاقبال على الموت، لا يمكن الا ان يعكس معناه : كارادة قصوى للحياة بما هي انتصار على الحياة نفسها !
يتخفى الصراع الدائر بين غريزتي الموت و الحياة متنكرا يستعير لنفسه عشرات الاقتعة ، فسلوكات الطيش و المجازفة و كثير من العادت السيئة و القاتلة ليست في الحقيقة شيئا اخر غير مظاهر مظللة تموهنا حتى لا نحاصر غريزة الموت القابعة بالاعماق ! . و في المقابل يبرز التمسك الشديد بالحياة و الاهتمام الزائد بالامان الشخصي و الصحة ، كدلائل على يقظة حادة لاشتغال غريزة الحياة !
ان تشبت الغريق باي احد اواقرب شيء و لو كان قشة ! ليعطينا المثال عن الى اي حد تتحكم غريزة الحياة بالانسان وتحوله الى كائن ضعيف ممتلئ بالانانية ؛ وعلى العكس من ذلك ، تظهر التضحية و الايثار الى حد المخاطرة وحب الاستشهاد البطولي كمظاهر تعلي من شان الموت و تؤسطره و تسمو بالانسان رمزيا الى مستوى الخلود ؛ فتشحن موته بمعاني النبل ان لم ترفعه الى مستوى القداسة !.
3 - الموت حدث انطولوجي تافه ، مؤلم ، لا يعادل الحياة و لكنه يتفوق عليها !
مند لحظات ميلاد كل منا, نبدأ بالتدحرح غير عابئين نحو حتفنا المحتوم دون ان نعي ذلك بعمق . ان تلك الميلادات التي تحتفي بها مختلف الجماعات الاثنية و الدينية و المجموعات الثقافية ليست في الحقيقة سوى احتفالا ببدا رحلة كائن جديد نحو الموت و الفناء !
اننا مهما بدت حياة كل واحد منا شاقة او سهلة, قصيرة او ممتدة لسنا سوى مشاريع موت .
تبدو هده الفكرة اول الامر صادمة لمن لم يستوقفه الزمن الانطولوجي المنساب ليلتقط ذهنه المشغول بتفاصيل الرحلة ، هذه البداهة الواضحة جدا و المميزة : ان وجودنا فعلا معقود في طرفيه بالعدم ، سنصير اليوم اوغدا الى الزوال كما لو لم نكن يوما !
ويزيد من هول دراما الوجود هذه تخفي شبح الموت الماكر في كل مكان ، فهو لاينفك يتبعنا يترصد اللحظة المناسبة لينهي ما ظنناه ملكنا و ظللنا نقاتل من اجله بعناد !. ان مباغثة الموت للانسان و هو مستغرق في الحياة بالكامل ، ليكشف عبثية مجمل وجوده السابق ، و يضعه وجها لوجه امام حقيقة انطباعه باللا اكتفاء و الهشاشة ، الدين ظلا قبلا يؤرقانه و يصيبانه بالحيرة والشقاء و الارتياب !!
رغم كل ذلك لا تنفك الحياة بكل اغراءاتها وتفاصيلها الضاجة بالحركة تمنح كل واحد منا ما يظل يشده اليها حتى حين !. ان الامل و الانشغالات و رتابة اليومي و حتى النسيان ليست سوى اشياء تافهة امام حدث الموت. لكننا لانقدر رغم معرفتنا بمصيرنا الدرامي ان نتوقف عن الحياة او ان نستاء حتى من تفاهتها !
انه مهما كانت بناءات الحياة عميقة بذاتها ؛ لايمكن ان تحمل مغزى كالذي يحمله حطام الموت !! ان معنى الحياة موضوعا مقابل الموت لن يصير شيئا اخر سوى ذلك العبور الحتمي لما هو كائن الى ما سيكون . بهذا المعنى لا يمكن التاسيس لمعنى الحياة /الكينونة خارج حضور حقيقة الموت ؛ لذلك لن نستطيع مهما حاولنا تفكيك جدلية الموت /الحياة ولا عزل طرفيها عن بعضها البعض !!!
ان عزاء تعذر تجربة الموت الشخصي تمتلؤ من حيث هي فارغة بالام موتات الغير ! اذ برغم ذلك يمكن لكل منا ان يعايش اثر فقدان من يحبهم و ان يتاثر الى هذا الحد اوذاك بذلك الحدث السيئ !
ان الحياة ليست سوى سرابا كاذبا لا نكتشف حقيقته المحبطة الا حينما نقف منقادين رغما عنا لمواجهة جبرية الموت ؛ و في مقابل هذا الوهم المؤقت ( الحياة ) يكون الموت الحقيقة الوحيدة القابعة في دواخل وجوداتنا الممهورة بالغرور و النسيان!!!
الموت، الفناء، الزوال، الرحيل ، الغياب ، العدم ... انها اكثر الكلمات بؤسا في هذا العالم فخلفها تكمن قصص ضياع ماساوية بالجملة !
ان الموت ليس في حد ذاته سوى حدث تافه ، لكن مضامين الالم و الفقدان و الذكريات و مشاعر الحزن لا يمكن ان تقارن في عظمتها حتى بما هو اقرب منها !
لعلنا لا نستبصر تفاهة فكرة المصير وعبثية الحياة بعد الموت ، ما لم نتالم بعمق لفقدان احبائنا دونما امل في ملاقاتهم ثانية .
رغم كل فلسفات الموت سيظل الانسان غير ابه بنهايته الى ان يحين دوره في حينه ، وسيظل ايضا الكائن الوحيد الذي يعرف الموت ، والذي بامكانه وعي الموت انطولوجيا و الشقاء بتكرار اسئلته المؤرقة الى حد الانتشاء !!
#نجيب_المغربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟