|
حكايات من المسطبة / 6
محمد البيتاوي
الحوار المتمدن-العدد: 2040 - 2007 / 9 / 16 - 06:39
المحور:
الادب والفن
انتفاضة
لم تستطع غيوم كانون الداكنة من حجب أشعة الشمس من التسلل إلى القلوب التي تاقت لتنسم طعم الحرية.. كان ثمة فوران قد بدأ يتحرك في القلوب المحزونة المتألمة.. لم تعد كلمات الصالونات الفاخرة تملك نفس الصدى في النفوس.. كان هناك دبيب من نوع ما يجري في الشرايين التي باتت مهددة بالانفجار لاحتقان الدماء الحارة فيها.. والشمس حائرة لا تدري إن كان عليها أن تبدأ شروقها من الغرب أم أن الوقت مازال مبكراً على العلامات الكبرى..
لقد ملّ الأطفال من اللعب في الأزقة الضيقة، والحارات، والساحات، التي كانت تتكدس بأجسادهم الناعمة الطرية، وبأجساد الكهول الذين ينتظرون النهايات، والعجائز الذين لا هم لهم إلا إشتكاء اليوم إلى الأمس، والترحم على ما كان.. نعم لقد ملْ الأطفال لعبة العسكر والحرامية.. لم تعد لها في نفوسهم تلك المتعة التي كانوا يتذوقونها، ولا ذلك المعنى الذي كانوا يستشعرونه بعقولهم الصغيرة بتجاربها، والكبيرة بوعيها واستشفافها للحاضر والمستقبل.. كيف يمكن أن يصدقوا بأن العسكر يطاردون الحرامية، وهم يرون في العسكر من حولهم وجوهاَ لحرامية، سرقوا الأرض والعرض، وداسوا كرامة الآباء والأجداد بنعالهم التي حاولوا أن يصنعوها من جلودهم.. فلا تكاد تمر ليلة دون أن يستيقظ بعضاً منهم على جلبة الجنود المدججين، بالسلاح وهم يقتحمون المخادع، لينتزعوا دفء فراش أبائهم وإخوانهم، فينمو خوفهم وجزعهم ورهبتهم في أعماقهم.. ولكن متى أعفى الجلاد الأطفال من قهره وظلمه وعسفه؟
كانت النفوس تمتلئ بالمرارة والحسرة وهم يرون أنه ليس باليد حيلة.. كان يبدو لهم أن الأهل والخلان قد نسوهم أو تناسوهم، وانشعلوا عنهم بتصريف أمور حياتهم.. فباتت اللحظات الحُبلى بالقهر والعسف، قريبة من الانفجار..
أن تَنسى أو تُنسى، فهذا بحاجة إلى تدريبات عقلية، وقدرات ذهنية، لا يملكها الكثيرون.. ولكي تبقى حاضراً في الوجدان لا بد من أن يكون الفعل القائم من صنعك..
وها هم الأطفال الذين ملّوا لعبة العسكر والحرامية، قد بدأوا بوعيهم، ولا وعيهم، في البحث عن شيء آخر، يُذهب المرارة من حلوقهم، ويمدهم بطاقة تنتزع الخوف من قلوبهم.. شيء ما قادر على نقلهم من مرحلة إلى مرحلة.. إنهم يحاولون أن يجدوا الوسيلة التي تُعَبِّر عن نضجهم المبكر.. لقد سئم الكثيرون منهم ضَرْب الجنودِ لهم على أقفيتهم، في غدوهم ورواحهم، دون سبب محدد إلا من شهوة الاستبداد والقمع، وسادية تقعي في الأعماق المسكونة بالكبر والأنفة، وتفاهة الآخرين. فكم إحمرت أقفيتهم بلا سبب إلا من شهوة عدوهم لممارسة القهر والظلم.. فالعدو يتلذذ بأشعة القهر والظلم المنبجسة من عيون الأطفال المنكسرة.. إن السادية في أعماقه أقوى من خضرة عينيه المسكونة بالجستابو. وانسياب الكلمات الناعمة من بين شفتيه، أقرب إلى فحيح أفعى الكوبرا التي تنفث سمومها في الأجساد المبتلة بنقع العنف. فيَدٌ تشكو ظلم الدهر لها، ويد تنبش في أحشاء الأطفال لتنزع الحلم المغروس من جذوره في الأعماق.. ولكن... كان الأطفال يرون في تصرفات الكثيرين من أبائهم لوناً من الإذعان للظلم والقهر.. فتنكفيء لذلك نظراتهم المليئة بالحسرة والألم، ومرارة لقمة الخبز.. ورغم ذلك فإنهم يرونهم يموتون ليتسلى الجنود بدمائهم.. إنهم يرون بأم أعينهم بأن الإذعان للقهر والذل لم يعفهم من الموت بدم بارد.. وكل ما يستطيعون الحصول عليه بيت عزاء، وخبر ينشر محشوراً في الصفحات الداخلية للصحف، لا يقرأه إلا الذين يبحثون بلا طائل عن مكان للعمل- وما أكثرهم في بلادنا – وسط صخب ووهج الإعلانات، التي تروج لمنتوجات لا تقدر إمكانياتهم المحدودة أن تصل إليها..
نظر بعضهم إلى أصابع أيديهم الطرية.. تأملوا أظافرهم.. نكشوا بها الأرض.. اكتشفوا بأن تلك الأظافر، يمكن أن تكون معاول رغم الضعف الكامن فيها.. والأهم أنهم اكتشفوا بأن المرارة والقهر في نفوسهم، هي التي تمد أظافرهم بقوة النكش.. أحسوا بأنهم قادرون على تفريغ ما في نفوسهم من مرارة وقهر بالنكش.. فلم لا ينكشون السد.!؟ المناعة التي يتوهمونها فيه، ما هي إلا من صنع الخوف والجزع والإرهاب.. يسمعون آباءهم يرددون: "ضربة على الرأس، وضربة على الحافر" والعدو يردد: "ادفع قرشاً تقتل عربياً.. ولا تضرب إلا على الرأس حتى يلعقوا المداس".. مقوله نجحت في زرع الخوف الذي جزأ الموت.. لقد نجحت في دير ياسين وكفر قاسم، وأسرى سيناء، ولكنها فشلت في صبرا وشتيلا.. والعدو يسعى بكل جهد لديه حتى لا تفقد تلك المقولة بريقها، في تغذية الخوف والرهبة، وزخم الظلم.. يبدوا وكأنهم يعشقون القتل، ويتفننون في ابتداع وسائل جديدة له. ولكن الصبية أدركوا معنى اللعبة قبل الكبار.. "هي قتله.. مشيت جنب الحيط، مرغت وجهك في التراب.. بدَّك توكلها.. وما دامت قتله خليني أعمل إللي نفسي فيه قبل ما أوكلها".. وتطورت في الأعماق: "ما بقطع الرأس إلا إللي ركَّبها"..
فكان أن أدرك الصبية قبل الكبار مكان الخلل في السد المرعب الذي يقف في طريق انطلاقتهم، ويئد حريتهم.. لقد سقطت من قبل مقولة: الجيش الذي لا يقهر، والآن جاء دور السد.. حددوا مكان الحصوة الصغيرة التي كانت تسند صخرة السد الرهيب. وبدأوا يتحينون الفرصة لإزاحتها عن موضعها، وليكن بعد ذلك الطوفان.. "وأكثر من القرد ما سخط الله"....
وبدا وكأن الأمور تسير دون تخطيط أو تنظيم مسبق.. فقط، كان هناك هدير وغليان يعتمل في النفوس، فتجيش به الأمعاء، فيفور الغثيان في النفوس.. ويبدو أن الجلاد قد استمرأ هجوع فريسته، فظن بأنه قد سلبها إرادتها، فتعامل معها في أنفة واستعلاء.. محقراً وجودها ذاته.. شتم، ضرب، قتل، سلب، اغتصب، ظن أنها باتت جاهزة لتلقي أي حكم قد يصدر بحقها.. بات على قناعة بأن لا حول لها ولا قوة.. ومن لاحول ولا قوة له، لا حق له، حتى ولو اقتصر ذلك الحق على التألم والتوجع.. فإنه ليس من حق الفريسة أن تتألم أو تتأوه..
قديماً قالوا "القشة التي قصمت ظهر البعير". وضحك نفر ليس بقليل..
"أيمكن أن تقصم القشة ظهر البعير الذي يبدو جباراً باجتيازه متاهات الصحراء"؟
ولكن مع تعاظم الكبت والقهر في النفوس، كان لا بد لتلك اللحظة أن تُوْلَد من رحم الغيب.. فتجيش معها النفوس بما حملت، لتلقي عن ظهرها ما باتت تنوء بحمله..
تخيلوا بأن السد كان منيعاً كالسد الذي ما زال يحجز قوم يأجوج ومأجوج.. ونًسوا أو تناسوا بأن ذلك السد الحديدي سوف ينفجر يوماً.. أُنْذرنا بأن قوم يأجوج ومأجوج سوف يخرقونه، ويجتاحون البلاد كالجراد، ليأتوا على الأخضر واليابس، فتقول النبوءة بأن أولهم سوف يظفر بشربة ماء من بحيرة طبريا، ولكن آخرهم، لن يجد الماء حتى ليبل ريقه.. الغاصب توهم بأنه ذكي ومتميز بما فيه الكفاية ليبقى سيد الموقف.. اقنعوا أنفسهم بأنهم شعب الله المختار، ولكن يد الله سوف تجعل منهم شعباً منهاراً لانهيار الذمة والخلق والضمير فيهم.. وهيهات هيهات، فإن الأطفال فهموا اللعبة.. فهموا قانون اللعبة.." لو دامت لغيرك لكان ما وصلت إلك".. واشتعل فتيلها من شواطيء غزة، وحتى سهول جنين.. حاولوا أن يقدموا الحادث على أنه حادث سير عادي.. ولكن ضخامة المجزرة، جعلت الصدور تتفجر، وتفجر معها ما حولها..
#محمد_البيتاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات من المسطبة / 4
-
حكايات من المسطبة / 2
-
حكايات من المسطبة / 1
-
بعض من ألم وعبرة
-
هذيان خارج النص
-
حواريات في الحب
-
مقطع من رواية : اوراق خريفية
-
الصوت والصدى
-
بقايا من ثمالة
-
قصص قصيرة
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|