كان انتصار الثورة الروسية في تشرين الأول/ أكتوبر 1917، ونهوض الاتحاد السوفياتي، حدثاً تاريخياً عالمياً، مباغتاً وخارقاً وجديداً كل الجدّة. فهو بدا إيذاناً بنهاية عصر الاحتكار الربوي العبودي العالمي وبداية عصر الشعوب والتكافؤ والحرية والتقدم. لقد عنى نهوض الاتحاد السوفياتي إمكانية تغيير العالم، وهي الإمكانية التي أثارت انتباه واهتمام الشعوب المعذّبة المستعبدة قاطبة، التي كانت مجرّد وقود في حروب أطراف رأس المال الدولي، فقد سمعت الشعوب لأول مرة خطاباً مختلفاً يتضمن قدراً عظيماً من الجدّية والثقة، وهي التي اضمحلّ صوتها الوطني القومي من جهة، وخذلها الصوت الأوروبي المخادع، المتبجح كذباً بشعارات الأخوّة وحقوق الإنسان!
الصدق والنزاهة سياسة رسمية !
كانت السمة الطاغية في خطابات الإدارات الرأسمالية وفي سياساتها هي الكذب والخيانة، فأوروبا، وخاصة بريطانيا على سبيل المثال، وعدت العرب أثناء الحرب العالمية الأولى بأجمل الوعود، وزعمت صداقتهم، وتعهدت بتحقيق أمانيهم مقابل مساعدتها في تلك الحرب، لكنها كانت تعدّ طوال الوقت لاستباحة أراضيهم ونهب ثرواتهم وإقامة الكيان الصهيوني على أرض بلد من بلدانهم! وها هو طرف ثالث يظهر فجأة، فيقيم نظاماً جديداً مختلفاً، ويعلن انحيازه بالكامل للشعوب المستضعفة واضعاً تحت تصرفها إمكاناته، ويفضح بلا تردّد ما خفي عليها من مؤامرات تحاك ضدّ وجودها من أساسه. فكان نشر الوثائق الرسمية السرّية التي فضحت خيانات الحكومات الأوروبية للعرب، والخطط الرهيبة الموضوعة لتقسيم وتقاسم بلادهم، عملاً عظيم الأهمية، صوّب أداء الكثيرين من العرب، وأعطى اتجاهات نضالهم السمت الصحيح على مدى العقود الطويلة التالية.
لقد فعل الاتحاد السوفياتي ذلك من تلقاء نفسه، من دون أن يطالبه أحد بذلك، غير منتظر من وراء عمله جزاء و لا شكوراً، وغير آبه لما سيترتب على فعله من تأجج نيران الحقد الاستعماري ضدّه، فكان لموقفه ذاك أثره الواضح المبكر في بلادنا التي حفظت له هذه المأثرة، وأدركت أهمية صدقه ونزاهته، وأقامت معه في معظمها أوثق الصلات.
اهتمام واسع بالنظام الجديد
لم يثر نهوض الاتحاد السوفياتي انتباه واهتمام الأوساط الثقافية ذات النزعة الماركسية فحسب، بل أثار أيضاً انتباه واهتمام أوساط واسعة في بلادنا، من الوطنيين والقوميين، والمسيحيين والمسلمين الأتقياء، فهو حظي بتفهّمهم وتعاطفهم وباستعداد الكثيرين منهم لإقامة صلات نضالية مباشرة معه، سواء كهيئات أم كأحزاب أم كدول. وعلى الرغم من خبث وشراسة الدعايات الاستعمارية ضدّ الدولة الاشتراكية الفتية، التي تضمنت وأشاعت كل ما من شأنه إثارة ذعر المواطن العادي، كقضايا الإيمان والإلحاد والمرأة والرجل والملكية الخاصة.. الخ، فإن العرب عموماً، بكل اتجاهاتهم السياسية ومذاهبهم الدينية، لم يأبهوا لتلك الدعايات، وسخروا منها، ونظروا إلى الاتحاد السوفياتي باحترام، كقوة عظمى، جبارة ومهيبة ومستعدّة على الدوام لنصرة الشعوب المظلومة.
دولة الماركسية أم ماركسية الدولة؟!
ولكن، لقد تكرّر ما يحدث في الحياة وفي التاريخ البشري عادة، حيث الثورة عندما تتحوّل إلى دولة تصبح دائماً على حق في نظر الكثيرين من أبنائها ومن أصدقائها، ولو على حساب العقيدة! وهكذا، عندما صارت الدولة السوفياتية تلتف على بعض المبادىء الماركسية بما يتفق مع مصالحها، كانت تحظى غالباً وعموماً بمصادقة سريعة وتأييد واسع في الداخل والخارج! وعلى هذا الأساس شهد العهد السوفياتي، على مدى سبعة عقود من السنين، كيف يمكن أن يكون ماركس على حق، ولينين على حق، وأيضاً ستالين على حق، وكذلك خروشوف وبريجينيف وحتى غورباتشيف! لقد حدث ذلك بعد وفاة لينين، ومنذ بدأ التحوّل من دولة الماركسية إلى ماركسية الدولة، وصارت الأولوية للنظام والسلطة قبل المجتمع، وللسياسة قبل الثقافة، وللمركزية قبل الحرية!
الأسباب ليست داخلية فقط
غير أن الإصرار بقي عنيداً صارماً، مؤكداً على عكس ما يحدث، وأن كل شيء يسير على ما يرام تحت راية الماركسية، أما المصادقة والتأييد الواسع، بل المبالغ به إلى حدّ التعصب الوثني الأعمى، فقد تواصل وتعاظم، ويا للعجب، حتى لحظة الانهيار النهائي!
ولكن، يجب أن لا يغيب عن البال أن تلك التحوّلات السلبية، في جميع المراحل، لم تحدث بفعل الانحرافات الداخلية فحسب، بل بفعل الضغط والحصار الخارجي الرهيب بالدرجة الأولى. فالنظام الربوي العالمي بكل جبروته وطغيانه ما كان ليغفل لحظة واحدة، وما كان ليوفر فرصة مهما كانت ضئيلة وتافهة، من أجل إلحاق الأذى بالدولة الاشتراكية وإحكام الحصار ضدها أكثر فأكثر، وهذا أمر طبيعي وبديهي، حيث نجاحها وانتصارها في الداخل قبل الخارج سوف يضعه قطعاً على طريق الاضمحلال ومن ثم الزوال.
توضيحات لينين الصائبة والهامة
لقد شرح لينين منذ البداية، في المؤتمر الاستثنائي السابع للحزب، أن الانتقال الذي حدث في روسيا بمثل تلك السهولة، والانتصارات التي توالت خلال الأسابيع والأشهر التي تلت الثورة، تعود إلى سبب واحد، هو الظروف الدولية التي حمت الثورة مؤقتاً، حيث القوى الاستعمارية كانت منشغلة بحربها العالمية الأولى. وقد انتقد لينين أولئك الحزبيين، من المثقفين السوبرمانات، الذين راحوا يبشرون بقرب التغلب على النظام الاستعماري العالمي، قائلاً: إذا نظرنا على الصعيد العالمي التاريخي، فإنه لا مجال للشك بأن الانتصار النهائي لثورتنا ميؤوس منه فيما لو بقيت وحيدة، ولم تنهض حركات ثورية في البلدان الأخرى. إن خلاصنا يتحقق بثورة تشمل اوروبا كلها! أضاف لينين: ولكن لا يجوز عقد الآمال على هذا، بل يجب الاستعداد لمواجهة مصاعب خارقة وهزائم محتومة لا مناص منها، لأن الثورة في اوروبا لم تبدأ بعد، رغم أنها قد تبدأ غداً! وإذا تأخّر ميلاد الثورة الأوروبية فإنّ أشدّ الهزائم وطأة سوف تنتظرنا!
بالطبع، كان لينين يعني بالهزائم أيضاً ما يمكن أن يطرأ على بنية الدولة من تحوّلات سلبية، وهو عين ما حدث، فالثورة، أية ثورة، وخاصة التي تمتلك أفقاً إنسانياً أممياً، تبقى عرضة لأعظم الأخطار الخارجية في سنواتها الأولى، لكنها في الوقت نفسه تكون غاية في القوة وقادرة، غالباً، على إفشال محاولات إسقاطها بعدوان عسكري أو بانقلاب داخلي. لكنها، في ما بعد، تصبح عرضة لخطر السقوط ذاتياً، تدريجياً على مدى طويل، عبر فقدانها شيئاً فشيئاً لخصائصها وأفقها، وانكفائها إلى دولة همها الأول مجرّد الدفاع عن وجودها، وإن هي واصلت التأكيد على المبادىء خلافاً للحقيقة، والتأكيد على تنامي المدّ الثوري بينما هو يضمحل في الواقع!
التجربة التاريخية والنتائج العظيمة
والحال، أن التجربة الإنسانية التاريخية ناءت تحت ضغط أثقال وأعباء عدّة، منها جسامة الإنفاق العسكري والأمني الدفاعي، الذي بلغ ثلاثة روبلات من كل خمسة روبلات! لقد كانت تستهلك من جسمها، بينما المستعمرون يستهلكون أجسام الأمم الأخرى ويشربون دماءها! وكان هناك الانكماش في التطور التقني والإنتاج النوعي، بسبب انعدام المنافسة التي من دونها تتوقف روح المبادرة الإبداعية إلى حد كبير، وبسبب العجز عن دخول السوق الدولية المحتكرة دخولاً كافياً ومجزياً! وكان هناك ثقل البيروقراطية الحاكمة وجمودها ووقاحتها، وهو ما أنهك روح المجتمع وكتم أنفاسه ! وعلى الجبهة الأخرى كانت هناك خيانات الاشتراكية الدولية منذ البداية، وارتكابات أشباهها في الداخل والخارج، وخاصة الصهاينة المتوارين، إضافة إلى تواصل الحصار الإمبريالي وتعاظمه، وهو الحصار الذي ما كان ليتوقف ولا للحظة واحدة على جميع جبهات الحياة! كل هذا وغيره دفع بالتجربة العظمى إلى الانهيار البطيء الطويل المدى.
غير أن انهيار التجربة لا يمكن أن يحجب عن أعين البشرية تلك الإنجازات والنتائج العظيمة التي حققتها ثورة أكتوبر، ومنها:
- أولاً، انفرادها بإدارة ما يعادل سدس مساحة الأرض، محدثة بذلك ثغرة خطيرة في الشبكة الكلية للنظام الربوي العالمي، ومقتطعة من السوق الرأسمالية الدولية رقعة واسعة وعدداً كبيراً من المنتجين والمستهلكين.
- ثانياً، إقامتها مجتمعاً اشتراكياً متميزاً عن المجتمع الرأسمالي العالمي بأغنيائه وفقرائه، ومتمرداً على العلاقات الظالمة التي تتحكم بشعوب العالم أجمع، وذلك بتنظيمها الإنتاج على أساس الملكية العامة لجميع وسائل الإنتاج ولجميع الثروات العامة في إطار الدولة الواحدة.
- ثالثاً، نهوضها كإرهاص تاريخي عظيم، مبكر، دلّل بما لا يقبل الجدل أن تغيير النظام الرأسمالي الربوي العالمي أمر ممكن، وأن انتصار الاشتراكية كنظام عالمي بديل أمر ممكن أيضاً.
- رابعاً، نجاحها في ما بعد، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، في تطوير جهازها الحربي إلى مستوى الدرع النووي الذي لا يمكن أن يقهر من دون أن يقهر بالمقابل مراكز النظام الإمبريالي ويلحق بها كارثة ماحقة.
- خامساً، تقويتها لعزائم الشعوب، وشدّ أزرها، وإلهاب حماستها، وإنعاش كفاحها بالأمل والثقة والدعم على مدى عقود طويلة من السنين.
إنها بعض المآثر التاريخية الخالدة لثورة أكتوبر العظيمة، التي لا يمكن أبداً نسيانها أو تجاهلها.