أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مازن رفاعي - رسالة أم لولدها















المزيد.....

رسالة أم لولدها


مازن رفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 2027 - 2007 / 9 / 3 - 09:45
المحور: الادب والفن
    


تسع عشر سنة مرت على زواجي. تسعة عشر ربيعا من عمر ابنتي سارة. تسعة عشر حولا وأنا بعيد عنها. قبل أيام من عيد زواجي التاسع عشر هاتفتني وحادثتني. قالت لي:

"اشتقت إليك، أريد أن استرجع معك أيام زمان، أريد أن استمع إلى أحاديثك، أريد أن المس بأناملي وجهك واقبل وجنتيك، أريد أن اشتم رائحتك."

أغلقت السماعة ودموع الشوق في عيني تبحث عن مهرب، أبحرت في محيط الذكريات مبتسما حينا، عابسا أحيانا. هي اليوم تحتاجني وتريد أن تراني. دعوتها غريبة فوالدتي لم تعتد أن تهاتفني، وأحيانا تمر شهور لا تتحدث فيها معي. اعتادت أن اتصل بها بين الحين والأخر، فقد كانت تخطر على بالي في كل مرة يعاندني بها سامر، فاذكر كم كنت قاسيا حين كنت أعاندها، فأخابرها لابث لها محبتي واطلب دعواتها واستمع لصوتها وهي تدعو لي بالرزق والتوفيق.
بعد أن أغلقت السماعة انتابتني الشكوك وحلقت في سماء مخيلتي. فاتصلت بأختي المتزوجة أشاركها شكوكي. ومن ثم اتصلت بابنة عمي وابن خالتي الجميع قالوا :
"تعلم أنها مريضة وكبيرة السن. سنعلمك حين تحين الساعة."
لاحقا علمت أنها وفي أيامها الأخيرة خاضت معركة غير متكافئة مع الألم، حاربته بصمت. قالوا لي انه في لحظاتها الأخيرة كانت تعارك ملاك الموت، تريد أن تمنع عنه أغلى ما تملك. وكانت تواجه الموت بسبابتها موحدة ربها. واخبروني أنها لم تزعج أحدا برحيل روحها، فقد استسلمت بصمت في معركتها الخاسرة حين قبلت أن تستبدل الألوان بلون واحد هو لون الظلام. لم تزعج أحدا، فقد أغمضت عينيها وغادرت راسمة على وجهها علامة الرضا والاطمئنان. قالوا لي أنها كانت تبتسم موتا كما لو أنها نائمة وتحلم أحلامها السعيدة . أحلام رؤيتك ومعانقتك وضمك كما كانت تفعل حين ربتك صغيرا . لم تنساك. صورتك بجانب سريرها كانت آخر ما وقعت عليها عيناها قبل أن تغادر.
الحزن صديق مخلص رافقني في دروب حياتي ولم يتخل عني حتى في أوقات الفرح. دموعه دائمة الهطول على حقول الحزن المزروعة على الخدود ترويها وتبقيها نضرة. يشع الحزن من النفس ومن القلم ومن الوجدان.
اليوم تحول كلي إلى منبع للأحزان، الحزن أصبح سيدا سيطر على كل جوانحي وانفجرت الغصة دموعا، وتحولت الدموع إلى انهار تحطم كل السدود التي تعترض طريقها. اليوم استلمت آخر رسائلها، وصلتني بعد أشهر من وفاتها كتبت فيها:
ولدي الحبيب:
ربما تكون هذه رسالتي الأخيرة لك، إذ أني أعتقد أن الوقت قد آن للفراق. ولكنني أودع حياتي وأنا سعيدة بأنك كنت أغلى إنجازاتها.
في الآونة الأخيرة كبر اشتياقي لك، وددت فقط أن أودعك، وان أطبع قبلتي الأخيرة على خدود أغلى ما ملكت، فهاتفتك آملة في آخر وصال، استمعت إلى صوتك كآخر لحن، وانهارت دموعي حين علمت أن مشاغلك وظروفك لن تسمح لك بالعودة إلى جذورك، وان أمنيتي الأخيرة لن تتحقق. يومها حزنت وبكيت، ولكن في اليوم التالي استيقظت وأنا اشعر بالرضا لأنك لن تأتي. حدثت نفسي بأنك لن تأتي لأنك تحبني، ولا ترغب أن تراني في آخر أيامي ضعيفة وعاجزة، فقد اعتدت على أن أكون قوية معطاءة سندا لك ولإخوتك وقت الشدائد. واعتدت على أن أرعاكم لا أن ترعوني.

كل شيء لم يعد كما كان يا ولدي، فأنا أتحرك بصعوبة، وأقوم بمشقة، فالزمن نال مني، والكهولة سيطرت على أعضائي كلها، إلا قلبي فلازال شابا ينبض بحبك، منذ أن حملتك فيه حين كنت تقطن في أحشائي.
من على فراش الموت اكتب لك لأقول، بك سأقهر الموت، ولو غاب جسدي فأنت ستظل امتداد لبقائي، وعبرك أنا سأستمر فقد أورثتك خلاياي، ومنحتك ذخيرة معرفتي.
هكذا نحن بني البشر حين نكون صغارا نسابق الزمن لنكبر، وحين نكبر نتمنى لو نعود صغارا، نضيع صحتنا لجمع المال ونصرفه لنستردها ثانية.

اكتب لك يا ولدى لا أقول ما اعتدت سماعه منذ نعومة أظافرك، اكتب لأخبرك أني احبك كما تحب كل أم ولدها. يا ولدي لن تستطيع أن تجبر أحدا على أن يحبك، ولكنك تستطيع أن تجعل نفسك محبوبا، تستطيع أن تطلق على نفسك ما تشاء من صفات وألقاب ولكن ما يلتصق بك هو ما يعترف به الآخرون.
اعلم انك في مغتربك تحارب ساعيا لكي تصبح غنيا، لذلك أقول لك: الغنى هو غنى النفس، فالغني ليس من يملك أكثر بل هو من يحتاج اقل. الأسد لم يصبح ملكاً للغابة لأنه يزأر ولكن لأنه عزيز النفس، لا يقع على فريسة غيره مهما كان جائعاً يتضور.
لا تغرك يا مازن الحياة فهي قصيرة مهما طالت، والدار التي تسكنها بعد الموت هي التي تبنيها قبله. اكتشفت يا بني أن أعظم فضيلة في الحياة.. هي الصدق. المتحدث الذي لا يسمع ثرثار، والمعلم الذي لا يتعلم جاهل، أما الإنسان الذي يأخذ دون أن يعطي، فملعون ملعون. لا تتوسل لنذل، يذل ويحقر. لا تتشمت ولا تفرح بمصيبة غيرك.
بعين النحل تعود أن تبصر فلا تنظر للناس بعين ذباب فتقع على ما هو مستقذر. لا تصدق كل ما يقال ولا نصف ما تبصر. لتعلم أنه في البشر نسخ من الحرباء تلون جلدها بلون المكان. إذا أردت أن تكتشف صديقاً سافر معه، فالسفر يسفر عن الأخلاق والطبائع، وإذا ابتلاك الله بعدو، قاومه بالإحسان إليه. وحينما يثق بك أحد فإياك ثم إياك أن تغدر. وإذا قذعك الناس بالنقد، فافرح فلا يُرمى إلا الشجر المثمر. لا تحاول إصلاح الكون فبفقدان الشر والكذب لن نصبح نحن شرفاء ومميزين. واعلم انه إذا اشتد سواد السحب، فان المطر بات قريبا. الأطفال يا ولدي ثمار الحياة، إذا لم تحمها حمضت وعطبت، وأفسدت وأضرت.

قال الحكماء: اتركوا الأولاد للأمهات، ولكن لا تتركوا الأمهات للأولاد، لأنه من العجيب يا ولدي أن تطعم الأم سبعة أولاد. ولكن سبعة أولاد لا يطعمون أماً. ختاما أرجو من الله العلي القدير أن يحفظك ويقيك من كل شر، وان يجعل لك في كل خطوة طريقا للسلامة، وان يرزقك القناعة فهي أعظم الكنوز. وأوصيك خيرا باخوتك فأنت قطعة منهم وهم قطعة منك، ورحم الله والدك فقد كان أبا عطوفا وزوجا صالحا، وإنا لله وان إليه لراجعون .

أمك

اليوم انفجرت ينابيع أحزاني. الغصة تحولت إلى انهار دموع. اليوم عرفت ما معنى كلمة أم. لقد رحلت وتركت لي آخر دروسها في الحياة. مع كل جملة في رسالتها تنهار دمعة وزفرة وآه. دموع الحزن تمتزج مع دموع الندم ودموع الخوف ودموع الحنين .

سامحيني يا أمي فأنا لم أكن ما تودينه. اغفري لي تقصيري، وارحمي ضعفي، واقبلي ندمي، فقد كنت جاحدا ناكرا للمعروف. لقد أقرضتني ولم استطع أن أرد الدين.



#مازن_رفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موعد مع الخيانة
- ابو المجاري


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مازن رفاعي - رسالة أم لولدها