|
الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2019 - 2007 / 8 / 26 - 08:42
المحور:
الادب والفن
يتخذ مجال العلاقات النصية شكولا جديدة ، في الكتابة الجديدة الآن بحيث تنفتح الحدود بين التأويل ، و النص ، أو الكتابة و الأداء أو العرض ، و الوجود الواقعي و نشوة الفوضى و الهذيان ، و الوحدات السردية و العرض المكثف و المقطع للصور المتلاحقة ؛ هذه الكتابة التجريبية لا تبدأ من الصوت المتعالي المنتج لنص ما ، أو لرؤية ، أو خطاب فني ذي هوية ، لكنها تكتسب هويتها الإبداعية الطيفية من قوة الصوت الآخر / الملتبس أو المتحول عن ذاته الأولى في النص / العرض الجديد ، فنحن أمام صوت مختلط من قوة الظلال و الأطياف و كتابات الفكر و لوحات الفن التشكيلي ، و النصوص معا ، ضمن كتابة تبحث عن زمن / وجود مفقود يأمل أن يتحقق في لعب الظلال و فوضاها الجميلة ، كما تكشف هذه الكتابة الجديدة عن غرائزية الحماسة المتجذرة في بعض الحكايات الشعبية المختلطة بواقع مفكك تنفصل وحداته و تتناثر لتتداخل مرة أخرى في زمن آخر هو زمن الظل الذي يولده علاء عبد الهادي في تجربته الجديدة ( مهمل تستدلون عليه بظل ) الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية – يوليو 2007 – هذا الظل ينبثق من فضاءات تقع بين السيرة و الأسطورة و لعب الواقع و هذيانه ، و التأويل المبدع لنصوص الفكر و الفن و الأدب في سياق تكوين الظل المهمل في النهاية لا الصوت المتكلم ، فعلاء عبد الهادي يبني سيرة مضادة مدمرة للأصل المحدد من خلال بحثه عن صوت مفقود لهذا الأصل ، و كأنه يعيد قراءة مدلول الصوت من خلال فقدانه لذاتيته ، باتجاه كون انفجاري تداخلي مفتوح . و من جانب آخر تمثل التجربة قراءة أخرى لمدلول القراءة الضالة المبدعة التي يؤول فيها المبدع سلفه بصورة مضادة ، رغم ظاهرية استعادته الكاملة من الماضي ، و بهذا الصدد يرى هارولد بلوم أن القصيدة الجديدة إنسان آخر ، أو أب لولادة المرء الثانية ؛ لكي يحيا يجب أن يؤول الأب بشكل ضال من خلال سوء القراءة المصيري ، أي إعادة كتابة الأب ، ذلك الصوت الآخر داخل المرء الذي لا يمكن أن يموت لأنه نجا من خلال الكتابة الجديدة ، في الوقت نفسه يحيا اللاحق في الميت المستعاد ( راجع – هارولد بلوم – خريطة للقراءة الضالة – ترجمة عابد إسماعيل – دار الكنوز الأدبية – بيروت 200 ص 25 و 26 ) . لكن تجربة علاء عبد الهادي تمسك باللحظة الشعرية في الصوت الفكري لتستعيدها في سياق ظل ، صوت لم يكتمل ، أو هو مؤجل دائما . إنها استعادة في سياق الذات لا الذات المؤولة ؛ فقد صارت الذات مجالا لعرض الوحدات و الأشياء و الأصوات الشعرية للكتب ، و القيم الشعبية اللاعبة لينفك حدث الضخامة المصاحب لتكوين المرجع الثابت ، و من ثم قد نجد ملمحا لعودة الموتي ، و هي أعلى درجة من القراءة المبدعة الضالة عند بلوم ، مجاورة لاستعادة مضادة ، أو تشكيل لأطياف تتجاوز الواقع و المعرفة التي أنتجت العمل الفكري معا ، تعمل في سرد مجرد تماما من الصوت ، و الطابع الشخصي للسابق و اللاحق معا . في العروض الخمسة للديوان ، المصاحبة للتأويل المبدع لكتب ، من الفكر و الفن و الأدب تتراوح الإيحاءات ، و الصور المقطعة السريعة ، و الوحدات السردية المؤدية دونما فاعلية محكمة من سارد أو شخص بين التجزؤ و الانشطار ، و من ثم قابلية التداخل الكوني في الطيف ، ثم الدخول في عمق تراجيديا الوجود ، و رصد الخراب الكامن في وحداته ، ثم ذروة التدمير ، و الخراب ، ثم الصمت ، و أخيرا مرح الظل ، و تكوين الأجنحة التي تخلصت للتو من العالم القديم . في العرض الأول نرى جنديا يجلس على الرصيف ، و لقطة للمتحف المصرى ، و كنيسة العذراء ، ثم لقطات من الحرب ، و قتلى يجهلهم الجنود ، و صوت انفجارات ، و امرأة عارية تجري ، و حلقة للذكر ، و أسرة ثرية ، و طفلا يأكل كسرة خبز ، ثم نسمع جزءا من أغنية لاموني اللي غاروا مني لبوشناق . هذه العوالم المتعارضة جذريا يجمعها فضاء لا يستطيع تكوين معرفة عن نفسه ، و عن هذه العوالم ، و من ثم فهو يتخلى مختارا عن الفاعلية ، و الإطار باتجاه العرض المقطع ، المجزأ الذي لا يسعى للاكتمال ضمن سياقه الأول أبدا ، لكنه يندفع باتجاه التلقي ، لما هو فريد فيه ، و يقبل التحول ، أو التخييل الفني ضمن تكوينه الحرفي ، العوالم المتناقضة تدمر نفسها ذاتيا ، و تستنفد طاقة التدمير في خلق سياق يتجاوز انفصال الكيانات ذات الضخامة الزائفة . عن رصد مظاهر الخراب في العرض الثاني يقول : " أسرة فاحشة الثراء / تستحضر الفرح / مسنون و شيوخ طاعنون في السن يقطعون التورتة / لكنهم لا يدعون الأبناء / لقطة كبيرة لعجوز / لقطة متوسطة للمائدة / لقطة كبيرة جدا لفم كريه دون أسنان .... " . الفرح الشكلي هو عمق المأساة ، خراب التكوين يحيا من خلال السرد المجرد من طاقة الوجود ، و كأن العرض للموتى في سياق ميكانيكي شمولي يحتفي بالقيمة العليا ، للإنسان و يسقط في تحلل التكوين ، مأساته الذاتية حين يستسلم لآلية الأجزاء المشبعة بمرجعية تنجز فراغا قاتما من داخل إرادة التحقق ، فالصورة تستبدل التكوين ، و تعيد قراءته وفق موت آلي مكرر ، يستبق الحضور الكلي المشبع بالقداسة في عدم يشبهه ، و يخيله في اللقطة قبل اكتمال الحضور . و يعلو إيحاء التدمير ، و العدم في صخب فني في العرض الثالث ، فنرى مشرحة ، ووجها يبتسم ، و لوحة لماجريت " لقطة عامة متوسطة لمشرحة / لقطة متوسطة لوجه أبيض مبتسم فيها / قطع ، داخلي / نهار بجوار الشرفة يسقط ضوء على كتاب لرينيه ماجريت كان مفتوحا على صورة تابوت يرتاح على كرسي طويل ... / ليل داخلي / غرفة يحتلها سرير في جفاء و قسوة " . الأشياء تتكاثر في حركية أدائية عنيفة تصاحب العدم ، و تبلغ ذروة المأساة ، و قسوة الفراغ ، حيث يبرز التابوت ، من لوحة ماجريت مزهوا في هذا السياق ، و يترك الإنسان فراغا قاتما مجسدا هذه المرة دونما ميكانيكية شيئية ، فقد احتلت الأشياء المشهد ، و لكن في صخب لاواع يحولها باتجاه بهجة ، أو ابتسامة نهارية مؤجلة ، لكن أثرها يبقى في تتابع الفوضي في نشوة تحارب الآلية من خلال حياة الأداء اللا واعية حيث التدمير الغريزي ، و حركة التحول الكامنة في مظاهر العدم . في العرض الرابع تناقض صامت ، أداء سردي يبدو كقراءة مضادة لمحتواه ، و عوالمه ، حيث تتجاور العوالم في سياق معتم مقطوع عن الأصل المعرفي ، المنتج له ، فالمرضى ينتشرون ، و يتراكمون ، و الشيخ يترك ظلا و نشيدا صوفيا ، و شفيقة تنتظر الموت ، و تتوالى رتابة الموت في تناقض صامت انفجاري هنا ، و يبشر بالخروج ، و المرح المحتمل المفقود " قطع ، مدخل كهف مظلم / لقطة زووم إن بكاميرا محمولة / تتقدم إلى الكهف حتى يعم الظلام / .. قطع يظهر أول الكادر طفلان متسخان يأكلان من عربة قمامة ، و في خلفية الكادر عربة كارو عليها نباتات زينة / تسير متهادية بجوار سيارة كاديلاك حديثة " . يكشف العرض الرابع عن حكمة مشاهدة المآسي حيث التعارضات الأساسية تنتج هذه العوالم المهمشة ، أو انتظار الموت ، لكن الحماسة المصاحبة لثبات القيمة المتعالية ، أو النقاء تسقط في التحول ، و اللعب الأدائي الكامن فيها ، من هنا يتولد الصمت ، فالأداء يفكك محتواه ، و يحلله في بدايات تخلق قداسة مرحة جديدة تصاحب ولادة الطيف من عمق المأساة الصامتة . هكذا تذبل التكوينات ، و المصادر المعرفية في ظل يجمع بين المرح و التجسد الافتراضي في زمن آخر حيث يمتد تجسد شفيقة الغرائزي في طيف تجاوز للتو الآلية الأحادية ، لينتج سياقا لأداء متحول يحمل أثر السقطة دونما إشباع لمدلول السقوط ، و لكن بخلق أثر قوي خارج عن الثقافة المتعالية باتجاه الجزئي / الكوني . يقول " أصبح لشفيقة وجه فتاة / و جسد مومياء / في حجرها سقطت ذات يوم نجمة باردة مطفأة / فأشعلت لها فتيلا ، و كستها بالزيت .. / و حين مرضت شفيقة ، و بدأت أعضاؤها في السقوط / هبطت إليها النجمة في الليل ترقد بجوارها حتى قبضا معا " . لقد كان موت شفيقة ، و دلالاته الثقافية المتنوعة التي تضرب التعارضات في عمق حركتها الحماسية ، إيذانا بمرح الظل ، و تحقق الزمن المفقود ، فلم يعد الصوت بحاجة للأجنحة ، فقد لعبت الملابس دون تجسد واضح ، أو موت ميكانيكي على المقاعد ، و صار الصوت ملتبسا بشكل أولي ، و اكتسبت الهوية بكارة جديدة في شروق خارجي متجدد لا يعبأ بدورة الخراب السابقة . يعنون علاء عبد الهادي القسم الآخر المجزأ ضمن كل عرض من العروض وفقا لأسماء الكتب التي أنتجها الفكر ، الإنساني ، و إبداعه ، و المصادر المعرفية في هذه الأجزاء كثيرة ، و لا يمكن فصلها عضويا عن العروض ، إذ إنها جزء من أداء تداخلي تفسيري للعوالم الانفصالية المتناقضة نفسها ، كما تسهم في إكساب الصوت قوته الملتبسة ، و إغوائه بالخروج من أسر الميكانيكية ذات البعد الواحد . و قد اقتصرت على رصد بعض التداخلات ، و عناصر القراءة الشعرية المبدعة لبعض الكتب ذات الأثر الثقافي المتجدد ، و المتمرد مثل الظل . ثمة علاقة بين العروض التي يغلب عليها الأداء اللاواعي ، و إعادة تأويل نصوص من الفكر و الإبداع ، هذه العلاقة تتبلور في مظهرين : الأول : اختلاط المعرفي على نحو وثيق بالأدائي / التمثيلي ، حيث يتحول أثر الكتاب في الذاكرة إلى ظل متحرر من سياق الكتاب الثقافي ، إنه يحوله إلى تمثيلي / إبداعي / معرفي في آن واحد من خلال انطلاق الأثر التأويلى كهوية بديلة تشكك في الأساس في مدلول الهوية . الثاني : تدخل الكتب بحد ذاتها سياقا تأويليا للعروض عندما ننظر إليها كمجموعات تصاحب كل عرض ، فقد ازداد ملمح التناثر ، و تفكك الوحدات السردية ، في العرض الأول ، و كذلك جاءت المجموعة الأولى من الكتب لتعزز من نغمة الاختلاف . 1 – الانتشار في الواحد : يقرأ علاء عبد الهادي حدث الحب المحرم في مئة عام من العزلة لماركيز بين أمارنتا و أورليانو وفق انتشار الأنوثة في الواحد ، في أمارنتا ذات التفرد المتكرر ، في وعي و لا وعي أورليانو ، و كأنها تنتج الاختلاف من داخل الهوية المقدسة ، التي تتجلى في سياق مغامرة الحب ، و تحديدا تكرار البدء دون تحديد ، فهو بدء واحد يناهض نفسه دائما لكي يكتسب بكارة المغامرة ، يقول : " فَأَغْرَاهَا فِي الْمَنَامِِ.. / بَلْ حَدَّدَ مَعَهَا.. سَاعَةَ الْحُلْمِ! / مَكَانَ اللِقَاءِ.. / وذَهَبَ.. يَدُقُّ السَّرِيرِ! ... / مِنْ يَوْمِهَا.. / .. وَقَفَتْ..بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّسَاءِ.. اللوَاتِي , دُونَ أنْ يَدْرِيَ, صِرْنَ.. جَمِيعًا.. "أَعْضَاء".. فِي اِمْرَأَةٍ واحِدَة. " . لقد ارتكز النص الجديد على بدء لاواع أسطوري في تكوينه ، فاللقاء يفترض لحظة غياب مستمرة في حضوره ، تلك اللحظة التي ارتبطت بالأساس عند ماركيز على تدمير ناعم ، أو عقاب يستوجب عودة الإنسان للطوطمية ؛ ففي مئة عام من العزلة – ترجمة – سليمان العطار – هيئة الكتاب المصرية ، يمزج سارد ماركيز ثورة العاطفة في لقاءات أمارنتا و أورليانو بطوفان من النمل يجتاح الحديقة ليشبع جوعه ما قبل التاريخي من خشب البيت ، و في ذروة الحب تخرج الحمم ، و تأتي الزلازل ، ثم يأتي الوليد و في نهاية ظهره ذيل خنزير . لقد أقصى علاء عبد الهادي ذلك التدمير البهيج ، في الإنسان – الحيوان الجديد الذي يجسد الحسد البدائي ، إذ يستعيد قوة الحيوان كرمز ثقافي جديد ، و في الوقت نفسه يجسد القوة ، حيث يلتحم الإنسان بضخامة عقابه الخاص ، و ذلك لتنقطع لحظة البدء في القراءة الأخرى ، و تظل وحيدة في اختلافها في المشهد ، و تنتشر منها ظلال الأنوثة اللاواعية . 2 - للظل فاعلية : يستعيد علاء عبد الهادي معنى التفكيك لدريدا وفقا لزمن الهامش القادم ، حيث يتولد سياق الظل كبديل عن الشيء المشبع بكينونته ، و بنيته ، يقول : " كان يخيط منزله / غرفة تلو أخرى دون جدوى / فالجدران الطيبة لا تقيم بيتا / الجدران الطيبة كامرأته تماما / تنسى الأحبة إن صمتوا / و تهتم بالصوت ، بالحاضرين / هو الظل يصعد من شهقات الحضور / و يقفز فوق الجفون " . الظل هنا مهمل لا يمكن إهماله ضمن مفهوم الإهمال نفسه ، فهو الهامش الذي يقصى ، ليعود من خلال غياب الصوت الأصلي ، ليستبدله من داخل حالة الانفصال ، للظل إذا فاعلية هنا تحاول خلق مسار آخر خارج المنزل / المدلول . يرى جاك دريدا في رسالته لصديق ياباني حول معنى التفكيك ( ضمن الكتابة و الاختلاف – ترجمة كاظم جهاد – دار توبقال بالمغرب ) أن التفكيك يستمد دلالته من خلال سلسلة من البدائل المحتملة مثل سياق ، كتابة ، أثر ، اختلاف ، هامش ، كما يرى أن التفكيك يحدث حيثما يكون هناك شيء قائم ، أو عندما يحدث شيء . الظلال عند دريدا لا نهاية لها ، فالأثر وجود لا يمكن اكتمالة أو تحديده ، كما أنه بلا فاعلية ، لأنه يكتمل في دال آخر هو بدوره مؤجل ، و قد أمسك علاء عبد الهادي بشاعرية الأثر عند دريدا ، و أضاف لها فاعلية تبدأ من غياب الجدران الصلبة . 3- تشاؤم الظل : يستبق الظل التكوين عند علاء عبد الهادي ليعاين الخراب ، و التعارضات التي أنتجت الحروب ، و التدمير الذاتي الإنساني ، فهو يؤول قصيدة الأرض الخراب لإليوت وفقا لتشاؤم الظل المنبثق من موتى النص السابق ، يقول : " هو الظل يخرج مندغما في رؤاه / منسلا من عيون المساء / فتخضر من بين وهج الرميم وعود قد خبأتها البذور لأصحابها .... لا ... / هو الموت / لا فرق / رمح من عظمة الفخذ / أو طلقة من عظام الضروس " . الموت إكمال للظل الذي استبق التكوين حتى يدمره ذاتيا قبل أن تنمو بذوره ، أو أن تكتمل . الظل متشائم هنا ، فموتى إليوت ينتشرون فيه سحريا يعيدون خلقه في صوت يشبه ما قاله الرعد ، الظل هنا لا يستطيع إنجاز وعد التجسد ، أو الحصاد ، فهو مستبدل بالعظام الخربة . يقول إليوت في الجزء الذي يبدأ ب " ما قاله الرعد " ضمن ( الأرض الخراب – ترجمة لويس عوض – هيئة قصور الثقافة المصرية ) : " بعد رعد الربيع و أصدائه المتجاوبة فوق الجبال البعيدة / من كان حيا فهو الآن قد مات / و نحن الذين كنا أحياء / نموت الآن بعد شيء من الصبر / هنا لا توجد مياه / و إنما يوجد صخر فقط " . هكذا يكتسح الصخر ذكرى الإنسان ذاتيا ، و يسقط البشر في محو محقق ، عقب الصخب الطبيعي الذي يتجه أيضا نحو نهايته ، من صوت المحو الحي عند إليوت ولد الظل المتشائم ، لكنه بحد ذاته قراءة ضالة ؛ لبقائه ظلا يشبه الموت . 4 – تلاشي البعد الواحد : يتلاشى البعد الواحد المميز للعقلانية الآلية عند هربرت ماركيوز في نص علاء عبد الهادي ضمن آليات تكيفه نفسها ، فالعقل ذو البعد الواحد يفعل ، يختار ، لكنه في استسلامه يموت ، و يتلاشي ، دون أن يختار ، أو أن يفكر ، يقول : " الحياة / أن تختار / طريقك الخاص / إلى الموت " . لقد تلاشى البعد الواحد المميز للعقلانية الآلية المعاصرة كما وصفها هربرت ماركيوز ، فمن داخل مركزية الاختيار العقلاني يتولد الموت ، و يختفي الاختيار في تحجر الآلية ، و تحللها في صخب الغرائز الثائرة ، التي تدفع الذات إلى بلوغ ذروة التدمير في اختيار الموت كمصير لحياة عقلانية أحادية الجانب . إن البعد الواحد عند ماركيوز يقضي – ظاهريا – على التعارضات ، و يستسلم لآلياته في التكيف ، لكنه في نص علاء عبد الهادي يتلاشي ضمن لحظة البدء ، أي يعيد قراءة ماركيوز وفقا لتضخيم المصير العدمي للبعد الواحد ، و تفريغه من السيطرة الظاهرية . يرى ماركيوز في ( الإنسان ذو البعد الواحد – ترجمة جورج طرابيشي – دار الآداب ببيروت ) أن العقلانية التكنولوجية تؤدي إلى سلوك اجتماعي يتسم بالامتثالية الكاملة ، و تحد من لا عقلانية العصور السابقة إلى أقصى حد ، و يحجب الضمير فيها علاقة التعارض بين الحرب و الازدهار . تسقط الشمولية هنا في في حدودها الشكلية ، التي تحجب الصيرورة الإبداعية للحياة ، فيسود الامتثال كسياق مهيمن يستوعب التعارض ، و من هنا تبدأ رحلته العدمية في البعد الواحد / السطحي عقب هيمنته الشمولية ، و من العدم يبدأ نص علاء عبد الهادي . 5 – المعرفة بالعمى : من التشكيك في قدرة الوعي على إنتاج معرفة موضوعية ، يتحول السقوط في العمى إلى انبثاق لأداء اللاوعي الإبداعي ، و تجاوز حدث المعرفة المركزية بما فيها من غياب و لعب ، و بلاغة ، هكذا يتولد الأداء التمثيلي السردي عند علاء عبد الهادي في قراءته لبول دي مان ، فالسقوط أداء يلمس الحقيقة المتجاوزة لمركز الحقيقة ، يقول : " أطفأ النور / و أخذ يرشف كذبتها ببطء / بل مسح دموعها الخادعة متأثرا / ثم قرر أن يتزوجها / لأنها فشلت فلمس بيدها الحقيقة " . لقد كانت المعرفة / في بديلها الأداء ضمن سياق العتمة ، و كأنها تخلقت من اللاوعي الجمعي ، و صارت فاعلة ، و تتبادل الأدوار المعرفية مع الحقيقة ، العتمة البلاغية ، تتولد من أسى العمى عند بول ديمان لكنها أكثر قربا من بهجة التحول في بلاغتها الخاصة . يرى بول دي مان في ( العمى و البصيرة – ترجمة سعيد الغانمي – المجلس الأعلى للثقافة بمصر ) أن اللغة الساخرة تشطر الذات إلى ذات تجريبية توجد في حالة لا موثوقية ، و ذات أخرى إلا على شكل لغة معرفة اللا موثوقية ، لكن هذا لا يجعل منها لغة موثوقا بها . يتهاوى – إذا – الوعي المتعالي ، و معرفته ضمن آليات العمى المصاحبة ، و من هنا تتشكل البلاغة الجديدة عند بول دي مان و تتطور سرديا في سياق عتمة فرحة في النص اللاحق . 6 – استشراف التمرد : يستعاد التمرد دونما إطار فيما بعد الحداثة ، كما يتداخل القديم و الجديد في تعارض جذاب ، و ينحل الخطاب الأحادي ، و من هذا الانحلال يقرأ علاء عبد الهادي جياني فاتيمو ، حيث تختلط المعرفة بالعدم ، و الفراغ ، و ينتشر الإبداع تاركا قيمته الذاتية ، و مدلوله الأول ، يقول : " لكن عرافا جميلا يخون / أنشأ جبانة كاملة / تاركا على بشرتها / أخاديد عطشى و قبرا / قصائد محنطة / حبالا صفراء فارغة / ممتدة في الفضاء ... هكذا سقط من يمينه كتاب ، و من يساره آخر / فغادرته ملائكة أثرياء / بعدما أطفأ شمعته في مرة واحدة / تاركا هدفا يبدو نبيلا / و أمانة لا يطيقها " . هكذا ينفك الطريق الواضح أمام الممارسات الجديدة ، و تنطلق من تداخل التاريخ مع الأدب و الفن و الفكر دون خطاب مهيمن ، من هنا يتولد الحدسي / الهامشي كما هو عند ليوتار كبديل عن المشروع المستمر للذات ، أو الحكايات الكبرى ، و يبدو الظل المهمل في حالة عمل يتجاوز الذاتية ، و يجمع بين الوجود و العدم ، الإبداع و السيرة الشخصية في بعدها التاريخي . و يرى فاتيمو في ( نهاية الحداثة – ترجمة فاطمة الجيوشي – منشورات وزارة الثقافة بسوريا ) أن الأدب المعاصر قد ارتكز على تجاوز الخطية الزمنية ، و النزعة التاريخية ، و صار الإنسان بلا فضائل في الرواية كما هو في يوليسيس ، كما انفتح السبيل إلى حوار بين الفكر و الشعر في تجاوز للمفاهيمية القديمة . لقد بلغ التمرد حدوده القصوى في مهمل ، حيث مغادرة التكوين المفاهيمي في الأثر ، أو الظل ، لكن مع بقايا فاعلية تتجدد من خلالها القصائد في الكلام دون هيمنة للمتكلم ، حيث يتركنا الشاعر في مواجهة فراغ تولد فيه الهوية في زمنها الآخر ، أدائها التمثيلي الجديد بعد اليوم السادس في زمن كان مفقودا ، و لم يشبع بالوجود .
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحلام الجسد البهيجة .. قراءة في مأوى الروح لمحمد عبد السلام
...
-
إعادة إبداع الإنسانية
-
عبث ما بعد الحرب ... قراءة في رواية بلا دماء
-
طيف الأنوثة المستعادة .. قراءة في هيكل الزهر ل فاطمة ناعوت
-
دالي .. حلم النص و أسطورة الفوتوغرافيا
-
جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي
-
لذة الكشف في رواية نوافذ النوافذ ل..جمال الغيطاني
-
الحكي كإبداع للوعي .. قراءة في ما لا نراه ل محمد جبريل
-
معرفة كونفوشيوس
-
توهج النهايات عند صمويل بيكيت
-
المحظور و التمثيلي و العوالم الافتراضية .. عن الأنوثة في قصص
...
-
العمل ، و إبداع العالم
-
الغياب في فضاء المحاكاة .. قراءة في فكر جان بودريار
-
العبث ، و أحلام التجدد
-
أحلام الأم المقدسة عند نوال السعداوي
-
الأسئلة الارتدادية للفن
-
القصيدة التفاعلية ، أو الامتداد الكوني للقصيدة - قراءة في لو
...
-
صخور السماء .. أنشودة الجسد
-
الأنا و تمثيل الآخر / الثقافي
-
نشوة التجزؤ .. قراءة في حالات الروح
المزيد.....
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|