هذا الوجه النحاسى الممصوص الجالس أمامى بتقاطيعه لغز مستعص... فيض المشاعر التى يمتلكها صاحبه لا تطفو أبداً على وجهه... أو هكذا خيل الى... لم تعطنى نظرتى إليه ما أبتغيه فإنتقلت عنه بسرعه إلى آخر... كان الظلام يعاندنى كطفل شقى... رص لى الوجوه كنسخ كربونيه متلاشيه الحروف... متآكلة الحواف وإن كان توقيع العيون بارزاً يتلألأ... فلم أستطع قراءتها... أغمضت عينى لأراهم جيداً... تنقل فكرى كعصفور الجنه بينهم... ترى ما هى مشاعرهم الآن... هذا الصمت المحلق فوق الرؤوس لا يخدعنى... أعلم أن الكبرياء يكبت الرهبة ويمنعها أن تطل... قصير هو عمر الصمت... بعد قليل... سيتلاشى ويموت... عبرت إبتسامه شاحبه فوق وجهى وأنا أفكر كيف يموت الصمت...
أخبرونى طفلاً أن أبى مات في صمت... عرفت في المدرسة أن الصمت يعنى السكون... أنا أكره هذا السكون الذى مات فيه أبى... في إحدى المسابقات الأدبية التى نظمتها الكليه بدأت قصتى بعبارة "كان الصمت يلف المكان"... ثم مزقتها وكتبت "كانت الأصوات متداخله بشكل أفزعنى" ويم أن فزت عرفتأن السكون لا يصنع نجاحاً... تململت... تحركت في مكانى... مددت يدى من جانب "الزورق" لأغترف كطفل من مياه البحر... لم تصل... كررت المحاوله... هكذا كنت طفلاً عنيداً... لم أك أخشى سوى نظرات أبى التى لم أعد أذكرها... غابت عنى طويلاً, وجدتها في عينى ذى الوجه النحاسى... نظرت بجانب عينى إليه وجدته قد إنتقل إلى الأمام واقفاً ينظر إلى البحر في خشوع كأنه يصلى... قلدته ونظرت مثله إلى البحر... توقفت عند نقطة سوداء داكنة... هى بالتأكيد الزورق الآخر.
البرد والرهبة والظلام تحالفوا ضدى فأصابونى برجفه فأخذت أبحث عن بقعة ضوء... ها هو القمر مسافراً فوق السحاب إلى بعيد... والنجم القطبى ساطع يرسل بريقه مشيراً إلى الشمال حيث الهدف... "هدف بحرى كبير معاد شمال بورسعيد".
تذكرت صيادى البط في بلدتى "أكياد"... كم حلمت أن يكون عندى بندقيه صيد... كانت "وفاء" أختى تمثل دور البطه وتجرى أمامى وأنا أمسك عوداً خشبياً أسدده تجاهها... أضحك وتضحك ثم تختفى عن عيونى بين الحقول...
كان الجميع يحبونها حتى قبل أن تدرس لأطفالهم في مدرسة القرية... ويوم أن جاءتها الإعارة ووعدتنى ببندقية صيد... لكن أمى حذرتها:
أجبرى خاطر اليتيم بقطعتى قماش أحسن!
كنت أمشى مزهواً بملابسى الزاهية سعيداً بلعبتى البلاستيكية.
وبدأت رسائلها تقل رويداً رويداً ثم إنقطعت... وبدأت ملابسى تبهت...
قالوا أنها تزوجت وإنتقلت إلى بلد آخر...
بدأت مفردات جديدة تدخل قاموس حياتنا "الضمان الإجتماعى" "ماكينة الخياطة" "مصاريف الكلية"... "الولد لابد أن يتعلم وأنا سأنكفئ على هذه الماكينة ليل نهار". وعشية تخرجى جاء من يخبر أمى أنهم يطلبوننى للجندية... هدير الأامواج لمتلاطمة أيقظنى فتحفزت... ذو الوجه النحاسى أشار بيده فاخذ كل فرد مكانه... تحسست بيدى منصة الإطلاق ونظرت أمامى... عشرون عقدة... عقدتان "بطل مكن"... كانت البطه قد ظهرت عند خط الأفق...
توقفت الزوارق وتهيأنا للعمل... نظرنا إلى ذى الوجه النحاسى فأعطانا إشارة البدء... كل شئ جاهز... التوجيه تمام... إضرب... تلاشى السكون كما توقعت... وهل الجحيم... الإنفجارات المتوالية تؤكد أننا إصطدنا البطة في مقتل... خجل الظلام أن يستمر فتوارى ليفسح المكان لبريق الشظايا وألسنة اللهب الحمراء... أطلقت البطة مدافعها فقال الرجل النحاسى:
- حلاوة روح... أستعدوا للعودة.
وما كدنا نستدير حتى سقطت إحدى القنابل في مقدمة الزورق فبدأ يغرق... أما أنا فطرت إلى أعلى وسقطت بعيداً فأحتضنتنى الأمواج وضمنى الظلام إليه.
أرهفت السمع لكننى لم أسمع أحداً... صرخت أنادى فضن على الظلام حتى بالصدى... لم أر سوى البطة وهى تستسلم للبحر كى يبتلعها... والنيران حولها كأنها تنضجها له... فزعت... أعطيت ظهرى لها وامأنت على "سترة النجاة" وبدأت أسبح... طويل هو ليل المسافر... كانت أمى عندما نذكر أمامها "وفاء" تقول: مسير الغريب يرجع بده.
أما أنا فقد عادت إلى وفاء يوم أن عرفت "سلوى", نفس الملامح التى تنطق بالطيبه... بساطتها... حنانها المتدفق. أسعدنى أكثر إنها تعمل في نفس المدرسة... أبوها دائماً يقول: ده مشواره طويل. نظرت إلى البحر حولى وتمتمت: حقاً مشوارى طويل.
لاح لى أمل أن الزورق الآخر ربما يرانى فيبدأ في عمل "مناورة غريق" ثم ينتشلنى... أين الرفاق؟
هل يصارعون الأمواج أم صرعتهم؟
تهادى إلى لوح خشبى فإقتنصته وإستندت عليه... ووليت ظهرى للنجم القطبى غنيت...
لم يفلح الغناء في دفع الخوف بعيداً عنى فتحول إلى ذعر قاومته بكل ما أملك حتى لا يصيبنى اليأس.
ولم يتبق على طلوع الصبح سوى ساعات... النهار له عينان... كنت كمن يحاول أن يخدع نفسه ويمد لها في حبال الصبر...
كانت المياه قد طالت كل مكان في جسدى...
كنت قد تخلصت من حذائى وبدأت أتخفف من كل ما يعوقنى... لطمنى يوماً مدرس التاريخ لأننى عارضته... كان يقلل من حضارة الفراعنة وأنا لم أخف إنبهارى وعشقى... سمعت أبا الهول يناجينى في الصوت والضوء... وها هى الأمواج تعيد لطمى بين الحين والآخر دون أن أعارضها... طعم البحر أكثر ملوحة مما كنت أظن... ترى ما هو طعم الموت... تخيلت وقع الخبر على أمى... هل ترتدى "سلوى" ملابس الحداد... أظنها لا تستطيع... ليس هناك أمام الناس ما يربطنا...
أحترت في هذه الامواج المتلاطمة... هل تعزف "نوبة شهيد" أم "نوبة رجوع"... خيل إلى أنها تبكى... بل تنتحب... من أين أتى بكل هذا البحر؟ لابد أنه من دموع البشر... أصطحبنى الظلام الحالك من يدى وصعد بى سلم الخوف حتى أسلمنى إلى قمة الذعر... أنت تفكر في السطح... فماذا يخبئه القاع؟ تلبدت السماء بالغيوم... وزمجرت الريح... ولم يعد ينقص سوى أن يسقط المطر... وقد حدث...
أمى ستحصل على لقب... ومعاش... وتحيا بقية عمرها جالسة امام الشاطئ تنتظر عودتى أنا و "وفاء"...
كنت أشعر بالألفه بين الزملاء...
الآن أفتقدهم... ولت الصحبة... يقولون أن الناس في المدن المزدحمة تشعر بالوحدة رغم الزحام... لعله طوفان البشر الذى يجعل كل إنسان يبحث عن خلاصة, تذكرت الطوفان المحيط بى فأخذت أبحث عن خلاصى, نظرت إلى السماء... ترقرقت دموعى لكنها ذابت في البحر اللامتناهى... كدت أتجمد من البرد لكننى واصلت...
أحسست بنشوة أحيت بداخلى الأمل عندما توقف المطر... أنفاسى تلهث... ودقات قلبى تتسارع... لم أصدق نفسى وأنا أسمع صوت إنسان يتأوه... أتجهت ناحية الصوت... هو إنسان يصارع الأمواج... أسرعت إليه... قذفت إليه باللوح فتعلق به وأستراح... وبدا يهدأ... اقتربت منه وتأملته... كان جندياً جريحاً لكنه ليس من رفاقى... كان مظهره يشى به... أخرجت بمشقه من "سترة النجاة" العلبه الصغيره البلاستيكية التى تحوى الفيتامينات... ناولتها له... تحسست جرحه... شجعته على المقاومة... فواصلنا السباحة... ألتفت إلى بعد برهة وقال:
- اسمى "حاييم" من عكا.
خطر لى أن أسأله هل تعرف "أحمد باشا الجزار" لكننى تراجعت بينما أستمر هو:
- لى طفله جميله تركتها هناك... زوجتى من "نيويورك" وأنا أصلاً من "وارسو". والدى بولندى ووالدتى من السويد. إذن أنا أسبح بجوار هيئة الأمم, كان الإجهاد قد بلغ مداه فسكتنا وتوقفنا لنستريح.
عاودنا السباحة... لاحظت أنه يغير إتجاهه وبادرنى قائلاً:
- أرجو أن تطيع أوامرى فأنا أدرى منك بالملاحة الليلية.
أستفزنى غروره.
- غير صحيح... ثم أنك أسيرى.
- كيف؟
- واضح أنك منهك... ولا تجيد السباحة وأستطيع أن أستعيد لوحى الخشبى وأجعلك تغرق.
- يا سيدى المركب التى ستنتشلنا أو الأرض التى سنصل إليها هى التى ستحدد من فينا الأسير.
- حتى يحدث ذلك علك بطاعتى.
سكت على مضض واستمر في السباحه بجوارى...
- لماذا لا نعيش في سلام؟
قالها وأنفاسه تتقطع.
تذكرت "دير ياسين" و "غزة" وخالى الذى قتلوه ذات صباح في مطار "أبو صير" لكننى قلت:
- ها نحن نعيش في سلام.
- لا أقصد نحن بل الجميع.
- وهل الجميع معنا الآن في البحر... وفر جهدك حتى نستطيع أن نقاوم الأمواج, لا يزال أمامنا مشقة.
- مادمت تجيد السباحة... لماذا لا تعطينى سترة النجاة؟
- معك اللوح الخشبى...
كان الليل قد بدأ يلملم نفسه ليرحل وخيوط الفجر تتسلل برفق وهدوء وهبات النسيم العليل تدغدغ جسدى المتعب فتنشطه, ويبدو أن بزوغ الصبح قد جدد النشاط في كلينا ويبنما الأمل يراودنى فوجئت به يرفع اللوح الخشبى لينزل به فوق رأسى... أتقيته بصعوبة... سحبته منه... أخذته وإبتعدت... لاحقتنى صرخاته ثم سكنت... تعجبت من سلوكه لكننى تذكرت قصة الضفدعة والعقرب عندما طلب منها العقرب أن تعبر به النهر, فقالت:- أخشى أن تلدغنى... فقال:- لا يمكن لانه عندما تموتين سأغرق, فحملته وفي وسط النهر لدغها فنظرت إليه بعتاب فقال لها:
- أعذرينى الطبع يغلب التطبع.
بدات أشعر أن البحر يحنو على, تضمنى أمواجه في رفق... تهدهدنى... تحملنى إلى سريرى في قريتى, فقررت أن أستسلم له... حتى يصيرنى جزءاً منه... لن أسبح, سأنزل أناجيه في القاع. ستائر مخملية تنسج حولى تحملنى إلى أبى... أمى تصرخ في وجهى:- لا... انتبهت استجمعت ما بقى من جهد وهو قليل... لم أعد أرى جيداً... زاغ بصرى... الدوار يلاحقنى... بدا لى أن زورقاً يقترب منى... يهدئ من سرعته... يد تمتد لى... تنتشلنى... ترفعنى إلى أعلى... لفوا حولى الأغطية... ناولنى شيئاً أبتلعته...
ملأتنى البهجة... انتشيت... فتحت عينى في صعوبة, لم أستطع أن أميز أحداً ممن ألتفوا حولى إلا وجهاً نحاسياً ممصوصاً.