وعد العسكري
الحوار المتمدن-العدد: 2014 - 2007 / 8 / 21 - 05:55
المحور:
الادب والفن
لم تسلم نازك الملائكة وهي في ريعان شبابها من تهمة الإنطوائية ، فقد قيل إنها تعيش في برج عاجي تتغنى بآلامها وتهدهد أحزانها ، وإن القضايا الإنسانية والوطنية والقومية لم تهزها وهي تشهد مآسي الحروب وانطلاقة الأقطار العربية وثورتها على الظلم والإستعمار ، وقيل وقيل ، وكانت الشاعرة تسمع مايقال وتمضي غير آبهة بما يثار حولها ، لأنها تؤمن بأنها تعيش في حياة فرضتها ظروف عهد شبابها ، ولولا عزيمة قوية وإيمان راسخ مااستطاعت أن تشق الحجب وأن تكون رائدة الشعر الحر في الوطن العربي(1) .
التهمة قديمة وكانت تقلقها فانفجرت في عام 1947 معبرة في قصيدة ((تهم)) عما كان يدور حولها وصرخت قائلة :
أعبر عما تحس حياتــــــــي
وأرسم إحساس روحي الغريـب
فأبكي إذا صدمتني السنـــــين
بخنجرها الأبدي الرهيــــب
وأضحك مما قضاه الزمــــــان
على الهيكل الآدمي العجيــب
وأغضب حين يداس الشعــــو ر
ويسخر من فوران اللهيـــب
ومضت تصور التهم في ((شاعرة في السحاب)) و ((عاشقة الليل)) و ((جامدة الحس)) ، وهي ، وهي ، ولكن ماجوابها :
يقولون دعهم غدا يعلمــــــــون
ودعني أنا للشذى والجمال
أحب الحياة بقلبي العميـــــــق
وأمزج واقعها بالخيــال
أحب الطبيعة حب جنـــــــون
أحب النخيل أحب الجبال
وأعشق ذاتي ففي عمقهــــــــا
خيال وجود عميق الظلال
وأهتف يانار قلبي الغريــــــب
وموج أحاسيسي الثائرة
إذا اتهموا فلماذا أجيــــــــب
بغير ابتسامتي الساخرة (1)
ولا تزال مثل هذه التهم تلاحقها وكأن بعض الباحثين لايقرأوننتاجها الشعري ولايقفون على مراميه ، وإنما يقلدون مايقول غيرهم ممن أنكروا فضل نازك الملائكة وريادتها الشعرية . والعودة إلى شعر نازك ودراسته دراسة واعية توضح إن الشاعرة إنسانة ذات حس مرهف وشعور فياض تؤلمها آلام الإنسان ويهزها شجن العالم ، وقصيدة ((مأساة الشاعر)) (2) تعبر عن موقفها خير تعبير ، فقد ولد الشاعر ليرقب الأشياء ويرثي لهم :
يرقب الأشقياء في ظلمة العيش
ويبكي لهم بكاء الغبيــن
ويصوغ الألحان يرثي لبلواهم
ويبكي على الوجود الحزين
والشاعر نور يهدي السارين ، وشذاً يعطر الكون ، وجمال يزين الوجود ، وهو شمعة تحترق لتضيء للعالم :
هكذا في العذاب تمضي حياة
الشاعر الملهم الرقيق وتنسى
وهكذا يملأ الوجود جمـالاً
ويذوق الآلام كأساً فكأســاً
ويضل الشاعر أصدق صوت معبر عن الإنسان ، وأجلى صورة معبرة عن الأمة وأحزانه ، فهو يبيت الليالي ساهداً راثياً للحيارى ، وهو يرقب الأشقياء ويسمع أنّاتهم ، ويسهر الليل يتبع الحارس المكدود ويبقى هو والخير صديقين :
هو والخير يبقيان صديقيــن
محبين ليس يفترقان
وهو الحب لحنه الأبدي الطلق
يندى من رقة وحنانِ(1)
ونازك الملائكة شاعرة تحس بآلام الإنسان وتشعر بما حولها من ظلم وجور ، وكان هذا منذ ميعة الصبا والشباب ، ففي عام 1945 ، قالت :
قد وصفت الشقاء في شعـري
الباكي وصورت أنفس الأشقياء
وقالت :
أنا أبكي لكل قلب حزين
بعثرت أغنياته الأقـــدار
وأروي بأدمعي كل غصن
ظامئ جف زهره المعطار(2)
ونظمت قصيدة ((خواطر مسائية)) (3) ، بعد أن آلمتها دموع الحزانى والجياع فمضت تصور مارأته :
وأبصرت عند ضفاف الشقاء
جموع الحزانى وركب الجياع
تشردهم صرخات القضاء
وما أرسلوا همسات الوداع
وآلت عن نفسها أن تبكي على شجن العالم ، وليس أمامها غير البكاء ، وهي الشاعرة الرقيقة التي لاتملك من وسائل تغيير المجتمع إلا الكلمة :
سأحمل قيثارتـــي في غد
وأبكي على شجن العالم
وأرثي لطالعه الأنكـــــد
على مسمع الزمن الظالم
لقد تجلت النزعة الإنسانية في شعرها منذ عهد مبكر ، ودواوينها الأولى تظهر هذه النزعة التي تعمقت فأصبحت في دواوينها الأخيرة وطنية قومية ، ولكنها تنطلق من روح الإنسان الذي يحب لغيره ما يحب لنفسه ، فالشاعرة في حبها للوطن ودعوتها إلى الوحدة العربية والثورة على الإستعمار والصهيونية التيب اغتصبت فلسطين ، ظلت إنسانية النزعة ، لأن الوطنية الحقة والقومية الصادقة لاتنكران ماللأوطان أو الأمم الأخرى من حق في الحياة الحرة الكريمة . وإذا كان الإنسان في سلوكه وقيمه ومشاعره ينطلق من الخاص إلى العام ، فإن الشاعرة انتقلت من العام إلى الخاص . ولعل لحياتها الخاصة وظروفها العامة أثراً في هذا ، فقد عاشت في بيت مؤمن بالله والإنسان ، وفي جو مشحون بالموت والدمار في أثناء الحرب العالمية الثانية ، وقد آلمتها مأساة الحرب وما جرت على العالم من ويلات . وكانت الحرب أول مظهر من مظاهر نزعتها الإنسانية ، تلك الحرب التي ذهب ضحيتها ملايين البشر لالشيء إلا لتسلم عروش ، ويتسلط طغيان ، وتروى نفوس ظمأى للدماء . لقد استنكرت الشاعرة الحرب وصورت دوافعها ، فقالت :
فيم هذا الصراع فيم الدماء
الحمر تجري على الثرى العطشان
والشباب البريء في زهرة العمر
لماذا يلقى إلى النيران
في سبيل الثراء هذا أليس
الضوء والحب والورود ثراء
وليالي السلام والأمن هل في
العمر أغلى منها وأحلى ضياء (1)
ومطولتها الشعرية ((مأساة الحياة وأغنية للإنسان)) ، صورة صادقة لإنسانية الشاعرة في فجر شبابها ،فقد شهدت في تفتح حياتها الحرب العالمية الثانية ، وعاشت في أحداثها الرهيبة وكانت تسمع أخبارها وترى ذيولها في القوات البريطانية التي كانت تمر بالعراق وهي في طريقها إلى إحدى جبهات القتال ، وكان هذا يؤذيها ويثير مشاعرها وهي الشاعرة المرهفة الحساسة ، فتنطلق معبرة عن تلك المشاعر مصورة آلام البشرية وانهيار الإنسانية في عالم تصطرع دوله من أجل السلطة والإحتلال ، أو من أجل التحرر والإنعتاق ، وكانت صورة أول جريمة على الأرض ، وهي مصرع هابيل على يد أخيه قابيل ، مدخلاً إلى الحرب العالمية الثانية ومآسيها ، وقد عبرت عن مشاعر آدم وهو يرى ابنه القتيل تعبيراً يثير الحزن والأسى ويبعث في النفس آلام الجريمة النكراء ، وهي تتكرر على الأرض وستبقى مادامت بعض النفوس ضمأى للدماء والدمار:
يالأحزان آدم حين أبصــر
بإبنيه قاتلاً وقتيلا
أيها المستطار لن تردع الأقدار
حتى إذا بكيت طويلا
استرح أنت دع العالم المحزون
يحيا في ظلمة الأرجاس
دعه في غيه فما كان هابيـل
القتيل الوحيد بين الناس
إنها لعنة السماء على العالـم
مسدولة الرؤى مكفهرة
كلما ذاق قطرة من نعيـم
أعقبتها من الأسى ألف قطرة (1)
لم يكد العالم يستفيق من حربه الأولى ويهنأ بالسلام حتى رمته الرزايا بالحرب الثانية ، فكيف كانت النهاية ؟ لقد خرج العالم يلعق دمائه ويضمد جراحه ، ويندب البيوت المهدمة ، والمزارع الخربة ، والأشلاء المتناثرة ، والجوع القاتل ، والشقاء المقيم ، والآلات الحربية المهانة :
هذه الأنفس الممزقة العميــاء
هذي المدافن الجوفاء
هدمتها مخاب الحرب وامتصت
شذاها الدماء والأشلاء
وتبقت فيها مقابر للشــر
ولليأس جهمة الآفاق
عكست بعض جدبها وأساهـا
صرخات الفراغ ملء المآقي(1)
وتلح الشاعرة على تصوير مآسي الحرب وما جرّت من دمار :
جف زهر التلال والورق النظـر
وآوت إلى الجفاف الحقول
أسفاً لم تدع لنا الحرب شيــئاً
وتلاشى الحلم الطروب الجميل
من ترى يحرث الحقول الجديبات
وأين اختفت أغاني الحصاد
أين لهو الأطفال عند البحيرات
النشاوى في بهجة الأعياد(2)
لقد كانت نتائج الحرب رهيبة ، عم الخراب والدمار ، وشردت الأسر ، وقسم العالم تقسيما جديدا نشبت فيه أظافر الإستعمار وحرابه ، وظل يئن سنوات طوال تحت إرهاب التجزئة ، والفقر المدقع ، والأجسام المعوقة ، والنفوس المحطمة ، وكان العائدون من الحرب سالمين أو معوقين من أكثر الناس شعوراً بمأساة الحرب ، إذ قاتلوا سنوات في أرض غير أرضهم ، ولأهداف لاتحقق مطامحهم ، ولاتصور آمالهم الوطنية والقومية ، وهالهم مارأوا بعد عودتهم إلى بيوتهم ، فقد وجدوا بعضها مهدماً ، ووجدوا أهليهم أو بعظهم أودت بهم الحرب فعاشوا بقية عمرهم وهم في يأس شديد وألم دفين وذكريات مفزعة :
جف عرق الحياة فيها وعــادت
ذكريات مطموسة الألحان
في زوايا الأنقاض تسردهـــا
الأعمدة الباليات للجدران
وتلول الأنقاض تروي الأقاصيص
لسمع الظلام والأشباح
عن فلول الذين عادوا من الحرب
حطاما وحفنة من جراح
لقد عادوا وهم ربد الوجوه ، لايعرفون من الحياة إلا أشباح الموت وهي تطاردهم ، وخطاهم مثقلة ، وجباههم تعلوها صفرة الموت ، وعيونهم رمادية ، وهم في ذهول وخوف لأن الثلوج والضباب والخنادق الرهيبة وصور الجنود الذين جمدوا فوق الثلج أو ماتوا في الخنادق ، أو تطايرت أشلاؤهم ظلت تلاحقهم في طريق العودة ، وما أقسى الحياة حين يكون صحوها كوابيس رهيبة ، وصوراً فضيعة ، وما أفجع الصورة التي ترسمها الشاعرة لهؤلاء الجنود العائدين من جبهات القتال:
ليس إلا قوافل من حيـــارى
نام في ذكرياتهم كل صوت
يذرعون الحياة في حيرة الأشباح
يمشون ميتاً أثر ميـــت
بردت في عيونهم قصة الحــب
وأبقت صمتاً عميقاً طويلاً
وخبت في جفونهم ومضة المعـنى
وأبقت غشاوة وذهــولاً (1)
وتخاطب الشاعرة الذين لم يموتوا في الحرب :
أيها الأشقياء في الأرض يامـــن
لم تمتهم قذائف النيران
عبثاً تأملون أن يرجـــــع الآن
أعزاؤكم إلى الأوطـان
أنظروا هاهم الجنود يعــــودون
فرادى مهشمي الأعضاء
آه لولا بقية من حيـــــــاة
لم يعودوا في جملة الأحياء
عبثاً يبحثون في هذه الأنقــــاض
عن أهلهم وعن مأواهم
عبثاً يسألون مايعلم العابـــــر
شيئاً فيا لنار أساهــم
كيف ذاقوا مرارة الخيبة المـــرة
بعد العذاب والأوصاب
أتراهم نجوا من الموت كي يحيــوا
بلا رفقة ولا أحبــاب
أين تلك البيوت يلمع فيها الضــوء
والحب أين من سكنوها؟
أين أطفالهم ورجع أغانيهـــــم
وتلك المنى التي صورها
وكانت دعوة الشاعرة إلى المحبة والإخاء جلية في شعرها وهي تتحدث عن مآسي الحرب :
أيها الأشقياء يازمر الأحيـــاء
في كل قرية وصعيــد
آن أن نستعيد ماضي حـــب
هو مفتاح حلمنا المفقود
مالذي بيننا من الحقد والبغضاء
ماكان سر هذا الدمار
أيها الأشقياء نحن جميـــــعاً
لعبة في مخالب الأقدار(1)
وكان السلام يداعب أحلام الشاعرة ، وكانت تدعوا إليه وهي ترى مآسي الحرب ، وتطلب منه أن يهبط على العالم الذبيح :
ياملاك السلام أقبل من الأجـواء
واهبط على الوجود الكئيب
ابك للراقدين في وجه المـــوت
واشرق على الظلام الرهيب
طف بهذي القرى لتلمس آهـات
الحزانى والسـاغبين الظماء
وارحم الصارخين في سرر الأمراض
بين الأحــزان والأدواء
طف بأنقاض عالم ليس يــدري
هل سيحظى بمبهجات الحياة
هو إن نام لحظة هبَّ مذعــوراً
ليبكي ويرسل الآهــات (2)
وترسم للسلام بعد أن عاد إلى الأرض صورة توحي بالألم ، لأن السلام رجع وهو في نعسة الحلم الخجلان ، طريداً تائه الخطو وقد استقر على الأرض غريباً ، ينظر فإذا الدمار ملء البصر ، وإذا الأنين ملء السمع ، عاد وليس أمامه إلا أن ينشر جناحيه ويظل العالم بظله(3) .
لقد هدأت نفس الشاعرة الثائرة على تجار الحروب وها هي الهدنة في الثامن من أيار ، 1945م ، وتنطلق فرحة بهذا اليوم وتسميه ((عيد الإنسانية ))(4) وتهتف هازجة :
في دمي لحن من الشوق جديـد
والمجالي حوالي نشيـــــد
ليلتي هذه ابتسام وسعــــود
طاف في الأفق فغناه الوجــود
هي ياقيثارتي لحن سعيــــد
هي شعر ، هي وحي ، هي عود
هذه الليلة للعالم عيــــــد
وهي ياقيثارتي الحلم الوحيــد
وتستمر في التعبير عن فرحتها بإعلان الهدنة وهي بين مصدقة ومكذبة ، لأنها يئست كما يئس العالم من السلام ، وظنت أن الحرب ستطبق على العالم ولا تتركه إلا بعد أن تجعله ركاماً كله ، ولكن الهدنة أعلنت ورن صوت السلم وهو ((فاتن النفحة علوي المعاني)) .
إن رقة أحاسيس الشاعرة وإنسانيتها العميقة وحبها للبشرية جعلتها تتألم من الحرب ، وهي ترى مآسيها ، أو تسمع عنها ، وتنطلق في التعبير عن آلام البشر وتغني للأشقياء :
أنا من غنت دموع الأشقياء
وبكت أشعارها للأبرياء
كم صريع قبره ثلج الشتاء
ويتيم مهده شوك العراء
وصبايا كرعت سم القضاء
قبل أن ترشف كأساً من هناء
صغت أحزانهم لحن شقاء
هو أحزاني وحبي ووفائي (1)
كانت بذرة الإنسانية في نفس الشاعرة منذ شبابها ونمت وأزهرت قصائد تصور شقاء الإنسان وتعاسته في هذا الوجود ، وكانت الحرب العالمية الثانية أعظم محفز لظهور هذه النزعة في شعرها وقد صورت مآسيها أفجع تصوير وكادت تسد منافذ النور ، فهي لاترى إلا التعاسة والدموع في عيون الأشقياء ، ولاتسمع إلا صرخات الجياع في كل شعب ، ولاتشهد إلا الشقاء في كل قلب ، وتخاطب السماء لتمد كفيها وتمسح حزن الجياع المعذبين :
المساكين ياسماء فمـــدي
لأساهم كفيك يفني الشقـاء
إن يكونوا جنوا فقلبك أسمى
أو يكونوا ضلوا فأنت السماء
ليس يعيى كف الإلوهة أن
تمحو حزن المعذبين الجـياع
فهي نبع الحياة والخير والفن
وبرء الأحزان والأوجــاع(1)
وكان منظر الريف البائس يؤذي نفسها فتثور على الواقع الأليم ، وتعبر عن مشاعرها الثائرة ، وتصف حالة الريفيين ، فأكواخهم حصير وأحجار ، وبؤس لايزول ، وغرف رثة المداخل والجدران ، وأنّى لهم النهوض والتقدم في الحياة وهذه حالتهم البائسة المؤلمة (2) . وكان منظر القرى الجائعة يؤلمها فتصور سكانها وهم في شقاء مقيمون :
سيلي بعيداً في القرى الجائعة
حيث الحفاة العراه
وحيث لايبلغ سمع الحياه
إلا صراخ الأنفس الضارعة
إلا عواء الذئاب
في عطفة الوادي الشقي الحزين
في شاهقات الهضاب
حيث لاتبصر عين السنين
إلا أسى المتعبين
قوافل يحدو بها أشقياء
في جنة من رخاء
قوافل الجائعين
في ذلك الواديالخصيب التراب
قوافل الضامئين
يلتمسون السراب(1)
ويؤلمها الفلاح الذي يكدح ليل نهار ، ولايصيبه من تعبه إلا مايتساقط من فتات المستغلين ، وهو الذي قضى حياته بين المحراث والناعور ، يلقي البذور والمترف الهانىء يجني ويسقي البساتين وصاحب القصر ياكل ، ويأتي الحصاد فإذا بالفلاح صفر اليدين ، وإذا بكوخه خالٍ مما يسد الرمق ، لأن المستغل سلبه كل شيء . وتستنكر الشاعرة هذا الوضع وتثور عليه وتسأل :
كيف يجني الأزهار والقمح والأثمار
من لم يجرح يديه القدوم
ويموت الفلاح جوعا ليفتر
ليعني رب القصور النعيم
وتخاطب الله سبحانه وتعالى :
كيف هذا يارب رفقا بنا رفقا
فقد غصت الكؤوس دموعاً
وطغت في الفضاء آهاتنا الحيرى
تغني رجاءنا المصروعا (2)
وتظل مأساة الفلاح تطوف في في مخيلتها وترتبط الأرض بالإنسان الذي يكدح ولا يجد إلا الشقاء والجوع :
حدثونا عن رخاء ناعم
فوجدنا دربنا جوعاً وعرياً
وسمعنا عن نقاء وشذا
فرأينا حولنا قبحاً وخزياً
ورتعنا في شقاء قاتل
وكفانا بؤسنا شبعاً ورياً
وعرينا وكسونا غيرنا
وكسبنا القيد والدمع السخيا
أين تلك الأرض من حجبها
نحن شدناها برنات الفؤوس
وأجعنا في الدجى أطفالنا
لنغذيها وجدنا بالنفوس
وزرعنا وحصدنا عمرنا
وجنينا ظلمة الدهر العبوس
وسقينا أرضها من دمنا
ومنحناها لأرباب الكؤوس(1)
ووجد الراعي إلى شعر نازك سبيلا ، ووقفت تبكي عليه ، لأنه يريق حياته في ثلوج الجبال ولهب الشمس ولايحصل على مايسد رمقه ، وتأسى للصياد الذي يعود إلى البيت مساء وهو فارغ اليد بعد أن أمضى نهاره في الحر المؤذي والشمس المحرقة من غير جدوى ، فيا لقلبه المسكين ، وقد عاد بزورقه الخالي وهو يتنزى ألما ، ويتغنى دماً (2) .
والنهر هو مصدر الخير والنماء يصبح مدمراً حينما يفيض ، ويغرق الحقول والبيوت ، ويودي بحياة الآمنين ، وقصيدة ((مرثية غريق))(3) ، لوحة إنسانية رسمتها ريشة نازك بألوان تفجرت من نفسها الحساسة وموهبتها الرفيعة . لقد كان المساء يقترب ، والصمت يخيم ، والضياء يخبو ، والقطيع يعود ، ولم يبقى سوى موج النهر يدوي ويروي أسرار الحياة ، في هذا الجو الذي يبعث في النفس الطمأنينة والهدوء كان هيكل يغطس حيناً ويطفوا على الماء حيناً ، ولم تتبينه الشاعرة في أول الأمر فلما تبينته صرخت :
آه ياشاعرتي هذا غريــــق
فاحزني للجسد البالي الممزق
راقداً تحت الدياجي لايفيـــق
والسنا من حوله جفن مؤرق
يالميت لم يودعه قريـــــب
فهو في النهر وحيد متعب
مابكى مصرعه إلا غريــــب
هو قلبي ذلك المكتئب
وتتجلى الصورة وتتضح وتظهر إنسانية الشاعرة ، وتتسع شكواها مما يحيق بالإنسان من مآسٍ وآلام ، وتنتهي إلى صورة قاتمة تعبر عن مصير الإنسان ، فكل شيء مصيره إلى الزوال ، ولا أمل للإنسان في هذا الوجود :
كل يوم بين أيدينا غريق
وغدا نحن جميعاً مغرقونا
عالم حف به الموت المحيق
وتباكىفي حماه البائسونا
ضاق ياصياد في عيني الوجود
يالكون سره لاينجلي
كـل ما فيه الى القـبر يقود
ما الذي يبقى لنـا من أمل
وتشتغل نازك بهذ المأساة و تلتفت , فإذا بنهر دجلة يفيض في عام 1946 فيضاناً رهيبا, وإذا به يكتسح الاحياء والاموات , واذا بمقبرة تغمرها مياه النهر المتوحش في مساء عاصف , وتسمع القصة فتنبثق قصيدة (( المقبرة الغريقة(1) )) , التي فجرتها عواطفهاالمتدفقة,وتصف المقبرة وصفا دقيقا يثيرالاسى في النفوس, ويبعث على الشجا والالم . لقد كانت المقبرة آمنة بعيدة عن الدمار , فإذا بالنهر يجتاحها , ويروع صمت الاموات , وإذا ببقايا الاجساد النخرة تطفو على سطح الماء , فيا له من منظر رهيب . وتبكي الشاعرة مُرّ البكاء لأن مصيرها الموت والفناء :
بكيت للأموات طول المساء
وصِغتُ من دمعي النشيد الحزين
وفي غَدٍ أرقد تَحتَ السماء
قبراً سيبكي عنده العابرون
وتبقى صورة الفيضان تلاحق الشاعرة وتقف في قصيدة (( الفيضان(1) )) لترسم صورة لما احدث النهر من دمار :
وقفت في الدجى تحس الاسى المر
وتبكي في مسمع الظلمـات
وترى بالخيال ماحل بالقرية
وبالبائسين من ويلات
فجأتهم تحت الدجى لجة الموت
فباتوا صرعى القضاء العاتي
ومضوا يضربون في ظلمة الليل
وما من منجى من المأسـاة
وتعالى تحت الظلام صراخ
رددته الرياح للاشجار
هو صوت الاحياء في لجة الموت
وصرعى الأمواج و الأقدار
ويعشق النهربغداد ويفيض في عام 1954, ويغرق بغداد الجديدة وبعض جوانبها, وتتصور الشاعرة عاشقاً وتسميه (( النهر العاشق(2) )) , ولذلك فهو يتبع الناس ويلاحقهم كالعاشق المجنون :
أين تمضي إنه يعدو علينا
راكضا عبر حقول القمح لا يلوي خطاه
باسطا في لمعة الفجر ذراعيه الينا
طافرا كالريح نشوان يداه
سوف تلقانا وتطوي رعبنا أنّى مشينا
وترسم الشاعرة لما أحدث النهر صورة ليس فيهاحزن قصائدها الاخرى أو يأسها:
أين نعدو وهو قد لف يديه
حول أكتاف المدينه
إنه يعمل في بطء وحزم وسكينه
ساكبا من شفتيه
قبلا طينية غطت مراعينا الحزينه
وتنظم قصيده أُخرى في فيضان عام 1954 وتسميها(( المدينه التي غرقت(1) )) وهي مرثية لبغداد الجديدة . وهذه القصيدة تصور الخراب بأجلى صوره , وترسم
آثار الفيضان بلون قاتم يثير الشجن :
وجـاء الخراب ومدد رجليـه في ارضـها
وأبصـر كـيف تنوح البيوت على بعضها
وحدق فيها واصغى الى الصرخات الاخيرة
لسقف هوى وتداعى وَشرفة حُبٍ صغيرة
وارسل عينيـه في نشـوة يرمق الابنيـه
وقد ركعت فـي هوان ذليل بلا مرثية
وجـاء الخراب وسـار بهيكله الاسود
ذراعـاه تطوي وتمسح حتى وعود الغد
وَأسنانه الصفر تقضم بابا وتمضغ شرفة
وأقدامه تطأ الورد والعشب من دون رأفه
وسار يرشُّ الردى والتآكل ملء المديـنه
يخرب حيث يحل وينشر فيها العفونـه
لقد جسدت الشاعرة النهر , وأضفت عليه صفة الحيوان المفترس الجائع الذي مضى يثير الرعب ويفترس كل شيء , فما افجع هذه الصورة التي رسمتها , وما أصدقها في وصف ما أحدث النهر من خراب شهده الناس, فلم يكن في نفوسهم من الالم والخوف مثل ما في القصيده التي جاءت معبرة عن الواقع الرهيب في ذلك العام , وجاءت خاتمة القصيدة التي جاءت معبرة عن الواقع الرهيب في ذلك العام , وجاءت خاتمة القصيدة مأساة فاجعه لأن المدينه فقدت كل شيء :
وتصحو المدينة ظمأى وتبحث عن امسها
وماذا تبقى سوى الموت والملح في كأسها
ويثير الشاعرة منظر جسد حصان على ارض الشارع المبلله , وكانت السياط ترتفع ثم تهوي فلا تسقط إلا على جرح،وتنظم قصيدة (( سياط وأصداء (1))) تعبر فيها عن مشاعرها وثورتها , وتتمنى أن تعدم الاحساس لتجد الراحة الى نفسها سبيلا :
يا ليتني عمياء لا ادري بما تجني الشرور
صماء لا اصغي الى وقع السياط على الظهور
يا ليت قلبي كان صخرا لا يعذبـه الشعور
وتنتقد عواطفها المشبوبة وتصرخ :
يا نار عاطفتي الرقيقة يا غريبة في البشر
وقع السياط على الظهور اشد من وقع القدر
والحس في هذا الوجود جريمة لا تغتفر
وإجتاح مصر في عام 1947 م مرض الهيضة_ الكوليرا _وجاءت الانباء تحمل مأساة الانسان العربي في هذا القطر , وتحركت مشاعر نازك وهي الحساسة التي يثيرها أدنى ألم ونظمت قصيدة (( الكوليرا (2))) . وكانت هذه القصيدة بداية الشعر الحر في اعمال الشاعرة , وكأن المساة كانت خيرا على تطور الشعر العربي الحديث , إذ خرجت الشاعرة , في هذه القصيدة على مألوف الشعر وحطمت بناء البيت , ولون عنفوان القافية الموحدة . والقصيدة بلونها الجديد وهدفها النبيل موسيقى جنائزية تثير الحزن في النفوس وتبعث الالم . لانها تصور الرعب الذي دهم القرى المصرية , والقلوب الفزعة الخائفة من المرض واليأس القاتل في جو كل ما فيه يثير الهلع والخوف :
سكن الليل
أصغِ الى وقع صدى الانّات
في عمق الظلمة تحت الصمت على الاموات
صرخات تعلو تضطرب
حزن يتدفق يلتهب
في كل فؤاد غليان
في الكوخ الساكن احزان
في كل مكان روح تصرخ في الظلمات
في كل مكان يبكي صوت
هذا ما قد مزقه الموت
الموت الموت الموت
يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت
ويطلع الفجر على الاموات وصرخات الاحياء : (( موتى , موتى )) , ويعلو الصراخ في كل مكان ؛ لأن الموت امتد الى كل الاحياء ولم يبقى ركن إلا وقد عصف به , وهو يصرخ مجنونا لا يلتفت الى صوت الباكين وصراخ المشيعين , ويمتد سعار المرض ولا يبقى سوى النوح والزفير , وطفل يبكي لفقد ابيه ومن يدري فلعل الداء الشرير يلقفه :
يا شبح الهيضة ما ابقيت
لا شيء سوى احزان الموت
الموت الموت الموت
يا مصر شعوري مزقه ما فعل الموت
وتتجلى دعوة الشاعرة الى المحبة والاخاء في قصيدتها (( لنكن اصدقاء(1) )) , وهي دعوة تصدر من انسانية اضناها واقع الانسان العربي المرير في اثناء الحرب العالمية الثانية وما جرت على العالم من ويلات امتدت سنيناً :
لنكن أصدقاء
نحن والظالمون
نحن العزل المتعبون
والذين يقال لهم مجرمون
نحن والاشقياء
نحن والثملون بخمر الرخاء
والذين ينامون في القفر تحت السماء
نحن والتائهون بلا مأوى
نحن والصارخون بلا جدوى
نحن والاسرى
نحن والامم الاخرى
في بحار الثلوج
في بلاد الزنوج
في الصحارى وفي كل ارض تضم البشر
كل ارض أصاخت لآلامنا
كل ارض تلقت توابيت احلامنا
ووعت صرخات الضجر
من ضحايا القدر
وتثير الشاعرة صورة فتاة بائسة في الحادية عشر من عمرها , وقد رقدت على الرصيف في يوم عاصف شديد البرد , وآلمها منظر الطفولة البريئة فنظمت قصيدة (( النائمة في الشارع(1) )) , لتصور بؤس الفقراء , وتصب نقمتها على البشر الذين لا تهزهم آلام المعذبين في الارض . لقد رسمت الشاعرة للفتاة صورة رهيبة تبعث في كل نفس الماً , ولكن أين الذين يألمون ؟
ولمن تشكو لا احد ينصت أو يعنى
البشرية لفظ لا يسكنه معنى
لقد ماتت الرحمة في القلوب ولم يبق إلا الطلم الرهيب :
هذا الطلم المتوحش بأسم المـدنية
بأسم الاحساس فوا خجل الانسانية
وتنحو الشاعرة هذا المنحى في (( مرثية أمرأة لا قيمة لها(1) )) , وتأسى على من ماتت ولم يشيعها احد , وتهزها ما آلت إليه الراقصة , فتنظم قصيدة (( الراقصة المذبوحة(2) )) , لتعبر عن ظلم البشر وقسوة الحياة وتأتي قصيدة (( غسلاً للعار (3))), مصورة ما إستقر في المجتمع من عادات ترفضها الانسانية وهي القتل غسلاً للعار من غير رجوع الى احكام الشريعة أو القانون , وكانت هذه الحالة تثير الرعب في النفوس وتلقي ظلالاً كئيبة على المجتمع النسوي خشية الانزلاق المودي الى القتل . والقصيده تعبير صادق عما يختلج في نفس القاتل وهو يرفع المدية ملطخة بالدماء بعد ان قتل المسكينة :
ويعود الجلاد الوحشي ويلقى الناس
العار ؟ ويمسح مديته : مزقنا العار
ورجعنا فضلا بيض السمعة احرار
والقصيدة تصوير دقيق لمشاعر الفتياة بعد ان سمعن بمقتل الفتاة , فهن فزعات خائفات من الانزلاق والفضيحة والقتل :
يا جارات الحارة يافتيات القرية
الخبز سنعجنه بدمـوع مآقينا
سنقص جدائلنا وسنسلخ ايدينا
لتظل ثيابهم بيض اللون نقية
لا بسمة لا فرحة لالفتة فالمدية
ترقبنا في قبضة والدنا وأخينا
وغدا من يـدري أي قفار
ستورينا غسلا للعــار
وعبرت نازك عن الموقف اللا إنساني في قصيدتها (( ثلاث أُغنيات شيوعية )) باسلوب الذم بما يشبه المدح , فهي لم تتحدث عن المجازر التي اقترفها الحاقدون في العراق عام 1959 م . كما وقعت , وإنما تحدثت بأسلوب الضد , وبذلك جمعت بين الفنية الرفيعة والواقعية الدقيقة . كانت نازك الملائكة شاعرة انسانية آلمتها احزان البشرية وأثارت مشاعرها وأحاسيسها . فأنطقتها بالشعر المعبر عن خلجات الانسان وعذابه في هذا الوجود , وكانت نزعتها الانسانية مستمدة من ظروف متعدده وعوامل مختلفة ولعل منها كما يأتي :
1. الحرب العالمية الثانية التي خيمت على العالم في صبا الشاعرة وتدفق شبابها, فقد رأت المآسي , وسمعت بالخراب , فأثارها ودفعها الى تصوير آلام الحرب , وما عانت البشرية منها .
2. الاحساس المرهف الذي هيأ لها جواً دفعها الى تصوير مآسي الحياة .
3. حياة الشاعرة في بيئة بغدادية أصيلة كانت الروابط الانسانية في أوثق عراها, هيأت الجو المناسب وجعلت الشاعرة تشارك الناس آلامهم .
4. شيوع الافكار الانسانية والدعوة الى تحرير الانسان من العبودية والفقر والحرمان .
5. اهتمام الشاعرة بالادب المهجري الذي تجلت فيه النزعة الامسانية , ولا سيما أعمال ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران , اللذين استمدّا إنسانيتهما من الاعتماد ببعض الاتجاهات التي ظهرت في الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الاولى وبعدها .
6. متابعة الشاعرة للشعر الوجداني وتأثرها به , ولا سيما قصائد توماس جري ووردزورث وشيلي وبايرون , وتعد قصيدة (( مرثية في مقبرة ريفية(1) )) , لجري مفتاحا لفهم الحزن الدائم , والالم المتدفق , والمشاعر الثائرة , والعطف على الانسانية في شعر نازك .
وقد تكون هناك ظروف وعوامل اُخرى بذرت في نفس الشاعرة حب الانسان ومشاركته آلامه وأحزانه , إلا أن هذه النزعة أصبحت نزعة قومية في دواوينها الأخيرة , وأصبح حزنها فرحا وتشاؤما أملا , وما إلى ذلك بفضل الثورات التحررية التي خاضها الوطن العربي , وبفضل الحياة الجديده التي جعلت الانسان يشعر بإنسانيته النابعة من حب الوطن والامة وعقيدتها السامية ورسالتها
الخالدة .
لم تكن نازك _ إذن شاعرة إنطوائية عاشت في برجٍ عاجي , وإنما كانت إنسانة مرهفة آلمها واقع الحياة , فصورت شقاء الجياع ومآسي الحرب وبعض صور المجتمع , حتى إذا نما الحس القومي بين الناس , ودقت الثورة العربية الابواب , كانت الشاعرة في الصفوف الاولى تغني للثورة وتدعو الى تحرير الارض المغتصبة , وتصور واقع الحياة العربية الجديدة اروع تصوير بقصائد تستمد رحيقها من قلبها الحساس . وكانت قصيدتها (( تحية للجمهورية العراقية )) فاتحة نزعة وطنية قومية تستحق البحث والوقوف عندها لتتضح صورة الشاعرة الحقيقية بعد أن طمستها تهم وأباطيل , لأنها لم تنساق وراء الاحداث المتغيرة , ولم تطمع في مجد يُشاد على التزييف ’ وكفانا أنها حررت الشعر العربي من قيود العهود المظلمة وكانت رائدة الشعر العربي في القرن العشرين .
#وعد_العسكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟