عموما لازالت الديمقراطية غائبة على صعيد الركح العربي رغم كثرة الحديث عنها على امتداد بلدان الوطن العربي.
إن الديمقراطية في الوطن العربي ما زالت تواجه عوائق، وفي هذا الصدد أضحى على النخب العربية تحويل إشكالية الديمقراطية من مجرد شعارات إلى بحث وتنقيب عن العوائق التي تمنع تكريسها في المجتمعات العربية التي قلما عرفت الفصل الفعلي بين السلط الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) وتداول النخب السلمي عل الحكم، كما أنها لا تعرف الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، علما أن هذا الفصل الأخير يعتبر حجر الزاوية للديمقراطية.
في الوطن العربي هناك عدة عوائق تقف في وجه الديمقراطية، وهي عوائق دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. لكن بالمقابل إن الحداثة سائرة في التغلغل في وعي الشباب العربي.
ولا يخفى على أحد أن الحداثة، مثلها مثل الديمقراطية، مسار تدريجي يمر بتطورات وتراكمات متلاحقة. ولعل أول خطوة لا مناص منها هي تكريس الديمقراطية وسط الأحزاب السياسية التي تطالب بها آناء الليل وأطراف النهار دون أن تلي أدنى اهتمام للاعتراف بها وسطها.
إلا أن الفقر يظل هو أبرز معيقات تكريس الديمقراطية بالبلدان العربية. إن نصف سكان البلدان العربية ( 50 % ) يعيشون تحت خط الفقر، كما أن مختلف التجارب على امتداد الوطن العربي تبين بجلاء أن الفقراء تعاملوا مع الانتخابات إما بالاستنكاف عن المشاركة وإما ببيع أصواتهم وإما بالتصويت الاحتجاجي. وهذا أمر طبيعي وليس غريبا ما دامت الديمقراطية الحقة لا تتأصل إلا في مجتمعات الوفرة. وفي هذا الصدد أقر البنك الدولي بأن الشرط الأساسي والمناسب لإقرار الديمقراطية وتكريسها هو بلوغ متوسط الدخل الفردي 10.000 دولار في السنة. علاوة على أن معظم الفقراء في الدول العربية هم ضحايا الأمية والجمل وهذا لا يساعد على تنمية الوعي بأهمية الديمقراطية والمطالبة بتكريسها في الحياة اليومية كعامل استقرار سياسي يساعد على توفير وتجميع الشروط لتحقيق التنمية الاقتصادية كما أن الفقر، فضلا عن ذلك، لا يساعدهم على الوعي بأهمية حقوقهم المدنية وهم المشغلون على الدوام باللهث وراء توفير لقمة العيش.
وعموما لن يستقيم مسار تكريس الديمقراطية بالبلدان العربية إلا عبر إعادة صياغة الوعي الإسلامي بالقيم الديمقراطية الإنسانية عبر إعلام يعلم المواطن بالمشاكل الفعلية وبالمشاريع والرؤى المتنافسة لحلها وعبر تعليم حديث بالمقاييس الدولية وتعليم ديني تنويري يلغي كراهية الآخر ودونية المرأة وتهميش تفعيل العقل، وعبر تعديل الدساتير حتى لا تتضمن أفكارا وبنودا ومواقف منافية للديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة لجميع المواطنين دون استثناء. هذه هي بداية المشوار لتحقيق الديمقراطية، كوسيلة ضرورية للتطور ومواجهة تحديات العصر.
إن عموم الشعوب العربية لازالت تعاين حالة الضعف في النمو الاقتصادي وتهميش مواردها البشرية وسوء تدبير الموارد الاقتصادية وضعف إعادة استثمار الثروات المضافة بطريقة مجدية تعود بالخير على عموم الشعب وسوء توزيع الثروات الوطنية وتفاقم الآثار النفسية والثقافية الناجمة عن ذلك، وهذا في وقت كثر فيه الحديث عن ضرورة الإصلاح والتغيير للخروج من هذا الواقع المزري.
وفي هذا الإطار لابد من الإقرار أن الديمقراطية يمكنها أن تلعب دورا أساسيا في التصدي لمختلف ألوان التقصير في معالجة مختلف الأزمات التي عاشتها ولازالت تعيشها المجتمعات العربية، إن على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي.
إن غياب الديمقراطية واستمرار غيابها في المجتمعات العربية لن يقود إلا إلى قيام أنظمة تستند على فئات محدودة تستأثر بكل السلطات، وتستأثر بتدبير كل المؤسسات والإدارات. ومن حين لآخر يتم اللجوء إلى إجراء مسرحيات بحجة مكافحة الفساد، مع الاقتصار على محاسبة الصغير دون الكبير. وتظل دوائر الفساد الأساسية محمية بحكم مواقعها السياسية والاقتصادية.
كما أن غياب الديمقراطية تؤدي ـ في المجال الاقتصادي ـ إلى تحولات اقتصادية مشوهة تفقد المستثمرين الثقة في إقامة مشاريعهم، وبذلك يظل الوضع الاقتصادي يدور في حلقة مفرغة دون أي تقدم ملموس لمعالجة الأزمة. ويترافق هذا الوضع بازدياد الفوارق الاجتماعية والطبقية وتتعمق هذه الفوارق مع استمرار ضعف النمو الاقتصادي مما يؤثر على شروط الاستقرار الاجتماعي. وفي هذا الإطار، فإن الديمقراطية من شأنها إيجاد الآليات السليمة لتوزيع الثروات الوطنية والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية. لمعالجة أسباب الأزمات السياسية والاجتماعية من المفروض تبني الأساليب الديمقراطية الكفيلة بالتعرية عن الثغرات والنواقص.
فالديمقراطية وسيلة من شأنها أن تساعد في فضح الاحتكارات ووضع الإصبع على التشوهات ومكامن الفساد.
وفي ظل غياب الديمقراطية تتجمد البنيات الاجتماعية وتفقد إمكانية التجاوب المجدي مع متطلبات التقدم والتطور، لتسود سمة الركود والتخلف. ويتجلى هذا الركود في بنية الأحزاب السياسية والمؤسسات الاجتماعية التي تتوقف عن تحقيق وظائفها الأولية. وهكذا يقود إلى تشوه وركود المؤسسات الاجتماعية إلى حالة العجز والشلل الاجتماعي، وبذلك تسود حالة عامة من اللامسؤولية، نتيجة الوضع الاقتصادي المشوه وضعف المراقبة وغياب المحاسبة فمن المعروف أن المجتمعات المبنية وفق الأسلوب الديمقراطي تطورت بشكل مسترسل وحيوي واستطاعت تجاوز أزماتها، وذلك بفضل اعتمادها الديمقراطية كأسلوب في قيادة وإدارة وتنظيم بنى المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بواسطة قوى وتنظيمات وأحزاب سياسية تحدد مسؤولياتها وسلطاتها وفق قوانين ورؤى سياسية تعتمد من قبل الجميع وفق آليات تسمح للجميع في المشاركة بصياغتها وتكريسها وتطبيقها.
إن الديمقراطية تساعد في تحقيق المساواة القانونية وتضمن حقوق المواطنين ومساواتهم في اختيار ممثليهم وضمان حقهم في محاسبة وعزل القادة والقائمين على الأمور عند فشلهم في تنفيذ البرامج التي يضعونها.
وبما أن الديمقراطية أسلوب حكم سياسي يمكن تطبيقه في جميع المجتمعات، فمن الطبيعي أن لا تتطابق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إلا أن مسألة العدالة الاجتماعية تبقى في مركز مهام وجدول أعمال أغلب القوى والأحزاب السياسية الفاعلة في المجتمع الديمقراطي. ومن الطبيعي أن تتضمن برامجها آليات وأنظمة تقود إلى العدالة الاجتماعية.
فالديمقراطية تساعد في صياغة نهج سياسية اجتماعية تتطور باستمرار قصد التمكن من المحافظة على مستوى جيد أو مقبول للمعيشة بالنسبة لكافة أبناء المجتمع والسعي إلى تطوير هذا المستوى بواسطة تقويم الآليات الضريبية والتغطية الاجتماعية والصحية وتوفير فرص العمل وتأمين الخدمات الاجتماعية للتخفيف من الفوارق الاجتماعية.
والديمقراطية ليست وصفة جاهزة وليست نسخة وحيدة في كل مكان وزمان، بل هي أسلوب من أساليب الحكم ينسجم مع الظروف الذاتية والموضوعية لكل بلد. إنها وسيلة مساعدة في معالجة الأزمات الاجتماعية والسياسية، وتساعد على تعرية الشذوذ وحماية السلوك والأخلاق وتساعد في صياغة حقوق الإنسان. إن الديمقراطية إحدى وسائل مجابهو التحديات ومواكبة التطور الحضاري.
وتواجه الدول العربية منذ أكثر من ثلاثة عقود تيارات متطرفة، بعضها تحول إلى إرهاب وإلى إيديولوجيات انتشار الموت. ومختلف هذه التيارات اعتبرت العلمانية ( الفصل بين الدين والسياسة) تآمرا على الإسلام وحربا عليه. باعتبارها عملية تحريف وتشويه وبدعوى أنها قضاء على الدين.
ومهما يكن من أمر فالديمقراطية تظل وسيلة فعالة تساعد في معالجة المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما هي وسيلة فعالة لتعرية العيوب والبحث عن حلول الأكثر جدوى لمعالجتها. إن الديمقراطية في دولة الحق والقانون، حاجة ووسيلة يمكن عن طريقها تجميع الشروط لتحقيق التطور الاقتصادي.