|
البحث عن مشروعية لنظم الرأسمالية بعد التخلي عن الدولة الاجتماعية
نبيل يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 2004 - 2007 / 8 / 11 - 11:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترزية "الهوية" واستعادة ولاء الشعوب اصبح البحث و الجدال حول "الهويات الوطنية والثقافية" شغلا شاغلا للساسة والكتاب والاعلام في العديد من دول العالم. ويفضح هذا الانشغال وجود ازمة تمر بها ليس فحسب الدول التي كانت تروج من سنوات قليلة لعالم اصبح قرية صغيرة، بل ازمة تعانيها ايضا مجموعات سكانية في بلدان عديدة كانت منذ سنوات قليلة تشكل شعوبا تتشارك في السراء والضراء، ناضلت معا رغم تنوعها العرقي والديني والثقافي من اجل الاستقلال الوطني، ومن اجل تحقيق طموحها الي التقدم والعدالة في وطن موحد.
في اوروبا، التي تعتز بتاريخها كقارة للتنوير والديمقراطية، جعل ساركوزي مطلب تعزيز الهوية القومية شعارا رئيسيا لحملته الانتخابية مكررا هذا الشعار 28 مرة في خطابه عشية انتخابات الرئاسة. الشعار الذي سرقه ساركوزي من حزب لو بان اليميني المتطرف في عدائه للمهاجرين (حزب الجبهة الوطنية) جلب له 3 ملايين صوت من مؤيدي لو بان ضمن بها الفوز في لانتخابات. وبعد اعتلاء عرش الرئاسة اسس وزارة اسمها "وزارة الهجرة والهوية القومية" الامر الذي جلب له انتقادات واسعة بسبب الشك المبرر في نزوعه الفاضح لتبني نهجا قوميا تمييزيا في سياسته تجاه المهاجرين. ولكن من وما الذي يهدد الهوية القومية الفرنسية؟ وزير الداخلية ساركوزي هو الذي وصف المهمشين من ابناء المهاجرين بأنهم حثالة وحث على التعامل معهم بقوة البوليس اثناء الانتفاضة العفوية التي اوصلتهم لها حالة اليأس من البطالة والفقر والاقصاء الثقافي. هذا قبل ان يعترف ساركوزي بأن فرنسا اهملتهم طوال ثلاثين عاما ولم تقدم لهم شيئا.
احزاب المحافظين في المانيا واليمين المتطرف التي تستخدم "فزاعة الاجانب" قبل كل حملة انتخابية كوسيلة لحصد اصوات الناخبين الذين ينتشر بينهم الخوف من تردي اوضاعهم الاجتماعية والقلق من المستقبل، هذه الاحزاب تروج لضرورة التزام جميع السكان بثقافة رائدة تحافظ على تماسك المجتمع. ولا تريد هذه الاحزاب الاكتفاء بالتزام كل سكان البلد بدستور الدولة بوصفه الاساس المنظم للحياة المشتركة بمبادئه التي تنص على الحقوق والواجبات. بل تسعى لاضافة عناصر اخرى ترفضها القوى الديمقراطية لمساسها بالطابع العلماني للدولة ولحق كل انسان في اختيار نمط حياته. وبينما تعلن مستشارة المانيا ان تحقيق اندماج ملايين المهاجرين مهمة رئيسية للدولة ويلوح في الافق ان الدولة ستولي اهتمامها للمشاكل الاجتماعية للمهاجرين تصدر قوانين تمييزية ضد اكثر من مليونين من الاتراك.
اين السبب؟
عدم الاعتراف بالحقوق الاجتماعية للعاملين والمسنين والابقاء على الظلم الاجتماعي والحرمان من المشاركة الثقافية والسياسية كان ولا زال ميلا اساسيا للراسمالية العالمية. ولكن الصراعات الطويلة للحركات العمالية وحركات حقوق المواطنين فرضت تغييرات هامة في النظام السياسي وانتزعت حقوقا سياسية واجتماعية وثقافية اصبحت تشكل الوجه الذي نعرفه لهذه البلدان ومعلما هاما لثقافتها. ولكن لماذا تنحو النظم الحاكمة في بلدان الرأسمال المتقدمة اليوم الي اعادة عجلة التاريخ الي الوراء؟ لماذا تندفع هذه البلدان نحو اسباغ طابع اثني وثقافي وديني على النزاعات الاجتماعية والسياسية، دون انكار ان صعوبات اندماج المهاجرين تحمل سمات ثقافية تقليدية تعوق الاندماج؟
في اعتقادنا ان التحولات الجارية في مجتمعات الرأسمالية المتطورة بالاندفاع في طريق التطور المنفلت للرأسمالية، والمسمى النهج النيوليبرالي قد اصاب اسس الدول ومن اهمها تبني نهج التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية بالتصدع. وبقدر ابتعاد سياسات الدول عن طموحات الشعوب تصبح مشروعيتها موضع سؤال. الدولة الاجتماعية او دولة الرفاهية التي مثلت تنازلات هامة واساسية للعاملين في بلدان الرأسمال في ظل وجود النظام الاشتراكي يجري التخلي عنها بشكل حثيث. المبادئ التي دعت اليها الثورة الفرنسية (الحرية، المساواة، الاخاء) تآكلت مع ديكتاتورية السوق وسيادة مبدأ الربح بلا قيود. واصبحنا امام رأسماليات تمزق ما تبقى من علاقتها الواهية بمبادئ الثورة البرجوازية: فلا اخاء، ولا مساواة (بمعنى ضمان مستوى معينا من العدالة الاجتماعية)، أما الحرية فهي آخذة في التقلص بشكل متواصل بحجة المعركة ضد الارهاب.
تفاقم من الازمة آليات العولمة التي تؤدي الي تضائل متزايد في سلطة الدولة الاقتصادية، حيث تتزايد سطوة الشركات الكبرى العابرة للقارات. وبالتالي تتقلص القدرة التنفيذية للسطة السياسية للدول ويتزايد عجزها عن حل المشاكل الاجتماعية الاساسية مثل مشكلة البطالة وضمان معاشات المتقاعدين. والذوبان في وحدات كبرى مثل الاتحاد الاوروبي والناتو يسلب الدول سيادتها على العديد من مجالات السياسة مثل السياسات النقدية، والسياسات الانمائية والخارجية. وجاء رد الفرنسيين والهولنديين برفض الدستور الاوروبي تعبيرا عن القلق والسخط السائد. وينتشر التساؤل في بلدان عديدة لماذا نحارب في افغانستان وافريقيا؟ ومتى تنتهي الحرب ضد الارهاب التي على عكس ما تصوره الدعايات الحكومية فاقمت منه.
حصيلة كل هذا تقض مضاجع حكومات وساسة في بلدان اوروبية عديدة، وهي تتمثل في اعراض الناس المتزايد عن السياسة. واصبح العزوف عن المشاركة في الانتخابات ظاهرة ثابتة، وتعكس استطلاعات الرأي تعبير نسبة عالية من السكان عن عدم ثقتهم في وجود تطبيق ديمقراطي حقيقي وفي الاحزاب الكبرى.
صناعة الهوية كمخرج من الازمة
الخوف من اخطار حقيقية او مزعومة تهدد المجتمع وحاجة المحافظين من انصار استعادة "لدولة القوية" والسعي لاكتساب ولاء الجماهير للنظام في ظل ازمة تتفاعل بسبب التخلي عن الدولة الاجتماعية وجد في الهجرة والمهاجرين ما يصلح لرسم صورة خطر يهدد السلام الاجتماعي والحرية والديمقراطية. يضاف الي ذلك التضخيم المستمر لاخطار خارجية مبعثها التشدد الاسلامي في افغانستان وباكستان، وسعي ايران لامتلاك تقنيات نووية. كل هذا يساق ذكره لدعم تمرير قوانين توسع اجراءات الرقابة وتحد من الحريات، ولاقناع الشعوب بقبول المزيد من المشاركة في عمليات التدخل العسكرية الخارجية. لذا يبذل "البرين ترست" جهده في الاعلام لاقناع السكان بأن عليهم في ساعة الخطر ان يلتفوا حول حبل يعتصمون به، وبالتحديد في تميز واضح عن الآخرين. وهذا الحبل هو بالضبط الهوية المشتركة التي لم يفكر احد بها طوال عشرات من السنين.
العمليات الارهابية الدموية في 11 سبتمبر في امريكا ثم في بلدان اخرى اكسبت السياسات اليمينية مصداقية في اوساط جماهيرية واسعة. والجهود لحماية وبعث ما يسمى "القيم الاصيلة" يراد به ان يكون مرجعية تدفع الناس ليصطفوا حول الدولة. يترافق مع هذا احداث فرز على اساس ايديولوجي، عرقي، ديني، بدلا من فهم التحركات السياسية كتعبير عن المصالح الاجتماعية والثقافية. سياسات الهوية لا تهدف فحسب لعزل واقصاء الاقليات بل بدرجة عالية تهدف لعزل اليسار الرافض مبدئيا لتقسيم الناس العاملين على اساس ديني وعرقي. فكرة صراع الحضارات التي بشر بها هنتجتون تصبح اليوم مرشدا للسياسات الداخلية.
#نبيل_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جماعات الارهاب تغتال التضامن العالمي مع شعوب البلدان العربية
-
ميلاد حزب اليسار في المانيا
-
قمة الثمانية في المانيا بين الوعود والنتائج الفعلية تمخض الج
...
-
قمة الثمانية في المانيا
-
اين يقف اليسار الالماني من القضية الفلسطينية وكيف يرى اشتراك
...
-
رؤية اليسار الالماني في حوار عن الشرق الاوسط وعن اشتراكية ال
...
-
مؤتمر الامن الدولي في ميونيخ: عندما تتحدث روسيا بلغة الاستقل
...
-
رغم العولمة .. الاستقلال الوطني ممكن
-
المحافظون الالمان بين تعثر الاصلاح والحيرة امام مجتمع متعدد
...
-
!كرة القدم.. الهوية والعداء للأجانب فى ألمانيا
المزيد.....
-
-45 ساعة من الفوضى-: مصادر تكشف لـCNN كواليس إلغاء قرار ترام
...
-
مستشار ترامب: يجب على مصر والأردن أن تقترحا حلا بديلا لنقل س
...
-
-الطريق سيكون طويلا جدا- لإعادة بناء غزة من الصفر
-
إدارة ترمب تسحب 50 مليون دولار استخدمت لـ-الواقي الذكري- في
...
-
أميركا نقلت صواريخ -باتريوت- من إسرائيل إلى أوكرانيا
-
-الشيوخ- الأميركي يعرقل مشروع قانون يعاقب -الجنائية الدولية-
...
-
مقتل العشرات بتدافع في مهرجان هندوسي ضخم بالهند
-
ترمب يأمر بتقييد إجراءات عمليات التحول الجنسي للقاصرين
-
دفع أميركي باتجاه وقف هجوم حركة -أم 23- على شرق الكونغو
-
توقيف رجل يشتبه في تخطيطه لقتل مسؤولين في إدارة ترمب
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|