*( 1906- 1991)
ترجمة : حميد كشكولي
دعني كي أستحيل بوقا تعزف فيه الحياة وصلات موسيقيّة مدويّة.
دعني ألّا أتداعى في ثمالة النوم – لا:
ألّا انبجس مثل نابض حديد مضغوط !
اجعلْ مني عازف فلوت بيدين مكسوتين بالشعر، أعزف الألحان من أشجار غنية النسغ،
و ليكن الشاحبين حمرا و ليرقص الجميع!
أزل اللحم الرخو من أطرافي،
اعطني عضلات تهتزّ و تشتاق و تحث على العمل،
عضلات سعيدة تشتغل كمكائن يانعة.
( مكائن بأطراف حديد عارية تسبح في زيت أزرق !)
***** ***** *****
أريد أن أزعق بهجة الحياة ، وأن أضحك بفكٍّ قوي.
أودُّ لو تهاديتُ نشوةً، ثملا من فيض سعادة الحياة.
أبغي غناء ألحان سامية في مواسم يكون فيها الحصاد نعمة و القلوب مفعمة بالخير.
عسى أني أدمدم حول تفاهة الأشياء في فترات المرارة و التعب،
أغمغم بسوداوية مثل ريح أيلول حين تهب في أشجار مثقلة بالمطر.
أريد مداعبة الأرض بيدي فتزهر وتبعث بالنور.
أريد أن أكتب قصائد عن أيام لم تطلع بعد من رحم الفجر الأحمر.
* * * ***** *********
الخريف
عواصف و أسمال الغيوم .
أشجار مائلة على الأفق الأحمر.
دروب خالية.
لا أناس عند البوابات.
جياد طليقة تعدو عدوا مخيفا فوق حقول عارية.
( كيف ترفرف أعرافها الطويلة بين أسمال الغيوم!)
مياه خريفية تمط إلى الأمام في طيات ثقيلة ، و لمعان داكن حريري و سطوع لؤلئي لفولاذ مصقل .
شاب وشابة يلتقيان في مدرج الخريف الرطب القرمزي.
( كيف تقتحم الريح ثيابهما و ترسم رحم المرأة المدوّر!)
وعلى جذع شجرة في ملتقى الطرق ترفرف يافطة حمراء كشعلة تدعو إلى التمرد – ترفرف وترفرف في الريح.
من مجموعته الشعرية" الجمر" الصادرة 1928
****** ****** ****** *****
أنا رجل يحدق إلى الأسفل من فوق جسر وأراني منعكسا في الماء المتدفق،
لم أعد أعرف ذاتي ، و لعل ذاك أي هائم يمكن أن يكون ،
و أنا ابن حاول أن يصبح أبا لِذاته، يكفر في الأصول، مثل شجرة ليس لي تاريخ , نموت بطريقتي الخاصة،
مع الريح ، و ضد الريح،
حاولت أن أحب الحجر أينما كان واكتشف لون العيون ذاته في الماء،
ربما أنني ورثت الجوع حقا، جوعا لا يعرف الشبع و لا تفهم للقناعة حدودا،
فالجوع في ذاته كالجوع في ذاتي, ذئب يلقى ثلجه في كل مكان.
أنا الطفل الربيب في هذا البلد، لن أصل البيت قط،
أهيم على وجهي في دوائر،
طفل ربيب دون أن يلقى جذرا يقتلعه من الأرض،
الضباب لوحده ينفرد للحظة , و يغلق بوابة، مُسَلْوَتة سخام في وجه يوم حلوب،
أصوات غريبة ترعد من بعيد بلا أصداء،
الصقيع يجفل الأحجار فتغطس بآهات ، مثلما ينبجس الهواء من العجين المختمر،
لكن تلك التنهيدة لا تلتفت إليّ.
إبر التفكير تلمع كأنني واقف على الساحل في مواجهة الشمس، لكن الأرض تختفي تحت الأشجار ، حتى أنني لم أعُد أرى الغابة،
يصعد الدرب كسد منيع و المرور يطلق الإنذار بين تويجات الأشجار،
الروض يهجع في أجمته الخضراء و يلعق جروحه،
الحصان الرمادي الأخير ينحني إجلالا أمام الغروب مثل فتاة كبرت إلى سيدة عجوز،
و الريح ترنم في رسن عمود البوابة بلا بوابة.
**** ********* ********
آلاف الآلهة تدب على الأرض ، ترتفع بشكل لولبي ، تملأ الفضاء دوامات وريشا،
إنه حصاد أنيق للآلهة من قمم الجبال نحو البحر،
آلهة تأكل وتتقيأ و تحلب خلسة،
تطأ الأرض و تشعل النار في الغابات،
تخفي ألبسة و يريق الطحين،
تفحّم قروص العسل و تهدر الزعفران،
يبني لنفسها معابد من البرق فوق المدينة،
تدفع الأفاعي لتعلّق في الشص،
القرش يبكي كالأطفال عند تل الرمال.
فما أقسى العيش مع الآلهة ، و ما أصعب الحياة لها!
من يريد الخروج لمبارزة الآلهة كبطل آدمي بائس،
أيّ فأس يقوى على النيل من جذور الآلهة ، فجذورها دفينة في الإنسان،
من يمكنه أن يقتلع تلك الجذور من اللحم، وإخراجها من مياه الأحلام العميقة و ظلمات الدم،
الآلهة التي تهرع لكي تعود من ديار لا نتصورها،
سعيدة سعادة خطيرة، و عندها مفاتيح من النار ،
آلهةٌ سُرَرُها من هواء و عيونها تطفو كفقاعات على الماء.
لكن اطردْ هذا الإله الصارخ،
أخرجه كالألم من جذور الأسنان،
من مستراح الأمعاء.
فالحرية الأولى هي الحرية من الآلهة،
و من ثم تأتي الحريات الأخرى ،
والحرية من الحكام أيضا تشبه التحرر من الخوف،
(فالرجل الذي يدع أن يلدغه كوبرا هو حاكم،
والرجل الذي يجلس مبرأ في النار لهو حاكم،
فالسلطة عجيبة ، كالحياة المفروضة):
فلهذا اقلع جذور الآلهة الدموية أيضا، إن صرخت مثل لفّاح الخرافات!
من مجموعته الشعرية " لحظات وأمواج" الصادرة 1962
********
تمنيتُ أن تنمو لي أجنحة ( و من لا يتمنى مثل هذه الأمنية ؟ )
آه ، أجنحة ، أجنحة !
لكن تحققت أمنيتي إلى النصف:
أصبح لي جناح واحد فقط، على طرف واحد مني ، في كتفي اليسرى!
فماذا أعمل بهذا الجناح؟
أقدر أن أفرده و أرفرف به بشدة في الهواء ، مصعّدا الغبار و الأدخنة ،
و يسع جناحي الوحيد أن يدور قليلا حول نفسه.
و ما الفائدة من كل ذلك؟ فلا يرفعني عن الأرض قيد أنملة، يجعلني أدور فقط حول ذاتي و إذا لم أتمالك نفسي لأسقط !
ويل لي ! أن تحوز على جناح واحد فقط أسوأ بكثير مما لو لم يكن لك جناح قط،
أنا الآن أفتقد الأجنحة بلا هوادة أكثر من أي وقت.
من مجموعته الشعرية " روعة الدنيا" الصادرة 1975
**** **** ****
أنت تقول إن الأشجار عُبدت كالآلهة ، ولو كانت كل شجرة إلهة لكانت الآلهة أكثر عديدا من البشر، و قد تمت التضحية بالعديد منهم إلى اليوم، و لاستمروا يضحون بها ، فالأشجار كالآلهة ترفع نفسها عالية عن البشر، ترى نفسها خيرا منهم و مهيبة ، إذ تتنفس بعمق ، وتشرب بعمق ، وتعاشر الريح مثلما تعاشر نعوشا غير مرئية، تستقبل المطر كحرّاس في قلنسوات خضراء تحوّل أشعة الشمس إلى نبات.
أشجار كآلهة ، أجساد و أرواح متحدة ، تتوسط بجذورها ، وجذوعها و تويجاتها بين الأرض والسماء ، موسّعة مملكة الخضرة ، و نضارة الأوراق ، منقّية الهواء ، خالقة المطر، أشجار لسلوى الإنسان، مثلما الأب و الأخ و الأخت تحمي و تبعث بالطمأنينة، صامدة وأمينة ، صادقة يعتمد عليها، تحتضن و يبكى المرء في ظلالها،
الأشجار الآلهة النائية ، شمالا وجنوبا، تسبق حياة الإنسان إلى مديات أبعد ، في بكم يحفظ أسرارها:
أسرار الآلهة التي لا يدركها البشر.
فما دام ثمة أمل عند الشجر ، فهناك أمل عند البشر، شرط أن لا يتنكّروا للأشجار الوهيتها مثلما يتنكرون ألوهية إلههم.
من مجموعته الشعرية النثرية " صور الحواس" الصادرة 1982
استيقظي، "آماريليس"، انهضي! فأنتِ لا تفكرين قط بالراعية الكلاسيكية ، بل بالزنبقة النرجسية الهاجعة في النوم الشتوي ، و التي كوّرت نفسها كبصلة، و يكاد حجمها يكون بحجم رأس طفل رضيع و تنتظر في أصيصها،
نعم، إنها تستيقظ، تنهض ، على مهل ، واثقة بالنفس، وبلسان أخضر تنتشل نفسها من خشبية البصلة القاسية ، ودون أن نشعر ؛ ينمو اللسان ويكبر يوميا ؛ يغدو ساقة خشنة ، يبدو وعرا رغم خوائه ،
فالساقة أنبوب أخضر أو خرطوم مياه لسقي الزرع، يذكِّر دوما بثعبان يرتفع عاليا وباقتدار، يستحضر رأسا متورما يشرع في التذكير بكوبرا؛ مرتفع يستعد للدغ،
و في الوقت ذاته يشبه هذا عضو رجل منتصبا ، …. كلا .. عضو حمار في الطول ومشقة الارتفاع، و برأسه المنتفخ الذي يحمرّ باطراد ، كأنه عبّئ بالدم،
ثمة شئ شيطاني سكن هذه النبتة حيث تخرج صاعدة من بصلتها دون مقاومة ، كأنها تُنتزع من خصية وحيدة متورمة، بينما ساقة آخر تجهد لكي تشق الدرب لتستقر جنب الساقة الأولى المنتشية بالنصر،
فالإزهار مثله مثل عملية الولادة، مليئة بالآلام و النزيف الدموي، حين تتقدم الزنبقات الأربع إلى أمام ، كل واحدة في اتجاه معين ، كأنهن يبحثن عن أربع شموس متقابلة،
ينشرن كمّاتهن كأفواه واسعة، كأنهن راقصات أو نهمات لا يشبعن، حسناوات ورهيبات، و بعنفوانهن سجينات شكل الزنبقة الكامل ،
وهناك يعلنّ عن أنفسهن ، أنهن انتصرن ، و بالبوق يبعثن بتلميحاتهن الحمراء، أبين إلا أن يبعن أنفسهن غالية، وأن يصمدن في مواقع الحسن حتى النفس الأخير،
و في هذه الفترة تستجمع الساقة الأخرى قوتها و تشرع في الاندفاع أماما إلى جنب الساقة المزدهرة الشماء ، مستعدة لكي ترث عرشها مثلما الأخت الصغرى تخلف الأخت الكبرى ، و دون الحاجة إلى إيعازك:
استيقظي ، "آماريليس"، انهضي –
**** **** ****
الخطوة هي أن تخطو دوما من الحبّ الأصغر إلى الحبّ الأكبر، من فوق عتبة الذات، حبّ الشيء الوحيد ، الذي هو عبارة عن مرآة حبّ الذات،
فبدلا من حبّ هذه الأرض الصعبة و الأعماق الأليمة، ثمة حبّ الأحشاء بأفعالها الخفية ، حب ّالغرام و البيداء التي تستحضره ،
حبّ الشعرة الساقطة من رأسك ، حبّ الآلة التي تحك يدك، وحبّ كل شئ يجعلك فعالا لكي تقف بوجهه ،
حبّ الكذب الذي يجعل من الحقيقة ملحا, و حتى حبّ اللاحبّ الذي يُري بطانة النسيج النموذج, حبّ الشعور الذي يهذّب العقل و بالعكس،
الحبّ الذي خص به الله ، مثال الإنسان المعلّى ، و الذي الآن يجبّ أن يخصّ الخليقة الصاعدة ، حبّ المترددين ، الخائبين ، الخاسرين ، حب " اروس" الضرير الذي يرى فقط باليدين،
حب الوالدين الذين عانوا لكي تصبح أنت ما تصبح، حبّ ذاك الذي كان يأتي منه ما أتى .
مثل هذا الحب هو الطريق الوحيد إلى الحرية، هو الاضطرار الذي يحوله الحب إلى حرية،
هذه الخطوة يجب أن تتخذ دوما !
********
كثر ما أشعر أني سنديانة عجوز، نحيلة و ذات نُدُب ، بعض أغصانها ذبلت ، ومع ذلك خضراء بما يكفي أن احسبني حيّا،
تلك ليست الفكرة الأصلية، و ربما ليست ما يستحق الذكر، ولكن بكل بساطة ورغم كل شئ أنها كانت حياة، ولا اعرف إن كانت أفضل أم أسوأ من حياة الآخرين،
لكنها كانت يقينا حياة طويلة، أطول من حياة الكثيرين ، رغم أنه كثر ما ينتابني باختصار و بهدوء، أنني أُرتحل ، بما لا يحصل لأية شجرة ، أم أنني لم أُرتحل؟
لقد ضربت بجذوري رغم كل شئ في ذات التربة مثل السنديان و حتى لو أنني قد نسيت تلك الجذور, إنما كبرتُ حيت أنا واقف، وحيدا إلى حد ما كما الحال مع السنديانات غالبا، و العالم قد يطلق الضجيج في محاذاة الطرق العادية،
و بينما كنت أتعرض للرياح، لا العواصف الطاغية، قد تعاركتُ بالطبع معها، غالبا كنت سعيدا وأحيانا خائفا،
والعجيب أنني غالبا ما لا أشعر أنني سنديانة عجوز، بل شاب و نشط ، بآمال وتطلعات ساذجة ، بيد أنه كان عليّ أن أدرك أحسن،
كأنني فجأة نسيت عمري، وتركت ورائي كل ما كنت ، وكأنه كانت حياة لإنسان آخر غيري، و أراني في الجديد، أترنم بكل بأغصان خضراء،
فالشبان يسيرون أمامي دون أن يروني، ضاحكين وربما سعداء، أزواج و جماعات أو منفردين، بعضهم يترنحون للأمام مخدرين، و منهكين ولا أدري من منهم من الأكثر قربا مني أو الغريب الأبعد عليّ،
أن تكون شابا أصعب من أن تكون شيئا آخر، رغم أنه يبدو على عكس ذلك، نعم ، من الصعوبة أن تجد تكشف معنى الحياة و تناضل في سبيله بجرأة وقناعة،
والأسهل بكثير هو أن تشعر بأنك شاب دون أن تكون شابا، وأن السقوط المنتظر للسنديانة العجوز لا يقلقها كثيرا ،إنه لا بد حادث ، فليحدث ، بأسرع ما يمكن و لمرة واحدة!
* آرتور لوندكفيست يعتبر أهم شخصية أدبية و ظاهرة ثقافية خلال نصف قرن في السويد بإنتاجه الغزير شعرا وترجمة ودراسات ، رائد الحدائة وأحد أبرز مؤسسي السريالية السويدية بعد أن عاش في الثلاثينات من القرن الماضي في باريس مركز الحداثة مـتأثرا بجيمس جويس و غيره . كان ينتمي إلى اليسار فكريا وسياسيا لكي يغيّر الحياة إلى أفضل و إلى السريالية شعرا لكي يغني الروح .ح .ك