اشتد زخم الحركة الجماهيرية بانتظام و اصبحت الطبقة العاملة اكثر راديكالية خلال فترة الكفاح ضد الشاه. و انتهت هذه السيرورة بالاحداث الثورية لسنة 1979. الثورة هي قياس علني للقوة بين القوى الاجتماعية المتناحرة في نضالها من اجل السلطة. ففي ثورة 1979 انكشفت على الفور القوة الهائلة للطبقة العاملة. اذ نزل الى الشوارع ثلاثة ملايين من الناس في اضخم تحرك جماهيري في تاريخ ايران. و امام هذه الحركة الجماهيرية بهذا الحجم انهار نظام الشاه مثل بيت من الورق. وبسرعة اتخذ الوضع منعرجا حادا. و في مثل هذه الوضعية يكون لحزب الطليعة العمالي دورا حاسما. فعندما يبلغ الصراع الطبقي مرحلة حرجة اي الصراع على السلطة يؤول القرار الاخير الى القيادة.
في الواقع، بدات الثورة الايرانية في 1977 عندما شرعت احتجاجات الحقوق المدنية التي قادها الكتاب و المحامون تطالب باكثر حرية. و كما هو الحال دائما فان الانتلجنسيا –الشريحة المثقفة- تمثل مقياس حرارة عال الحساسية يعكس درجة الاستياء التي تتراكم في صمت في اعماق المجتمع. و مدركة للخطر، قامت الامبريالية الامريكية بالضغط على الشاه ليقوم باصلاحات و انتهاج الليبرالية. ان مثل هذه الحالة معروفة جدا لدى طلبة التاريخ. فالضغط الجماهيري يؤلد في مرحلة معينة انقساما في الطبقة الحاكمة. و خشية من ان يقع الاطاحة بها تقوم الاخيرة باصلاحات من فوق من اجل منع الثورة. الا انه، و كما بين الكسيس دي توكفيل، اخطر حركة على الحكومة السيئة هي عموما تلك التي تدخل اصلاحات. واعلن الشاه اصلاحات من ضمنها دعوة المجالس (البرلمان) للانعقاد. غير ان هذه الاصلاحات عوض ان تفض المشاكل فتحت الطريق امام الاطاحة بحكم الشاه. ومهدت الطريق للطبقة العاملة مع الجماهير المسحوقة و الطبقة المتوسطة للتدخل المباشر في حركة التاريخ.
لقد ضمنت التطورات السابقة الدور القيادي للطبقة العاملة. فقد ادت النجاحات الكبرى للاقتصاد الايراني الى اشتداد قوة البروليتاريا. اذ نتج عن نمو مداخيل النفط نموا هائلا للصناعة الايرانية التي حققت قفزات كبرى اثر ارتفاع اسعار النفط في 1973. فقد نما الدخل الوطني الخام بنسبة 33.9 في المائة في 1973-1974 و بنسبة 41.6 في المائة في 1974-1975. وشهدت الصناعة ايضا نموا سريعا بالتوازي مع حجم و قوة الطبقة العاملة. و هكذا، و عن طريق تطوير قوى الانتاج، اعد النظام حفاري قبره اي البروليتاريا الايرانية القوية. ولم تتسع قاعدة الطبقة العاملة فحسب بل و كانت فتية و غضة. و في حين كان هناك نموا هائلا للصناعة كانت التناقضات الاجتماعية تحتد باستمرار. فقد ارتفع التضخم بشكل جنوني فكان ان نجم عن ذلك اضطراب هائل في 1977. فعلاوة على الاوضاع المزرية للجماهير، اعلنت الحكومة في 1976 عن برنامج للتخفيض في النفقات. و عندما قرر الشاه ايقاف برنامج التنمية تقلصت مشاريع توسيع الصناعة بنسبة 40 في المائة. و اسفر عن تلك السياسة تضرر اكثر من 40 في المائة من العمال الغير المهرة و 20 في المائة من العمال المهرة بالتحاقهم بصفوف العاطلين. و بارتفاع البطالة انخفضت الاجور بحدة و استرجعت الحكومة المساعدات التي كانت قد منحتها للعمال. و تمثل رد فعل العمال في ازدياد حركة الاضرابات في اباضان و بهشر. فطالب عمال النسيج بالرفع في الاجور و العلاوات.
في الثامن من سبتمبر (الجمعة الاسود) قامت قوات الجيش بقتل الالاف من المتظاهرين في طهران. و رد العمال على ذلك بالدخول في اضراب. وكان الاضراب الشرارة التي اشعلت الفتيل الذي كان يتكون في كامل البلاد. في التاسع من سبتمبر 1978 توجه عمال مصفاة النفط بطهران بالنداء الى الاضراب للتعبير عن تضامنهم مع رفاقهم الذين قتلوا في اليوم السابق و احتجاجا على قانون الطوارئ. في اليوم الموالي انتشر الاضراب كالهشيم الى شراز و تبريز و اباضان و اصفهان. فقد اضرب عمال مصافي النفط في كل مكان. و بسرعة تحولت مطالب العمال الاقتصادية الى مطلب سياسي: "ليسقط الشاه!", "ليسقط السافاك!" "لتسقط الامبريالية الامريكية!". ثم دخل عمال نفط الاهواز في اضراب و تبعهم عمال من غير قطاع النفط في خوزستان و الذين التحقوا بالاضراب في اواخر سبتمبر. لقد كانت حركة عمال النفط بالخصوص-ما يسمى بالشريحة التي تتمتع بالامتيازات من الطبقة العاملة في ايران- التي اضعفت النظام. و مع تكثف نسق الحركة الاضرابية و امتدادها تغيرت صبغتها ايضا. فقد انجذبت شرائح جديدة الى النضال فالتحق بالتيار عمال من القطاع العام: مدرسين, اطباء, عمال المستشفيات, الكتبة, عمال البريد و الهاتف و التلفزة, و موظفين من قطاعات النقل و الحديد و المطارات الداخلية و البنوك. كما التحق بالحركة عمال الياقة البيضاء الذين لم تكن لديهم تجربة تذكر في النضال. وكان اضراب البنك المركزي لايران ذا نجاعة خاصة. و تلى ذلك احراق المئات من البنوك من طرف الجماهير الغاضبة. فعندما بدا عمال البنك الاضراب كشفوا انه خلال الاشهر الثلاث الفارطة كان قد تم تهريب الف مليون دولارا الى الخارج من قبل 178 عضوا من النخبة الحاكمة من ضمنهم اقارب الشاه. اذ كان الشاه مشغولا باعداد منفا مريحا له، فبعث بعائلته الى الخارج و حول الف مليون دولارا الى امريكا (علاوة على ما يناهز عن الف مليون دولارا تم ايداعها في بنوك بون و سويسرا و اماكن اخرى من العالم). لقد نهبت الخزينة الايرانية من طرف الاوتوقراطية و كلابها, السافاك. لقد شلت موجة الاضرابات العارمة الة الدولة. الا ان اضراب عمال النفط الذي امتد ثلاث و ثلاثين يوما هو الذي عطل كل شيء تقريبا. وبين ذلك القوة الضخمة للبروليتاريا الايرانية: فقد كلف اضراب واحد لعمال النفط الحكومة خسائر لا تقل عن 47 مليون دولارا يوميا من المداخيل. فقد قطع العمال الشريان الرئيسي لمداخيل الدولة.
كتب تروتسكي في تاريخ الثورة الروسية: "السمة الثابتة لاي ثورة هو التدخل المباشر للجماهير في الاحداث التاريخية. ففي الاوقات العادية ترفع الدولة, ملكية كانت او ديمقراطية, نفسها فوق الامة فيصنع التاريخ من قبل اخصائيين: ملوك, وزراء, بيروقراطيين, برلمانيين وصحافيين. الا انه خلال تلك التحركات الحاسمة و عندما لم تعد الجماهير تحتمل النظام القديم تقوم الاخيرة بتحطيم الحواجز التي تقصيها عن المعركة السياسية و تكنس جانبا ممثليها التقليديين و تخلق بتدخلها ذاك اساس النظام الجديد. و ان يعد هذا امرا حسنا او سيئا فاننا نترك الحكم للمنظرين الاخلاقيين. اما نحن فاننا ناخذ الحقائق كوليدة للسيرورة الموضوعية. ان تاريخ الثورة بالنسبة لنا هو بالاساس تاريخ التدخل القوي للجماهير في حكم مصيرها."1
و هذا ما حدث بالضبط في 1979 في ايران. فالاساس المادي لثورة فيفيري يكمن في تطور قوى الانتاج و التغيرات التي كانت قد حصلت في الراسمالية الايرانية في كامل الفترة السابقة. فقد فقد الشاه مساندة جميع الشرائح الجماهيرية و الفلاحين و المثقفين واقسام من الطبقة الوسطى و كامل الجيش. و كانت الدولة نفسها تنهار تحت ضربات الحركة الجماهيرية. و كانت هناك مظاهرات و تحركات جماهيرية يومية تجاوزت حدود الحياة العادية. فقد هاجمت الجماهير سفارتي بريطانيا و امريكا و احرقت الالاف من الاعلام الامريكية. واعدمت تماثيل وهمية للرئيس الامريكي جيمي كارتر و للشاه الف مرة في كل شارع و مدينة ايرانية. و اصبح الشاه يمثل النظام المكروه و قمع السافاك الدموي.
ان الدولة في اخر الامر كما بين ماركس و لينين تتكون من رجال مسلحين و ما يتبعهم.2 و في كل مجتمع طبقي تتركب تكوينة الجيش من شرائح اجتماعية مختلفة وتعكس صورة المجتمع بصورة وفية الى هذا الحد او ذاك. و في الفترات العادية تبدو القوات المسلحة شديدة اللحمة و صلبة لا تنكسر. الا انه خلال الفترات الثورية و عندما تخضع القوات المسلحة الى توتر و ضغط كبيرين فانها سرعان ما تكشف عن صدوع و شقوق و تميل الى الانقسام على اسس طبقية. ان تماسك الجيش ليس بامر مطلق و انما يتوقف على حدة الضغط من الحركة الجماهيرية.
و كمن نرى في كل ثورة في التاريخ يمكن كسب القوات المسلحة الى جانب الجماهير. فميل القوات المسلحة الى الانقسام على اسس طبقية يتناسب مع احتداد الانقسام في المجتمع الطبقي عندما تكون الجماهير تحارب من اجل السلطة. جاء في تعليق للمجلة الامريكية نيوزويك حول حشد من الجماهير الغاضبة تجمعت في ساحة جلاه في احتجاج على قانون الطوارئ رافعة شعارات ضد النظام: "وعندما اقتربوا امرت القوات المسلحة المتظاهرين بالتفرق. الا انه عوضا عن التراجع تقدم المتظاهرون وتجاوزا الخط الاحمر في دخان من الغاز المسيل للدموع لم يثنيهم على التقدم. عندها رفع العساكر بنادقهم و اطلقوا النار في الهواء غير ان الحشد واصل التقدم اكثر فاكثر نحو صفوف العسكر. و عندما ظل الجمع يتقدم شرع الجنود في رشهم بالرصاص."
ان الانشقاق في صفوف الجيش لا يحدث بشكل بسيط. فعلى العكس يتخذ سلسلة من العمليات تؤدي الى فرز داخلي. فتحاول الصفوف السفلى من الجيش قيس سلوك الجماهير و تضحيتها البطولية و تبين درجة تصميمها على المضي الى النهاية من اجل تغيير النظام القديم. في هذه المرحلة و ما ان يتحقق الجنود من جدية الجماهير فانهم يرفضون اطاعة اوامر الضباط و يلتحقون بصفوف الجماهير حاملين سلاحهم معهم. و هذا ما حدث بالضبط في ايران. فعندما بلغ الاف كانوا في حالة حداد باب مقبرة بشست زهراء في طهران، مرددين شعارات ضد الشاه و هاجموا مصفحة، تقدم اليهم رائد و صاح فيهم: "ليس لدينا نية لقتلكم فانتم اخواننا!" و عرض سلاحه للجمع قائلا: " هاكم بندقيتي, اطلقوا علي النار ان اردتم!" فهللت الجماهير و هتفت بالوحدة ضد النظام. 3 وكانت هناك احداث مماثلة. فقد قام عدد المجندين باطلاق النار على ضباطهم او بالانتحار عندما امروا باطلاق النار على المتظاهرين. و من جهة اخرى قام السافاك باعدام العديد من الفارين من مهامهم و المتمردين.
في حوار صحفي قامت به النيوزويك مع ضابط من الجيش الامريكي جاء على لسان الضابط انه " لا يمكن التعويل كثيرا على الجيش الايراني. فنحن نعلم اين سيتم خرقه." كما ورد في كلام مسؤول ايراني: "كلما طال زمن ابقاء الشاه لجيشه في الشوارع كلما كان خطر العدوى اكبر."4 و هذه قاعدة عامة تنطبق على كافة الدول التي يتطور فيها مثل هذا الوضع. ويظل السؤال هو نفسه: اين هي نقطة الاختراق؟ اي في اي مرحلة يتحول فيها الكم الى نوع؟ في اي نقطة يتجاوز الجندي خوفه من ضابطه الحامل للمسدس و العصى و يغمره الشعور بقوة الجماهير؟ لا يمكن بالطبع الجواب على هذه الاسئلة مسبقا و لكن يفصل الامر من خلال الصراع الجدلي للقوى الحية.
فلاول مرة منذ 25 سنة وضعت الدبابات امام القصر. وقد صرح الشاه نفسه لمجلة نيوزويك: " اعتقد اننا كنا في وضعية خطرة جدا الخميس الفارط. لم يلتزم الناس بالقانون و لم يكن يعيرون ادنى اهتمام لتحذيرات الحكومة. و في حقيقة الامر كان بمقدورهم الاستيلاء على كل ما يريدون." بهذه الطريقة اذن و في حالة غليان كبيرة يجد الجيش نفسه في مواجهة مع الجماهير فيحدث انقسام حاد في المجتمع ينعكس بدوره بانقسام في الجيش. و في هذه اللحظة الحاسمة رفض الجنود الايرانيين اطلاق النار على العمال و الفلاحين و وجهوا بنادقهم نحو الطبقة الحاكمة. وقد حدث ذلك في عدة مناسبات في 1979 عندما رفض الجنود و الضباط الصغار اطلاق النار على المتظاهرين. ولكن بسبب غياب سياسة طبقية ثورية واضحة فقد ضاعت الفرصة. كان الجيش منقسما على نفسه الا انه كان يفتقد الى حس التوجه الطبقي.
اثر الانقسام فقد الشاه السيطرة على الجيش. و بعد تردد و في محاولة اخيرة للبقاء في الحكم عين الشاه شحبور بختيار من الجبهة الوطنية كوزير اول. الا ان المناورة فشلت و اشتدت الازمة حدة. و في 16 جانفي 1979 كانت البلاد في حالة غليان ثوري ولم يبق اي امل للشاه الذي، في نهاية الامر، كان عليه ان يركب الطائرة الى مصر. وهكذا تبدد وهم القوة العسكرية التي لا تقهر بين عشية و ضحاها. فقد حطمت الثورة الايرانية خامس اكبر جيش في العالم كانت تدعمه الامبريالية الامريكية التي كانت مصالحها الحيوية مرتبطة جدا بهذه المنطقة الحساسة من الشرق الاوسط. فخلال اللحظات الحاسمة كان ضغط الجماهير قويا جدا الى حد ان تحطم هذا الجيش الضخم كما يقع كاس الخمر من على طاولة السكارى.
و بالفعل فقد كانت الامبريالية الامريكية ثملى باوهام القوة القاهرة للجيش الايراني. فمن المفترض ان وفاء هذا الجيش للشاه و للمصالح الامريكية في الشرق الاوسط امر لا يعتريه اهتزاز. وعندما صدمت فجاة بالمنعرج غير المتوقع للاحداث و اصابها الشلل من شدة الخوف من الثورة التي كنست جانبا مؤسسات لم يكن من المفترض ان تهتز، احتاجت واشنطن لبعض الوقت قبل ان تقرر ما يمكن ان تفعله. فالجيش الايراني الذي دربه البنتاغون-وزارة الدفاع الامريكية- قد تحطم بالكامل الان من قبل ثورة احرقت العلم الامريكي و رددت:"الموت للامبريالية الامريكية". كان ذلك منعطفا خارقا للعادة اثر في الوضع العالمي برمته. وتردد في الحين صدى الثورة في كامل الشرق الاوسط مدويا في اذان الطبقة الحاكمة في السعودية. واصابت الطبقة الحاكمة الامريكية بالرعب و ارعدت المسؤولين الامريكيين.
و بعودة الخميني من منفاه من باريس في اول فيفيري 1979 كانت المعركة ضد الشاه قد وصلت الى نهايتها. فقد كانت الدولة القديمة قد تفككت و تحولت السلطة الى الشارع منتظرة من يقتنصها. و مع انه لم يلعب رجال الدين دورا في الاطاحة بالشاه فانه وجد من كان متلهفا لمنحه دورا قياديا. و بالتالي فان بعض الضباط الذين وعدوه بالدعم من قبل الوحدات الرئيسية للقوات العسكرية. لقد كانت النخبة العسكرية قلقة و تريد استعادة سيطرتها و "حفظ النظام". اذ شهدت كامل البلاد حالات الفرار من الجندية بشكل يومي. و اندلعت المعارك عندما استعمل الشاه بور بختيار البوليس العسكري و الحرس الملكي ضد تمرد طلبة الكلية الحربية. ونتشرت حالات العصيان في كامل الوحدات العسكرية. والتحق شق من الجبهة الوطنية – الجناح العسكري لخميني و بعض المجموعات اليسارية المتطرفة - بزعامة مهدي بزرخان بالمتمردين. و في وقت وجيز تمكنوا من تحطيم الة الشاه الحربية و استولوا على مصانع للسلاح و قواعد عسكرية و محطات تلفزية و سجون و البرلمان. وشلت حركة فيالق الضباط العليا. و اجبر الشاه بور بختيار على الاختفاء و استولى برزخان الذي عينه الخميني وزيرا اولا على هرم السلطة.
و في سيرورة الاضرابات الجماهرية الثورية نظمت الطبقة العاملة شورى (مجالس عمالية) و اشكال جنينية مستقلة للسلطة. كانت تلك شبيهة بالسوفياتات التي ظهرت لاول مرة خلال الاضرابات الجماهيرية لثورة 1905 الروسية. وقد حطمت الاخيرة من قبل الدولة القيصرية اثر هزيمة ثورة 1905. الا ان المجالس العمالية برزت مرة اخرى سنة 1917 و لعبت دورا رئيسيا في ثورة اوكتوبر.
ثم ان نظام السوفيايات لم يكن كما يدعي الاصلاحيون ظاهرن مقتصرة على روسيا. فثورة 1918 في المانيا افرزت تلقائيا مجالس مماثلة وكانت تجسيدا للتنظيم الذاتي للعمال. فقد قام الجنود و البحارة الالمان في كل ميناء و في كل مدينة و في الثكنات في المانيا بتاسيس مجالس و حازوا سلطة سياسية فعلية. و اقيمت فيما بعد سوفياتات في بافاريا و خلال الثورة المجرية (الهنغارية) في 1919. و في بريطانيا كذلك انشات مجالس عمال في 1920 وصفها لينين بانها لم تكن الا "سوفياتات و ان لم تحمل نفس الاسم". و مرة اخرى و خلال الاضراب العام في 1926 تكونت لجان عمل و مجالس نقابية. و مع ان الستالينيون و الاصلاحيون حاولوا منع عودة ظهور السوفياتات فقد برزت مرة اخرى في كل منعرج حاسم في مختلف البلدان و ابرزها خلال الثورة الهنغارية لسنة 1956 بتكوين مجلس عمال بوداباست.5
اما في ايران فقد برزت الشورى (السوفياتات) في 1979 الا انها للاسف لم تتطور الى مستوى ثورة اوكتوبر 1917. و مع ذلك كانت هناك امكانية وجود سلطة عمال. كتب عاصف بيات ان الازمة الثورية وفرت القاعدة المادية لمثل هذا التنظيم و كانت اشكال التنظم و العمل لسلطة العمال قد وجدت في مرحلتها الجنينية (وكان لينين قد ساق نفس الملاحظة حول السوفياتات في روسيا في 1905 عندما وصفها باشكال جنينية لحكومة العمال). الا ان في بدايتها لم تكن السوفياتات الا لجان اضراب موسعة. وقد كانت هناك عناصر من السلطة المزدوجة. فلم يكن بامكان التصرف و الادارة ان يواصلا مهامهما "العادية" بدون اذن العمال. و من ذلك ان كان على ممثلي مصنع فولاذ اصفهان التشاور مع عمال سكك الحديد طالبين من العمال حمل الفحم المطلوب من كرمان للابقاء على المراجل مشتعلة. و تم التوصل الى اتفاق مماثل بين عمال النفط و عمال سكك الحديد لتوفير الوقود للاستهلاك المنزلي في الوقت الذي كانت جميع الانتاجات الاخرى متوقفة تماما. كانت تلك عناصر بدائية من شكل الادارة العمالية.6
في ديسمبر و فيفري سيطرت الجماهير على عدد من المدن و خاصة في مقاطعات شمال ازاري و بحر قزوين بما في ذلك زانجان، اوروميش، سلماس، اردبيل مرغال، و اجبشير. ان فكرة المجالس نفسها اتت من التجربة المباشرة للعمال انفسهم. فخلال عملها و نضالها اليومي و المباشر تعي الطبقة العاملة ضرورة تطوير نضالها لتجاوز حدود المطالب الاقتصادية و تشرع في وضع موضع سؤال المبادئ الاساسية للهيمنة الراسمالية و العدالة. و بعد ثلاثة ايام من الاستيلاء على السلطة امر الخميني العمال بالعودة الى العمل. الا ان صمود عمال النفط اجبر الخميني على الالتجاء الى التهديد:
"اي عصيان او تخريب من الحكومة المؤقتة سيعتبر معارضة للثورة الاسلامية الحقيقية". 7 و برغم هذه التهديدات تواصلت الحركة بقوة. ففي الاشهر الاولى من سلطة الحكومة المؤقتة التي تكونت في فيفري اضرب ما لا يقل عن 50.000 عاملا. و قد ذكى هذا الاضطراب الصناعي التحول الجذري في وعي العمال الذي تكون خلال الثورة و بخاصة بعد الاستيلاء على السلطة. فقد طالب العمال بدفع الاجور المتاخرة و وقفوا ضد عمليات التسريح و الاغلاق.
في عدد من المناطق الشمالية شكل الناس مجالس (شورى) من اجل ادارة شؤونهم اليومية. و لاجل نفس الغرض الاداري تكونت بعد الاستيلاء على السلطة مجالس في سلاح الجو اطلق عليها اسم مجالس موظفي سلاح الجو. و قد حافظت منظمات العمال و مجالس المصانع هذه على وجودها لبعض الوقت مكافحة بكل عناد من اجل البقاء في ظروف صعبة للغاية. و لكن بسبب غياب حزب الطبقة العاملة الثوري فقد كانوا يخوضون معركة خاسرة. فما ان وطدت الدولة الجديدة اقدامها حتى بدات حملة عامة من الرعب و الاعتداءات و الارهاب ضد مجالس العمال. وبعد غزو كردستان و اعادة الارساء التدريجي لسياسة التصرف الحكومي الفوقية تم و بكل قوة القضاء على مظاهر سلطة العمال في المصانع. و اثر هذه النكسة شهدت الحركة العمالية تراجعا عاما. و في خضم كل هذه الاحداث كان حزب توده يساند الحكومة بشدة و يدافع عن الخميني.
انه لمن الضروري تحليل المحتوى الطبقي للثورة و الاتجاهات التي كانت مشاركة فيها. فلم يكن بامكان الخميني الوصول الى السلطة بدون الحركة العمالية. و لقد كانت للكتائب العمالية الضخمة في القطاعات الاقتصادية الاساسية دورا خاصا في توجيه ضربة قاصمة للدولة. هذا و لم تكن البروليتاريا الصناعية بمفردها فقد كانت مدعومة بفئات و طبقات اجتماعية اخرى. ثم ان التركيبة المعقدة للمجتمع الايراني بفئاته المتعددة من الفقراء الحضر و اشباه البروليتاريا و عناصر البرجوازية الصغيرة جعل طليعة البروليتاريا مسرفلة من كافة الجوانب بفئات متخلفة و ضعيفة الوعي الطبقي. و قد عقدت هذه الحقيقة بشكل كبير المعادلة الثورية و تركت الباب مفتوحا امام تسرب رجال الدين و الديماغوجيين من امثال الخميني.
فمن جوان 1977 الى فيفري 1979 لعب تدخل البروليتاريا دورا رئيسيا في الاطاحة بنظام رضا بهلوي. الا انه، و في المراحل الاولى (الى حدود منتصف 1978)، يمكن القول ان الحركة كانت تهيمن عليها الفئات المتخلفة من الطبقة العاملة: العمال غير المهرة و ترافقهم البرجوازية الصغيرة (البازاريون) و الفقراء الحضر (البروليتاريا المهمشة). و بما ان العديد من هؤلاء كان نسبيا قد قدم مؤخرا من القرى و يفتقدون الى وعي طبقي صلب فقد كان تاثير برجال الدين عليهم سهلا. وهذا ما يفسر جزئيا سبب سقوط قيادة الحركة في ايدي رجال الدين، و الى حد ما، الجبهة الوطنية. لقد عكس ذلك السمة الطبقية غير المتجانسة و المشوهة لحركة الجماهير التي كانت في بداية يقظتها. كتب تروتسكي بان اكثر الفئات المستغلة و الاقل مهارة او الفئات البروليتارية الاكثر تخلفا سياسيا هي في الاغلب الاولى التي تدخل ساحة المعركة و في حالة الهزيمة تكون عادة الاولى التي تغادرها.8
لقد كان الدخول القوي للبروليتاريا الذي لعب الدور الحاسم في الثورة المعادية للشاه. فعندما وجه العمال بعد منتصف 1978 النداء للاضراب انتشرت الاضرابات كالموج العارم مسببة انهيار جهاز الدولة. و هذا ما وفر للثورة الاندفاع و العمق الضروريين. فبدون مشاركة الفئة المتقدمة للطبقة العاملة كان من المحتمل ان لا يقع الاطاحة بالشاه في ذلك الوقت. و بدون القيادة البروليتاريا لم يكن بمقدور الجماهير غير المنضبطة ان تواصل الكفاح ضد الدولة. و لخانها رجال الدين كما فعلوا ذلك في مناسبات سابقة. ولنتذكر ان في 1963 كان الاصوليون قد كسبوا مساندة هذه الفئات المتخلفة من المجتمع و مع ذلك فقد فشلوا في الاطاحة بالنظام. و بعد هزيمتهم مباشرة عقدوا تسوية مع الطبقة الحاكمة. و هذا يعري اسطورة الخميني "الثوري".
الا انه و من اجل فهم ما حدث في 1979-1980 لا يكفي مجرد التطرق الى ميزان القوى الطبقي. ففي روسيا في 1917 كانت البروليتاريا اضعف بكثير من الطبقة العاملة الايرانية في 1979. و مع ذلك و بقيادة الحزب البلشفي (الذي لا ننسى انه كان يملك ثمانية الاف عضو فقط في فيفري 1917 من مجموع 150 مليون ساكن) تم كسب العمال و الفلاحين لبرنامج الثورة الاشتراكية. و السبب في عدم حدوث ذلك في ايران لم يكن الوضع الموضوعي و انما السياسات الخاطئة و السلوك الجبان لقادة حزب توده. و نظرا لغياب حزب طليعة الطبقة العاملة قام الملالي بالاستيلاء على الحركة. فكان جميع ما يسمى باليسار اما وراء رجال الدين او يدعمون الجبهة الوطنية. و لم يسلك احد منهم سياسة طبقية مستقلة، تشرح للعمال الحاجة الى المسك بالسلطة، كما فعل لينين و تروتسكي في 1917.
كانت هذه ماساة الثورة الايرانية لسنة 1979. فقد ضاعت السلطة من بين ايديهم و استولى عليها الخميني و رجال الدين مباشرة. فلم يقد هؤلاء الثورة و لكنهم استغلوها لتحقيق اهدافهم. و قاموا بكل ما لديهم من قوة لخنق و سحق الحركة المستقلة للطبقة العاملة معتمدين على اكثر الفئات المتخلفة و الجاهلة في المجتمع للوصول الى السلطة. وما ان خمدت حمم الثورة حتى شروعوا في سحق حركة الجماهير بكل وحشية.
لم تنتصر ثورة اوكتوبر الا لان البروليتاريا الروسية قادها حزب منح برنامجا صحيحا و شعارات مناسبة قادت العمال الى الاستيلاء على السلطة ( السلطة للسوفياتات ). بهذه الطريقة قادوا الثورة نحو النصر. و الطبقة العاملة في ايران كانت - و لا تزال – اكبر بالنسبة لعدد السكان من الطبقة العاملة الروسية قبل 1917. و لكن في ثورة فيفري 1979 في ايران لم يكن هناك حزب ثوري. فقد انبثقت المجالس (الشورى) خلال الحركة الاضرابية الا انها كانت تتطلب قيادة ذات بعد نظر لتطرح مسالة سلطة العمال بوضوح. و بدون افق للاستيلاء على السلطة كان اضمحلال و موت الشورى حتميا.
اوضح ماركس منذ زمن انه بدون منظمة فان الطبقة العاملة هي مجرد مادة خام للاستغلال. و كتب تاد غرانت: " صحيح ان البروليتاريا تملك قوة هائلة فلا تدور عجلة و لا يضيء مصباح بدون امرها. و لكن بدون منظمة تبقى هذه القوة مجرد امكانية. فالبخار قوة هائلة و لكن بدون كبس يضيع هباء في الفضاء. و من اجل ان تتحول قوة الطبقة العاملة من الامكان الى الواقع عليها ان تنظم و تتركز في نقطة واحدة. و لا يمكن ذلك الا ضمن حزب سياسي يملك قيادة جريئة ذات رؤية بعيدة و برنامج صحيح".9
1. من مقدمة "تاريخ الثورة الروسية"، ليون تروتسكي، ترجمة ماكس ايستمان.
2. "الدولة و الثورة"، لينين، ص154.
3. "نيوزويك"، اوكتوبر 1978.
4. "نيوزويك"، 25 سبتمبر 1978.
5."روسيا من الثورة الى الثورة المضادة" (كتاب بالانجليزية)، تاد غرانت ص59.
6. "العمال و الثورة في ايران"، عاصف بيات، ص 96.
7. "اتلات" (صحيفة مسائية يومية)، 15 مارس 1979.
8. "اتزان الكفاح"، تروتسكي، ص 25.
9. "روسيا من الثورة الى الثورة المضادة" (كتاب بالانجليزية)، تاد غرانت ص 55-56.
الدفاع عن الماركسية