زينب سلمان
الحوار المتمدن-العدد: 1994 - 2007 / 8 / 1 - 06:10
المحور:
الادب والفن
"هاجرت بلادا كانت،
تسكنها امي ...
ومضيت مع الطرقات
لا مسمار لديّ
ولا مزمار ...
هاجرت وكنت قرير العين بعين الاعصار
وها.. بعدما هاجرت وسافرت طويلاً
أترجع بي العربات نحو بلاداً
كانت تسكنها أمي ..." للشاعر سعدي يوسف من قصيدته الرحيل
أحس بثقل ذكرياته التي أثقلت حقيبة سفره كما وجدانه وهو يعبر الممر الممتد بين عتبة الفندق وصالة الاستقبال وقد توجس خوفاً وبان القلق على محياه إذ كيف سيقضي ليلته هنا وهو لا يملك أي أوراق رسمية تدل على شخصيته او حتى تثبت شرعية وجوده في البلد .
نظر اليه موظف الاستقبال باستغراب إذ كانت هيأته تدل على انه قطع مدناً للنسيان حتى أحالته رحلته الى كائن أشبه بالشبح منه الى الإنسان ... ظل الموظف ينتظر ان يقترب من طاولة الاستقبال حتى يعرف كيف يساعده لكنه علق عينيه في وجه الموظف متسائلاً دون أن ينطق بشيء كأنه انتقل الى عالم آخر وما هي ألا لحظة حتى نفذ صبر الموظف فسأله كيف يستطيع ان يساعده فنزعه مما كان فيه ... رد عليه بتلكؤ
- أوه آسف أردت ان اعرف كم يكلفني المبيت ليلة واحدة في فندقكم ؟ تطلع اليه الموظف بتعجب
- ألديك حجز مسبق ؟
- لا لقد وصلت لتوي الى مدينتكم. فأجابه الموظف
- عذرا لكن كل الغرف محجوزة الآن ولا تستطيع الاقامة عندنا سيدي ألا بحجز مسبق.
كان قلبه يحدثه أن الموظف قد جانب الحقيقة وأنه لم يرغب بمساعدته ظناً منه أنه لا يستطيع أن يتحمل تكاليف المبيت في الفندق ... أعاد صوت الموسيقى الذي أتاه من صالة الفندق الفاخر الذي اختار قضاء ليلته فيه ذكريات رحلاته مع اصدقائه في بعض البلدان العربية والاجنبية والتي كان يقضيها في فنادق أقلها أجمل من هذا الفندق بعشرات المرات فأحس بمرارة اغترابه وعمق خسارته ... سحب حقيبته التي ازداد وزنها بشكل عجيب دون ان يعرف السبب وخرج من الباب وهو يحس أن الفضاء حوله فوه وحش كبير يريد ان يلتهمه دون رحمة فاستسلم لألم الالتهام والشعور بالتيه وهو يسير بالشوارع بدون وجهة محددة فكان ارتطامه بالمارة بين الحين والاخر هو الشيء الوحيد الذي يجلبه من فوضى افكاره الى واقع وجوده تائها في مدينة كبيرة لا يعرف ماذا سيفعل بها فأوصله دورانه حول نفسه الى ساحة كبيرة وقف فيها ليلتقط أنفاسه فأقبل عليه رجل كبير اجتاز عقده السادس من عمره ذو ملامح ودودة ووجه جميل، يرتدي رداء القسسة البني ويلتف حول خصره الذي ملأته شحوم الرفاهية حبل طويل مدّ اليه علبة مثقوبة طالباً منه بعض النقود لمساعدة من لا مأوى لهم ... تطلع في وجه الرجل فانتابته نوبة ضحك هستيرية وهو يخرج النقود المعدنية من جيبه ويضعها في العلبة
- نعم خذ يا صديقي كل ما املك فقد اكون واحدا ممن لا مأوى لهم قريباً ... خذ يا سيدي فاليوم عرفت شعور من لا وطن له .
مسك الرجل يده ومنعه من وضع كل نقوده في العلبة عندما أدرك أنه ليس في حالته الطبيعية وقال له:
- هون عليك .. فلن يكون العالم أسوأ مما هو عليه الآن.
أخذ الرجل يهدأه وهو يقوده ناحية أحد المطاعم التي وضعت كراسيها على ناصية الطريق لتدعو زبائنها لتناول الطعام في الهواء الطلق أجلسه على أحد المقاعد وجلس قبالته وسأله :
- هل أنت جائع ؟ أجابه
- لا أعرف إذ كنت جائعاً، فأنا أحس بالخواء والفراغ الداخلي حتى أني لا أدرك ما شعوري الآن هل أنا حي أم ميت ؟ وهل أنا في الواقع أم ان هذا كابوس لا يريد أن ينتهي؟
ابتسم الرجل في وجهه ونهض ليغيب قليلا داخل المطعم ثم عاد مع فنجان قهوة وبعض الخبز وقال له :
- لا تؤاخذني فهذا ما استطيع ان اقدمه لك لأني لم اعرف أي نوع من الطعام قد يروق لك. فأجابه
- شكرا جزيلا لك ... كان لطفاً كبيراً منك ان تتحدث معي .
- لا يهمك والآن يجب أن اعود لما كنت فيه ... تمتع بقهوتك مع السلامة .
- مع السلامة سيدي .
شرب قهوته بتمهل كبير وأكل الخبز بنهم فقد كان جائعاً ومتعباً لكن حزنه طغى على كل مشاعره الاخرى . ظل جالساُ حتى ازدحم المطعم لم يكن يعرف اين سيذهب إذ نهض من مكانه . نفذ الخبز ونفذت القهوة وجاء النادل لينظف الطاولة فسأله فيما إذ كان يرغب بشيء آخر فأجابه:
- لا أرغب بشيء شكرا لك .
فابتسم له النادل ابتسامة غير مبالية بوجوده وحمل الصحون وابتعد، قام من كرسيه بصعوبة كبيرة ودسَّ نفسه في زحام المارة على غير هدى وبدون أن يعرف أين سيؤدي به ذلك وبعد أن تعب من المشي توقف على جسر مصعوقاً من جمال المنظر الذي امتد امامه لنهر ينبع من مرتفعات يهيء للناظر إليه أنه هدية الله لهذه الأرض وأن أحد الملائكة قد وقف من علياء يصب النهر من جرة كبيرة كان المنظر جميلا حد الخرافة .. اقترب من الجسر ونظر الى الاسفل فانعكست صورة لم تكن تشبهه البته بل كانت تبدو انها لشخص عابر التقاه في مراحل حياته،إحساسه بالاغتراب جعله يفقد ملامحه انصت الى صوت النهر فبدا له أنه صوت نواح تلفت حوله فوجد ان الناس حوله غير مبالين بحزن وجمال هذا النهر.. الهي كيف يستطيع المرء ان يترك هذا النهر الجميل وحيدا هكذا .. في لحظة مراقبته للنهر أحس أن حواراً خفياً بين النهر وروحه اطلق عنانه فتبادلا الاحزان بلغة نواح ودموع تعلقت بأهدابه عندما شدّه الحنين بعنف ودون شفقة الى وطنه كانت صور أحبته تنزل من مخيلته لتعلق بدموعه فتسقط بالنهر واحدة تلو الاخرى .. أبوه وأخوته ... حبيبته ... أصدقائه ... وأخيراً أمه التي توسلت اليه أن لا يرحل تعلقت بأذياله قبل رحيله .. علقت صورتها بدمعة على أهدابه وقبل ان تنزل دمعته الى النهر لحق بصورة أمه دون وعي منه فارتطم جسده المتهالك بالماء أحس بالاتحاد مع النهر وأصبح قدره ان يبكون وحدتهم معاً ، تواردت لمسامعه همهمات انسانية غير مفهومة لكن لم تمر غير لحظات حتى شعر بالخلاص وهو لايزال يهمس في أذن النهر " وطني أضعت كل الطرق اليك فأغفر لي غربتي عنك" .
#زينب_سلمان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟