حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 1992 - 2007 / 7 / 30 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعلق ماركوزس على الصواب والخطأ في فكر هيغل بالقول : ان الصواب لدى هيغل غير متعلق في الخطأ.
احدى اعتى مشكلاتنا في قراءة الواقع تكمن في الانطلاق من صحة التاريخ المكتوب من جهة وفي الهروب من الخطا بافتراض الصواب في المغاير. لابد من البحث عن الصواب باستقلالية عن الخطأ. طبعا لايمكن البحث في الحاضر دون النبش في الماضي, التنظير هنا لايعطي مردودا ايجابيا, الواقعية تكمن في رد الامور الى اصولها. ليس المقصود في النبش في الماضي العمل على اعادة الحقوق للورثة من ابناء من انتهكوا تاريخيا, ولكن الغرض هو الوقوف على الحقائق بتجرد كي يكون فهم الواقع اكثر عمقا. بدأت هيئة التحرير المكرمة للحوار المتمدن تقديمها لهذا الكتاب بالتالي : من المتعارف عليه ان المجتمع العراقي قد عاش فترات طويلة، كمجتمع يتسع لجميع ابنائه بتآلف وعيش مشترك وعلاقات اجتماعية مشهود بمتانتها، مالذي تغير في بنية وطبيعة هذا المجتمع حتى تتعالى الاصوات حتى تكون المصالحة والتعايش وسيلة لأنقاذه من مصير خطر؟. سأتغاضى عن باقي الطرح الذي تقدمت به هيئة التحرير الكريمة واتوقف فقط عند " التعايش " المزعوم .
ان يكون وضع العراق اليوم خطأ فلا يعني هذا أن الصواب كان في وضع العراق سالفا.
هنا عدة نقاط :
اولا - العراق لم يكن عبر التاريخ الا امبراطورية او مركزا لامبراطورية . هو لم يكن دولة بالمعنى الحديث للدولة على الاطلاق. لم يكن في يوم من الايام دولة قومية. الاشوريين و الكلدان وغيرهم حكموا كقوميات فرضت شروطها على باقي القوميات ولم يكن " التعايش " سوى تعايش قهري بين منتصر ومهزوم.الفرس فعلوا الامر نفسه, المسلمون بدورهم بسطوا الامن بقهر المخالفين, الامر عينه يتكرر سواء اكان من يحكم بغداد يستمد سلطته منها ام من الباب العالي, التعايش لم يكن موجودا الا بناء على شروط المنتصر التي يفرضها على المهزوم.
ثانيا – الدولة العراقية الحديثة التي اقيمت بداية القرن المنصرم ربما كانت نوعيا مخالفة للحقيقة التاريخية من حيث تخفيف حدة القهر عبر اقرار دستوري لحق المواطنة إلا انها لم تكن على مستو الهوية الوطنية سوى حكم للسنة العرب . وغير صحيح القول بان العراق كان بلدا لكل العراقيين. المواطنة فيه كانت مرهونة بهذا الدور للعراق, العراق العربي السني. ان يكون هناك مستشارون من الشيعة وكبار ضبابط من الاكراد فإن الامر لايلغي ان العراق لم يكن بلدا للشيعة دينيا وان هويته عربية خالصة وان على الشيعة ان يقروا بانهم اقل ثقافيا والاكراد بانهم درجة ثانية قوميا, هذه ليست مواطنة بالمعنى الحقوق للكلمة .
ثالثا - ان العراق اسم محدد في الواقع اللحظي ولكنه كان مفهوما في التاريخ اكثر منه إشارة الى محدد. المفهوم هو مايقبل اكثر من تعريف وفقا للزمان والمكان والحدث, اما المحدد فإنه ثابت بتغير الزمان والمكان والحدث. العراق الحالي, العراق الحديث, نعم هو اسم, هو محدد بموجب وثائق محفوظة في ارشيف الامم المتحدة وباقي الهيئات الدولية التي هو عضو فيها, ولكن اسقاط اسم العراق الحالي على العراق التاريخي فيه مغالطة. لانه اسقاط لاسم على مفهوم. ففي التاريخ لم يكن العراق في يوم من الايام حالة واحدة ولم تكن له على الدوام نفس الحدود لقد كان في حالة من المد وجزر وبغض النظر عن التفاصيل فإن هذا الاسقاط منطقيا فيه خطأ في عناصر ومحددات المحاكمة العقلية مما يستلزم بالضرورة حدوث خطأ في النتيجة.
رابعا – هل هناك اي بيانات احصائية موثوقة تقول ان العراقيين كانوا بخير؟. من الطبيعي ان نستمد من كتب التاريخ التي كتبت بناء على نظرية " امجاد الأمة " الكثير من الانتصارات ولكن هل حاجة الانسان هي للانتصار ام للازدهار؟.برتوليت بريخت يقول : ان الشعوب التي تنجب الابطال يجب ان تنعي نفسها لان كثرة الابطال تعني انها لاتعيش سوى الكوارث.
كلنا ولاشك يذكر كيف بدأ تشالز ديكنز روايته الشهيرة : قصة مدينتين . المشهد ينطلق من الحوانيت التي ليس فيها بضائع سوى البنادق والسكاكين, هذه كانت اول إشارة, ليسقط برميل الخمر ويتهافت عليه المارة, هنا مؤشر ثاني, ومن ابرز ما قاله ديكنز وهو يصف تهافت المارة على الصندوق: النساء عصرن مناديلهن في افواه ابناءهن جافة, وبهذا عرفنا كيف كانت فرنسا يومها.
اورد هنا بعض المقاطع الشعرية التي تؤرخ لتاريخ مراحل من عمر العراق غالبا ما يهمل البحاث العرب مثل هذه المؤشرات في دراساتهم التاريخية مع ان الشعر والفن والأحوال المعيشية للأفراد هي ما يعتد به في توصيف اوضاع الشعوب
من أين يرجى للعراق تقدم وسبيل ممتلكيه غير سبيله
لا خير في وطن يكون السيف عند جبانه والمال عند بخيله
والرأي عند طريده والعلم عند غريبه والحكم عند دخيله.
معروف الرصافي قبل ثمانين عاما
قالوا ولِم يلعب الزمان ببغداد وتعثر بها عواثرها
إذ هي مثل العروس بادئها مهوّل للفتى وحاضرها
فلم يزل والزمان ذو غِيَرٍ يقدح في ملكها أصاغرها
حتى تساقت كأساً مثملّةً من فتنة لا يقال عاثرها
وافترقت بعد إلفة شيعا مقطوعة بينها أواصرها
يا بؤس بغداد دار مملكة دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها لما أحاطت به كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبالحرب التي أصبحت تساورها
حلت ببغداد وهي آمنة داهية لم تكن تحاذرها
طالعها السوء من مطالعه وأدركت أهلها جرائرها
من يرَ بغداد والجنود بها قد ربّقت حولها عساكرها
يحرقها ذا وذاك يهدمها ويشتفي بالنهاب شاطرها
لم تجتلِ الشمس حسن بهجتها حتى اجتلتها حرب تباشرها
هل ترجعن أرضنا كما غنيت وقد تناهت بنا مصائرها
يعقوب الخريمي عام 809 ميلادية اثر حرب الامين والمأمون السنية الشيعية
لهفي على بغداد من بلدة قد عشعش العز بها ثم طار
كان بها للنفس ما تشتهي كجنة الخلد ودار القرار
واليوم لا مأوى لذي فاقة فيها ولا في أهلها مستجار
حل بها قوم وهم في عمى ما ميّزوا أشرارها والخيار
وأصبح القرد بها مقتدى يلعب بالألباب لعب القمار
والليث قد غاب وفي غابه قطبا غدا الثور عليه المدار
قد نعق البوم على جدرها يصيح بالناس البوار البوار
بغداد كم أخنى عليها الذي من أسره لا يستطاع الفرار
عبدالغني الحجيل في القرن التاسع عشر
بغداد دار لأهل المال طيبة وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها كأنني مصحف في بيت زنديق
عبدالوهاب المالكي
لذا فإن الأدق في توصيف العراق هو القول :
فيروز عفواً خانك النظرُ
بغداد يغسلُ وجهَها الكدرُ....
من حسَّ روحَ الشعرِ في بلدٍ
تحيا به الشعراءُ تُحتضرُ...
من قال زعمًا انه عَطِرٌ
حتى الورودُ هناك تُحتقرُ..
انا جئتُ من بغدادَ من وطنٍ
فيه الرزايا السودُ تزدهرُ
فيه القلوبُ الغُلظُُ وارمةٌ...
وتخالها الحمقى ستنفطرُ ...
انا جئتُ من بغدادَ مستتراً
رجلاً من الاهلين يستترُ..
فالناسُ في بغداد اضرحةٌٌ..
ازرى بها الاهمالُ والقدرُ..
والحالُ في بغدادَ مجزرةٌ
والسيفُ رغم الموت منتصرُ ..
من مات منه مات منبطحاً..
والحيُّ منبطحٌ وينتظرُ.....
فيروز كُفّي لست عالمةً
بالظهر ان الظهرَ مُنكسرُ..
والماءُ دجلةُ غصَّ خائضهُ..
لمرير دمعٍ فيه ينهمرُ..
والفجرُ اينَ الفجرُ ليس له
في ليلنا عينٌ ولا اثرُ
والفكرُ لاشيءٌ سوى قلقٍ
يكتظ فيه الصمتُ والهذرُ..
بغداد والشعراء والصورُ
امسٌ ومن بالامس يفتخرُ..!
بغداد لا تدري طوائفها
من بعد هذا الخسف ما الخطرُ...!
بغداد امُّ الذل ان ولدتْ
حراً.. فحتما سوف ينفجرُ..
تاريخ اي بلد يجب ان يبحث من خلال حياة الانسان لامن خلال امجاد الامة. آن لنا ان ننظر الى الامور من حق الانسان في الحياة الكريمة لا من حق التاريخ على البعض في صياغة الاساطير والامجاد.
اعتقد بأن مشكلة العراق اليوم تكمن في عدم واقعية البحث في مستقبل العراق. عدم الواقعية لا تأتي من غياب الرؤية الاكثر واقعية عن آعين الفاعلين. ولكن تلك الرؤيا, وبكل بساطة, لاتحقق مصالحهم. الاميركيون بتقسيمهم للعراق يعترفون بفشل تجربتهم في نشر الديمقراطية وسلامة الدول. الاكراد باعلانهم الاستقلال يستجرون تركيا اليهم. الشيعة يعلمون انهم ان انفصلوا فسوف يصبحون في خانة ايران علانية اي في المعسكر المعادي للولايات المتحدة والخليج دون ماربة. الأكراد غير منتمين الى العراق وإبقائهم فيه رغما عنهم يعني حرق للعراق. الشيعة غير منتمين للفكر القومي العربي وابقائهم فيه رغما عنهم هو بسط للنفوذ الايراني لا اكثر. العرب السنة هم تاريخ العراق, هذا صحيح, ولكن هل نحن بصدد اعادة " أمجاد " العراق ام نحن بصدد البحث عن العيش المزدهر لمكونات الشعب العراقي؟. تماما وتزامنا مع كتابتي لهذه السطور انتهت مباراة العراق مع السعودية في نهائي كأس اسيا, المعلق الرياضي على قناة دبي الرياضية وبعد كلمات عذبة عن العراق والعراقيين يدعوهم فيها للوحدة الوطنية ختم بالقول : لم نسمع في التاريخ عن طوائف, عن نزاعات, عودوا ايها العراقيين الى رشدكم, عودوا الى وطنكم, عودوا الى اسلامكم, عودوا الى عروبتكم. انه بإختصار يسجل ما انبه له. العراق برأي الكثيرين هو مسلم سني عربي لامكان فيه لاي ثقافة أو انتماء اخر, فالتاريخ مسجل باسم العرب السنة لاباسم سكان العراق من مختلف الطوائف والعرقيات. وهنا مكن للخلل لايقل عن الخلل الذي يفرزه رافضي الهوية الوطنية.
ليس صحيحا ان العراقيين تعايشوا عبر التاريخ. العراقيون قهروا بعضهم البعض عبر التاريخ. وأن اردنا ان نطبق معاير المواطنة الحقيقية فلا بد من تقسيم العراق الى ثلاث دويلات ضمن رابط فيدرالي او باستقلالية تامة. برأي ان البحث عن مستقبل الانسان العراقي يستلزم ليس فقط تقسيم العراق بل فرض وصاية دولية على الدول الثلاث الناشئة من التقسيم وفرض دستور منسجم مع الشرعة العالمية لحقوق الانسان. فمن هم قائمون على الامور في العراق اليوم, او من هم مرشحون لولاية تلك الدول, ليسوا بالضروة آمينين على حقوق الانسان. ان لهم وعيهم الخاص للانتصار, وعي مغاير للمفاهيم الانسانية المتحضرة, وعي قائم على تقديس الامة على حساب الفرد, وهو سقوط في القبلية حتمي. ذلك ان القومي الضيق لابد وان يقود بالتداعي الى العشائرية والطائفية وباقي رذائل الفكر اللواطي.
اتفق مع كل من يقول بأن وحدة العراق ضرورة ومصلحة لكل مكونات الشعب العراقي, ولكن الوحدة تتطلب وعيا بها, ومع غياب هذا الوعي لايبقى سوى القهر لاقرارها. لذا علينا ان نطرح وبجرأة وبدون مواربة السؤال : هل نبحث عن وحدة العراق على حساب سلامة عيش الانسان العراقي؟. ام نبحث عن رفاه الانسان العراقي على حساب سلامة العراق؟. لانه وبكل بساطة لم يعد بالإمكان تحقيق الإثنين معا.
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟