|
عن جذر الدم في اليمن...العنف معطى تأسيسي للدولة والمجتمع والسلوك العام
ماجد المذحجي
الحوار المتمدن-العدد: 1985 - 2007 / 7 / 23 - 11:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا تغادر العملية الدموية الأخيرة في اليمن ثقافة عنف "أصيلة" في المجتمع، وان كانت تفارق في مستواها "الممانعات" العرفية السائدة التي تعطل الفجور في استخدام العنف بالعادة كما حدث في عملية مأرب. فهو تفجير دموي تأسس على نسق إيديولوجي مستقل عن إطار المنافع والتسويات الذي يوظف فيه العنف المعتاد محلياً. إن العنف يُبرر في اليمن بشكل تلقائي، ويتم التعايش معه دون قلق، فهو نسق ثقافي مهيمن ويُحترم بشده على المستوى المجتمعي والسياسي، ويبدو كمعطى كثيف الحضور في الحياة العامة. وبشكل ضمني يعتبر احد أشكال التسويات الرائجة التي يلجأ لها الأفراد والمجموعات بالعادة لحماية أنفسهم وللتحصل على الحقوق والرزق! ضمن ذلك الإقرار الواسع له يمكن تفهم حضوره اليومي في الحياة اليمنية، سواء على شكل نزاعات صغيره أو ضمن نزاعات واسعة، وبالتالي عدم وجود ردود فعل "شعبية" ساخطة تجاهه! ولا يبدو حضور الدولة نافياً للعنف، ضمن الافتراض النظري الذي يؤكد أن تواجد السلطة يؤدي إلى تقلص العنف، كونها الجهة الوحيدة التي تحتكر شرعية العنف كما يُفترض، وكونها كمنظومة قوانين، وجهاز لإدارة المصالح العامة، وأداة قمع، تجفف أسباب العنف، وتخفض الاحتياج له. ويبدو الأمر الحاصل هو أن ضعف الدولة وعدم قيامها بوظائفها بشكل عادل وعقلاني يعزز العنف، ويسوغ للناس استخدامه في مواجهتها والاستمرار في إضعافها، وتتشكل مصلحة لهم في حماية هذا الضعف وتكريسه. بالإضافة طبعاً إلى أنه مكون تأسيسي للدولة، واحد أشكال الشرعية "الضمنية" التي تتغذى عليها، وهي أقرت التعايش معه، وتقديم التنازلات والمنافع للمجموعات التي تمتلك نصيباً كبيراً منه، بل وغذت التنازعات بينها في ظل استثمارات سياسية خرقاء من قبلها!
فائض العنف على المستوى العمومي يمكن إدراك أننا بلد فائض بالعنف، تمتلئ حياتنا برموزه، وأنشئت اعتماداً عليه أنماط تفكير، وانظمه ثقافية، وقيم عامه، وأصبحت لدينا حساسية خاصة تجاهه. العنف أصيل لدينا، وبالعادة كنا مُصدر أساسي له، وهو شأن يعود ربما إلى أن طاقة العنف لدينا أكبر من قدرتنا على إدارتها محلياً، خصوصاً وان المجتمع انشأ آليات حماية عرفيه تعطل الإفراط في استخدامه لضمان التعايش معه (الأعراف القبلية في ما يخص العنف والقتال على بدائيتها تشكل ضمانه معقولة لتعطيل الاستخدام المفرط للسلاح الشائع بشده، فهي من جهة تعطل الفجور في العنف، ولكنها أيضاً تكفل ديمومته وعدم القضاء عليه، فهو مصدر للتكسب بالنسبة للقبائل، وبناءاً على طاقة العنف لدى القبيلة، ومدى قوتها، يتم تقدير الامتيازات التي تترتب لها من الدولة وموقعها من التحالفات المكونة للسلطة عموماً)، الأمر الذي يرتب فائضاً غير مستخدم محلياً يجد تصريفه في أزمات خارجية ضمن الدوائر القومية والدينية ( العراق، أفغانستان، البوسنة... الخ) يتسول مبررات أيديولوجية كثيرة للدخول فيها (فكرة الجهاد الديني بشكل أساسي)، وكان الارتخاء الأمني للدول التي يذهب لها فائض العنف (يتكثف فائض العنف في اليمن بالعادة بمجموعات من المتطوعين الجهاديين) والتواطؤ الإيديولوجي مع أهدافه من أنظمتها أو جوارها الإقليمي ييسر الأمر كثيراً أمامه. الأمر تغيير، حيث رتبت أحداث 11 أيلول تحولاً في الموقف من العنف على المستوى الدولي والإقليمي، خصوصاً العنف السياسي المؤسس على الإيديولوجية الدينية، وانخفض الاحتياج الأمني والسياسي الذي يستثمره من قبل عدد من الدول (السعودية، باكستان، الولايات المتحدة... الخ)، وبناءاً على ذلك تم التضييق عليه والعمل على محاصرته وتجفيف مصادره. ذلك انعكس على المستوى اليمني، حيث أضحى الاختناق المحلي به عالياً، واكتسب العنف على المستوى المجتمعي صوراً سياسية وإيديولوجية غير معتادة، ومتمرده تجاه الاستخدامات المعتادة محلياً له، وغير مقيدة بالأعراف التي تعطل الفائض منه بالعادة. وكانت لبوسه الإيديولوجية الجديدة تشكل إغراءاً عالياً لأفراد عديدين يمتلكون الكثير من الأسباب لتوسلها للتنفيس عن احتقانهم، خصوصاً في ظل دوله لا تملك الكثير في مواجهة العنف، بسبب ضعفها، ولكونها بالأساس طرف يقوم باستثماره سياسياً في مواجهة خصومها المحليين بشكل غير عاقل، وبدرجة أقل لممارسة الابتزاز السياسي تجاه الدول بغرض التكسب على المنافع منها!
استعادة فائض العنف إن عودة المتطوعين الجهاديين إلى اليمن، هي بمثابة استعادة الأصل "العنفي" لفرعه، ولكنه يعود نافراً من خصائصه الأساس ومنظومته الثقافية الأولية التي نشأ "عوده" فيها، مكتسباً مؤيدات أعلى تدفعه لاستخدام طاقته لمطابقة نموذجه الإيديولوجي "المكتسب" على الواقع بالقسر الدموي، وهو نموذج يتأسس على فكرة النقاء، ضمن مزاج تطهري حاد، يرى العودة إلى الصواب والأصل "الديني" قائمة على استئصال الفساد "الدنيوي" وعدم التصالح مع عناصره (الدولة والثقافة السياسية والمدنية الحديثة، وكافة أشكال العلاقة والاتصال العصري مع الحضارة)، ولا يخضع للتقنين العرفي للعنف القائم في المجتمع، فهو معطل لرسالته الإيديولوجية، ولكنه يقره بشكل محدود، ويتعامل معه، ويتفهمه، ويتجنب الاصطدام به، كما يستثمره بشكل برجماتي لحماية نفسه لحين تأدية هدفه!
في التمييز بين جيلين يمكن تمييز الجيل الجديد من المتطوعين الجهاديين الذين عادوا من العراق بشكل أساسي، عن الجيل السابق الذي عاد عقب "تحرير" أفغانستان: حيث كان الجيل الأول ذاهباً للجهاد ضمن غطاء سياسي إقليمي ودولي، شرعن أفعالهم واحتفى بها، ولم تكن الجملة الإيديولوجية المتطرفة ضمن بعدها السياسي المتعارف عليه الان قد نضجت وتشكلت لها ملامح كما الان (الخطاب الإيديولوجي لتنظيم القاعدة تحديداً) وبالتالي انفعالهم بها كان فضفاضاً بالمعنى السياسي، ولم يكن ضمنها مسوغات لخصام عنيف مع نظام الحكم المحلي، رغم الضيق الذي كان يلمس لديهم من المفاسد الدنيوية التي يحميها. الجيل الجديد الذي عاد في الآونة الأخيرة من العراق، أقل تصالحاً وأكثر عنفاً، فلقد تأسس انفعاله الإيديولوجي على الرمزية العالية التي شكلتها هجمات القاعدة في 11 أيلول، وهو شأن تضاعف مع احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان، ومن ثم العراق، وكان ذهابه للجهاد في العراق مقيداً تماماً، لا يحظى بمباركة سياسية من أي جهة وتعرض للتضييق الأمني بشدة الأمر الذي يرتب سخطاً تجاه "النظام" وميلاً لتأكيد فكرة "عدم إيمانه" وعمالته (إذا استثنينا التعاطف الجماهيري مع المجاهدين في العراق تحديداً ، فلم يشمل هذا التعاطف من ذهبوا لأفغانستان في المرة الأخيرة، ويعود جذر التعاطف هنا لخلفية قومية حتى وأن كانت متنكرة خلف صيغ دينية).بيئة العنف في العراق كانت حادة للغاية، ولم يكن الخصم مفروزاً ومحدداً بسهولة كما في أفغانستان (الاتحاد السوفيتي سابقاً، والولايات المتحدة حالياً)، بل كان متداخلاً مع خصم أخر، أخذ الصفة المذهبية! إن ذلك يخلق عنفاً أعلى، فالتنازع مع العدو المذهبي أكثر قسوة من التنازع مع "كافر"، ورتبت بيئة النزاع العراقية، التي يسيطر على المساحة الأكبر فيها الخصم المذهبي (الشيعة العراقيين) إضافة للأمريكيين، إحساساً أعلى بالخطر والتوجس، وربى ميل استئصالي أكثر عنفاً لدى "المجاهدين". ذلك كله يتغذى على جملة إيديولوجية جاهزة يوفرها تنظيم القاعدة، وهي جملة تمتلك رؤية سياسية واضحة على بدائيتها. كما أن الخبرات العنفية التي تشكلت في العراق تبدو أكثر دموية، وهذا شأن يعود لأسباب تتعلق بالإحساس بفارق القوة تجاه ضخامة الخصوم الأخريين (الشيعة والأمريكان)، وهو شأن يتم ردمه باستخدام وسائل أكثر دموية بغرض الترويع بشكل أساسي. كل ذلك عاد المتطوعين الجهاديين اليمنيين به: خبرات عنف أعلى وأكثر دموية، إحساس مدمر بالمخاطر والتوجس، وجملة إيديولوجية أكثر تماسكاً وتطرفاً!
الدولة جهاز عنف تمارس الدولة في اليمن العنف كأداة السيطرة السياسية الأبرز على الحياة العامة، وكخيار لنفي الخصوم، أو لإضعافهم والوصول إلى تسوية معهم! لقد تأسس النظام السياسي الحديث في الشمال والجنوب على العنف، واعتبر دوماً خياراً باتجاه انجاز السياسة وإدارة تحولاتها. فالنظام الجمهوري في الشمال تأسس على ثورة عنيفة، تغذت شرعيته على الدم "الوطني" المبذول فيها، وكانت الصراعات العنيفة التي أعقبتها فاعل أساسي في التغيرات التي حدثت في السلطة، وعبرها يتم إنشاء الشرعية! ينسحب ذلك على الجنوب، الذي أنجز دولته اعتماداً على ثورة عنيفة ضد الانجليز، ومن ثم كان العنف خلفية للتجاذبات والفرز السياسي والإيديولوجي الذي استغرق تشكيل النظام هناك لهويته واختياراته السياسية. بعد الوحدة كان العنف هو الخيار الذي اعتمد لتسوية الخلاف بين الشريكين الوحدويين، وعبره قام المنتصر بتأكيد سلطته لاحقاً. لا يأخذ العنف صيغة مادية فقط في، بل اعتمد أشكال مختلفة: تلفيق التهم والمحاكمات السياسية للمعارضين والصحفيين أحد مستويات العنف. تفتيت الأحزاب، تغذية النزاعات القبلية، ودعم مجموعات أصولية مُسيطر عليها بغرض ترويع الخصوم، الاختطاف والضرب والمضايقة والتشهير مستوى أخر منه أيضاً. كل ذلك يفصح عن هيمنة العنف على الأجندة السياسية للدولة، وهيمنته على أدوات عملها في الحياة العامة! إجمالاً هذه المادة هي محاولة لفتح نقاش موسع حول جذور الدم في اليمن، وتجلي العنف في الثقافة والسلوك والسياسة. وهي اعتمدت الحدث الدموي الأخيرة كمفتاح لطرح الفكرة، لكن بحرص على تجنب الاستجابة السياسية الآنية، وميل لتفحص أعمق لطبقات الحدث وخلفيته العامة!
#ماجد_المذحجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخيواني عرضة للأذى.. حين تكون الدولة غير عاقلة ينفضُّ الناس
...
-
في وصف التغيير والارتياب به.. هل تحول الاسلاميون فعلاً!!؟
-
في الحديث عن الضيق، وعن كون صنعاء مدينة غير حديثة!!؟
-
ميونيخ ل ستيفن سبيلبرغ.. فيلم سينمائي يشكك بمشروعية القتل
-
بيروت والقدس.. محاولة ابتكار مشهديه عن مدن المأزق المستمر
-
في محاولة اكتشاف الصوفي.. أو الوعي به
-
الصورة والحقيقة، ما تقوله وما تستولي عليه
-
!!عن الفراغ كحاصل لاحتفاء المكان بمزاج بدائي.. وعدائي
-
الاحتفاء بالمكان الخطأ... عن صنعاء، والشعر الجديد، والثقل كح
...
-
الصورة التلفزيونية.. انحراف عن الحقيقة
-
في معنى أن تختار دون أن تُعرض نفسك لابتسامه عمياء
-
التاريخ يتكلم بإسم عبد القادر الجزائري ..-كتاب الأمير- لواسي
...
-
اعتراضاً على إعدام قاتل جار الله عمر
-
رواية الضجر الأنثوي والجملة الناقصة.. رواية غرفة السماء ل مي
...
-
ما يُفترض ان يكتبه شخص من ملاحظات
-
عن الرمز المقدس وما عليه........
-
التفكير في فكرة الرقيب الاخلاقي
-
ستولد من أحبها من ضوء قمري أو من قدح
-
الحزب الاشتراكي اليمني وتشكيل تراث الخيبة
-
المشاهد التي يُمكن أن أنتبه لها للحظة
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|