|
نعم أمريكا امبرطورية آفلة ، لكن هناك من لا يصدق
ثائر دوري
الحوار المتمدن-العدد: 1983 - 2007 / 7 / 21 - 08:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شارع المرابط هو الشريان الأبهر لمدينة حماة ، و لأنه شارع ضيق فهو مخصص للسير باتجاه واحد منذ أكثر من ثلاثين عاماً :من ساحة العاصي باتجاه شارع صلاح الدين ، أي من الشرق إلى الغرب . لكن منذ عدة أشهر و ضمن خطة أوسع لتنظيم حركة المرور في المدينة تم عكس اتجاه حركة السير في الشارع فصار اتجاه الحركة، من شارع صلاح الدين نحو ساحة العاصي ، أي من الغرب إلى الشرق . قبل عدة أيام صدمت سيارة سيدة و هي تحاول أن تعبر هذا الشارع . قلت لجاري إن السبب يعود للسرعة الزائدة ، لكنه لم يوافق على ذلك إنما أتى بتفسير مبتكر، قال إن سبب الحادث يعود إلى أن الناس قد اعتادوا قبل عبور الشارع النظر إلى اتجاه السير القديم ، فهم ينظرون باتجاه الشرق نحو ساحة العاصي ليتأكدوا من إمكانية العبور لأن السيارات كانت تأتي من هذا الاتجاه، في حين أنهم يجب أن يفعلوا عكس ذلك . أي أنهم ينظرون إلى يمينهم بدل أن ينظروا إلى شمالهم و بالعكس . يفعلون ذلك بشكل غريزي لأنهم تعودوا على نظام معين طيلة ثلاثين عاماً و فجأة تغير كل شيء بل انقلب،لكن ما ترسخ في وعيهم و صار جزءاً من الغريزة لم يتغير بعد و ربما لا يتغير أبداً عند كبار السن . تستحكم العادة بالبشر و تجعلهم يعانون مع كل تغيير يطرأ على حياتهم و ربما لا يستطيعون استيعاب الجديد فيبقون مشدودين إلى الماضي . فقد يزول العالم القديم تماماً لكن يبقى بعض الأشخاص عالقين فيه . ذات مرة كنت مسافراً لمسافة طويلة بين مدينتين في سوريا، فجلس بجانبي رجل سبعيني وقور،أنيق،يرتدي طقماً رسمياً و يضع ربطة عنق.بدأنا نتجاذب أطراف الحديث فاكتشفت أنه مهتم بالسياسة و الوضع العام و يبدو أنه كان ناشطاً سياسياً في مرحلة من المراحل فهو يملك كماً جيداً من المعلومات و معرفة بأشخاص كانوا موجودين على الساحة السياسية في سوريا و المشرق العربي في أواخر الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي . بدا حديث الرجل معقولاً و الانسجام بيننا جيداً حتى ارتكبت خطأ لا يغتفر بنظره فقد ذكرت في سياق حديثي أن الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على العالم ، فإذ به ينظر نحوي باستهزاء و يخطئني على الفور . لقد اكتشفني صبياً غراً لا يعرف أن بريطانيا هي التي تدير العالم و تسيطر على كل شيء فيه! بدأ يحدثني عن بريطانيا صاحبة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس . بريطانيا التي تتحكم بكل أمور العالم إما بشكل مباشر أو غير مباشر . و لم يزده اعتراضي بأن بريطانيا كانت كذلك و أنها اليوم لم تعد سوى قوة ملحقة بأمريكا . لم يزده ذلك إلا قناعة بأني غر لا يملك خبرة سياسية و صار أقرب للاستهزاء مني فصمت و لم أنبس طيلة الطريق ببنت شفة ، فقد اكتشفت بدوري أن الرجل رغم كل أناقته و هندامه الجيد و معلوماته و خبرته يعيش في عالم آخر . عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية حيث كانت بريطانيا تصول و تجول و تفعل ما يحلو لها ،لكن هذا العالم لم يعد له وجود إلا في عقل رفيق سفري . إن المشهد السياسي في عالم اليوم مليء بأمثال رفيق سفري ، فالقوة الأمريكية بالنسبة لعدد كبير من السياسيين و العاملين بالحقل العام هي قوة مطلقة تتحكم بالعالم و هي غير قابلة للهزيمة . و قد ترسخت هذه القناعة عند الجيل الذي مارس السياسة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية و حتى اليوم لأنهم اعتادوا على صورة أمريكا القوة العظمى التي كسبت كل حروبها ، أمريكا التي فككت الإتحاد السوفييتي دون أية طلقة . أمريكا التي هزمت حركة التحرر العربي : ناصرية و بعثية ، و قادت ثورات مضادة على المناطق المتمردة عليها فحسمت أغلب المعارك لصالحها . لقد اعتادوا على صورة أمريكا مصنع العالم ، التي تنتج و العالم يستهلك ، من السينما إلى السيارات إلى السلاح إلى أدوات الإنتاج . و تشكل هذا الوعي خلال خمسين عاماً و هو وعي صادق اختبرته أحداث عديدة من حرب 67 إلى تدمير العراق عام 1991 و ما بينهما من هزائم و نكسات ، و صولاً إلى تدمير الإتحاد السوفيتي ، إضافة إلى مئات الأحداث السياسية الأخرى لذلك فإن أسئلة من نوع : هل الولايات المتحدة ما زالت مسيطرة على العالم ؟ و هل هي في حالة صعود أم هبوط ؟ تبدو سخيفة بالنسبة لعدد كبير من العاملين في الشأن العام ، لا سيما أولئك الذين تشكل وعيهم في الفترة الزمنية السابقة ، كما ذكرنا ، أو اللذين اكتووا بنار الهزيمة بعد أن حسبوا أنهم سيهزمون الولايات المتحدة. فبالنسبة لهؤلاء إن قوة الولايات المتحدة و سيطرتها على العالم أمر بديهي لا يخضع لأي نقاش خاصة بعد كل التجارب التي مروا بها ، و بعضهم يحمل آثارها على جسده ، طيبين كانوا أم أشراراً وطنيين أم غير ذلك . لكن لبول كنيدي المؤرخ و السياسي الأمريكي الشهير رأي آخر فقبل عدة أيام كتب مقالاً سماه "هل دخلت أميركا مرحلة الأفول؟" فحسب كينيدي إن مغامرة العراق الفاشلة ، و الانتشار العسكري الكثيف في العالم ، و العجز المتصاعد في الميزانية ، و صعود قوى عظمى جديدة تعمل على تأكيد نفسها مثل الهند و روسيا و الصين ، و الانهيار الأخلاقي لأمريكا ( أيضاً بسبب العراق)يجعل الوزن النسبي لأمريكا في حالة تراجع . و يفصل بول كنيدي،فيقول : " العنصر الأول والأكثر أهمية في هذا السياق، هو أن ميزان القوى العالمية لا يستقر أبداً على حال، حيث تتطور بعض المناطق أو الدول اقتصادياً على نحو أسرع من غيرها من المناطق والدول، وهو ما تكرر حدوثه عبر فترات عديدة من التاريخ. وعندما يحدث ذلك، فإن الوزن النسبي لتلك القوى ونفوذها يزدادان، لأن القوى الاقتصادية-بحكم تعريفها- مادية فيزيقية يمكن أن تترجم تلقائياً إلى قوة سياسية وعسكرية. وسياسات القوة لا علاقة لها بلعبة "العالم المسطح" إذ هناك دوماً رابحون وخاسرون، وهي حقيقة واضحة يعرفها معظم اللاعبين الدوليين. فعلى مدار المئة أو المئة وخمسين عاماً الماضية، كان القانون الذي أطلق عليه لينين"قانون معدل النمو غير المتساوي" يعمل لمصلحة أميركا. فبمجرد أن تم جلب الماكينة البخارية والكهرباء إلى القارة الأميركية كان من الطبيعي أن تسبق أميركا القوى الأصغر حجماً، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان. وبحلول الحرب العالمية الأولى، كانت أميركا تتحكم في نصف الإنتاج الصناعي في العالم. وفي عام 1945 وهو العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية، أصبحت تمتلك 50 في المئة من وسائل الإنتاج العالمي، على الرغم من أن سكانها لا يزيدون عن 4 في المئة من سكان العالم. هذا الوضع تغير وكان محتما له أن يتغير، فأوروبا شفيت من الجراح التي ألحقتها بنفسها، وأصبحت لاعبا رئيسياً على الساحة الاقتصادية الدولية مثلها مثل أميركا، والدول الآسيوية الكبرى مثل الصين والهند من ناحية أخرى، تسير على طريق النمو الاقتصادي، وتغير موازين الإنتاج العالمي بخطى حثيثة لم يكن أحد يتنبأ بها من قبل، الأمر المتوقع، هو أن يقل نفوذ الولايات المتحدة(وربما أوروبا أيضاً) ونفوذهما الدولي عما هو عليه الآن، فهناك خبراء يتنبأون أن الناتج المحلي الإجمالي للصين سيتجاوز مثيله في الولايات المتحدة خلال جيل أو نحوه." و بعد أن يفرد بول كينيدي كل هذه المعطيات يعود ليتساءل هل يعني هذا أن أمريكا على وشك الأفول .فيقول : " ولكن هل يعني هذا أن القوة الأمركية ستتعثر وتسقط من أعلى التل للهاوية بسرعة شديدة؟ حتى عندما يتغير مجرى التاريخ فإن هناك بعض القوى العظمى التي أظهرت قدرة هائلة على التكيف والمرونة. بل إن السقوط الفجائي لفرنسا النابوليونية وألمانيا الهتلرية والاتحاد السوفييتي المتهالك كان أمراً نادراً نوعاً ما. فإسبانيا الإمبراطورية استمرت لقرون، وعندما أفلت شمسها، تركت عالماً يفوق فيه المتحدثون بالإسبانية المتحدثين بالإنجليزية عدداً. فضلاً عن ذلك تميز كل من "آل هابسبيرج"، والعثمانيون والبريطانيون بالبراعة في تدبير أمر الأفول النسبي على الرغم من أن أيا منهم أو كلهم مجتمعين في الحقيقة لم يكن لديه من الموارد ما يتشابه من قريب أو من بعيد بما لدى الولايات المتحدة اليوم. لذا فإن السؤال اليوم ليس هو ما إذا كانت الولايات المتحدة، تمر حالياً بمرحلة من الأفول النسبي بسبب تحول موازين القوى المنتجة العالمية أم لا؟.. لأن الحقيقة هي أنها تمر بتلك المرحلة بالفعل. وإنما السؤال هو ما إذا كانت قادرة على تنفيذ سياسات يمكن لها تخفيف أثر هذه الاتجاهات،)) و يقترح لذلك ما يسميه "الأفول النسبي الذكي" أي أن يدار الأفول الذي صار حقيقة واقعة بذكاء كي يتم بهدوء و على مدى زمني متطاول كالحالة الإسبانية بدل أن تسقط سقوطاً مريعاً كالحالة السوفيتية . نعم أمريكا بحالة أفول لكن كثراً من الناس لا يصدقون لأنهم تعودوا عليها قوة عظمى وحيدة كما لم يصدق الكثيرون أن شمس الإمبرطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس قد أفلت . هذه هي حال البشر تستحكم بهم العادة و طرائق التفكير المكتسبة و حقائق الحياة التي اختبروها و عاشوها لذلك من الصعب عليهم أحياناً أن يستوعبوا التغيير . لذلك سيبقى بشر ينظرون عكس اتجاه السير قبل أن يعبروا شارع المرابط . و سيبقى رفيق سفري يعتقد أن بريطانيا هي سيدة هذا الكون حتى يغادر هو الكون . و سيبقى بعضنا غارق في أوهام قوة و عظمة أمريكا و عدم قابليتها للهزيمة ، و لن يستطيع فهم المعنى التاريخي العميق لما يجري في العراق تحديداً .
#ثائر_دوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تجارة الخوف أحداث لندن كمثال
-
مؤتمر شرم الشيخ : على أمريكا تغيير المسار
-
المريض الأمريكي و العلاجات الوهمية
-
أشباح فانون
-
معنى صعود ساركوزي الأمريكي في فرنسا
-
العراق ليس قصة نفطية فقط
-
أوهام الفكر الطائفي الأزلية
-
في مديح البرتو فرنانديز
-
تجديد الثقافة الوطنية و معركة التحرر من التبعية
-
عصر الدكتاتورية العالمية يتمدد إلى علم التاريخ
-
عزمي بشارة ونووي كوريا الشمالية
-
تصريحات بابا روما من زاوية أخرى
-
مساخر فكرية سورية
-
هل هناك ما يمنع أن يكون المرء عاطفيا و عقلانيا في الوقت عينه
...
-
التفجع على خمسينيات القرن العشرين
-
خمس قوى في مركب واحد
-
معنى استعادة قناة المنار لنشيد -الله أكبر فوق كيد المعتدي -
-
المقاومة تعيد الاعتبار للإنسان أمام الآلة
-
الفرق بين الصيد في المياه العكرة و المياه الصافية
-
استبداد أم احتلال ؟
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|