طهران –
هناك تعاريف مختلفة لمعنى المثقف او ( الانتليجنسيا) ؛ فلا نريد هنا الخوض في هذا الامر بل نرجح المعنى الذي يؤكد على النشاط الفكري للمثقف حيث تضم شريحة المثقفين، الكتاب و الاساتذة وطلبة الجامعات و المحامين وفئات اجتماعية اخرى تتمتع بوعي فكري وسياسي عصري.
وتعادل مفردة "روشنفكر" الفارسية كلمة "المثقف" العربية و معناها الحرفي هو
"منور الفكر".
وقد تزامن انبثاق هذه الشريحة في المجتمع الايراني مع بدايات الاصطدام بين الحضارتين الايرانية الاسلامية التقليدية و الغربية الحديثة والتعارف بينهما في اواسط القرن التاسع عشر.
و في البدء انحصر الامر على شخصيات محدودة من رجال الحكم في بلاط السلالة القاجارية حيث تعرفوا على المنجزات الحديثة من الحضارة الغربية و انبهروا بها.
وقد ظهر في اواخر القرن التاسع عشر مثقفون خارج الحكم القاجاري بصموا عصرهم باثارهم الفكرية و الادبية ك ميرزا فتح علي آخوند زاده و زين العابدين المراغي المعروف بابراهيم بيك.
وقد كان خطاب هؤلاء قوميا فارسيا موجها نقده الاساسي الى الدين الاسلامي باعتباره - و من وجهة نظرهم- سببا للتخلف في البلاد.
وقد ظهرت مجموعات مثقفة ليبرالية وقومية و اشتراكية – ديمقراطية ناضلت ضد الحكم القاجاري المستبد و قامت بثورة الدستور(1906-1908)؛ اذ صاغ المثقفون العلمانيون دستورا علمانيا يمنح القليل من الامتيازات لرجال الدين وذلك بالرغم من مشاركتهم الاساسية في تلك الثورة. وقد انعقدت منذ تلك اللحظة التاريخية نطفة التنافس و التخاصم بين العلمانيين و الدينيين في ايران.
وقد انمحت الامتيازات المتعلقة برجال الدين بالتدريج عقب وصول الاسرة البهلوية – ذات الاتجاه القومي الفارسي المتشدد - الى السلطة و التي حكمت ايران لمدة 54 عاما؛ و استمر الامر على هذا المنوال حتى سقوطها عام 1979 بفعل الثورة الشعبية بقيادة رجال الدين.
جذور الصراع بين رجال الدين و المثقفين العلمانيين
ظهرت عدة اتجاهات فكرية و سياسية في عهد الاسرة البهلوية من ملكية و قومية و يسارية و اسلامية حيث لاتزال تلعب هذه التيارات دورا اساسيا في الحياة السياسية و الثقافية للمجتمع الايراني.
فلايمكن ان نتطرق الى جذور الصراع بين رجال الدين و المثقفين العلمانيين ولم نتطرق الى الدور البارز الذي لعبه المفكر القومي العلماني احمد كسروي في الاربعينات من القرن الماضي حيث انشأ مدرسة بل و ادعا بدين جديد وصفه ب" الباكدينان"اي اصحاب الدين النزيه. غير ان اهمية كسروي لم تاتي من انشاءه دينا جديدا بل من بحوثه و كتاباته التي اثرت على اجيال مختلفة. اذ فقد حياته بسبب نقده اللاذع لمؤسسة رجال الدين الشيعة و اداءهم التاريخي. وقد اطلق عليه الداعية الاسلامي نواب صفوي الرصاص عندما كان يهم للخروج من عمله في وزارة العدل في طهران عام 1946.
وقد شهدت الاتجاهات الفكرية و السياسية المتنافسة، اوضاع مختلفة
و تارجحت بين الضعف و القوة في اداءها حيث شاهدنا انتعاشا للحركة اليسارية و الشيوعية والمثقفون القائمون بها في الاربعينات من القرن الماضي
و للمثقفين القوميين في عهد الزعيم الوطني الراحل محمد مصدق في اوائل الخمسينات وافولا لهما بعد ان عزز الشاه السابق حكمه في اواخر الخمسينات.
وقد اتجه في السبعينات من القرن المنصرم، المثقفون اليساريون من شيوعيين و علمانيين الى العمل المسلح لاسقاط النظام الملكي السابق وذلك تقليدا للثورة الكوبية و الحركات المسلحة في امريكا اللاتينية. و انشأ هؤلاء منظمات وفصائل لحرب العصابات في المدن غير ان جميعها باءت بالفشل و كان الفوز في النهاية لثورة اسلامية هيمن عليها رجال الدين و على راسهم اية الله الخميني.
ويمكن ان نعتبر الداعية الشيوعي "تقي اراني" من الاوائل الذين نظروا للشيوعية في ايران حيث قتل تحت التعذيب في سجون الشاه رضا بهلوي . كما يجب ان نذكر في هذا المجال شخصيات بارزة ك"بيجن جزني" الذي قتل بصورة مشبوهة في سجون الشاه السابق محمدرضا بهلوي و امير حسين آريان بور الذي توفي العام 2001 في طهران.
ويختلف الباحثون هنا بشأن تعريف المثقف ؛ فهناك جدل يدور حول موقف المثقف تجاه السلطة وهل يمكن ان نعتبر الذين يؤيدون السلطة هم مثقفون ام لا؟ وقد اثاركتاب نشر مؤخرا حول حياة اميرعباس هويدا، الذي رأس مجالس الوزراء في عهد الشاه لمدة 13 عاما(1965-1978) اثار جدلا ولغطا في الاوساط الفكرية والسياسية الايرانية حيث اعتبره المؤلف من المثقفين الذين اثروا في الحياة السياسية في ايران وعارضه اخرون معتبرين هويدا من اركان نظام الشاه السابق.
و كرد فعل على المعارضة اليسارية و الشيوعية ضد الشاه في السبعينات من القرن الماضي ظهر المفكر الديني علي شريعتي على الساحة الفكرية و السياسية المعارضة حيث اثر بكتاباته و محاضراته على جيل - بل اجيال بكاملها – وهيأ بذلك الخلفية للثورة الاسلامية التي لو كان حيا لعارض العديد من سياساتها. و لاابالغ اذا قلت ان شريعتي (المتوفي 1978) كان الاب الروحي للثورة الاسلامية حيث نجح وفي ادبياته الدينية و الفكرية و الادبية ان يبعد فئات عديدة من المثقفين من تاثير اليسار الشيوعي القوي الفاعلية انذاك و يجذبهم الى الخطاب الثوري – الاسلامي.
و كان شريعتي وريث لموروث اسلامي معاصر حاول ومنذ اواخر القرن التاسع عشر وحتى الان المزاوجة او المصالحة بين العقل و الدين اي بين الاسلام كدين ظهر قبل 14 قرنا و الحداثة الغربية التي اخذت تغزو العالم خلال القرنين الاخيرين.
ومن ابرز ممثلي هذا الخطاب هم اية الله النائيني الذي توفي في اوائل القرن العشرين و اية الله الطالقاني ( المتوفي 1980) و مهدي بازرغان ( المتوفي 1995).
المثقفون بعد الثورة الاسلامية
فقد ساند معظم المثقفون الايرانيون – ما عدى الملكيين- الثورة ضد الشاه في عام 1979 حيث كان جميعهم يعرفون ما لايريدون وهو حكم الشاه الاستبدادي لكنهم لم يعرفوا ماذا يريدون. فعليه اخذ الخلاف يشتد بين المثقفين العلمانيين و رجال الدين الذين هيمنوا على السلطة منذ الاعوام الاولى لقيام الثورة الاسلامية في ايران.
فاذا قارننا بين الخطاب الديني الاسلامي والتي تمثله على ارض الواقع المؤسسة الدينية الشيعية و الخطاب العلماني الذي يمثله المثقفون بتياراتهم الشيوعية و الاشتراكية والديمقراطية و الليبرالية و القومية سنصل الى النتائج التالية : اولا، الخطاب الديني له جذور تصل الى 14 قرنا اي منذ دخول الاسلام لايران حتى الان فيما تعود جذور العلمانية الى ثورة الدستور اي قبل قرن واحد. فالخطاب الديني الحاكم راهنا يؤمن بحكومة دينية تتخذ من صدر الاسلام وخاصة حكومة الامام علي نموذجا لها فيما يعتقد المثقفون العلمانيون من التيارات المذكورة انفا وكذلك الملكيون و الدستوريون يعتقدون بضرورة فصل الدين عن السياسة.
وقد عزز اداء رجال الدين في السلطة خلال الاعوام الثلاثة و العشرين الماضية هذا الاعتقاد الذي يمكن ان يتحول الى مطلب شعبي اجلا ام عاجلا.
لكن هناك فئة وسطية – بين العلمانيين و الدينيين- توصف باسم المثقفين الدينيين انبثقت من بين الاوساط المؤمنة بسلطة رجال الدين و ظهرت على الساحة كمعارضة فكرية و سياسية قبل 10 سنوات حيث يؤمن معظم شخصياتها الفكرية و السياسية بفصل الدين عن الحكومة وليس عن السياسة. وهؤلاء هم الذين ينظرون ويقودون الحركة الاصلاحية في ايران حاليا.
وتوجد بين قطبي فئة المثقفين الدينيين اطياف مختلفة قسم منها قريب لخطاب المؤسسة الدينية القائلة بمزج الدين مع السياسية و الحكومة كالرئيس خاتمي
و اخرى هي الاغلبية اخذت تؤمن - كما قلنا- بفصل الدين عن الحكومة كسعيد حجاريان المنظر الرئيسي للاصلاحات و المستشار السياسي للرئيس خاتمي و المفكر الديني عبدالكريم سروش و ثالثة تقربت من العلمانيين بل واصبحت منها ك"اكبر غنجي" المعتقل حاليا والذي نشر قبل اشهر و من معتقله في سجن ايفين بطهران كراسا بعنوان "بيان للجمهورية" دحض فيه معتقداته السابقة والقاضية بضرورة دمج الدين مع السياسية و الحكومة و اعلن عن افلاس هذا الخطاب بعد 23 عاما من اداء رجال الدين في السلطة السياسية في ايران و اخذ منحا علمانيا واضحا.
كما يجب ان نشير الى هاشم اغاجري الكاتب الاصلاحي ضمن المثقفين الدينيين حيث قام بعمل يماثل ما قام به احمد كسروي قبل اكثر من نصف قرن وهو نقد الاداء التاريخي و السياسي الراهن لمؤسسة رجال الدين الشيعة في ايران حيث حكمت عليه المحاكم المحسوبة على المتشددين بالاعدام قبل اشهر مثيرا ضجة اعلامية و احتجاجات داخلية و خارجية واسعة. والفرق بين كسروي و اغاجري هو ان الاول هو علماني قومي و الثاني هو ابن الثورة الاسلامية و مثقف ديني.
ويتحرك المثقفون العلمانيون من قوميين و يساريين على هامش الحركة الاصلاحية حيث يتركز نشاطهم في مجال الثقافة و نشر الكتب و المجلات و ذلك بسبب منع المتشددين الدينيين لهم من النشاط السياسي والحزبي.
فنشاط العلمانيون الايرانيون في الخارج اوسع بكثير من نشاطهم في الداخل حيث يحاول هؤلاء التاثير على الساحة الفكرية والسياسية بواسطة الانترنت و وسائل الاعلام الجماهيرية الاخرى كالفضائيات و الاذاعات التي تبث من الخارج.
وقد واجه المثقفون العلمانيون والذي يشكل اتحاد الكتاب الايرانيون معقلهم الرئيسي واجهوا البطش و التنكيل من قبل الاجهزة الامنية في عهد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني حيث ناصبت وزارة الاستخبارات انئذ العداء لهؤلاء الكتاب و الشعراء بلغت ذروتها في اغتيال اثنين منهم في عام 1998.
ولايزال يكن المتشددون الدينيون وخاصة جماعة صحيفة كيهان اليومية العداء للمثقفين العلمانيين حيث تصفهم دائما بعملاء امريكا والصهيونية بالرغم من ان هناك توجد شخصيات ثقافية و فكرية علمانية موالية للفلسطينيين و معادية للامبريالية الامريكية.
فلايمكن ان ننهي بحثنا هذا دون ان نشير الى مثقفي القوميات غير الفارسية والتي تشكل اكثر من نصف السكان في ايران.
فقد كان للاتراك الاذريين دورا هاما في انشاء العديد من الاحزاب اليسارية و الدينية و الليبرالية على مستوى ايران كحزب توده الشيوعي و حركة حرية ايران الدينية الليبرالية وكذلك ظهر من بينهم شخصيات فكرية ونهضوية سعت لترسيخ الحركة القومية الفارسية مثل احمد كسروي و تقي زاده و اخرون.
غير ان حركة الشعوب الايرانية راهنا والتي تضم الترك الاذريين و الكرد و العرب و التركمان والبلوش تضم مثقفين لهم اتجاهاتهم الخاصة يمكن ان نلخصها كالاتي : اولا، الاندماجيون ؛ وهم الذين لايعتقدون بشئ اسمه قوميات او شعوب وينتمون الى حركات قومية فارسية او دينية شيعية فارسية. ثانيا المؤمنين بالنشاط في اطار ايران الموحدة ومن اجل سلطة ديمقراطية تمنح الشعوب الايرانية حقوقها القومية المتساوية مع القومية الفارسية وهؤلاء اما يتحركون في اطار الاحزاب اليسارية و الديمقراطية التي تنادي بهذا الامر او ينشطون في اطار مجموعات و مؤسسات ثقافية و مدنية خاصة بهم.
وثالثا، المثقفون الانفصاليون الذين يرفضون الاندماج ولا يرون جدوى في وعود القوى اليسارية و الديمقراطية في الايرانية.