لولا وقوع العمليتين الاستشهاديتين الأخيرتين في القدس وتل أبيب واضطراره إلي قطع زيارته والعودة إلي فلسطين المحتلة، فإنّ رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون كان سيشارك في احياء الذكري الثالثة لـ 9/11 وهو في بلاد الهند. وكان في وسعه أيضاً أن يشهد الذكري مقترنة بمظاهر الاحتفاء بإعادة الروح إلي العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية، خصوصاً وإنّ هذه المظاهر غير مجافية لروحية ومغزي وتداعيات استهداف مبني البنتاغون وتدمير برجَي مركز التجارة الدولية : لولا الأعراف التي فرضتها الولايات المتحدة علي نظام العلاقات الدولية من وحي آثار 9/11، لكان من الصعب علي مجرم حرب مثل شارون أن يزور الهند ويلقي الكثير من الترحاب.
وليس الأمر أنّ العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية مسألة طارئة أو سمح بها تراث 9/11 وحده، كما يزعم الكثير من المعلّقين العرب، بخفّة مدهشة حقاً. إنّ هذه العلاقات، وكما يبيّن الباحث المصري مدحت أيوب، تعود إلي عقود طويلة وتشمل ميادين السياسة والاقتصاد والأمن والتسليح، فضلاً عن السياحة والثقافة والتعاون التكنولوجي. ففي عام 1962، غداة اشتعال الحرب الهندية ـ الصينية، طلب جواهر لال نهرو (الشخصية البارزة في معسكر عدم الإنحياز وصديق القضايا العربية الصدوق، كما ينبغي أن نتذكر) مساعدة رئيس وزراء الدولة العبرية آنذاك دافيد بن غوريون في الحصول علي أسلحة متطورة. وبعد ثلاث سنوات، عند اندلاع الحرب الهندية ـ الباكستانية، قدّمت إسرائيل شحنات ضخمة من الأسلحة إلي الهند (غنيّ عن القول إنّ الهند ردّت الهدية إلي إسرائيل في عام 1967، أثناء حرب الأيام الستة!). وعلي الصعيد الاقتصادي، يكفي التذكير بأنّ الميزان التجاري بين الهند والدولة العبرية بلغ 202 مليون دولار في العام 1992، ثمّ قفز إلي 1085 مليون دولار في العام 2000.
هي علاقات قامت علي المصالح المتبادلة إذاً، منذ البدء في العام 1950 حين اعترفت الهند بدولة إسرائيل، مروراً بالعام 1991 حين أقيمت علاقات دبلوماسية بين البلدين (إثر مؤتمر مدريد، وفي عهد رئيس الوزراء الهندي ناراسيما راو وحزب المؤتمر )، والزيارة النوعية التي قام بها شمعون بيريس بعد سنة (حين شهدت العلاقات قفزة نوعية في التعاون الاقتصادي والتكنولوجي تحديداً)، وصولاً إلي ما بعد 9/11 وانخراط الهند ــ مثل عشرات الدول والمنظمات ــ في ما أسمته واشنطن الحرب علي الإرهاب .
غير أنّ علي المرء، والمراقب العربي بصفة خاصة، أن يتذكّر ثلاث حقائق أساسية في سياق مناقشة العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية، ضمن معطيات أخري أقلّ شأناً. الحقيقة الأولي تقول إنّ الهند كانت علي الدوام، وهي ما تزال اليوم أيضاً، صديقة القضية الفلسطينية علي نحو يعزّ العثور عليه عند العديد من الأنظمة العربية الحاكمة. وثمة سجّل حافل يقول إنّ الهند صوّتت إلي جانب الفلسطينيين (وبالتالي ضدّ الدولة العبرية) في عشرات القرارات التي تخصّ حقوق الفلسطينيين بصفة شاملة، ومسائل انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، وحقّ العودة، والسيادة الفلسطينية. والخطّ الأساسي في السياسة الهندية تجاه القضية الفلسطينية، والنزاع العربي ـ الإسرائيلي عموماً، ما يزال ينهض علي مبدأ المطالبة بقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود معترف بها دولياً، وتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخصوصاً القرارين 242 و338.
الحقيقة الثانية هي أنّ معظم النقلات الكبري في تطوّر وتطوير العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية تمّت في فترات حكم حزب المؤتمر ، وحين كان كبار رجالاته في سدّة الحكم (نهرو وأنديرا وراجيف غاندي)، وليس فقط في فترات حكم الأحزاب ذات التوجّه القومي الهندوسي. في عبارة أخري، وعلي النقيض ممّا يزعم الكثير من المعلّقين العرب، ليس ثمة معني في التركيز علي العداء الهندوسي للاسلام في تفسير تطوّر العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية. ومن الخير، في هذا المثال كما في سواه بالطبع، التركيز علي طبيعة المصالح المشتركة التي تكيّف سياسات الدول وتتحكم بخياراتها في المشهد العريض والتاريخي ـ التقليدي للعلاقات الدولية، فكيف بهذا المشهد بعد أن شهد تبدّلات كبري بعد هزّة 9/11.
وأمّا الحقيقة الثالثة فهي تلك التي تخصّ الحديث المتزايد عن محور أمريكي ـ إسرائيلي ـ هندي آخذ في الولادة. والتفكير السهل يمكن أن يفضي ــ بسهولة مماثلة! ــ إلي تخيّل ولادة مثل هذا المحور، وإلقاء عدد من المهامّ علي عاتق أطرافه، ليس أقلْها خطورة هدف تطويق القوس الاسلامي القديم الشهير، والذي يشمل اسلام جنوبي آسيا والباكستان وإيران، فضلاً عن تطويق الهند وضبط الحركات الأصولية. والحال أنّ تأسيس أي حلف جديد يفترض وجود حلف موازٍ خصم له من جهة، ويفترض من جهة أخري تمتّع الخصوم بقوّة كافية تقتضي نوعاً من تكاتف الحلفاء وضرورة اتحادهم لمواجهة الأخطار المشتركة. وفي الواقع ليست هذه حال القوّة التي تتمتّع بها دول القوس الاسلامي ، سواء لجهة الحاضر أم حتي لجهة احتمالات المستقبـــــل الكامنة.
والذاكرة تقول إنّ الساسة الأمريكيين، في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات فقط، لم يكن لهم من شاغل سوي قضيتين مريعتين حتي القشعريرة: كيفية الإعراب البليغ عن فظاعة الفتية الفسطينيين المستعدّين لتفجير أجسادهم في القدس المحتلة، وكيفية الإعراب البليغ عن فظاعة قرار الحكومة الهندية بإجراء ثلاث تجارب نووية. وفي سياق البلاغتَين، وفي نماذج اندماجهما معاً علي نحو مدهش، كان لابدّ للخطاب الأمريكي من أن يحتوي علي ثنائيات المدنية و البربرية ، التقدّم و التخلّف ، الخير و الشر ، و... نحن في موازاة هم دائماً وأبداً. وكان مدهشاً، ولكن ليس عجيباً، أن يتماثل الاستشهادي الفلسطيني وعالم الذرّة الهندي في الخضوع لهذه الثنائيات، وفي خيانة المجتمع الدولي سادن الحضارة والتقدّم.
و الخونة هؤلاء ينتمون إلي الـ هم ، إلي أمم قصيّة فقيرة لا تكاد تسدّ رمقها إلي الخبز والحرّية، مثقلة بأعباء تواريخها الحافلة المنطوية، وحضاراتها السالفة المندثرة، وحاضرها القاتم الكئيب. في تلك الفترة، ومن وحي التجارب النووية الهندية و التجارب النووية الفلسطينية، كتب المعلّق الأمريكي مايكل كيللي في واشنطن بوست ، وبالحرف: نهاية القرن الأمريكي زمن جائع، مليء بأمم صغيرة تتحرّق رغبة إلي أن تكون أكبر مما هي عليه. وفي داخل كل قوّة نحيلة ثمة أمّة سمينة تصرخ طالبة الخروج. ومن بكين وموسكو إلي بغداد وطهران واسطنبول ونيودلهي، تواصل الأرواح الطموحة ممارسة الأحلام الحسيرة في نظام دولي جديد لايكاد يصبح القرن الأمريكي الثاني .
لاحظوا هويّة هذه الأمم الصغيرة : الصين، روسيا، العراق، إيران، تركيا، الهند! ولاحظوا أيضاً أن المدن التي يقتبسها كيللي ليست سوي عواصم سابقة أو راهنة للإمبراطوريات والحضارات الروسية والصينية والاسلامية العباسية والفارسية والعثمانية والهندية! ولاحظوا، ثالثاً والأهمّ ربما، أن هذه الحضارات دخلت جميعها في هذا أو ذاك من أشكال التناحر مع الغرب الإمبراطوري التوسعي والكولونيالي، خلال هذه أو تلك من أحقاب التاريخ ودوراته العاصفة. وما دامت الهند هي القضية الآن، فلعلّ من الأجدي وضع حُجج مايكل كيللي جانباً، ليس فقط لأنها هزيلة وكاذبة وجاهلة ووقحة وعنصرية، بل لأن مثال الهند يعطي واحداً من المنظورات الأعمق حول توازنات الشرق والغرب في بدايات هذا القرن وفي نهاياته، وحول موقع القرن الأمريكي من القرون الأخري شرقاً وغرباً أيضاً.
ففي أواسط العام 1997 احتفلت الإنسانية (وليس الهنود وحدهم) بالذكري الخمسين لاستقلال الهند، التي هي أيضاً ذكري خسارة التاج الكولونيالي البريطاني لأعظم دُرَره الكثيرة، وذكري انبثاق مركز قوّة جديد وفتيّ كان بالفعل قارّة كاملة متكاملة وليس مجرّد شبه قارّة كما تقول تصانيف الجغرافيا. ولا يغيّر من هذه الحقائق أن أواخر القرن كانت تشهد انقراض الكثير من تسميات أواسط القرن: عتبة آسيا، قلب حركة عدم الإنحياز، العالم الثالث ، اللاعنف، المقاومة السلبية، ... الهند هي هذه الدرّة القديمة إياها، وهي هذه التي تحلم (نعم! ولم لا؟) وتطمح وتستعدّ لاحتلال موقع الدرّة الجديدة في تيجان جيو ـ استراتيجية قادمة، الآن والبشرية تنتقل إلي ما بعد نظام القطبين، والآن والبشرية تنتظر الأقطاب القادمة في عقود القرن القادم: الصين، روسيا الإمبراطورية، قوس الإسلام التاريخي .
والهند دولة ديمقراطية، مثلها مثل فرنسا التي استأنفت التجارب النووية قبل ثماني سنوات. صحيح أن ديمقراطية فرنسا أعرق تاريخاً وأعرض تجربة، ولكنّ الديمقراطية الهندية ليست أقلّ عراقة في الحجم والدلالة السوسيولوجية والأثمان الباهظة المسدّدة. وقبل أكثر من نصف قرن كان سادة التخطيط الكوني الاستعماري في لندن قد ابتسموا إشفاقاً وهم يصغون إلي وعود نهرو في إقامة نظام ديمقراطي تعددي، ومحاربة التخلف وانعدام المساواة الاجتماعية، وإقامة بنية اقتصادية وطنية حديثة وحداثية. وكانوا يقرنون ابتسامة الإشفاق بتكشيرة شماتة، ويراهنون علي تقويض التجربة حتي قبل ولادتها. وكيف لبلد يقذف 18 مليون وليد إلي شوارع بومباي وكلكوتا ونيودلهي كلّ سنة، ويقوم بنيانه علي ديناميت من موزاييك إثني ومذهبي ولساني شديد التعقيد والتوتّر، وينشطر ساعة استقلاله إلي هند هندوسية ـ مسلمة وباكستان مسلمة ـ هندوسية، ويضع قدماً عند عتبات معابد بوذا وكونفوشيوس وأخري عند مساجد محمد بن عبد الله... كيف لبلد كهذا أن يدخل العالم بمباديء ووعود عظمي لا تليق إلا بالمراكز العليا التي تحكم الكون، أي العالم الحرّ ، أوروبا ، أو الغرب باختصار؟
ولقد سقط الرهان علي التخلف العضوي الذي يزمن ويستأصل وينخر أجساد عوالم العالم الثالثة ، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وتبيّن أن الهند، شبه قارّة المهاتما غاندي وطاغور قبل هند جواهر لال نهرو وباكستان محمد علي جناح، قادرة علي تحقيق أكثر من وعد واحد عظيم، بينها وأهمها ما اعتبره الغرب امتيازه الحضاري الأنفس: إنجاز نظام ديمقراطي علماني تعددي تسود فيه المؤسسات المدنية ودولة القانون والقضاء المستقل والصحافة الحرة، ويسمح بتداول السلطة سلمياً، وبسحب العسكر إلي ثكناتهم. ولكنه، في الآن ذاته وبالطبع، النظام الديمقراطي الذي يسمح لائتلاف حكومي (يميني أو يساري، قومي أو قوموي، متطرّف أو معتدل) مُنتخب ديمقراطياً، باتخاذ قرار وطني استراتيجي من النوع الذي اتخذه رئيس الوزراء أتال بيهاري فاجباي حول استئناف التجارب النووية.
.. أو اتخاذ قرار بتطوير العلاقات مع دولة مثل إسرائيل، تتسابق غالبية دول العالم ونصف الأنظمة العربية علي خطب ودّها! واليوم، في ضوء زيارة شارون علي نحو حصري وقسري تقريباً، يستسهل الكثيرون الحديث عن حلف أمريكي ـ إسرائيلي ـ هندي يسعي إلي تطويق الاسلام والصين والحركات الأصولية، وكأنّ جميع التناقضات الأمريكية ـ الهندية والإسرائيلية ـ الهندية قد طُمست وانتهت دفعة واحدة، أو كأنّ مصالح هذه الدول الثلاث قد تطابقت وتوحّدت واندمجت! الأمور، بالطبع، أكثر تعقيداً من هذا التبسيط، المريح والجذّاب والمنسجم مع أعراف 9/11 مع ذلك. وخيرٌ لمنتقدي الهند أن ينظروا إلي رقيّ مواقفها السياسية من القضية الفلسطينية، بالقياس إلي بؤس الموقف الرسمي العربي وانحطاطه إلي الحضيض.