الأوليغارشيا الروسية في التسعينيات: طبقة مستحدثة أم امتداد لعصر مضى؟


حميد كوره جي
الحوار المتمدن - العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 04:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تُعد طبيعة الأوليغارشيا الروسية في التسعينيات مسألة بالغة التعقيد، حيث تجمع بين سمات وعوامل متعددة تجعل من الصعب تصنيفها ضمن إطار واحد. لقد كانوا مزيجًا متنوعًا من الأفراد الذين تشكّلت مكانتهم نتيجة تحولات تاريخية مفصلية. فهل كانوا بقايا برجوازية أم انتهازيين ماكرين؟

من غير الدقيق اعتبار الأوليغارشيا طبقة برجوازية بالمعنى التقليدي للكلمة، فالنظام السوفيتي لم يسمح بوجود مثل هذه الطبقة. ومع ذلك، نجد أن بعض الشخصيات التي أصبحت جزءًا من الأوليغارشيا كانوا يتمتعون بنفوذ كبير داخل النظام السابق، سواء من خلال مناصبهم القيادية في الحزب أو الدولة أو عبر الشبكات التي أنشأوها. هؤلاء تمكنوا من استثمار تلك الامتيازات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، خصوصًا في سياق خصخصة الأصول العامة الضخمة. يمكن وصفهم إلى حد ما بأنهم "انتهازيون" استغلوا الفراغ الاقتصادي والسياسي لتأمين مواقع بارزة في المنظومة الجديدة.

يبدو توصيف "تحوُّل الشيوعيين إلى رأسماليين" أكثر انسجامًا مع الواقع في كثير من الحالات. العديد من أعضاء الأوليغارشيا كانوا بالفعل منخرطين ضمن الحزب الشيوعي أو مرتبطين بالنخبة السوفيتية ذات النفوذ الواسع. لقد أدرك هؤلاء تدهور النظام القديم واقتنصوا فرصة الانفتاح نحو الاقتصاد الرأسمالي لتعزيز أو إعادة تشكيل نفوذهم، مستخدمين معرفتهم العميقة بالنظام وعلاقاتهم القوية لتحويل الممتلكات العامة إلى مصالح خاصة. لم يكن هذا التحول انعكاسًا لتغير أيديولوجي عميق، بل تعبيرًا عن "براغماتية فعّالة" للتكيف مع الظروف المتغيرة وتحقيق مكاسب شخصية ضخمة.

لعبت سياسات "الليبرالية السوفيتية"، مثل البيريسترويكا والغلاسنوست، دورًا أساسيًا في تشكيل ظاهرة الأوليغارشيا. ورغم أن هذه السياسات هدفت إلى إصلاح النظامين الاقتصادي والسياسي، إلا أنها أدت، بشكل غير مباشر، إلى ظهور قلة صغيرة من الأفراد ذوي النفوذ والثروة غير المسبوقة نتيجة التحولات غير المنظمة التي شهدتها تلك الفترة.

كانت البداية بتفكيك احتكار الدولة، حيث سُمح للأفراد بممارسة الأنشطة الاقتصادية الخاصة، ما أتاح فرصة لتراكم الثروات. بالإضافة إلى ذلك، أدى انفتاح المعلومات إلى تمكين المواطنين من الاطلاع على نماذج سياسية واقتصادية مختلفة. إلا أن هذه الإجراءات جاءت في ظل ضعف مؤسسي كبير، حيث تراجعت قدرة الدولة وتضاءلت سيادة القانون، ما خلق بيئة مثالية للفساد واستغلال النفوذ.

على الرغم من ذلك، لا يمكن اعتبار الأوليغارشيا نتاجًا مباشرًا لليبرالية السوفيتية كأيديولوجية، بل هي "نتيجة ثانوية" للتحولات العميقة التي أحدثتها تلك السياسات. فقد أدى غياب الهياكل القانونية القوية والتنظيم المؤسسي، وهما ركيزتان أساسيتان في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، إلى نشوء شكل مشوه وغير منظم من الرأسمالية.

لم تتشكل الأوليغارشيا الروسية من العدم، بل كانت امتدادًا طبيعيًا للنظام السوفيتي نفسه. فقد كانت "الشبكات" والاطلاع العميق على أنماط القوة والبيروقراطية هي رأس المال الحقيقي في تلك المرحلة الانتقالية المضطربة. هؤلاء الأشخاص لم يكونوا مجرد "بقايا للطبقة البرجوازية" بالمعنى التقليدي؛ بل كانوا نتاجًا مباشرًا لشبكات النخبة السوفيتية والبنية البيروقراطية التي شكلت قلب النظام.

رجال مثل "علي شير عثمانوف" و"ميخائيل خودوركوفسكي" هما مثالان واضحان لهذه الفئة. فصولات عثمانوف، بما في ذلك التحاقه بأرقى الجامعات وعلاقاته الوثيقة، بالإضافة إلى صعود خودوركوفسكي عبر الكومسومول (المنظمة الشبابية للحزب الشيوعي)، تؤكد أنهم كانوا جزءًا لا يتجزأ من دوائر النفوذ السوفيتية. هذه الخلفيات لم تحدث صدفة، بل منحتهم ميزة كبيرة خلال مرحلة التحول. فهمهم العميق "لآليات العمل" داخل النظام القديم كان ذا قيمة تتجاوز أي رأسمال مادي آنذاك.

النموذج الذي يقدمه والد أحد أشهر منتجي الأفلام في تلك الفترة يبرز حقيقة مهمة؛ حتى المشاريع "الخاصة" الناشئة في أواخر الثمانينيات لم يكن بإمكانها النجاح بالاعتماد على فكرة مبتكرة فقط. كانت تحتاج إلى "إذن، إشارة، موافقة" من داخل النظام البيروقراطي. هذا يعني أن الناجحين في تلك الفترة لم يكونوا رواد أعمال بمفهوم السوق الحرة الغربي، بل خبراء في الالتفاف حول القيود واستثمار الروابط والعلاقات المتاحة.

كان العديد من زعماء الحزب، على معظم المستويات، من أكثر الأشخاص خيبة أمل من النظام. لقد كانوا على دراية تامة بواقع النظام من الداخل، وكيفية عمله (أو عدم عمله). هذه المعرفة الداخلية لم تمنحهم فقط ميزة في فهم آليات السلطة والفساد، بل قادتهم أيضًا إلى قناعة عميقة بأن النظام يحتضر. لم تكن المسألة مجرد إدراك أيديولوجي، بل كانت براغماتية: كيف يمكن البقاء والازدهار في عالم يتغير؟

قصة جدة أحدهم كمترجمة ورؤيتها لنمط الحياة الغربي تكشف جانبًا آخر مهمًا. كانت تجربتها المباشرة مع "الرأسمالية المتقدمة" بمثابة كاشف مؤلم لما كان يفقده المواطن السوفيتي. هذا الوعي المتزايد بالنقائص الاقتصادية والاجتماعية للنظام السوفيتي كان دافعًا كبيرًا للبحث عن بدائل، حتى لو كانت تتمثل في الاستفادة من هذه الفجوات.

المثال على كتاب "دونو على القمر" هو الأكثر إثارة للاهتمام. ففكرة أن كتابًا للأطفال، كان من المفترض أن يسخر من الرأسمالية، أصبح دليلًا عمليًا للمفاهيم الرأسمالية لملايين الأطفال السوفييت (الذين أصبحوا فيما بعد رواد أعمال)، تكشف عن مفارقة كبيرة. على الرغم من الدعاية المناهضة للرأسمالية، كان هناك تعطش لفهم آليات هذا النظام البديل. لقد فشل النظام السوفيتي في إيصال رسالته الأيديولوجية بشكل فعال، حتى عبر أدواته الثقافية. إن الأوليغارشيا الأوائل، الذين قرأوا هذا الكتاب في شبابهم، لم يتلقوا دروسًا في الرأسمالية من الاقتصاديين الغربيين، بل من أدب الأطفال السوفيتي! هذا يمنحهم "فهمًا فريدًا وغير تقليدي" للرأسمالية، ربما يركز أكثر على آليات الربح السريع، التلاعب، والفساد، وهو ما انعكس على طبيعة الرأسمالية الروسية في التسعينيات.


نشأت الأوليغارشيا الروسية في الغالب من مصدرين رئيسيين هما المدراء الحمر الذين كانوا مسؤولين تنفيذيين رفيعي المستوى بداخل المؤسسات الصناعية السوفيتية. كانت لديهم معرفة عميقة بكيفية عمل هذه المؤسسات، وإمكانية الوصول إلى موارد ضخمة، وغالبًا ما كانوا يمتلكون شبكات علاقات قوية داخل النظام. عندما بدأت الخصخصة، كانوا في وضع مثالي للاستيلاء على الأصول التي كانوا يديرونها بالفعل، أو استغلال معرفتهم بالقطاع الصناعي لخصخصة أصول أخرى.
ورجال الأعمال الأوائل من البيريسترويكا، وهم الأفراد الذين استفادوا من الإصلاحات الاقتصادية الجزئية في أواخر الثمانينيات، خاصة السماح بـ"التعاونيات" (الأعمال التجارية الخاصة الصغيرة). ميخائيل خودوركوفسكي هو مثال ممتاز على ذلك. من موقعه كنائب سكرتير لجنة الكومسومول المحلية، تمكن من بناء شبكة علاقات واستغلال فهمه للنظام لبدء عمل تجاري خاص.

القاسم المشترك بين كلتا المجموعتين هو أنهم كانوا يتمتعون ب" معرفة داخلية عميقة" بكيفية عمل النظام السوفيتي، و"شبكات علاقات واسعة" داخل الحزب والدولة والاقتصاد، والقدرة على استغلال هذه المعرفة والشبكات في ظل الفوضى والتحول.

الأسواق السوداء والجريمة المنظمة: ميلاد "الرأسمالية البرية"

بما أن الرأسمالية كانت محظورة رسميًا في الاتحاد السوفيتي، فإن الأسواق السوداء كانت المكان الوحيد الذي طبقت فيه مبادئ العرض والطلب بحرية، مما منح المشاركين فيها فهمًا عمليًا فريدًا للرأسمالية. ولكن لأن هذه الأسواق كانت غير قانونية، فقد كانت تعمل خارج نطاق حماية القانون. هذا الفراغ القانوني أدى إلى صعود **المافيا الروسية**، التي نشأت لتقديم "الحماية" (غالبًا ما تكون قسرية) وتسوية النزاعات.

عندما انهارت الدولة السوفيتية وتدفقت الخصخصة في التسعينيات، لم يكن هناك فجأة نظام قانوني فعال لحماية الملكية أو إنفاذ العقود. في هذه البيئة الفوضوية، كان على الأوليغارشيا الجدد، الذين كانوا يكتسبون أصولًا ضخمة، أن يعتمدوا بشكل كبير على الجماعات الإجرامية المنظمة لحماية مصالحهم وفرض إرادتهم في النزاعات التجارية. هذا التواطؤ مع المجرمين منح الأوليغارشيا الأوائل سمعة مرعبة وساهم في طبيعة "الرأسمالية البرية" التي ميزت روسيا في التسعينيات.

بوتين يغير اللعبة: نهاية عصر النفوذ المطلق

بعد عام 2000، شهد الوضع تحولًا جذريًا مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة. كان بوتين مصممًا على استعادة سلطة الدولة المركزية وكبح جماح النفوذ السياسي والاقتصادي المطلق للأوليغارشيا. لقد أجبرهم على التخلي عن طموحاتهم السياسية والامتثال لخط الكرملين، أو مواجهة عواقب وخيمة مثل السجن أو مصادرة الأصول.

بوتين، بخلفيته في الكي جي بي، فهم أن نفوذ الأوليغارشيا المفرط يشكل تهديدًا لسلطة الدولة. لقد سعى إلى "إخضاع" الأوليغارشيا، مجبرًا إياهم على الاختيار بين:
الولاء للدولة: حيث يُسمح لهم بالاحتفاظ بثرواتهم، ولكن مع الابتعاد عن السياسة والامتثال لتعليمات الكرملين.
أو المواجهة: والتي غالبًا ما أدت إلى مصادرة الأصول، والسجن (كما في حالة ميخائيل خودوركوفسكي)، أو النفي.

نتيجة لذلك، انخفض تأثير الأوليغارشيا على وضع الدولة في البلاد بشكل كبير. لم يعد بوسعهم العمل بنفس الاستقلالية التي تمتعوا بها في التسعينيات. لقد تحولوا من لاعبين مؤثرين في رسم السياسات إلى خاضعين لسلطة الكرملين. هذا لا يعني اختفاء الأوليغارشيا تمامًا، بل تحول طبيعة علاقتهم بالدولة؛ أصبحوا أكثر اعتمادًا على رعاية الدولة وأقل قدرة على تحديها.
إن الأوليغارشيا الروسية التي ظهرت في التسعينيات كانت في جوهرها مجموعة "انتهازية وبراغماتية" من النخبة السوفيتية السابقة. لقد اعتمدوا على مواردهم السياسية والاجتماعية الداخلية لاستغلال ضعف المؤسسات الناتج عن انهيار الاتحاد السوفيتي والاستحواذ على الأصول العامة وتحويلها إلى ثروات خاصة. بالتالي، لم يكونوا برجوازية بالمعنى الغربي التقليدي، بل كانوا نسخة فريدة من نوعها صيغت وفق بيئة استثنائية.