وجه الحرب الحقيقي: دعوة إلى الصمت والتأمل
حميد كوره جي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8392 - 2025 / 7 / 3 - 19:23
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
ليس للحرب وجه أنثوي
الحرب، بوجهها المقيت والمدمر، يجب أن تبقى كذلك في أذهاننا، لا أن تُجمّل أو يُضفى عليها أي نوع من البطولة أو المجد بعد انتهائها. فجوهرها مأساة إنسانية، والضوضاء التي تتبعها، سواء كانت احتفالات بالنصر أو اتهامات متبادلة، تزيد من قبحها وتأثيرها السلبي.
تُعتبر فكرة "إبطال الأصوات" بعد الحرب نقطة جوهرية، تدعو إلى فترة من الصمت والتأمل بدلاً من الضجيج. هذا الصمت ليس سلبياً، بل هو فرصة لكل من كان له صوت قبل الحرب لإعادة التفكير في ذاته ودوره المحتمل في الوصول إلى هذا الحد من الدمار. حتى لو كانت الأطراف غير متساوية في المسؤولية، فلكل طرف دور؛ لا يوجد طرف بريء تماماً، فالجميع قد أسهم بشكل أو بآخر في وقوع هذا الشر.
الصمت الإنساني هو استجابة طبيعية للدمار والجثث والعيون المبللة بالدموع. إنه احترام لضحايا الحرب وتقدير لحجم المأساة. وفي نهاية المطاف، يجب أن يسأل الجميع أنفسهم والآخرين: "لماذا حدث هذا؟" هذا التساؤل العميق، الذي يولد من رحم الصمت، هو بداية حقيقية للتعافي ومنع تكرار الكارثة. إنه ليس سؤالاً للبحث عن المذنب فقط، بل لفهم الأسباب الجذرية التي أدت إلى الكارثة. إن الحرب لا يمكن تجميلها، والاستجابة الإنسانية الأنسب لها هي الصمت والتأمل والتساؤل العميق، بدلاً من الضوضاء والاتهامات. هذا الصمت هو فرصة للمحاسبة الفردية والجماعية، والطريق الوحيد للتعلم من الماضي وتجنب تكرار المأساة في المستقبل.
إن أوضح شرط لشرف السياسة هو أن تمنع اندلاع الحروب. هذا يضع على عاتق السياسة مسؤولية أساسية وحاسمة، فمهمتها الأولى ليست تحقيق الانتصارات أو التوسع، بل الحفاظ على السلم. وعندما تفشل السياسة في ذلك، وتصبح الحرب أمراً لا مفر منه، فإنها تفقد جزءاً كبيراً من شرفها.
يجب رفض الفخر بالانتصار في الحرب، والتأكيد على أن الفخر الحقيقي يكمن في إنهاء الكارثة الدموية. هذا تغيير جذري في المفهوم التقليدي للفخر. الفخر ليس في عدد القتلى من الأعداء، بل في إنقاذ الأرواح. هذا يعني أن المجد ليس للجنرالات الذين يقودون الجيوش، بل للقادة الذين يعملون على وقف إطلاق النار وإعادة بناء السلام، مما يمنح الأولوية للجهود الدبلوماسية والإنسانية على حساب العسكرية.
إن خطورة تزيين الحرب بـ"ملابس زاهية" من الفخر والنصر والحق، تجعلها أكثر خطورة وشراً من ظاهرة الحرب ذاتها. والسبب في ذلك أن هذا التزيين لا يقتصر على ميدان المعركة، بل يتغلغل في كل جوانب الحياة. يصبح المجتمع بأكمله مهووساً بالحرب، فمتعة الحياة تصبح معلقة على نتيجة الحرب، والدين والأخلاق يتم استغلالهما لتبرير العنف، والروحانية تتحول إلى أداة للتعبئة، والاقتصاد والمعيشة يتم توجيههما لخدمة آلة الحرب.
بهذه الطريقة، تبتلع الحرب وجود المجتمع بالكامل، وتغير مفاهيمه وقيمه لتتناسب مع "لحظة الحرب المرتقبة". تصبح الحياة بأكملها استعداداً للصراع، لا للحياة نفسها.
لذا من الضروري أن تكون السياسة مسؤولة بشكل أساسي عن منع الحرب. وأن نؤمن بأن الفخر الحقيقي لا يكمن في خوض الحرب، بل في إنهائها. وأن نعتقد بأن تجميل الحرب يجعلها كارثة شاملة تسيطر على كل جوانب الحياة الاجتماعية والإنسانية.
هذه فكرة معقدة تجمع بين الواقعية السياسية والمسؤولية الأخلاقية. لا ننكر الحاجة إلى القوة العسكرية، بل نضعها في سياق أوسع من المساءلة. نُقر بحقيقة أن كل دولة تحتاج إلى قوة عسكرية ("قنبلة، صاروخ، وقوة محاربة")، وهذا يمثل فهماً واقعياً للعالم الذي نعيش فيه، حيث لا يمكن تجاهل عامل القوة. كما نقدر دور المقاتلين ("المحاربون") الذين يؤدون واجبهم في يوم الحرب، ونؤكد على أنهم يستحقون التقدير ("يجب أن تُقبل أيديهم"). هذا اعتراف بشجاعتهم وتضحياتهم.
النقطة المحورية هي أن هذا التقدير لا يجب أن يأتي قبل مساءلة القادة السياسيين. نضع المسؤولية الأكبر على عاتق رجال السياسة الذين يتخذون القرارات التي تؤدي إلى الحرب، والأفكار والمطالب التي تغذي الصراع وتجعله حتمياً، والمؤسسات الاجتماعية والسياسية التي قد تفشل في إيجاد حلول سلمية. هذا يعني أن القائد السياسي لا يمكنه أن يختبئ وراء شجاعة الجنود، بل يجب أن يُسأل عن القرارات التي أدت إلى وقوع الحرب في المقام الأول. يجب أن يكونوا "مسؤولين عن هذا اليوم المحتمل".
يجب أن تكون الجماعة السياسية مجهزة ليوم الحرب المحتمل، ولكن في الوقت نفسه، يجب أن تُبذل كل الجهود لمنع هذا اليوم. هذا التناقض ليس ضعفاً، بل هو قوة. فالاستعداد للحرب (عسكرياً واقتصادياً) يجب أن يكون فقط وسيلة لمنعها، وليس هدفاً في حد ذاته.
هذا يتطلب توجيه كل القدرات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، على المستويين الداخلي والدولي، نحو هدف واحد: "منع الكارثة". هذا يعني أن بناء القوة العسكرية لا يجب أن يكون مبرراً للحرب، بل يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية أوسع لردعها.
باختصار، يمكن تلخيص وجهة النظر هذه في النقاط التالية:
1. الاعتراف بضرورة القوة العسكرية.
2. تقدير تضحيات المحاربين.
3. وضع مسؤولية الحرب على عاتق السياسيين والمؤسسات قبل أي أحد آخر.
4. الدعوة إلى استخدام كل الموارد (الاقتصادية والثقافية والسياسية) لمنع الحرب، حتى في ظل الاستعداد لها.
إن الضوضاء التي تتبع الحرب وتزينها بالفخر والنصر لا تسلب المجتمع فرصة التساؤل فحسب، بل تؤدي إلى نتائج كارثية أخرى كأن يصبح المجتمع فخوراً بنقصه في المعدات المدنية (كالمدارس والمستشفيات) لأنه استنفد موارده في شراء الأسلحة. هذا يقلب الأولويات رأساً على عقب ويجعل التدمير مصدر فخر. وفور انتهاء حرب، يستعد المجتمع للحرب التالية. هذه دورة لا تنتهي من العنف والتدمير، وندعو إلى كسر هذه الدائرة "الجهنمية".
إن الوجه الشائن للحرب ليس شراً محضاً يجب تجنبه فحسب، بل إنه يمكن أن يكون دافعا للتشوه الإنساني والاجتماعي. فبدون التزيين والضوضاء، يضطر البشر إلى التفكير في الذات إذ "يفكرون في نواقص طبيعتهم". فالحرب تكشف عن عيوبنا كبشر، مثل الكراهية والرغبات المدمرة. وعندما يرى الإنسان حجم الدمار، لا يمكنه أن يظل متعجرفاً أو متغطرساً. في مواجهة الموت والدمار، تختفي الفروق الهامشية وتبرز الإنسانية المشتركة. حينها يمكن للصداقة أن تصبح ذات معنى في مجال السياسة، صداقة لا تبنى على المصالح العابرة، بل على أساس مشترك من المعاناة والرغبة في تجنب الكارثة.
من المستفيد من التزييف؟
أولئك الذين يستفيدون من الحرب ويديمون الدورة الجهنمية، هم الذين يرون في تواضع المجتمع ونقده الذاتي خطراً على وجودهم وسلطتهم. إنهم يفضلون الضوضاء والفخر المزيف لأنها تحميهم من المساءلة وتُبقي سيطرتهم.
إن إزالة التزيين عن وجه الحرب الشائن ليس مجرد فعل أخلاقي، بل هو ضرورة حيوية لتمكين المجتمع من استعادة إنسانيته وكسر حلقة العنف التي تستعبده.
دور الفن والأدب في الكشف عن الوجه الحقيقي للحرب
يلعب الفن والأدب دورًا جوهريًا في تعديل رؤية المجتمع للحرب، متجاوزَيْن الروايات الرسمية التي غالبًا ما تركز على تمجيد الانتصار مع إغفال الكلفة الإنسانية الباهظة. يعتبر الفن والأدب وسيلة لكشف الوجه المأساوي والقاسي للحرب، بعيدًا عن الصور المزيفة والبطولية التي قد تروجها بعض السرديات التاريخية. بدلاً من التركيز على التكتيكات والانتصارات العسكرية، يسعى الفن والأدب إلى الغوص في عمق التجارب الإنسانية المباشرة التي تكشف عن المعاناة والألم.
على سبيل المثال، تعتبر رواية "ليس للحرب وجه أنثوي" للكاتبة سفيتلانا أليكسييفيتش نموذجًا بارزًا، حيث تسلط الضوء على معاناة النساء خلال الحرب والتضحيات الهائلة التي قدمنها. تبرز الرواية أن الحرب ليست مجرد سجلات من الإحصائيات والأرقام، إنما هي تجربة مريرة تشمل أرواحًا تُزهق، أحلامًا تتحطم، وحيوات تُقلب رأسًا على عقب.
علاوة على ذلك، يمنح الفن والأدب منصة لصوت الضحايا والمهمشين الذين غالبًا ما يتم إسكاتهم أو تجاهلهم في الحكايات الرسمية. من خلال استعراض القصص الشخصية والأعمال الإبداعية كالروايات والقصائد واللوحات والأفلام، يستطيع الجمهور التفاعل مع تجارب الأفراد الذين عاشوا أهوال الحرب بشكل مباشر، سواء كانوا جنودًا، مدنيين، أطفالًا، أو لاجئين. هذا الارتباط العاطفي يعمق الفهم ويزيل اللامبالاة، مما يجعل تأثير الحرب أكثر واقعية ويدفع المجتمعات إلى التساؤل حول جدوى هذه الكوارث ورفضها.
بدلاً من تمجيد الحرب أو الترويج لها، يتولى الفن والأدب دورًا أعمق وأكثر تأثيرًا يتمثل في تحفيز الجمهور على النظر برؤية نقدية لمسببات الحروب وآثارها وتبعاتها الخطيرة، إلى جانب تحميل القادة المسؤولية عن القرارات التي تؤدي إلى تلك الكوارث.
وعندما يقدم عمل فني بتجرد وصدق مشاهد الدمار الإنساني ومعاناة المتضررين، فإنه يضع المشاهد أو القارئ أمام أسئلة وجودية وجوهرية، مثل: لماذا وقعت هذه المأساة؟ ومن يتحمل عبء المسؤولية؟.
هذه الأسئلة، على بساطتها الظاهرة، تشكل اللبنة الأولى لعملية المحاسبة والمساءلة، وتساهم في وضع أسس تمنع تكرار المآسي مستقبلاً، وهو ما أشرتم إليه ببلاغة في مقالكم الذي تناول أهمية الصمت والتأمل في أعقاب الحروب.
كما أن للفن والأدب دوراً محورياً في حفظ الذاكرة الإنسانية والجماعية؛ إذ يعملان كأرشيف حي وملهم يسجل الأحداث بخيوط من الإحساس والمشاعر، ليقدما رواية موازية أو بديلة لا تعتمد فقط على سرديات المنتصرين أو الأقوياء. ففي أوقات النزاع والحروب، قد تتعرض الحقائق للتزييف والتلاعب، بل وربما تُمحى تماماً من السجلات الرسمية. لكن عبر القصص والروايات، القصائد والأغاني، وحتى اللوحات والمسرحيات، يصبح بإمكان الفن الأدبي توثيق تجارب البشر ومعاناتهم الحقيقية؛ ليبقى شاهداً أميناً على الوقائع، وليحمل رسالة إنسانية تنير للأجيال المقبلة ضرورة نبذ الحروب وما تقدمه من مآسٍ مأساوية غير مبررة.
وغالباً ما يصبح الفن والأدب القوة الدافعة لإشعال شرارة التغيير العميق في المجتمعات. فقصيدة واحدة تحمل كلمات صادقة، أغنية تلامس الأرواح، أو مسرحية تجسد الواقع بجمالية مكثفة، جميعها تمتلك القدرة على زرع الوعي بين الناس وتحفيزهم على المطالبة بحقوقهم، والوقوف بشجاعة من أجل تحقيق السلام وإلغاء كل أشكال الظلم والقمع. الفن هنا ليس مجرد حالة جمالية بريئة أو نشاطاً ترفيهياً، بل هو سلاح ناعم لكنه مؤثر يبني الجسور بين الشعوب ويواجه أدوات البطش والاستبداد.
لذلك يمكن القول دون مبالغة إن الفن والأدب قد لا يمتلكان القدرة على وقف القصف أو إسقاط الطائرات في ساحات المعارك؛ لكنهما قادران على فتح الأذهان وتغيير القلوب والعقول بشكل عميق ومستدام. وهذا هو الأساس الحقيقي للسلام الذي يسعى العالم إليه بمسؤولية مشتركة.