المثقّف الصفيع بين محمّد وماكرون!
سلام عبود
2020 / 10 / 28 - 23:51
توضيح لا بدّ منه: الاختلاف بين المصفوع والصفيع نوعيّ. فكلّ من صُفع: "ضُرب على قفاه بالكف المفتوحة"، هو مصفوع. بيد أنّ الصفيع هو من يمتهن تقديم قفاه للصافعين. وقد ظهرت شريحة تمتهن هذه الحرفة في العصر العباسيّ، أسموا صاحبها البُهلول (أخذت التسميّة بغير حقّ من اسم الشاعر الكوفيّ، مدّعي الجنون، بُهلول بن عمر الصيرفيّ.) والضحّاك والمصطفع والهُزأة، وغيرها من النعوت.
بالأمس كانت الدانمارك، واليوم فرنسا، وبدقّة أكبر فرنسا الماكرونيّة.
لماذا يتكرّر حدوث أمر يعرف الجميع حجم أذاه، وحجم تداعياته الاستفزازيّة العاطفيّة والثقافيّة، والأهم حجم ما يثيره من الكراهية بين البشر والشعوب؟ لماذا هذا الإصرار الجنونيّ الحادّ على إعادة ما يستفزّ مشاعر "الآخر"، المختلف؟
فبصرف النظر عمّن هو أكثر تحضّراً أو أكثر تخلّفاً، وبصرف النظر عمّن هو أكثر حريّة أو أكثر تزمّتاً، لماذا يتمّ تكرار حدث يعرف الجميع حجمه وأبعاده؟ أهي تسليّة سياسيّة، أم هي حكمة سياسيّة؟ هل هي شجاعة ضروريّة، أم وقاحة ضروريّة، أم تجارة سياسيّة ضروريّة!
هذه أسئلة يصعب تجاهلها، سواء كان الفعل موجّهاً إلى نبيّ أو إلى رجل ضال، إلى عبد أو إلى سيّد، إلى خيّر أو إلى شرّير.
وربّما يكون أخطر ما في تجديد هذه الدعوة أنّ متبنّيها، ماكرون، أعلن قبل أيّام دعوة أخرى عظيمة الشذوذ سياسيًّا وفكريًّا، مرتبطة بالإسلام أيضاً، فحواها "إعادة هيكلة الإسلام". شذوذ هذه الدعوة لا يكمن في طبيعتها الاستفزازيّة، لأنّ مطلقها لا صلة له بالإسلام ديناً وفكراً من قريب أو بعيد، بل يكمن الشذوذ في توقيت انفجار الصحوة الإسلاميّة الماكرونيّة. فماكرون، الذي يتولّى مهمّة لعب دور المساعد "الحنون" في الشرق الأوسط، لغرض تمرير قضايا غير مباشرة، أضحت مستعصية على الإدارة الأميركيّة، منها ما يحدث في لبنان، في ظلّ تصاعد نبرة التبطرك السياسيّ والفدرلة الدينيّة، يبحث ماكرون عن دور إقليميّ، مستخدماً الوسيلة الأسهل: الإسلام، والصراع المسيحيّ الإسلاميّ حصريًّا، وسيلة في أدائه السياسيّ.
قضيّة الرسوم الساخرة، التي نُشرت في الدانمارك من قَبْل واحدة من أعقد وأكثر حوادث الصراع الثقافيّ المعاصرة حدّة وإثارة. في هذه القضيّة تجلّى بقّوة ضعف الفكر "الآخر" في مواجهة الفكر الأوروبيّ المتسيّد والواثق والاستفزازيّ. فالقائمون على الرسوم يقولون بصراحة تامّة إنّ هدفهم هو إظهار الحقيقة، وإنّ الحقيقة لا تظهر واضحة من دون أن يتمّ وضعها في إطار الممارسة والفعل، أي في الكشف عنها. لذلك لم تكن الرسوم - في نظرهم- استفزازاً لأحد، بقدر ما كانت وسيلة إيضاح، هدفها تعريف المواطن الغربيّ بحقيقة الوافد الجديد، المسمّى الإسلام، من طريق فضح أبرز وأكبر رموزه: الرسول محمّد.
قوبل هذا الاستفزاز العمليّ أو الاختبار، كما هو معروف للجميع، بردود أفعال محسوبة ومتوقعة ومنتظرة (شعبيّة ورسميّة حكوميّة): أعمال عنف هستيريّة، صاحبتها ردود أفعال "دبلوماسيّة" خجولة ومضطربة وغير مفهومة في أحوال كثيرة. إنّ الدوافع الحقيقيّة لمثل هذه الرسوم الاستفزازيّة معروفة، ولا تحتاج إلى شرح. ولكن ما كان محيّراً فيها هو موقف المثقف العربيّ المتنوّر، الذي ضاع جملة وتفصيلاً بين الأرجل في هذه المعركة. وهو موقع يستحقّه بجدارة، لأنّه ليس مؤهلاً تأهيلاً كافياً لمواجهة إشكال على هذه القدر من العمق والالتباس والخطورة.
حينما نقارن موقف المثقف الغربيّ بموقف المثقف العربيّ، نجد أنّ البون بينهما أكثر من شاسع. وربّما لا نجد صلة ما عقليّة أو منطقيّة تربط الفريقين ببعضهما، لشدة تباعدهما وتفاوت استجاباتهما ومرجعيّاتهما العلميّة والعمليّة والأخلاقيّة. فالمثقف الأوروبّيّ المدافع الحقيقيّ عن مشروع التنوير وعن الموقف الإنسانيّ اعتبر تكرار إثارة هذا الموضوع استفزازاً سياسيًّا خالصاً، يهدف إلى تحقيق مكاسب حزبيّة وسياسيّة، ويقود إلى تأليب الجماعات العرقيّة والدينيّة على بعضها، وبالنتيجة لا يخدم مشروع حوار الحضارات على المستوى الإنسانيّ، ولا يخدم - إجرائيًّا - مشروع الاندماج الذي تتولّاه الدول المستقبلة للاجئين. باختصار كان نشر الرسوم موقفاً عنصريًّا مفضوحاً، مجيّراً لصالح التكفير الإسلاميّ.
أمّا المثقف العربيّ، بمن فيه من يعيش في أوروبّا، فقد اصطفّ مباشرة مع التيّارات السياسيّة الغربيّة العنصريّة الاستفزازيّة، إلى حدّ عجيب. فقد راح، يشحذ جهله، تحت غطاء الوقوف ضد التكفير، جاعلاً من نفسه مفسّراً وشارحاً وموضّحاً ومبرّراً لأحطّ ما في الفكر والممارسة الغربيّة من نوازع عدائيّة.
كان الحدث اختباراً عقليًّا كبيراً بحقّ، إلى حدّ أنّ رئيس الوزراء الدانماركيّ ظهر غير مرّة في القنوات الفضائيّة وأعرب عن أسفه لما حدث. لكنّه أصرّ على القول إنّه لا يستطيع اتخاذ موقف بسبب التزامه بالدستور. وقد انطلت هذه الكذبة على الجميع. وكان من المفترض أنّها لا تنطلي على المثقفين العرب، أولئك الذين يعيشون في أوروبّا خاصّة. بيد أنّ العكس حدث. فجأة ظهر سيل من المقابلات والتعليقات " الثقافيّة" تؤيّد وتشرح، وتوضح بالبراهين، صحّة موقف رئيس الوزراء الدانماركيّ، وتدافع عن دساتير العالم الحرّ، في مواجهة البرابرة! (لقد دفعني هذا الأمر إلى القيام بخطوة توضيحيّة لإزالة الالتباس، فقمت بترجمة الفقرات المتعلّقة بالمعتقدات في الدستور "القانون الأساس" الدانماركيّ، وقمت بنشرها في صحيفة السفير اللبنانيّة، لكي يطّلع عليها من يريد أن يُحاجج- سلباً أو إيجاباً- بشكل دستوريّ، مبنيّ على الوعي). ولكن، حصل ما لا يصدّقه عقل. فمن على صفحات الجريدة ذاتها، التي نشرت الفقرات الدستوريّة، التي تجرّم الإثارة العرقيّة، ظهرت مقالات تتحدّث عن ضرورة احترام دساتير الغير، لم يكلّف كاتبوها أنفسهم حتّى قراءة ما تُرجم لهم ووضع بين أيديهم! هنا يكون الحوار الثقافيّ مسدوداً. هنا لا يوجد تبادل ثقافيّ ولا جدل بين حضارات، أو حوار بين حضارات. هنا يوجد أمر واحد هو استعباد ثقافيّ وانحطاط ثقافيّ تامّ ومطلق، لا يرقى إلى مستوى الحوار، ولا يستطيع أن يقيم جسوراً ثقافيّة حرّة ومتينة مع الآخر، سواء كان هذا الآخر صديقاً أو عدوًّا.
إنّ الحوار الثقافيّ العربيّ الغربيّ لا يقوم في ظلّ غياب التوازن الحضاريّ على منطق عقليّ معلّل، بل يقوم أحياناً على أساس تدمير المنطق والعقل معاً، واستغلال هذا التدمير لمصلحة مشروع سياسيّ ما. إنّ الصراع مع الإسلام السياسيّ، والتكفيريّ حصريًّا، في جزء كبير منه، يقوم على هذا الاستخدام التدميريّ، المخرِّب للعقل والمنطق.
فمن يستفيد من تكرار هذه "الحقائق" غير الضروريّة؟ ولماذا يتبنّاها قادة دول ورؤساء حكومات على أنّها النموذج الأسمى لحرّيّة التعبير؟ لقد حوصرت شعوب ودول لعقود من الزمن من دون سبب قانونيّ أو أخلاقيّ، ولم يوضع مسبّبها في صف المعادين للحريّة! لقد حوصر الشعب الكوبيّ حصاراً وحشيًّا ظالماً لأكثر من نصف قرن، ولم نجد رئيساً حرًّا يضع المعتدي في صف أعداء الحرّيّة؟ لقد خزّنت فرنسا الحرّة جماجم الشهداء الجزائريين لعقود، ولم تدرج هذه البشاعة الوحشيّة في قائمة الإجرام السياسيّ، المعادي لقدسيّة الموت! لقد غُزيت شعوب ودول، واغتصبت أخرى، بذرائع يعترف صنّاعها بأنّهم من اختلقها، ولم نجد من يدافع عن حرّيّة هذه الشعوب!
المثقف الصفيع، الذي يدمن على تقديم قفاه للصافعين، لإضحاكهم، هو الوحيد الذي لا يفرّق بين الحرّيّة وبين امتطاء الحرّيّة سياسيًّا، بين حماية السلام الاجتماعيّ وبين اختلاق مبرّرات صناعة الكراهية، بين الحقّ في التعبير وبين الحقّ في إهانة الآخر المختلف، مهما كان جنسه أو دينه أو شكله أو لونه!
حينما نلعب بموضوع أن نعرف أنّه يسبب الألم للآخرين، مهما كانت مبرّرات وطبيعة هذا الألم، فإنّنا لا نستخدم حرّيّتنا، بل نستخدم "وسيلة" شرّيرة أبعد من حدود التعبير عن الرأي، وأبعد من خرافة التنوير ونشر الحقيقة! التهكّم على النبي محمّد باسم حرّيّة "التهكّم على الإسلام الراديكاليّ"، أمر يخالف المنطق، لأنّه ببساطة يعمّم الإرهاب، بدلاً من أن يضعه في موضعه الصحيح. والسبب ببساطة تامّة أنّ النبيَّ محمّداً ليس الممثّل الرسميّ "للإسلام الراديكاليّ"، إلّا إذا كان المقصود بذلك تأكيد هذه الفكرة، وهذا ما يذهب بحقوق التعبير بعيداً من التهكّم السياسيّ، ويضعه في إطار التهكّم على دين كامل.
أين تبدأ وأين تقف حدود حرّيّة التعبير؟ سفير سويديّ أبدى ملاحظة "عابرة" و"مسالمة" على معرض إسرائيليّ فقامت عليه القيامة من كلّ صوب، ولم تشفع له حقوق حرّيّة التعبير، ولا حقوق نشر الحقيقة، ولا الدساتير. لماذا؟ الجواب على ذلك متروك لماكرون، يستطيع الحصول عليه حينما يأذن لرسّامي "شارلي إبدو" أن يربطوا بين أنبياء بني صهيون وبين اغتصاب فلسطين، أو بين المحرقة اليهوديّة والمحرقة الفلسطينيّة! حينما يفعل ذلك سيعرف الجواب الأكيد، وسيعرف في أي سوق تباع حرّيّة التعبير المقدّسة!
نحن مهزومون عقليًّا وثقافيًّا، مهزومون روحيًّا، قبل أن نكون مهزومين سياسيًّا.