مصر: الماركسية والخصوصية - حوار مع جورج لابيكا
حسان خالد شاتيلا
الحوار المتمدن
-
العدد: 5490 - 2017 / 4 / 13 - 00:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حوار مع جورج لابيكا:
في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
الملحق الثالث عشر
جورج لابيكا:
مصــر: الماركسية والخصوصية
حسان خالد شاتيلا
جورج لابيكا، مصر: الماركسية والخصوصية، مجلة لابانسي، العدد 151، العام 1970 : دراسة لمؤَلَّف أنور عبد الملك، الإيديولوجيا والنهضة الوطنية (مصر المعاصرة، أطروحة لنيل درجة دكتور في الآداب)، نُشرت بالتعاون مع المركز القومي للأبحاث العلمية، منشورات آنتروبوس، باريس، 1969.
Labica Georges, L’Egypte : marxisme et spécificité, revue La Pensée, n°151, 1970.
دراسة لمؤلف:
Abdel-Malek Anouar, Idéologie et renaissance nationale. Sous-titre : L’Égypte moderne thèse pour le doctorat ès-lettres publiés avec le concours du C.N.R.S., éditions Anthropos, Paris, 1969.
أنور عبد الملك، الإيديولوجيا والنهضة الوطنية (مصر المعاصرة)، (أطروحة لنيل درجة دكتور في الآداب)،نُشِرت بالتعاون مع المركز القومي للبحث العلمي، منشورات ’نتروبوس، باريس، 1969.
هل يذوب الإسلام، من حيث هو تشكيل رأسمالي محيطي، في الماركسية؟ هذا هو ما يتساءل عنه جورج لابيكا في دراسة له تفصيلية لكتاب أنور عبد الملك: "الإيديولوجيا والنهضة الوطنية". إنه يُعيد بناء، بصورة جديرة به، تاريخ بناء الإيديولوجية الوطنية كما يقرأها أنور عبد الملك، حيث تَتبدَّى التباسات المجتمعات ما بعد الكولونيالية، المسلمة منها، ويُعاد النظر فيها لتوضيحها من جديد: الافتقاد إلى اليقين فما يتعلق بالعلاقة ما بين الأمة والجماعة الدينية، الدور الاقتصادي والعسكري المركَّز للدولة، والمقاومة الموحَّدَة للاستعمار. لابيكا، هنا، يتحرَّى، ما وراء التاريخ الثقافي للنهضة المصرية، عن الأسباب وراء فشلها، وعن مصادر الناصرية. عبر هذا التحري فإنه يناقش المثقفون التقدميِّون العرب، حول غربتهم بعيدا عن جذورهم، وعن مقدار مقاومتهم للضغوط. إن هذا الحوار مع عبد الملك يًكشف، في ما يتعلق بالقطيعة مع ماركسية متمركزة على الأنا الأوروبية، عن مسار خصب للبحث.
** ** **
صداقة لا تحتاج إلى برهان:
إن أنور عبد الملك، بما يكتبه حول الإيديولوجيا والنهضة الوطنية، يُقدِّم لنا حصادا زاخرا. حصاد هام للغاية. هاهنا تَمْثل أمامنا مناسبة كي نُذكَّر بما ننتمي إليه من أصول. بل وإنه، علاوة على ذلك، ذات قيمة ثمينة للغاية من وجهتي نظر: إنه، من جهة أولى، يفتح أمامنا نحن الأوروبيون مجالاً غير معروف بصورة كافية لحضارة تعيش بجوارنا من حيث الجغرافيا، ومن حيث أيضا علاقات لا نهاية لها بيننا، والتي ما انفكت تتوثق وتنقطع، ناهيكم ومستقبلنا المشترك. هو، من جهة ثانية، حصادٌ يمنح نفسه مهمة يجدر بها أن تكون مثلا نَحتذي به نحن الماركسيون. مهمة ذات خصوصية، طالما هي تخوض في شؤون مادة هي من خصوصيات مصر وأنور عبد الملك. حصاد يَجمَع ما بين القريب والبعيد، الهوية والآخر. إنه يَمْثُل، على هذا النحو، كمقدِّمات لمقاربتنا له، كالحراس الساهرين على ما يعترضه من صعوبات. لذا، فإن هذه المقدمات تُلْزِمُنا بأن نضعها، منذ البدء، موضع التفكير، ليس بدافع التدقيق الذي يحذِّرنا من ارتكاب خطأ ما، ويستدعي منا المزيد من الرأفة حيال هذه المقدِّمات، إنما، على النقيض من ذلك، من أجل التأسيس بدقة وصرامة للإشكالية الماثلة أمامنا في هذا العمل لعبد الملك: إشكالية العلاقة ما بين ما هو خصوصي وما هو عام وشامل. أو، بتعبير أدق، إشكالية الشروط المتاحة، بوجه الإمكان، أمام تحليل ماركسي لواقع بعينه، وإشكالية التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية. إشكالية هي، من حيث المقاربة الأولية، التي تتكشف عن خصوصيات، كتلك التناقضات المبدئية التي تتناقض مع مناهج التفكير التي تسعى إلى تبريرها. بكلمة واحدة: مصر، هل هي موضوع صالح للدراسة العلمية؟ هل تستغني مصر عن هذا العلم الذي يتوخى، ليس فقط إنتاج معقولية واضحة للظواهر الاجتماعية، وإنما يتوخى أيضا العثور على المسارات التي تتيح أمام كل مجتمع شكلا أعلى مما هو فيه.
للجواب على هذا السؤال، وهي مسألةٌ موضعُ لاختلافات كثيرة حيالها، فإن أنور عبد الملك الذي تَجتمع لديه سلطة العالِم والمناضل، يمتلك جوابا يقينيا. جواب، بين غيره من الأجوبة، يُعتمَد عليه. إنه غير قابل للتجاهل. جوابٌ، لما كان غنيا بكثافته، من حيث المعلومات والمعارف التي يسوقها، بالإضافة إلى دقة المنهج، وقدرته القوية على الإقناع، فإنه يمس عن كثب كل من كان شاغله يلزمه بالبقاء يقظا أمام شاغل العالم الذي يُعْتَبَر شاغلنا جميعا.
** ** **
الإيديولوجيا والنهضة الوطنية مُنْجَزَةٌ ما قَبْلَ "مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون":
في ضوء ما تقدَّم، فإن هذا العمل يبحث، في الواقع، في المرحلةَ المعاصرة من التاريخ المصري، ويَقترح انطلاقا من أعمال ماركسية من تأليف مصريين حول هذه المسألة، تفسيرا للناصرية التي كان مكسيم رودنسون وضع يده على أهميتها recension: (أعمال كثيرة منذ ظهور عمل جاد لجان بيير شارني :الماركسية والإسلام،J.P.Charnay,Le marxisme et l’Islam, Essai de bibliographie in Archives de sociologie des religions, n° 10, pp. 133-146. Pour l’école وصدر أيضا عن المدرسة الماركسية المصرية عمل لحسن رياض بعنوان مصر الناصرية marxiste égyptienne, voir notamment Hassan Riad, L’Égypte nassérienne, Editions de Minuit, Paris 1964, . ثم تلاه دراسة لمحمود حسيين بعنوان صراع الطبقات في مصر Mahmoud Hussein, La lutte des classes en Égypte, (. المسألة، هنا، إذ هي تعمل على تحليل التركيب الطبقي لمصر، بالإضافة إلى التيارات الفكرية التي كانت تجتاحها، فإنها تُشيِّد في البداية طبيعة عمل المجموعة السياسية المصرية للضباط الأحرار الذين انتزعوا السلطة بانقلاب عسكري في العام 1952. ثم تَحْصُرُ هذه الأعمال، من جهة ثانية، وفق ما تمر به هذه المجموعة العسكرية، عبر المراحل، ملامحها وعلاماتها، بالإضافة إلى ملامح وعلامات المجتمع، موضع عمل الضباط الأحرار في عملهم على بناء نمط جديد لمصر"مصر الناصرية في المرآة الماركسية""« L’Égypte nassérienne au miroir marxiste »," Temps modernes, n° 203, avr. 1963. ). الأمر الذي يقود الباحث إلى نتيجة مؤداها أن العقد الزماني الممتد ما بين 1952-1962 يشكل مرحلة يظهر في متنها النظام من حيث هو يَحمل معه تناقضات عميقة سواء من جهة السياسة الداخلية، أو من جهة السياسة الخارجية: الوحدة بين سورية ومصر بتاريخ: الأول من شباط/فبراير 1958، نهاية الوحدة بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر 1961، الثورة العراقية وسقوط الحكم الملكي بتاريخ 14 تموز/يوليو 1958.على الصعيد الداخلي سياسة التناوب ما بين معاداة الشيوعية والاستفادة منها، التناوب ما بين المنجزات الاجتماعية من تأميم لعدد من القطاعات الرئيسة والتعاون مع البورجوازية، التناوب ما بين الشرق والغرب، التناقض ما بين السياستين الداخلية والخارجية كما تظهر في سياسة عدك الانحياز). لاسيما وأن النظام في ما يبني مجتمعا مستقلا، فإنه كان يُشدِّد قبضته على المجتمع . هذه التناقضات تكشف عن حاجة النظام إلى إيديولوجيا تُتيح له التبرير الذاتي للسلطة. عن حاجته أيضا إلى الشرعية في ما يتعلق بعمله بين الجماهير من أجل تعبئتها بصورة أنجع. إلى ذلك، فإن الالتباس كان واضحا للعيان بين المرجعية لعقيدة اشتراكية، وبين هيمنة لاسلام أكثر رجعية من غيره. أي إن الدولة العسكرية تواجه حالة من الاستعصاء ضمن حدودها الوطنية والقومية، في ما هي تؤكد، من خلال دوافع إيديولوجية نحو الشمولية، مقدرتها على الدفاع عنها.
(إن أطروحة أنور عبد الملك حريصة على العودة إلى ينابيع هذه الحالة، كي تجد في مصر الأمس، وما قبل الأمس، ما يتيح لها السيطرة على الحاضر. فالأطروحة تعلن منذ عنوانها عما تَمنحه من أهمية لتحليل البنى العليا، بحيث تستجيب لشاغلين اثنين: إدراك الحيز الذي يتسع للإيديولوجيا منذ بداية النهضة المصرية وحتى غاية اليوم. تطوير حيِّز أمام البحث الذي لم يلق منذ الزمان البعيد سوى الإهمال في ما يتعلق بخاصة خلال السنوات: 1805-1879, 1879-1892 (ص 17).
بالإشارة إلى ما تقدَّم، فإن ما يأتي أدناه يَتْتَبَّعُ بأمانة، ما أمكن ذلك، المسار نفسه الذي يَرسُم لأنور عبد الملك مسارَه: البحث عن الغاية المُعلنة لمألَّف كاتبنا. ألا وهي معرفة الإشكالية النظرية للإيديولوجيا.
** ** **
لابد، في هذه الأثناء، من الولوج إلى قلب هذا البحث. لابد من إعطاء لمحة عن الخطوات التي تقوده لبلوغ غايته. إذ إن، من البديهي، أن الأمر لا يتعلق فقط باحترام أقل هذه المعارف والمعلومات المنطقية على مسار هذا العمل أهميةً. إنما لابد أيضا من منح القارئ رغبة سعيدة بالمضي بنفسه قُدُما لاستبار ثروته الغنية التي لا يَظْهِر منها، هنا، سوى انعكاس للمحة عابرة.
إن النهضة الوطنية لمصر التي تُشكِّل "الأمة الأقدم (ص 13)، والأكثر تماسكا، يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر". فقد وُلِدَت مصر المعاصرة مع محمد علي الذي كان يحكم مصر ما بين 1805 و 1848. "إنه الوحيد من بين أقرانه من الحكام العرب الذي كان يَعْتَبِر أن الاقتصاد يُشكِّل قاعدة السياسة. ذلك أن هذا الضابط العسكري في العام 1805، الألباني الأصل، وهو حاذق، يرتفع إلى مقام رجل الدولة. إذ إن شكل الدولة التي كانت مبتغاه، كان، والحالة هذه في العام 1805، في بداية الأمر، شكلا اثنيا، متمركزاً حول جيش قوي وفعِّال، ومستندٍ إلى اقتصاد معاصر مكتفٍ ذاتيا "(ص 24). إن التاريخ السياسي يضع، على هذا النحو، منذ تلك المرحلة، ما هو اقتصادي في المقدِّمة. لذا، فإن المؤلِّف يرى، بالتالي، أن هذه الحالة مرتعا للبحث في السمات المميِّزة لمصر.
هذه المميِّزات هي:
-) الدولة تحتكر التجارة والصناعة. احتكار يأتي كتكملة لاحتكار الأرض. نائب الملك كان يستفيد بدوره من هذا الاحتكار حتى غاية العام 1858.
-) تشييد سوق وطنية موحَّدَة (الأعمال الكبرى لإسماعيل وريث محمد علي على الدولة).
-) دمج الاقتصاد المصري ما بعد الاحتلال البريطاني في العام 1882 في دائرة الاقتصاد الدولي عن طريق الاستقراض. مصر، بوجه خاص تعتمد على الزراعة الأحادية للقطن (ص 109).
-) تشييد البنى الاجتماعية: هنا تظهر واقعتين اثنتين: في الريف: سيرورة قضائية للملكية الخاصة للأرض (ص 81). حيث تَظهَر في النصف الثاني من القرن طبقة كبار ملاكي الأراضي، إلى جانب تَشَكُّل ثلاث مجموعات اجتماعية: ملَّاكون مُنِحوا أراض بور، الملاكُّون الصغار للأرض، وأخيرا الفلاحون بدون ملكية زراعية، ولا تتوفر في ما يتعلق بهم معلومات كافية (ص 88). في المدينة: إبان عهد محمد علي تتشكَّل الطبقة العاملة، حيث تنشأ عنها، في نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، بروليتاريا صناعية ( في العام 1899 تَشهَد القاهرة تأسيس أول نقابة عمالية: عمال التبغ). أما غيرها من هذه وتلك من الشرائح المجتمعية للمدينة، فإنها تتفكك إلى طبقات عليا (الباشوات، أصحاب الملكيات العقارية الكبيرة، كبار الموظفين، أصحاب المراتب الدينية، القادة العسكريين، القيادات العليا للاقتصاد). إن هذه المرحلة تَشهَد نشوء الطبقة الوسطى. في أسفل السلم تتكوَّن شرائح مجتمعية من البروليتارية الرثة، يتسع هذا الحيِّز للمومسات والمشَرَّدين.
-) من اجل المزيد من الدقة: هذا التوزيع يفتقد بديهيا للإحصاءات. ثم، إنه يتطور بعلاقته المباشرة بالقطاع الرأسمالي .
-) هذه الخطوط العريضة تعبِّر عن المميِّزات التي تَدْمغ نهضة التكوُّن الوطني المصري: دولة مركزية ذو جهاز صلب، يُحرِّض الحياة الاقتصادية على النمو والتطور، بما في ذلك تحت عهد الاحتلال الأجنبي. فضلا عن هامش واسع من الاستقلال الذاتي، بحيث بفسح المجال واسعا أمام ولادة الحركة الوطنية: ثمة قطاع ما قبل الرأسمالي، وطني ومندمج، في وقت واحد بالاقتصاد العالمي. هنا، لابد، توخيا للإحاطة بالموضع، من أن نضيف بأن حالة من التفاوت الداخلي تسيطر على المجتمع المصري. منها، على سبيل المثال، التفاوت، من حيث التطور، ما بين الصعيد المصري، ودلتا نهر النيل. تفاوتٌ ما بين المدينة والريف. تفاوت مختلف عما هو عليه الحال في تلك الفترة من غير مصر، منها الأمم المسيطر عليها. إلا أن هذه "الخصوصية" أبعد ما تكون عن التبسيط والثبات الجامد. فإذا كانت هذه الخصوصية محقَّة عندما تَعْتَبِرُ أن التكوين المصري، حتى غاية العام 1952، تكوينٌ "إقطاعي"، فإنها مرغمة على الاعتراف "أن مصر كانت تتقاسم مصير كل البلدان الواقعة تحت السيطرة الإمبريالية، والتي كان كل من أ. هوبسن.، لينين، و روزا لوكسبورغ، رسموا عنها صورة شاملة (ص 109).
هذه هي نقطة انطلاق التحليل الذي يقود أنور عبد الملك في تحقيقه عن مصر النهضة. هذه، أيضا، هي خلفية الفشل الذي يَلحق بأول نهضة مصرية تحت صدمة الاحتلال البريطاني. المؤلِّف يسجِّل موضوع دراسته طي هذه الخليفة، وهي علم الاجتماع الثقافي (ص 93) الذي، حسب ما يفعل الكاتب، يُعيد إنتاج الشروط الإيديولوجية الخاصة بالتجديد الوطني المعاصر. ثمة، في هذا السياق من الدراسة، أربع خطوات متتابعة (من القسم الثاني إلى القسم الخامس). ثمة، أيضا، مقطعين تاريخين (1805-1879، و 1879-1892). هذه الخطوات والمقاطع تَكشف بشفافية عن تكوينها. بناءً عليها، سنبيِّن بدورنا خطوطها الكبرى مع الاحتفاظ بحق الإلحاح، بوجه خاص، على المرحلة الأخيرة (الفصل الخامس، 1879-1892). هذه المرحلة هي التي تقود الباحث بصورة مباشرة نحو الحوار العميق.
***
في ما يتعلق بالبنى التحتية الوطنية الثقافية، حسب مصطلحات الكاتب، كما في ما يتعلق بالبنى التحتية الاقتصادية، فإن مصر ستَكشف عن مميِّزات مثيرة للاهتمام، لاسيما وأن هذه الميِّزات لن تحدَّد، فقط، مصيرها، وإنما ستحدِّد، علاوة على ذلك، مصير النهضة العربية حتى غاية اليوم (ص 183). ففي هذا المجال، فإن دولة محمد علي ستمارس الدور الأول في ما يتعلق بترجيح حركة يعرِّفها أنور عبد الملك على النحو التالي: "ليست البعثات الدينية وأصحاب الرؤى هي التي سَتَقْلِب التراب المصري. إنما، وبصورة جوهرية، الذي سيُنجِز ذلك هي الموجات من الشبان والنخب المصرية الجديدة التي حَمَلت معها من قلب أوروبا، ومن صميم العلوم والفكر المعاصر. إنها موجات من البعثات العلمية والفكرية المصرية التي أرسلت الشبان والنخب الحديثة إلى قلب أوروبا كي تضع نفسها في قلب العلم والفكر المعاصر. إنها التي تشكِّل بصورة جوهرية أساس البنية المصرية، وذلك بإيقاع سريع، ومن أجل أن يلتقي فوق التراب المصري العلم وتقنيات الثورة الصناعية، وذلك على غرار الأفكار السياسية والاجتماعية للثورات الاجتماعية الأوروبية، وأسلوب الحياة وأنماط من مسلك المجتمعات المعاصرة، رأسمالية وليبرالية، السائدة في أوروبا القرن التاسع عشر. فرنسا، في هذا السياق هي التي تتقدَّم بمسافة طويلة غيرها من القوى الأوروبية. فرنسا هي التي تمارس تأثيرا حاسما (ص 183-184).
أليس من المفيد أن تعود فرنسا اليوم وتتذكَّر بأن مصر نشرت الأنوار في ما كانت مصر بنفسها تتطلِّع للتجديد؟ أيكون ذلك من غير المفيد؟ ما حدث يتجلَّى بعلاقة ذلك بالبعثات المدرسية التي صَهَرَت موجة رائعة من النخب المعاصرة، بالمعنى النبيل للكلمة، ونَشَرَت موجة من الترجمات. ما حدث أيضا هو أن مصر، فلنسجِّل ذلك، هي الثانية من نوعها، وأن حركتها التجديدية تأتي على مسار معاكس لما كان سائدا في القرن التاسع. بمعنى أن العلوم التاريخية والجغرافية، ومن ثم الاجتماعية، هي التي، إبّان التجديد، تفوَّقت وسَبَقَت الفلسفة والأدب (ص 141-142). فلقد عَرِفت الأدمغة حالة من التخصيب بالمئات. في مقدِّمة هؤلاء، على حد قول عبد الملك، يأتي رفاعة الطهطاوي الذي يتبوأ لديه مكانة متميِّزة (ص 16)، والذي ظلَّ مجهولا في أوروبا، بالرغم من أن أعماله، بغير كلل وملل وكثافة، تمارس دورا حاسما في حركة التجديد، بما في ذلك ما يتعلق منها بالإعداد للتيار الاشتراكي. هذه الترجمات، وما كان يرافقها من طباعة ونشر، يعود على مصر بالجوائز الدولية (ص 167). لاسيما في ما يتعلق، بإلحاح، بالنظام التعليمي المعاصر الذي يَمنَح "القيم الإنسانية، العلمية والعقلانية" (ص 184) دورا في غاية الحداثة، إذا ما قورن هذا التعليم الجديد بالمعايير التربوية التقليدية. غير أن هذا التجديد يواجه صعوبات منشؤها العادات القديمة للتفكير، بالرغم من أن الطريق كان مفتوحا أمام التأسيس لصحافة وطنية حيَّة (ديناميكية) غير حكومية (ص 178) تساهم بتعميق التجديد. فضلا عن ذلك، فإن مصر، حينذاك، كانت أرض المنفى بامتياز لكل الذين كانوا إبان الإمبراطورية العثمانية موضعا للتنكيل والتعذيب.
بناءً على هذه القواعد تتكوِّن إيديولوجية الحركة الوطنية. ما حَدَثَ، حينذاك، هو أن العقلانية الاجتماعية فَرَضَت بصورة متعاظمة وعامة اجتماع عناصر متنوعة كانت تمارس تأثيرها. من هذه العناصر يُذْكَر السان-سيمونية التي سَبَقَت غيرها، وكانت الأولى من حيث الترتيب الزماني، والمتنفَّس الوحيد. إن عملها مرتبط بصورة مباشرة بنشأة الدولة تحت حكم كل من محمد علي وإسماعيل: سان-سيمونية تتميَّز باستمرارها وعمقها. يَحْدُثُ ذلك طالما يُبَيِّن محمد علي أن "الترابط ما بين الدولانية المصرية (مذهب سياسي يدعو إلى مد سلطة الدولة إلى مختلف أوجه الحياة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية. ح.خ.ش)، والتقنية الاجتماعية-الاشتراكية (ص 197؛ أيضا ص286) (مذهب سياسي يقارب ما بين سياسة اجتماعية تدافع عن المجتمع، والعدالة الاجتماعية -المُتَرجِم). أنور عبد الملك في عمله "مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون" يبيِّن أن النظام المنبثق عن الانقلاب العسكري للعام 1952 تمسَّك بتبصُّر بسياسة محمد على.
غير هذه وتلك من العوامل تتمفصل مع ولادة الوعي التاريخي تحت تأثير حركة الطهطاوي ومدرسته (ص 210-211). فقد أيقظت هذه الحركة تفكيرا متمركزا حول مفهوم الوطن، من حيث هو مختلف عن الأمة من حيث هي جماعة دينية. مركز هذا التفكير حول الوطن والأمة يَحْصر المسألة الإشكالية الرئيسة لدى البلدان العربية بمسعاها إلى الفصل ما بين الاندماج الوطني والانتماء غير القومي/الوطني للإسلام. إن صدمة أفكار الثورة الفرنسية 1789 فوق التراب المصري تمارس دورا صريحا: مصطلحات الاستقلال الذاتي، ومن ثم الاستقلال الوطني، تابعتين لها. إن هذين المعنيين يترجِمان لانطلاقة فكر سياسي واجتماعي يجدان في القرن التاسع عشر رمزا لهما في كلمة "الحرية" (ص 264). كما ظهرت لدى آخرين مشاغل التصويت العام (ص 275). لذا، فإن حركة الأفكار الجديدة تضطلع على هذا النحو بوظيفتين اثنتين: الوظيفة الأولى تُتيح لمصر بنفسها أن تؤكِّد على كيانها في مواجهتها للإمبريالية، فرنسية، بريطانية والباب العالي. الوظيفة الثانية تتيح لمصر أن تَعْقُد من جديد صلاتها بماضيها الألفي دون أن تتنازلَ عن أيِّ من مكوِّنات معاصرتها.
هذه المعاصرة تبدأ، خلال المرحلة قيد الدراسة، بعبارات مخالفة لسابقاتها، وبتأثير من أوروبا، تضحى فاعلة. التأثير الأوروبي كان بمثابة لدغة تَبثُّ، بصورة جوهرية، الحياة في هذه المعاصرة وتنعشها ص (331). فقد شملت هذه التغيرات الإحساس، وبداية الحركة النسائية، ومولد الرواية والمسرح، وتَكَوُّن اللغة العربية الحديثة (ص ص 326-331).
مظاهر وتشكيلات الليبرالية، في صدامها بالحكم الفردي المطلق والتقاليد، تكشف عن تشكيلاتها، بصورة رئيسة، في مجالي السياسة والمجتمع. إنها تفتح الطريق أمام مشكلة قوامها أن مشكلة الثقافة ودورها في النهضة الوطنية متأتية، بوجه الإمكان، من كونها تستطيع أن تَطرح نفسها من حيث هي مشكلة بحدِّ ذاتها ولذاتها.
***
إلى ذلك، فإن أنور عبد الملك يبلغ المنظور المركزي في عمله هذا. حيث أننا، هنا، نبلغ في هذه الدراسة إلى خطوطه الواقعية الرئيسة، على النحو التالي:
ففي العام 1882 يجتاز تاريخ مصر المعاصر حالة من القطيعة من جراء الاحتلال البريطاني. قطيعة نالت، في الواقع الملموس حركة الأفكار بتقسيمها إلى عهدين اثنين. القسم الأول يترجم عن تشكُّل الإيديولوجية الوطنية. القسم الثاني (ما يعادل خمسة فصول من هذا العمل) يشهد على تفرُّع هذه الإيديولوجية، تحت صدمة الاحتلال، إلى تيارين اثنين رئيسيين من الفكر مختلف أحدهما عن الآخر. لذا، فإن مؤثِّرات هذه الصدمة هي التي تحتل المقام الأول من الدراسة. وتحت هذين التأثيرين يأخذ هذا العمل، قبل أي اعتبار آخر، المسار الذي يقود عبد الملك في بحثه. فالمؤلِّف عبد الملك يفرد، هنا، فصلا كاملا في منتهي الأهمية يَحصد فيه السياسة الإمبريالية في المجال الثقافي. كرومير Cromer، القنصل الطاغية لمصر، هو صاحب هذه السياسة. فكرومير هذا، كان ينظر إلى مصر نظرةً مشوَّهة للواقع. مشوهة مرتين اثنتين. نظرة إمبريالية إمبراطورية بريطانية. نظرة ثانية منقولة عن تجربته الشخصية في الهند (ص 339). فقد تجسَّدَت هذه السياسة عبر شكلين اثنين. من جهة، التقليد الأخلاقي المسيحي. من جهة ثانية، وضع مصر تحت نظام أوروبي، وكأنها جزء من أوروبا في جميع المجالات. اتِّباع سياسة لتجهيل مصر. كرومير بمنطق هذه القواعد يَفرض بكياسة نظرية (ص ص 341-346). هذا يعني أن الثقافة المصرية فُرِّغَت من مكنونها الوطني، لتوجَّه في منحى يتراجع نحو الماضي. حتى أن اللغة العربية اعتُبِرَت لغة أجنبية. بل وإن مدة التعليم في المدارس تقلَّصت. البعثات الدراسية إلى البلدان الأجنبية أٌلغيت. زد على ذلك أن النسخ حلَّ محل الفلسفة. ناهيكم وأن النسخ عاد ليتربَّع على عرش الثقافة، في ما مُنِحَت الامتيازات للاتجاهات المسلمة السنية المحافظة إلى أقصى حد كنقيض لأي شكل من أشكال المعاصرة.
بالمقابل، فإن رد فعل المثقفين المصريين الأصليين واحتجاجاتهم شملت الأغلبية منهم (ص369). إلا أن أصواتهم جاءت متنافرة ما أن كان الأمر يتعلق بالمستقبل. فقد ظهر منذ ذلك الوقت نمطين، وخيارين اثنين كبيرين من العمل الثقافي. ظَهَرَ، وما يزال يظهر، ليُقَسِّم مصر وكل العالم العربي. أحدهما يَمْثُل في الأصولية الإسلامية. ثانيهما يَمْثُل في إيديولوجية وطنية جذرية متعدِّدة التيارات. إن ما تتضمنه أشكالها من الأهمية يستدعي بالضرورة استيعابها فكريا بحيث يتسنى للباحث أن يستوعب الحاضر. الأمر الذي لا يفوت شأنه على أحد. فلنتوقف، هنا، قليلا مع أنور عبد الملك، بحيث نقترب معه من هذه الشكلين الرئيسين، الإسلام الأصولي، والقومية الجذرية.
آ- تجديد الفكر الإسلامي:
إن المرجعية الدينية، وإن كانت تسيطر على الإسلام الأصولي، إلا أنها، بخلاف ما يذهب إليه المستشرقون الأوروبيون، لم تَعْرِف الانتشار والقبول في المجال اللاهوتي وحده. ذلك أن خوضها في مجالات علم الاجتماع، السياسة والإيديولوجيا (ص 372) لا يقل أهمية لدى من كان يريد قياسا دقيقا، في الماضي والحاضر، للحيِّز الذي يتسع أو لا يتسع للأصولية في النهضة الوطنية لمصر.
كان الشيخ محمد عبده المفكر النظري للأصولية الإسلامية. إنه صاحب الفكرة التي تدعو إلى الانكفاء على الذات لمجتمع تفاجأ بشراسة بالاحتلال الأجنبي. محمد عبده كان أسير السؤال الذي كان يتردد على جميع الألسنة: "ما هو السبب وراء انحطاط مصر والإسلام؟" (ص373). جوابه على هذا السؤال مسؤول إلى حدٍّ كبير عنة نشأة حركة الإخوان المسلمين وإيديولوجية الضباط الأحرار ص 405).
القرآن، حسب ما يراه محمد عبده، مصدرٌ لكل فكر. إنه رسالة جديرة بالعودة إليها. هو صاحب الأرثوذكسية النزيهة، والمنتمي للأشعرية، لم يكن ليخلو تفكيره من النتائج: "إن تقدُّم العلوم التاريخية، المناهج الجديدة للنقد التاريخي والنصوص، والتاريخ المقارَن للديانات، لا تعنيه، أو إنه يتجاهلها"(ص 386)... فإن القرآن مصدرٌ لكل حضارة (ص 386): إن هذا الجهد اللاهوتي يدافع عن الدين بقصد تبريره، فتراه يسعى إلى هدف محدَّد، ألا وهو "أن يسمح للدين أن يمارس دور الإيديولوجية الوطنية" (م.س). لذا، فإن الأمور واضحة: إن نسيان الإسلام مصدرٌ للانحطاط، وإن العودة إلى الإسلام برابطيه الاثنين، الحياة الاجتماعية، والحياة الدينية، كفيل، في مواجهته مع الآخر غير المسلم، بأن يستعيد الهوية المفقودة. فاستعادة الهوية المسلمة شديد الوضوح. حتى أن استعادة الوعي بها يشكِّل وعيا شديد القوة على الصعيد الاجتماعي. الأمر الذي يُتَرْجِم عن الحذر حيال الحركات الثورية، بل وحتى الديمقراطية (ص 387). هذه الاستعادة للهوية المسلمة يرادفها الانتماء إلى كل ما هو مُحَافِظ (ص 388)، ولالتحاق بالحزب في الجيش (ص 391)، والمناداة بالحاكم المستَبِد و"الديكتاتورية المستنيرة": (ص 389،394)، والتحالف المَخْفي مع كرومير الذي يجعل من محمد عبدة المفتي الكبير (ص 397)، والجامعة الإسلامية المناهضة للوطنية. إن مثل هذا الفكر تترتب عليه نتائج فكرية: حظر كل فكرة تريد لنفسها أن تكون مستقلة ذاتيا عن الدين (ص 403)، تكريسٌ للكتب المنسوخة، رفض المذاهب التاريخية، العودة إلى ماضي الإسلام، والرجوع إلى المفهوم اللاهوتي للمجتمع (ص ص 404-405).
وبعد، هل من ضرورة تلزمنا بالتساؤل إلى أي حدٍّ من القسوة المُحافِظَة تحيا إلى غاية اليوم هذه الإيديولوجية؟ إلى أي مدى من الالتباسات أصبح محمد عبدة قائدا لمدرسته؟ فلنجب بصورة إيجابية: بالأمس لَمَسَت النهضة العربية التي انطلقت من المشرق، لمَسَت الأرض المغاربية. حالها بالأمس كحالها اليوم، عندما يَحْتَفِل المحاضرون في الجزائر المنتصرة على الاستعمار الفرنسي، إلى جانب الصحافة وغيرهم من الكتَّاب، بالمعلِّم المصري تمجيدا لذكراه.
ب- صيرورة الإيديولوجية الوطنية:
في قمة الفصل الثاني من تيار الفكر المصري يَجلس الطهطاوي الذي يحظى لدى أنور عبد الملك بأكثر الصفحات حرارة. إنه يُكرِّس لآخر أعمال الطهطاوي عناية خاصة مُلٍحا على ضرورة أن يأخذ مكانة مرموقة بين أقرانه في مجال "البحث عن المصادر الإيديولوجية محض المصرية". أنور عبد الملك يرى في الطهطاوي المفكِّر المُمَجَّد من حيث هو الرائد الأصيل للاشتراكية في مصر (ص 418). فعرضه لأفكاره، بالاستناد بوجه خاص إلى تحليل النصوص الاقتصادية والتفسير الديني، يسترعي انتباه عبد الملك، يحدوه أمل بأن يلقى الطهطاوي في مصر ما يستحقه من عدالة. بل، وبوجه خاص، من أوروبا أيضا إذا ما تُرجِمت أعماله.
غير أن الطهطاوي يَخطب ويعظ الأمة في الفراغ. طهطاوي صاحب الرسالة انسان وحيد. إذ إن الاعتراف به، والإصغاء إليه، استغرق مدة ليست بالقصيرة. بل، وإن المدرسة الماركسية المصرية، هي وحدها التي اعترفت به في وقت متأخر. ذلك أن حركة الواقع كانت تتقدَّم في حيِّز آخر. حيِّز القناة الوطنية الدستورية، البراغماتية والانتقائية. هذا الحيِّز انغمس، ما بعدا الفشل الذي مُنيت به محاولة العرابي الثورية بوجه السرعة، في صراعات من أجل القيادة. صراعات مُلْتَبَسَة لتعدُّد أقطابها، فضلا عن ثقل وزنها المحَمَّل بالتهديدات في ما يتعلق بالمستقبل. أما على الصعيد الإيديولوجي، فقد كان خليطا مزيجا من المعاصرة والتشبُّه بالقدامى. الأمر الذي حال دون أن تتبنى الطبقة الصاعدة سياسة المبادئ. ثم حَدَثَ ما بعد 1882 أن المتنازعين الرئيسين على القيادة خانوا حركة النهضة المصرية (ص 448).
بيد أن مصير الشعبوية الثورية سار في اتجاه مخالف. فقد ظهرت "النديم" في العقد الأول من الاحتلال البريطاني. "النديم" اضطلعت بمهمة ولوج أطروحات الحركة الوطنية إلى الجماهير، والتي كانت حتى ذلك الوقت حصرا على النخبة (ص ص 449 و478)."النديم" أخذت على عاتقها مسؤولية الدفاع عن اللغة العربية الدارجة، تحليل نقدي للمجتمع، تبعية العوامل الدينية للعوامل التاريخية والاجتماعية، وفكرة مثالية عليا عن الوطن المصري: هذه الأفكار وغيرها مارست دورا حيويا في التقارب بين النديم والطهطاوي (ص 466). "إننا هنا أمام مثقف صحفي يرفض المنفى رفضه للاعتراف بالذنب. الطهطاوي يختار البحث في صميم الجماهير الشعبية، هو الذي لم يتوقف عن تشجيعها للنضال ضد الاستبداد والاحتلال. الطهطاوي يختار عن إرادة أن يحوز على الحماية. حماية الجماهير له في ما تَرفض سلطات الاحتلال منحه إيَّاها، وتجرِّده من حق البحث عن المصادر الممكنة لفكر متجدِّد (ص 463). إن أجيالا من المناضلين تُعلن عن انتمائها للبطل الملحمي الطهطاوي، وتكافح كي يأخذ الشعب بنفسه "قيادة الثورة". (ص 483).
هذان هما التياران الرئيسان اللذان مَّدَّا بالحياة الفكر الوطني المصري والعربي حتى غاية المرحلة المعاصرة. فإذا كانت الحاجة إلى الوضوح قد أَلزمت بالتمييز الواضح بينهما، فإن من المؤسف، مع ذلك، أن أنور عبد الملك في الخاتمة لم يأت ببعض اللبس إلى هذه اللوحة. ذلك أن القارئ العادي قد لا يدرك إلى أي مدى، في مجال الإيديولوجيا في البلدان المسلمة بوجه خاص، أن قبعة الرأس لا تميِّز وحدها المؤمن عن الكافر. فالجسور بين تيار وتيار آخر لا تَعرِف أبدا حدَّ القطيعة ما بينهما: "فإن هذا "الرجعي" مؤهل بالاقتناع بالرسالة الاشتراكية في القرآن. كما أن هذا التقدُّمي قد يرى في محمد عبده بطلا للنهضة الوطنية. الشيوعي بدوره قد يكتشف أنه مسلم، بدون أن يدري، ويمارس الشعائر والواجبات الدينية. الحال، هنا، أن المسألة لا تتعلق، بالضرورة، بالذاتية، أو بحيلة ما. إنما هي، على النقيض من ذلك، تناقضات، هي بالضرورة ذاتية تَعَرَّف كثرة منا عليها، من حيث هي نتاج مباشر لظروف موضوعية بديهية. من هذه الظروف تُذكر صدمة الأجنبي. هذه هي الظروف التي تبرِّر الانتماء في نفس الوقت، وعلى التوالي، بالأفغاني والطهطاوي. المسألة، هنا، لا تمت بصلة ب/"فضيلة الروح"، حسب ما يذهب إليه هذا وذاك، إنما هي واقعة من صنع الإمبريالية، ومن نتاج رفضها رفض المحرِّض عليها.
***
ما يتوصل إليه أنور عبد الملك هو الإشكالية الخصوصية للنهضة الوطنية الثقافية لمصر. هي مسألة تَستحق مرتبة عالية من الانتباه. ذلك أن هذه الخصوصية ليست خصوصية بلد واحد بعينه، وإنما العالم الثالث بأسره، عبر بلد واحد هو مصر. إذ إن هذه الخصوصية تُتَرجِم بفكرها، منهجها ومفاهيمها، أكثر من بلد واحد بعينه. إن مجموع أعمال المؤلِّف عبد الملك تؤكد بما فيه الكفاية على وجهة النظر هذه. ها هو يكتب في مقدِّمته لمؤلَّفه الذي ظهر في مجلة الإنسان والمجتمع l’Homme et la Société : "إن المحصِّلة التجديدية على سبيل الممكن والافتراض لبحثٍ من هذا النمط لا يكمن، إلى حد واسع أو مختصر، بتراكم حصاد من وقائع جديدة، أو غير معروفة سابقاً بصورة كافية، وليس أكثر من ذلك أن يكون كامنا في الطبيعة، البنية، والتكوين الحي للظواهر الاجتماعية المستنتجة والمحدَّدَة بتعريفها والمُفَسَّرَة، من حيث هي دوما فرضيات علمية". ها هو أيضا يكتب، في مطلع الفصل الأخير من الإيديولوجيا والنهضة الوطنية: "... هذا الانتقال من حصادٍ لما هو موجود في جميع الأحوال، الانتقال منه إلى دراسة حالة بعينها، إلى إنشاء نظري بصيغة الفرضيات والإشكالية التي تبدأ وتنطلق من حالة خصوصية، فهل يكون، والحالة هذه، الالتحام ما بين الخصوصي والشامل ملائما، حتى وإن كان يأخذ شكل الفرضيات ؟" (ص487).
إذن، ها نحن ذا قد وصلنا إلى قلب النقاش.
هنا، يَستخلص أنور عبد الملك نتائج بحثه في بابين اثنين: الباب الأول يتعلق بالمفاهيم، يتبعه الباب الثاني الذي يبحث في الإشكالية المترتبة عن هذه المفاهيم.
آ-) المفاهيم
يبلغ عدد هذه المفاهيم أربعة:
التعايش ضمن الدولة: بين إرث المجتمع القديم المتأتي عن "نمط الإنتاج الآسيوي"، وبين الدولة التي تجسِّد الأمة وتسيطر عليها بالاعتماد على الجهاز الإداري والقهر، وهما من اختصاصها وحدها، ومنها، بوجه خاص، الجيش والإيديولوجيا. غير أن الإيديولوجيا "التي تُعْتَبَر من اختصاص الدولة وحدها (...)، وهي التي تنصُّها، بل، وإنها، في جميع الأحوال، هي التي تديرها وتوجِّهها في الواقع وبفعالية" (ص 496)، فإن حالة من الانفساخ تَحصَلُ ما بين الإيديولوجية "السائدة بالعلانية"، الإيديولوجية الرسمية، وبين الإيديولوجية (الضمنية، الكامنة) التي تُعَبِّر عن " الحياة الفكرية، الخيالية والتصويرية" لمصر العميقة (ص 498).
إن مفهوم التشكيل الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالوي المتأخِّر من النوع الكولونيالي مع طغيان الزراعة،
إن هذا التعريف للمجتمع المصري يحوز على استحقاق مزدوج: إنه يتيح إغناء المفهوم التقليدي للرأسمالية، وتعامل حصري ودقيق مع الاقطاعية".
إن نص مفاهيم الوطن والأمة يطغى عليهما الالتباس: إذ إن المسافة ما بين الأمة والوطن تتسع لكل لبس، سواء أردنا ذلك أم لم نرده، فإنه يقطن في حيِّز الممكن (ص 501).
هذه الفكرة الأخيرة تُلْزِم بتحليل "الجدلية ما بين الاستقلال الوطني والدستور" (ص 502). أو بتعبير آخر التحليل الجدلي في ما يتعلق بالعمل المُنتَخَب لكل عوامل النهضة الوطنية (م.س.)
ب-) الإشكالية: إشكالية الانتقال من التعايش (الاتحاد بين تكوينين غير متسابهين – المترجِم) إلى التركيب الجدلي.
المؤلِّف أنور عبد الملك يُقَدِّم هذه الإشكالية على النحو التالي: "في ما يتعلق بالتعايش بين الأشكال الثلاثة للوحدة المصرية" (أي الدولة)، باعتبارها (العامل المركزي)، العامل الاقتصادي، عامل البنى العليا (ص ص 496-497)، ثم تأتي الفترة الثانية، حيث الجدلية بين هذه الخصوصية، هذا المشروع للإبقاء على القديم مستمرا بصلابة، من جهة، وانبثاق المعاصرة المتمثلة، هنا، بالأسلحة، الاقتصاد، المؤسسات والأفكار. تبقى الحالة الثالثة لهذا الجدل، حالة الانتخاب النقدي لهيمنة خيار ألا وهو، بوجه الدقة المركَّزة: المسار النقدي للمعاصرة، أي تركيب جدلي حقيقي يؤدي إلى رفض الغموض الكامن في هذا التعايش. ذلك أن كل هذه الحالات من الانفساخ ما بين إيديولوجيتين اثنتين تبقى حاضرة في جميع المجالات بين "الصريح المُعْلَن"، وما هو "ضمني كامن"، ما بين المعاصرة والتقاليد، ما بين الريف والمدينة، ما بين السلطة والشعب، ما بين الفعل والتفكير (ص504). أضف إلى ذلك أن مهمة المثقفين وخياراتهم – غير المضمونة (ص 517) – تقع عند هذه التقاطعات المتداخلة، ما دامت النهضة الوطنية المصرية الأولى، لم تستطع اكتساب إيديولوجية بكل معنى الكلمة (ص 516)، وعجزت أيضا عن تكوين " فلسفة الثقافة وصورة للإنسان الذي تصبو إليه"، وأن هذان الشكلان من الإيديولوجيا ما تزالان حتى غاية اليوم بدون جواب على سؤال مؤداه "كيف نكون مصريين؟". الجواب الذي لا ينطوي على غموض، الجواب الواحد مفقود.
إن مثل هذه النتيجة تعكس، حسب ما يبدو لنا، على خير وجه، درجة حرارة العمل بكامله، والوتيرة الفكرية، بلا شك، لتفكير أنور عبد الملك. فالإيديولوجية والنهضة الوطنية، إذا ما أردنا أن نفهم ونتيح أيضا رؤية واقع في غاية التعقيد، فإنه مشروع بناء شاهق مبنيٌ بعشق. إنها العودة بمصر قرناً كاملاً إلى الوراء، من مصر إلى استقلالها الوطني، إلى صعودها فوق ساحة التاريخ، باستقلالها الذاتي، لمصر أقدم الهويات الوطنية في العالم، ولمصر، بصورة أوسع، فوَّهةَ بركانٍ لانفجار ثوراتها الوطنية. بناء عامر مبني بعشق: إنها تَجْمَع أنصعً مُستلْزِمات الوضوح الناصع، برابط أعمق عمقً للأرض. تَجمع الموضوعية بالالتزام. فلماذا يا ترى يأتي السطر الأخير مدينا لألبير كامو أكثر منه إلى ماركس؟ إلى سيزيف أكثر منه إلى بروميتيه؟ ألا يعود ذلك إلى واقعة مفادها أن الزمان الأقدم بأقل تقدير ليس زمان التاريخ الواقعي. هنا، يَكتَشف الجهد النقدي وَيَعترِف أنه، من حيث هو موهوب، يقف أمام العجز ؟ إن المثقف، ما أن يُعاد تركيب الحبكة المعقدة بجهده، لصبوة هو الشاهد عليها، حتى تراه يمتنع عن كل شيء سوى الاعتراف إلى أي حدٍّ ما تزال الأفكار تعوم فوق رؤوس الجماهير، وإلى أي حدٍّ ما لا تزال المسافة الشاسعة تقاوم تفسير العالم وتحويله، هذا، بالرغم من أن هذا المثقف هو الذي فَرَضَ ضرورتها؟.
إلى ذلك، فإن هذه المسألة تنتهي بنا إلى عدد من ملاحظات ما هي بوجه الاحتمال سوى أسئلة.
***
أولى هاته الملاحظات تقع ضمن المجال المختار في أعمال أنور عبد الملك، ألا وهو الإيديولوجيا.
هنا، نحن باختصار أمام الأطروحة التالية: من الخصائص الذاتية للإيديولوجيا أنها معيارية، ليس بمعنى أنها تَخضَع بطبيعتها للقاعدة الاقتصادية، إنما لأنها تَستثني من هذه القاعدة الاقتصادية حالة أشبه ما تكون بما وراء الطبيعة. حالة ليست من تعريف وتحديد الحتمية الاقتصادية. إن مصر توَضِّح هذه الظاهرة، ما دام مسار النهضة الوطنية لا يستطيع التعبير عن نفسه، ويَستنبَط من ذاته ما يتعلق بعوامل التحديث (من الاقتصادي إلى البنى العليا)، بالرغم من أنها هي التي نقلته إلى حيِّز الممكن، لا يَستَنبِط معناه سوى عبر ما لدى المجتمع من أقدم الصور عن نفسه. ممارسة السلطة والمحافظة الدينية المترابطتان بصورة صميميه. هنا مكمن المفارقة، حيث تكمن "الالتباسات" حسب ما يَكشف عنها أنو عبد الملك، من حيث هي مرجعيات الخصوصية المصرية.
الالتباس الأكثر أهمية من غيره كامن ما بين أُمَّة ووطن. التباس هو الذي تَفرض بحتمية شروط "الجدلية ما بين الاستقلال الوطني والدستورية". إن العمل هنا ينصب على مفاهيم وصفية. ففكرة الوطن تنبثق وتحاول أن تَفرض نفسها في حيِّز العمل ما أن تبدأ جهود محمد علي الرامية إلى منح المنطقة المصرية من الإمبراطورية العثمانية بنية عليا اقتصادية وطنية: هذه الفكرة تَحمل منطقها الخاص بها، تطورها-الذاتي الذي يقود، خلال فترة البدء، وخلال هذ الفترة، إلى تشكيل الوعي الوطني في مواجهة الباب العالي، أي استعادة أو "الإحياء الجديد" للشخصية المصرية (ص 500). إنما إحياؤها من جديد بشكل جديد مرتبط بمرحلة اقتصادية جديدة: هنا تبدأ الفترة الثانية التي تلي تشكّل الوعي الوطني خلال الفترة الأولى، والتي يتشكَّل خلالها الوعي الطبقي الذي يَنتج، بدوره، بما يطرأ من تغيير في علاقات القوى ضمن بنية المجتمع. الأمة، من جهتها، التي تتكوَّن ضمن مستقبل من الأجيال المتعاقبة، ينضج وعيها مع ظهور جماعة المؤمنين التي تكوَّنت خلال فترة من الزمن تكوُّنا واقعيا، وكانت، خلال فترة أطول من الزمن تعني الحنين إلى هوية سياسية فعلية. ثمة، إذن، هنا مفهومين اثنين، أحدهما مرتبط بمرجعية علمانية، والآخر متعلق بمرجعية دينية. أحدهما جديد، والآخر قديم. ما بين هذين المفهومين أين يوجد مرقد الالتباس؟ هذا الالتباس يُعْثر عليه حيث هما يتبادلان معانيهما. أو، وبصورة أوضح، في واقع مؤداه أن الأمة تأخذ على عاتقها عبارة الوطن، وتُعبِّر عن "أمَّة"، وذلك في حالة من الاندماج. إذن، لماذا يَحدث هذا الاستيعاب للوطن من الأمة؟ إذا تركنا الأسباب اللغوية المذكورة أعلاه، فلنمعن النظر بالتوقيت. الاحتلال البريطاني الذي يَحدث، حسب ما هو معروف، بفظاظة، فإن النظام الذي كان في قيِّد التكوُّن يضطرب. نظام "الوطن" في قيِّد التكون يضطرب. إن "الوطن"، في هذه الظروف، لم يكن، أو لم يعد الجواب الأكثر تلاؤما مع الحالة المستجدَّة. لأن الأمة هي الجواب الملائم لأنها ذات معنى أعمق، وتَجمَع الأكثرية أكثر من غيرها، وأقل علما بالتنبؤ، حتى وإن كانت من ناحية النظرية أقل إلماما من الوطن بالواقع، وحتى، وإن كان عليها سداد ثمن الاختلاطات الخطيرة بين معنى العلمانية ومعنى الدينية، بين المعاصرة والتقليد، بين النخب والجماهير. هذه الاختلاطات أليست هي نفسها انعكاسا للظروف الموضوعية. فلنأخذ، على سبيل المثال، ضرورة الرد المضاد المشترك على العدوان الإمبريالي: هذا الرد يحمي الهوية الوطنية ويؤكد عليها مجددا (بكل ما في هذه الكلمة من معنى)، وإن كان في نفس الوقت يجازف بارتكاب ما هو مخالف لها بصورة لا رجوع عنها: إنها تفك التحالف ما بين المثقفين والشعب، في ما هي، في نفس الوقت، تحاول إلغاء الانشقاقات المجتمعية. إنها تعود للارتباط بالمصادر الحيّة أكثر من غيرها بالماضي الثقافي والروحي، في ما هي، في نفس الوقت، تهدِّد بالخطر كل محاولة ذات نظام ومنهج يعمل من أجل نشر أية معاصرة وتقدم. إنها تنظر إلى المستقبل من حيث هو ماض، وتمارس الثورة بالشكل المقلوب. إنها تُلغي بصورة بديهية كل فرصة أمام أولئك الذين يعاندون في قرارهم امتلاك الوضوح نحو كل شيء، الجبهة المعادية للإمبريالية والجبهة المعادية للرجعية. إنها تُلغي ما يعود على الشعب بصورة فورية بالخير والسلام. إن التمييز هنا ضروري ما بين المراحل، شأنه شأن وزن الحركة التاريخية من حيث أهميتها. ألا يتحوَّل هذا الذي كان تقدميا إلى رجعي دون أيِّ تغيير إيديولوجي؟ يبدو أن عبد الملك لا ينفي هذه المراحل عندما يُعلن: "إن من الأفضل قبل أي شيء آخر استيعاب الميدان من الداخل" (ص 502)، وذلك بعدما يشير إلى أن "الجدلية ما بين الاستقلال الوطني والدستورية" توجد في مجال المفهوم من حيث هو محض مفهوم. فإذا كانت هذه الجدلية تكمن في مجال ما هو "المفهوم"، فإن السؤال الذي يفرض نفسه يتساءل ما هو الجدوى بعد ذلك من الحديث عن الجدلية؟ ما الجدوى، بالأحرى، من التأسيس لنمط من منهج مبني على "التباس"(ص 502). منهج ليس له سوى مصدر آخر يتغذى منه سوى التناقضات الواقعية؟ ذلك أن الالتباس لا وجود له إلا على صعيد المجردات التي يفكر الناس من خلالها بتاريخهم. هذا الالتباس لا يعرف سوى نزاعات هي البنى ل"الأزمنة الراهنة" المتعاقبة.
إن إشكالية الانتقال من الاتحاد بين تكوينين اثنين غير متشابهين، والتركيب الجدلي، يعاني، حسب ما يبدو، من هذه التشابكات في خطة العمل، من حيث أن هذه الإشكالية تأخذ، حسب ما يبدو، مرقدها تارة في المجال الإيديولوجي وحده، وتعود، تارة أخرى، إلى التحليل الطبقي. إلا أن الهدف في هاتين الحالتين هو نفسه: اقتران التقدم الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي والثقافي، بشخصية تستمد ببطء نمطها من التاريخ. إذن، ما هو الحل؟ المخرج الأول قوامه ضمان "المرور" عبر الإيديولوجية نفسها لأن هذه الأخيرة غير قابلة للقهر. الأمر الذي يتيح لنا، لما كان الأمر كذلك، أن نطرحَ السؤال التالي: "لما كان الدليل يؤكد أن المعاصرة ليست من مهام السلفيين المستسلمين للأصولية، كيف لنا، والحال كذلك، أن نَدمُج هذا النمط من الميل الإيديولوجي، في صيرورة التقدم الوطني القابلة للإنجاز؟ (ص 509). أليس الاندماج بالسلفية بمثابة الانعكاس الخيالي للموضوع. انعكاس ينفي الموضوع التاريخي، ينفي الشخصية التاريخية المصرية، طالما يقود إلى الظن بأن الانعكاس (الشخصية التاريخية بمنطق السلفية) هو الموضوع، وليس الشخصية التاريخية (الواقعية) التي ينفيها الانعكاس؟ هذه المسألة هل هي قصر على فترة بدء النهضة الأولى؟ عبد الملك ينفي أن تكون قصرا عليها عندما يؤكد أن " العمل في العمق للأصولية الإسلامية، من عبده إلى الإخوان المسلمين والضباط الأحرار" يعطِّل المعاصرة الليبرالية، بما في ذلك الماركسية، وما يزال يحمل "التباسا نظريا" في التفكير. إذن، أين يوجد مرة أخرى هذا "الالتباس" الذي يفتقد إلى مرقد له في الأصولية والمعاصرة معا؟ ألم يجد مرقدا لها في الفكر؟ هذا عن المَخرج الأول. المخرج الثاني، على النقيض من الأول. إذ هو مبني على التحليل (الماركسي) للطبقات، يتقصى الانشقاقات من جذورها، ويفضح ما تحمله الأصولية من إيديولوجية رجعية، فإنه يقترح " من أجل إنجاز التحويل الجذري للمجتمع والإيديولوجيا بصورة ملموسة، وبالثورة، يقترح التركيب الجدلي النقدي ما بين مختلف مكوِّنات الإيديولوجية الوطنية". فهل يتَّسع المكان للحديث عن "تركيب جدلي"؟ ألا نجد أنفسنا، بعد كل ما تقدَّم، أمام ضرورة الاعتراف بوجود التباس صريح، حسب ما يظهر هنا هذه المرَّة، لدى الكاتب الذي، وإن كان يَعْتَبِر أن المخرج الثاني هو ما يقترحه، فإنه يُبقي على المخرج الأول من حيث الممكن. "إن المشكلة التي تَطرح نفسها هنا هي التالية: هل يجوز لتمييز إيديولوجي مبني هو نفسه على أسس من رؤية إيديولوجية مخالفة للعالم، أن تستمر إلى ما لا نهاية بدوافع إيديولوجية، (ص 507)، وتصبح فعالة مالم تستند إلى تمييز بين الطبقات والجماعات الاجتماعية المتنازعة في ما بينها من أجل حيازة سلطة القرار في الدولة الوطنية؟. الموضوع هنا يتعلق بتحليل إيديولوجية بعينها، الأصل، الدستور، المفاهيم، الوظيفة. إن جوابنا ينفي أن يكون للإيديولوجيا مثل هذا الدور: إن الفعالية تفترض تكوُّن مؤسسة تمثل الشعب، دستورية، لا وجود لها مالم تستند إلى سند هو وحده المؤهل لإنجاز أفضل تشكيلات التلاحم. لكن المشكلة تبقى ماثلة أمامنا عندما يتعلق الأمر بقياس ما يحمله المجال الإيديولوجي من طاقة على الوجود والاستمرار والاتساع بالاستناد إلى دوافع الخصوصية الإيديولوجية. إن الجملة الأخيرة تناقض سابقاتها: المشكلة هنا تتعلق بتحليل أيديولوجية بعينها. لكن هذه المشكلة لا تقتصر على موضوع واحد، ما دامت على الأغلب مرتبطة بالتقنية ضمن التأسيس لعلاقات الإيديولوجية بمحيطها، وهي إيديولوجية، وعنها تنفصل بالاعتماد على تقنيتها. فهل المعنى المقصود يفيد بأن ما هو إيديولوجي في بعض الحالات على الأقل، لا يستمد مرجعه سوى من نفسه. إن المشكلة إذن مشكلة واهية حسب ما يعرضه النص في مطلعه.
***
فلنذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مهما كانت المخاطرة، حتى وان كان مثل هذا التقدم قد يجعل منا محام عن الشيطان: ما هي حالة الخصوصية؟
عبد الملك يضع مرقدا لها على ثلاثة مستويات:
اقتصادي: راجع المفهوم الثاني الوارد ذكره أعلاه.
سياسي: الاتحاد بين مكوِّنات مختلفة في ما بينها ضمن الدولة.
إيديولوجي: "الفرعان الثنائيان" ما بين إيديولوجية "صريحة" وإيديولوجية "ضمنية".
فلنلاحظ على الفور إحدى سمات هذا التصنيف وما ينطوي عليه من منطق لا يخفى معناه على أحد: إن المستويات الثلاث متراصف الواحد إلى جانب الآخر. إنها ليست مراتب متدرجة (ميكانيكية؟). إذ إن (أ) و (ب) مترابطتين بصلة العلية: إن الاتحاد ضمن الدولة يَنتُج عنه "اكتفاء الإيديولوجيا بذاتها" من حيث هي أحد التعبيرات العضوية لها (ص 497). إن (أ) لا يتمخض عنها بصورة مباشرة سوى نتيجة نظرية – سنعود إليها لاحقا –، ويتمخض عنها بصورة غير مباشرة فعل في العلاقة ما بين (ب) و (ج) ضمن تكوين الإيديولوجية الوطنية، وذلك عبر التحليل الطبقي، وما يلازمه، حسب ما رأينا ذلك أعلاه، تارة من الاعتراف به، وتارة أخرى من نفيِّه. على هذا النحو، فإن (ب) تمارس دور الوسيط، في ما تصبح (ج) الحيِّز المفضَّل للتحليل، وذلك في ما تبقى (أ) معزولة نسبيا.
والحال، أليست الدولة هي دوما "القوة الإيديولوجية الأولى"، على حد قول إنجلز؟ إن الخاصية "المائية" لمصر (القديمة)، وخاصية الحكومة الربانية بإشراف رجال الدين في الدول التي انبثقت عن الإمبراطورية العربية – المسلمة، تتَّهم هذه المعاينة بأنها عامة، ويُعثر عليها في أمثلة غيرها، ممن عَرِف حدَّا ما من التطور.
وهل التمييز بين "الصريح" و"الضمني" خاصية تنفرد بها مصر عن غيرها من الدول؟ مرة أخرى الجواب ينفي ذلك. فإن هذا التمييز يبيِّن، في أحسن الأحوال، تحت تأثير تضخيمه، المسافة الفاصلة ما بين إيديولوجيات معلنة رسميا (دولة)، أو معدَّة من الناحية النظرية (نخبة)، والأشكال الإيديولوجية المتنوعة التي تمد الجماهير في حياتهم اليومية بعلاقتهم بالمجتمع. هذا يصح بصورة أعظم عندما يتعلق الأمر، من جهة، بدينامية اقتصادية مفاجئة (بناء قطاع رأسمالي)، وعندما يتعلق الأمر، من جهة ثانية، بسكان استعصى عليهم الانتقال المتطور إلى ما هو خارج نشاطاتهم التقليدية (الزراعي)، وهم، بالعلاوة على ذلك، أميَّين. غير أن هذا الحيِّز لا يتسع لأية خصوصية: إن كل مجتمع من هذا الشكل أو من غيره قد عَرِفَ مثل هذا الالتواء.
أما في يتعلق ب/"باكتفاء الإيديولوجيا بنفسها" إذا ما فهمنا من ذلك، حسب ما يبدو في (ص 506) أن الأفراد والجماعات الاجتماعية تستطيع الانتماء إلى إيديولوجيات غير مستمدَّة من ظروفها الاقتصادية-الاجتماعية، فإن الأمر لا يعدو كونه بديهيا. ذلك أن وكلاء إيديولوجية ما (مرضاها في الواقع) نادرا ما كانوا هم أنفسهم مؤلفيها. فمنظرو الأصولية الإسلامية لا يتوجهون إلى الفلاح، وإنما هم يتحدَّثون من أجل الفلاح. إنهم يتحدَّثون مستفيدين من صمته المفروض عليه لضمِّه إلى أصوليتهم، وكي ينتفعوا به. هذا من جهة. ومن المؤكد بقوة، من جهة ثانية بوجه خاص، أن وظيفة كل إيديولوجية حمل أفراد آخرين للانضمام إليها. وظيفتها أيضا حمل شرائح اجتماعية غير منتمية بصورة مباشرة إلى أصولها الطبقية، والاستفادة منها بصورة موضوعية. إن الإيديولوجية الوطنية (أو القومية) ربما تعبِّر بصورة أفضل من غيرها عن هذه الحالة، من جراء اختلاطات ملازمة لاعتمادها على الأكثرية. هذا الأمر لا يصح فقط على النهضة المصرية الأولى والثانية، وإنما يصح أيضا على فرنسا اليوم. فلو أن بعض شرائح الطبقة العاملة لا تصوِّت لديغول، ولو أن شرائحا من البورجوازية الصغيرة تتخلى عن عدائيتها للاشتراكية، لكانت الثورة في فرنسا وراء الأبواب... هل ما يَرِدُ ذكره هنا يختلف عن تلك الحقيقة القديمة (والحديثة) التي وردت في "الإيديولوجية الألمانية". أي "أن أفكار الطبقة المسيطِرَة هي نفسها أيضا الأفكار السائدة". بمعنى آخر أن الأيديولوجية الصريحة المُعْلَنَة تنتشر في الطبقات، في الشرائح والجماعات الاجتماعية المُسَيْطَر عليها من داخل الإيديولوجيات نفسها، سواء كانت صريحة أم لم تكن صريحة. إيديولوجيات هي بمثابة قناة تمر عبره للإعلان عن شخصيتها.
ما الذي يتبقى من الخصوصية؟ عنصران اثنان يُبرِّران فكريا، حسب ما يبدو لنا، ما يحظى به ما هو إيديولوجي، بالامتياز:
1)- عامل موضوعي: واقعةٌ مؤداها أن السياسة والدين لم ينفصل، حتى غاية الآن، أحدهما عن الآخر بصورة حقيقية. فمرجعية الإسلام ما تزال أيا كان شكلها مسَيطِرَة إيديولوجيا، وهي على المدى (؟) المتوسط، وبصورة حرفية، غير قابلة للتجاوز. بل وإن "الاشتراكية" نفسها ملزمة بخلع سترتها أمامها. الأمر الذي يعود لسببين اثنين مترابطين ما بينهما. السبب الأول متأت من كونها مشتقة من نفسها: إنها تحافظ وتُصلح خلال مرحلة الدولة الوطنية، حسب ما يرى عبد الله العروي، وخلال المرحلة القومية على حد قول عبد الملك، تحافظ وتصلح الهوية الثقافية، وذلك ما بقي التأخر الاقتصادي على حاله. السبب الثاني خارجي المنشأ مرتبط بالتهديد الإمبريالي المستمر، والذي يزن بثقله على هذه البلدان. هذا أمر لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح.
2)- عامل موضوعي-ذاتي: الأنتليجينسيا في البلدان المسلمة مكوَّنة بصورة ثابتة ضمن تناقض واقعي قوامه أن الأفراد يستطيعون ممارسة حياتهم كل حسب بنيته النفسية. إنها في الواقع ضحية لقطيعة ثلاثية مع الجماهير: من حيث موقعها الاجتماعي (الاقتصادي الثقافي بوجه خاص)، من حيث أنها تَجمع الأكثرية، حتى غاية اليوم (وإن كان ذلك يدخل في طور التغيير) وتحت تأثير الأجنبي، من حيث أفكارها، ومن حيث رؤيتها للعالم إذا ما تحدَّثنا بلغة الشمولية. وإنها تريد لنفسها، من جهة أخرى، أن تهب نفسها للأمة، ومنح أفضل خدمة للأمة بأسرها. هذا تناقض لا ينجو – وهو أمر بديهي – من الوقوع في تكرار ذاتي غالبا ما يكون دراماتيكيا.
فإذا كان من المؤكد أن المثقف العضوي أكثر من غيره، في مثل هذه الشروط ،هو الرابح، أي المثقف الذي يأخذ أصغر المسافات ابتعادا عن المرجع الديني، فإن ذلك لا يعفينا، كل حالة حسب نوعها، من رؤية ما قد يكون حجة يختبئ وراءها، خدعة، نفاقا أو أصالة حقيقية.
إن هذين العنصرين يقودان إلى التفكير أننا بالفعل أمام ظاهرة مؤداها أن الإيديولوجيا عامل حتمي ما فوق المحدِّد. فهل تحوز هذه الإيديولوجيا بصورة مطلقة على الخصوصية؟ ألا توضِّح بالأحرى، مع احترام التواضع بطبيعة الحال، الملاحظة التي كان إنجلز يشير إليها في ما يتعلق بالعصر الوسيط الأوروبي، عندما يكتب: "كان من الضروري تقديم المصالح الخاصة للجماهير المشبعة بالفكر الديني وحده، تقديمها إليها وراء قناع ديني؟ هذه الظاهرة تشهد في جميع الأحوال بأن هذه المرحلة لم يتخطاها بعد الزمان. إن المثقفين الحاذقين، على غرار المتسرعين منهم، ملزمون بالتلاؤم مع الإيديولوجيا من حيث هي عامل حتمي ما فوق المحَدِّد، أو أن يستمروا في التفكير بالتناقض عبر الواقع المشوَّه لإشكالية داخلية واحدة لدى الانتليجينسيا.
***
هل الصعيد الاقتصادي هو الحيِّز الوحيد للبحث عما هو خصوصي؟ عبد الملك يدعونا إلى السير في هذا الطريق مستنتجا مما هو خصوصي نتيجتين نظريتين تستحقان التفكير. فلنعد بدايةً إلى تعريفه لمصر. إنها برأيه "تشكيل اجتماعي-اقتصادي رأسمالوي متأخر من النمط الكولونيالي، يتفوق فيه الحقل الزراعي على غيره". يبدو لنا أن "الرأسمالوي" هو السمة الفريدة، أو المتفرِّدة. ذلك أن ما يلحق بالرأسمالوية في التكوين المصري، إن لم يكن بوجه الدقة مرادفات، فإنه غالبا ما يكون، في غيره من السياقات الوطنية، شريكا له يُصطَلَح على تسميته العالم الثالث. فما هو معنى "الراسمالوي"؟ الجواب يفيد بأن قطاعا رأسماليا في طور التطور، كان موجودا في مصر. قطاع رأسمالي بكل ما يُفترض وجوده على صعيد البنى التحتية (الانفتاح نحو استقلال واقعي)، وعلى الصعيد الاجتماعي تشكل بورجوازية من الأهالي الأصليين، وإعادة توزيع العلاقات ما بين الطبقات. غير أن نمو هذا القطاع الذي كان انطلق بنجاح مع محمد علي، تعطَّل من جراء الاحتلال البريطاني. ها هنا، فإن الإيديولوجيا والنهضة الوطنية تُمَثِّل الصدمة الثقافية المضادة. هذه الصدمة الثقافية المضادة تتضمن مكوِّنات نظرية. منها ما يتعلق، من جهة، برفض التفسير الإقطاعي، بما في ذلك "الشرقي" منه، والذي جاء الحديث عنه أعلاه، والذي كان يَقترح، على نقيض من الصيرورة الغربية، منح "الظاهرة القومية" حقها من العناية. هذه الصدمة الثقافية المضادة تتضمن، من جهة أخرى، توفر الفرصة أمام "إغناء المفهوم الرأسمالي (الغربي) بصورة بنيوية " (ص 499). إن أطروحة أنور عبد الملك، في ما يتعلق بهذه النقطة الهامة، هي التالية: إن تحليل التكوين الاجتماعي-الاقتصادي لمصر مرتبط لزوما بمفهوم الرأسمالية. غير أن هذه الرأسمالية نتاج لتاريخ آخر مختلف،" غير خاضع لأشكال "الرأسمالية الكلاسيكية"، حسب ما كان ماركس، بصورة خاصة، درسها وعرَّفها (م.س.). ما بين هاتين الرأسماليتين، على حد التحذير الموجَّه من عبد الملك، فإن الاختلاف ما بينهما، بأنظاره، ليست نوعية، وإنما هي كمية (م.س.). الأمر الذي يَفرُض بحثا يتعلق ب/"التكوين الطوبولوجي (الهندسي- المترجم) لمختلف أنواع الرأسمالية"(م.س). إن هذا التوضيح، وإن كان يُلغي التفسير الإقطاعي (اختلاف من حيث الطبيعة)، إلا أنه لا يقود، في هذه الأثناء، بخلاف ما هو متوقَّع، إلى تبني التحليل الماركسي. إن مفهوم الرأسمالية في تفكير عبد الملك، "إذ هو يأخذ معناه بمقاربة بنيوية غير ملموسة"( ص 498)، وأوروبية متمركزة على الذات، قد ألحقت برأيه "غاليا" العقم بالتفكير النظري في القارات الثلاث (م.س). فهل يقتصر الأمر هنا على التحفظ؟ إذ إن الرد على هذ الخلط بين الدراسة العلمية لنمط الإنتاج الرأسمالي، من حيث ماهيته لدى ماركس، وبين الأشكال التاريخية المتنوعة للرأسمالية، إن هذا الرد متيسر. لاسيما وأن الخلط بين تفسير ما لمفهوم الرأسمالية، وبين عمل رأس المال، موضع لتبديده دونما صعوبة.
غير أن الموضوع هنا ليس مجرد تحفظ بسيط، ما دام عبد الملك، حسب ما يبدو، لم يعد يأخذ من المادية التاريخية سوى ما يسميه "الماركسية الكلاسيكية"، أو، بتعبير آخر، مجرد تقنية مبسطة للظواهر الاجتماعية. إن هذا التقليص للمادية التاريخية، والذي يظهر في "الإيديولوجيا والنهضة الوطنية"، كان أيضا ظهر بوضوح في مقال له سبق نشره في مجلة « L’Homme et la société »ن الأأنن "الإنسان والمجتمع"، حيث يُلاحظ أن ما كان جاء ذكره في ما يتعلق بالرأسمالية، قد اتسع ليشمل الطبقات: "... إن المقاربة السياسوية حيث تسود الدبلوماسية، ما أن تُحَدَّد حدودها، حتى تقود التحليل على ثلاثة مستويات. قبل كل شيء آخر، نبدأ ببنية الطبقات حسب المنهج المتمركس الكلاسيكي. ذلك أن الطبقات، والجماعات الاجتماعية، والمؤسسات تختلف، حسب ما هو معروف، تختلف في هذا الشرق الذي يُلَمْلَم من هنا وهناك، عنها في الغرب، وبوجه خاص في بريطانيا التي كانت الحقل الإبستمولوجي (نظرية المعرفة) لماركسية كارل ماركس" (ص9). ها هنا لم يعد للخلط وجود: إن التشابه ما بين "النماذج" التاريخية المتنوعة تقلِّص على خير وجه الماركسية، وبارتياح، إلى مرافعات القرن التاسع عشر. أي، إن الماركسية ليست علما.
***
وبالرغم من ذلك، فإن عبد الملك يعلن، في نص له، عن تمسكه، من نواح عدة جديرة بالملاحظة، بالماركسية من حيث هي علم، حيث يعرض لمواقعه الأبستمولوجية في يتعلق بذلك. هنا يخلو النص لديه من أي تناقض. إنه يميِّز بوضوح بين ماركسية "كلاسيكية" صالحة للمجتمعات الصناعية المتقدِّمة، وبين "أداة للتحليل"، هي وحدها القادرة على الاعتراف بواقعية القارات الثلاث. إن الصلة ما بين هذين الشكلين من الماركسية أكيدة، حسب عبد الملك الذي يتفق، في ما يتعلق بذلك، مع س. ورايغت ميلس C. Wright Mills ، بشأن "مبدأ الخصوصية التاريخية"، والذي كان ماركس اشتقه. ماركسية بوجهين اثنين. الوجه التقني، والذي ما يزال مفيدا، والملتفت نحو الماضي، (أي نحو العالم الغربي الأوروبي). ثم وجه البحث الملتفت نحو القرن العشرين (أي نحو عالم "القارات الثلاث"). أفلا نجد هنا التفسير النظري لما كنا لقيناه من تشابكات، والتي كنا نظن أننا عثرنا عليها في الإيديولوجيا والنهضة الوطنية؟
نرجو أن لا يساء فهم مقاربتنا. إننا أبعد ما يكون عن تجاهل ما تستحقه منشأة عبد الملك من قيمة وتقدير. بل، وإننا ندرك أفضل الإدراك بالدوافع التي تؤسِّس لها. إنها قادمة من ماض بعيد، قاسى خلاله أنور عبد الملك وكل المدرسة الماركسية المصرية من التفسير الخاطئ، اليقيني، والبيروقراطي للماركسية، والتي كانت مصدرا لرد فعل معاكس تجلَّى، حسب ما هو معروف، بمختلف المحاولات النخبوية والانتهازية. ومن المؤكد أن المهمة الملقاة على المناضلين الثوريين لم تكن يسيرة. هؤلاء وقعوا خلال فترة سجناءً لبناء فكري-سياسي لا يستجيب للشروط الوطنية لنضالاتهم. ثم شعروا أنهم أسرى وحدتهم وقد أُلقي بهم إلى الفراغ النظري. إن المسألة بالنسبة إلينا لا تتوخى أبدا توجيه الاتهام لجهود الذين، على غرار عبد الملك، لم يتخلوا أبدا عن الطريق العلمي للبحث. هؤلاء، ممن تتضاعف أعمالهم (ولنقل ذلك رغم كل شيء، في الظروف الموضوعية الجديدة). أيضا، إن المسألة بالنسبة إلينا، ومهما أمكن لنا ذلك، تَنهى عن الاحتجاج على ما يأتي عنهم من مبادرات التحليل التي تمدُّنا، نحن الماركسيون الأوروبيون، بأغنى المعارف.
وبعد ما تقدم، وهو ليس عبارة ما بين قوسين، فلنعد إلى موقف عبد الملك، ولنقل دون أية سوء نية، إن هذا الموقف، حسب ما يبدو لنا، يرتكب خطأين اثنين من حيث النظرية، من جراء حالتين اثنتين من "النسيان".
وكنا أشرنا في البداية إلى معنى رأس المال. غير أن الموضوع، بالرغم من أهميته، لا يحتاج إلى المزيد من الإلحاح. رأس المال، إما أنه يؤسَّس لعلم، المادية التاريخية الذي يضع في حيِّز الممكن، بفضل المراجعة اليومية وتصحيح الواقع المستجد اليومي للمقولات الأساس لنمط الإنتاج الرأسمالي، هذا العلم من حيث هو نظرية عامة لأنماط الإنتاج، من حيث هو الموضوع الصريح للعلم (راجع مقدمة غروندريسي Introduction des Grundrisse ). وإما أن رأس المال لا يؤسِّس إلا لتشخيص تكوين اقتصادي تاريخي معطى. في مثل هذه الحالة، فإن المادية التاريخية لا تعدو كونها مربعا في الكلمات المتقاطعة، أو رقعة في ساحة الشطرنج. في الحالة الأولى، التي تُعتبر برأينا صحيحة، فإن "علاقة الخاص بالشامل"، ليس أمرا آخر سوى العلاقة ما بين كل خطوة علمية بموضوعها من أجل تكوين المعرفة بشكل المفاهيم. ومما لا شك فيه، أن ماركس، في هذا الصدد، ترك لنا من العمل، اعتبارا من التأسيس لعلم المادية التاريخية، أكثر مما أنجزه هو بنفسه. في الحالة الثانية، حالة عبد الملك، فإن الخصوصية تحجب الشامل الذي يرحل إلى حِيِّز المستقبل، كما تُستَبدَل المادية التاريخية ب/"سوسيولوجيا الحضارات". وعلى هذا النحو، فإن المادية التاريخية، سواء شئنا ذلك أم أبينا، تَرحَل إلى التفسير العلمي والوصفي في الفلسفة التجريبية.
إن المبادئ (الجميلة)، لا تتعارض برأينا مع الوقائع (العنيدة)؟ إن "النسيان" الثاني يجيب على هذا الاعتراض. إنه من الأهمية بمكان. كما وإن مقاربتنا في إطار هذا المقال، لا تتلاءم مع هكذا تعارض. فلنفصح فقط عما صدمنا أكثر من غيره. إننا لن نسكت عنه. إن ما يصدمنا لدى قراءتنا للإيديولوجيا والنهضة الوطنية هو غياب أية إشارة للينين. والحال، إن مبحث الخصوصية الوطنية، وهو يتناول هنا بالبحث تكوينا اقتصاديا اجتماعيا مغايرا للتكوين الذي كان يُمَثِّل قاعدة للعمل لدي ماركس، ألا تجد المنشأة اللينينية فيه حقها من الاعتبار؟ ألا تمدُّنا، دونما وجل من الكلمات القاسية، بالنموذج النظري الذي يستطيع تكوين المعقولية الجلية، موضع البحث هنا؟ إن روسيا ما بعد إلغاء الرق قد دخلت بصورة واسعه، ودونما عقبات، في التشكيل "الكلاسيكي" الداخلي للبلاد، والخارجي ( في الحركة العمالية للأممية الثانية)، وكانت غنية بالمعاني التوضيحية. أليس تطور الرأسمالية في روسيا تعبيرا عن علم رأس المال وفعلا له؟
إننا أبعد ما يكون عن اعتبار عقيدة ماركس عقيدةً بلغت منتهاها. عقيدة مقدَّسة لا تُمَس. على النقيض من ذلك. إننا مقتنعون أنها أرست فقط حجر الأساس للعلم. يبقى على اليساريين أن يُنجزوا تقدمه في جميع الاتجاهات إذا كانوا لا يريدون الجري وراء الحياة دون بلوغها. إن تطوير نظرية ماركس مهمة كانت تقع على عاتق الاشتراكيين الروس بأنفسهم. ذلك أن هذه النظرية لا تكشف سوى عن مبادئ عامة توجيهية تأخذ طريقها إلى التطبيق في كل حالة خاصة، في بريطانيا غيرها في فرنسا، وفي فرنسا غيرها في ألمانيا، وفي ألمانيا غيرها في روسيا...
هذا نص كتبه لينين الذي استمر طوال سنوات، وأكثر من أيٍّ غيره سواه، يعالج الخصوصية "الروسية". معالجة كانت موجَّهة إلينا.
فلنضف كلمة واحدة وإن كانت عديمة المهارة: إن "الحالات المتشابهة" لا تنسى، في الظاهر على الأقل، التشابه ما بين روسيا المقدَّسة ومصر القديمة، إلى حدِّ أن سمات إحداهن يمكن لها، على خير وجه، أن تسري مع الأخرى على جميع الصعد، اقتصادية، سياسية وإيديولوجية. فلينين، الذي يعالج الحالة الروسية، في نفس الموقع التاريخي الذي يعالج فيه عبد الملك الحالة المصرية، ألم يصطدم بالعقدة الإشكالية للرأسمالية المتأخرة، للاستغلال الأجنبي، لسيطرة الزراعة، حالة من دولة قوامها الاتحاد الوثيق بين تكوينات غير مستشابهة، وحالة، أيضا، من التضخم الإيديولوجي إلخ؟
فنتخط ذلك مادام تبُشكِّل إعادة لما بيّناه سابقا إزَّاء هذه الثغرة التي لا تجد تفسيرا لها. ثغرة النسيان الذي يلحق بالممارسة اللينينية في مؤلَّف عبد الملك. فالملاحظات الثانوية التي أبديناها خلال هذه الصفحات لم يكن الغرض منها أمرا أخر سوى التذكير بخصوبة الممارسة اللينينية. إننا مقتنعون بأن عبد الملك لا يجهلها. عبد الملك لا يحمل نية ترجيح ماركسية خصوصية ما. ماركسية، هي بالنسبة للنظرية، ما هي الممارسة السياسية للاشتراكيات الوطنية التي تطارد آذاننا بقسوة ليل نهار. أنور عبد الملك كان سجين موضوعه، وقد توغَّلَت الخصوصية المصرية إلى أفكاره أكثر مما يجب. حتى أنه انصرف عن وضع حدٍّ لها بصورة مقبولة. إننا من جهتنا نترك لديه بالتوكيد انطباعا بأننا ضخَّمنا أكثر من اللازم تلك الثغرات. لذا، فإننا مستعدّون كامل الاستعداد، للتعويض عن دور نكد مارسناه إلى أقصى حدٍّ، أن نحوِّل كل ملاحظاتنا إلى أسئلة. لاسيما وأننا لسنا أكثر مصرية، منا...روسيين. لكن العلم الذي ندافع عنه سويَّة، ليس كما قال موديبو كيتا ( الرئيس الأسبق لجمهورية مالي-المترجم) ذات يوم على خير وجه، ليس بدوره أيضا علما.
باريس، شباط/فبراير 1970
حوار مع جورج لابيكا:
في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
الملحق الثالث عشر
جورج لابيكا:
مصــر: الماركسية والخصوصية
حسان خالد شاتيلا
جورج لابيكا، مصر: الماركسية والخصوصية، مجلة لابانسي، العدد 151، العام 1970 : دراسة لمؤَلَّف أنور عبد الملك، الإيديولوجيا والنهضة الوطنية (مصر المعاصرة، أطروحة لنيل درجة دكتور في الآداب)، نُشرت بالتعاون مع المركز القومي للأبحاث العلمية، منشورات آنتروبوس، باريس، 1969.
Labica Georges, L’Egypte : marxisme et spécificité, revue La Pensée, n°151, 1970.
دراسة لمؤلف:
Abdel-Malek Anouar, Idéologie et renaissance nationale. Sous-titre : L’Égypte moderne thèse pour le doctorat ès-lettres publiés avec le concours du C.N.R.S., éditions Anthropos, Paris, 1969.
أنور عبد الملك، الإيديولوجيا والنهضة الوطنية (مصر المعاصرة)، (أطروحة لنيل درجة دكتور في الآداب)،نُشِرت بالتعاون مع المركز القومي للبحث العلمي، منشورات ’نتروبوس، باريس، 1969.
هل يذوب الإسلام، من حيث هو تشكيل رأسمالي محيطي، في الماركسية؟ هذا هو ما يتساءل عنه جورج لابيكا في دراسة له تفصيلية لكتاب أنور عبد الملك: "الإيديولوجيا والنهضة الوطنية". إنه يُعيد بناء، بصورة جديرة به، تاريخ بناء الإيديولوجية الوطنية كما يقرأها أنور عبد الملك، حيث تَتبدَّى التباسات المجتمعات ما بعد الكولونيالية، المسلمة منها، ويُعاد النظر فيها لتوضيحها من جديد: الافتقاد إلى اليقين فما يتعلق بالعلاقة ما بين الأمة والجماعة الدينية، الدور الاقتصادي والعسكري المركَّز للدولة، والمقاومة الموحَّدَة للاستعمار. لابيكا، هنا، يتحرَّى، ما وراء التاريخ الثقافي للنهضة المصرية، عن الأسباب وراء فشلها، وعن مصادر الناصرية. عبر هذا التحري فإنه يناقش المثقفون التقدميِّون العرب، حول غربتهم بعيدا عن جذورهم، وعن مقدار مقاومتهم للضغوط. إن هذا الحوار مع عبد الملك يًكشف، في ما يتعلق بالقطيعة مع ماركسية متمركزة على الأنا الأوروبية، عن مسار خصب للبحث.
** ** **
صداقة لا تحتاج إلى برهان:
إن أنور عبد الملك، بما يكتبه حول الإيديولوجيا والنهضة الوطنية، يُقدِّم لنا حصادا زاخرا. حصاد هام للغاية. هاهنا تَمْثل أمامنا مناسبة كي نُذكَّر بما ننتمي إليه من أصول. بل وإنه، علاوة على ذلك، ذات قيمة ثمينة للغاية من وجهتي نظر: إنه، من جهة أولى، يفتح أمامنا نحن الأوروبيون مجالاً غير معروف بصورة كافية لحضارة تعيش بجوارنا من حيث الجغرافيا، ومن حيث أيضا علاقات لا نهاية لها بيننا، والتي ما انفكت تتوثق وتنقطع، ناهيكم ومستقبلنا المشترك. هو، من جهة ثانية، حصادٌ يمنح نفسه مهمة يجدر بها أن تكون مثلا نَحتذي به نحن الماركسيون. مهمة ذات خصوصية، طالما هي تخوض في شؤون مادة هي من خصوصيات مصر وأنور عبد الملك. حصاد يَجمَع ما بين القريب والبعيد، الهوية والآخر. إنه يَمْثُل، على هذا النحو، كمقدِّمات لمقاربتنا له، كالحراس الساهرين على ما يعترضه من صعوبات. لذا، فإن هذه المقدمات تُلْزِمُنا بأن نضعها، منذ البدء، موضع التفكير، ليس بدافع التدقيق الذي يحذِّرنا من ارتكاب خطأ ما، ويستدعي منا المزيد من الرأفة حيال هذه المقدِّمات، إنما، على النقيض من ذلك، من أجل التأسيس بدقة وصرامة للإشكالية الماثلة أمامنا في هذا العمل لعبد الملك: إشكالية العلاقة ما بين ما هو خصوصي وما هو عام وشامل. أو، بتعبير أدق، إشكالية الشروط المتاحة، بوجه الإمكان، أمام تحليل ماركسي لواقع بعينه، وإشكالية التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية. إشكالية هي، من حيث المقاربة الأولية، التي تتكشف عن خصوصيات، كتلك التناقضات المبدئية التي تتناقض مع مناهج التفكير التي تسعى إلى تبريرها. بكلمة واحدة: مصر، هل هي موضوع صالح للدراسة العلمية؟ هل تستغني مصر عن هذا العلم الذي يتوخى، ليس فقط إنتاج معقولية واضحة للظواهر الاجتماعية، وإنما يتوخى أيضا العثور على المسارات التي تتيح أمام كل مجتمع شكلا أعلى مما هو فيه.
للجواب على هذا السؤال، وهي مسألةٌ موضعُ لاختلافات كثيرة حيالها، فإن أنور عبد الملك الذي تَجتمع لديه سلطة العالِم والمناضل، يمتلك جوابا يقينيا. جواب، بين غيره من الأجوبة، يُعتمَد عليه. إنه غير قابل للتجاهل. جوابٌ، لما كان غنيا بكثافته، من حيث المعلومات والمعارف التي يسوقها، بالإضافة إلى دقة المنهج، وقدرته القوية على الإقناع، فإنه يمس عن كثب كل من كان شاغله يلزمه بالبقاء يقظا أمام شاغل العالم الذي يُعْتَبَر شاغلنا جميعا.
** ** **
الإيديولوجيا والنهضة الوطنية مُنْجَزَةٌ ما قَبْلَ "مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون":
في ضوء ما تقدَّم، فإن هذا العمل يبحث، في الواقع، في المرحلةَ المعاصرة من التاريخ المصري، ويَقترح انطلاقا من أعمال ماركسية من تأليف مصريين حول هذه المسألة، تفسيرا للناصرية التي كان مكسيم رودنسون وضع يده على أهميتها recension: (أعمال كثيرة منذ ظهور عمل جاد لجان بيير شارني :الماركسية والإسلام،J.P.Charnay,Le marxisme et l’Islam, Essai de bibliographie in Archives de sociologie des religions, n° 10, pp. 133-146. Pour l’école وصدر أيضا عن المدرسة الماركسية المصرية عمل لحسن رياض بعنوان مصر الناصرية marxiste égyptienne, voir notamment Hassan Riad, L’Égypte nassérienne, Editions de Minuit, Paris 1964, . ثم تلاه دراسة لمحمود حسيين بعنوان صراع الطبقات في مصر Mahmoud Hussein, La lutte des classes en Égypte, (. المسألة، هنا، إذ هي تعمل على تحليل التركيب الطبقي لمصر، بالإضافة إلى التيارات الفكرية التي كانت تجتاحها، فإنها تُشيِّد في البداية طبيعة عمل المجموعة السياسية المصرية للضباط الأحرار الذين انتزعوا السلطة بانقلاب عسكري في العام 1952. ثم تَحْصُرُ هذه الأعمال، من جهة ثانية، وفق ما تمر به هذه المجموعة العسكرية، عبر المراحل، ملامحها وعلاماتها، بالإضافة إلى ملامح وعلامات المجتمع، موضع عمل الضباط الأحرار في عملهم على بناء نمط جديد لمصر"مصر الناصرية في المرآة الماركسية""« L’Égypte nassérienne au miroir marxiste »," Temps modernes, n° 203, avr. 1963. ). الأمر الذي يقود الباحث إلى نتيجة مؤداها أن العقد الزماني الممتد ما بين 1952-1962 يشكل مرحلة يظهر في متنها النظام من حيث هو يَحمل معه تناقضات عميقة سواء من جهة السياسة الداخلية، أو من جهة السياسة الخارجية: الوحدة بين سورية ومصر بتاريخ: الأول من شباط/فبراير 1958، نهاية الوحدة بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر 1961، الثورة العراقية وسقوط الحكم الملكي بتاريخ 14 تموز/يوليو 1958.على الصعيد الداخلي سياسة التناوب ما بين معاداة الشيوعية والاستفادة منها، التناوب ما بين المنجزات الاجتماعية من تأميم لعدد من القطاعات الرئيسة والتعاون مع البورجوازية، التناوب ما بين الشرق والغرب، التناقض ما بين السياستين الداخلية والخارجية كما تظهر في سياسة عدك الانحياز). لاسيما وأن النظام في ما يبني مجتمعا مستقلا، فإنه كان يُشدِّد قبضته على المجتمع . هذه التناقضات تكشف عن حاجة النظام إلى إيديولوجيا تُتيح له التبرير الذاتي للسلطة. عن حاجته أيضا إلى الشرعية في ما يتعلق بعمله بين الجماهير من أجل تعبئتها بصورة أنجع. إلى ذلك، فإن الالتباس كان واضحا للعيان بين المرجعية لعقيدة اشتراكية، وبين هيمنة لاسلام أكثر رجعية من غيره. أي إن الدولة العسكرية تواجه حالة من الاستعصاء ضمن حدودها الوطنية والقومية، في ما هي تؤكد، من خلال دوافع إيديولوجية نحو الشمولية، مقدرتها على الدفاع عنها.
(إن أطروحة أنور عبد الملك حريصة على العودة إلى ينابيع هذه الحالة، كي تجد في مصر الأمس، وما قبل الأمس، ما يتيح لها السيطرة على الحاضر. فالأطروحة تعلن منذ عنوانها عما تَمنحه من أهمية لتحليل البنى العليا، بحيث تستجيب لشاغلين اثنين: إدراك الحيز الذي يتسع للإيديولوجيا منذ بداية النهضة المصرية وحتى غاية اليوم. تطوير حيِّز أمام البحث الذي لم يلق منذ الزمان البعيد سوى الإهمال في ما يتعلق بخاصة خلال السنوات: 1805-1879, 1879-1892 (ص 17).
بالإشارة إلى ما تقدَّم، فإن ما يأتي أدناه يَتْتَبَّعُ بأمانة، ما أمكن ذلك، المسار نفسه الذي يَرسُم لأنور عبد الملك مسارَه: البحث عن الغاية المُعلنة لمألَّف كاتبنا. ألا وهي معرفة الإشكالية النظرية للإيديولوجيا.
** ** **
لابد، في هذه الأثناء، من الولوج إلى قلب هذا البحث. لابد من إعطاء لمحة عن الخطوات التي تقوده لبلوغ غايته. إذ إن، من البديهي، أن الأمر لا يتعلق فقط باحترام أقل هذه المعارف والمعلومات المنطقية على مسار هذا العمل أهميةً. إنما لابد أيضا من منح القارئ رغبة سعيدة بالمضي بنفسه قُدُما لاستبار ثروته الغنية التي لا يَظْهِر منها، هنا، سوى انعكاس للمحة عابرة.
إن النهضة الوطنية لمصر التي تُشكِّل "الأمة الأقدم (ص 13)، والأكثر تماسكا، يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر". فقد وُلِدَت مصر المعاصرة مع محمد علي الذي كان يحكم مصر ما بين 1805 و 1848. "إنه الوحيد من بين أقرانه من الحكام العرب الذي كان يَعْتَبِر أن الاقتصاد يُشكِّل قاعدة السياسة. ذلك أن هذا الضابط العسكري في العام 1805، الألباني الأصل، وهو حاذق، يرتفع إلى مقام رجل الدولة. إذ إن شكل الدولة التي كانت مبتغاه، كان، والحالة هذه في العام 1805، في بداية الأمر، شكلا اثنيا، متمركزاً حول جيش قوي وفعِّال، ومستندٍ إلى اقتصاد معاصر مكتفٍ ذاتيا "(ص 24). إن التاريخ السياسي يضع، على هذا النحو، منذ تلك المرحلة، ما هو اقتصادي في المقدِّمة. لذا، فإن المؤلِّف يرى، بالتالي، أن هذه الحالة مرتعا للبحث في السمات المميِّزة لمصر.
هذه المميِّزات هي:
-) الدولة تحتكر التجارة والصناعة. احتكار يأتي كتكملة لاحتكار الأرض. نائب الملك كان يستفيد بدوره من هذا الاحتكار حتى غاية العام 1858.
-) تشييد سوق وطنية موحَّدَة (الأعمال الكبرى لإسماعيل وريث محمد علي على الدولة).
-) دمج الاقتصاد المصري ما بعد الاحتلال البريطاني في العام 1882 في دائرة الاقتصاد الدولي عن طريق الاستقراض. مصر، بوجه خاص تعتمد على الزراعة الأحادية للقطن (ص 109).
-) تشييد البنى الاجتماعية: هنا تظهر واقعتين اثنتين: في الريف: سيرورة قضائية للملكية الخاصة للأرض (ص 81). حيث تَظهَر في النصف الثاني من القرن طبقة كبار ملاكي الأراضي، إلى جانب تَشَكُّل ثلاث مجموعات اجتماعية: ملَّاكون مُنِحوا أراض بور، الملاكُّون الصغار للأرض، وأخيرا الفلاحون بدون ملكية زراعية، ولا تتوفر في ما يتعلق بهم معلومات كافية (ص 88). في المدينة: إبان عهد محمد علي تتشكَّل الطبقة العاملة، حيث تنشأ عنها، في نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، بروليتاريا صناعية ( في العام 1899 تَشهَد القاهرة تأسيس أول نقابة عمالية: عمال التبغ). أما غيرها من هذه وتلك من الشرائح المجتمعية للمدينة، فإنها تتفكك إلى طبقات عليا (الباشوات، أصحاب الملكيات العقارية الكبيرة، كبار الموظفين، أصحاب المراتب الدينية، القادة العسكريين، القيادات العليا للاقتصاد). إن هذه المرحلة تَشهَد نشوء الطبقة الوسطى. في أسفل السلم تتكوَّن شرائح مجتمعية من البروليتارية الرثة، يتسع هذا الحيِّز للمومسات والمشَرَّدين.
-) من اجل المزيد من الدقة: هذا التوزيع يفتقد بديهيا للإحصاءات. ثم، إنه يتطور بعلاقته المباشرة بالقطاع الرأسمالي .
-) هذه الخطوط العريضة تعبِّر عن المميِّزات التي تَدْمغ نهضة التكوُّن الوطني المصري: دولة مركزية ذو جهاز صلب، يُحرِّض الحياة الاقتصادية على النمو والتطور، بما في ذلك تحت عهد الاحتلال الأجنبي. فضلا عن هامش واسع من الاستقلال الذاتي، بحيث بفسح المجال واسعا أمام ولادة الحركة الوطنية: ثمة قطاع ما قبل الرأسمالي، وطني ومندمج، في وقت واحد بالاقتصاد العالمي. هنا، لابد، توخيا للإحاطة بالموضع، من أن نضيف بأن حالة من التفاوت الداخلي تسيطر على المجتمع المصري. منها، على سبيل المثال، التفاوت، من حيث التطور، ما بين الصعيد المصري، ودلتا نهر النيل. تفاوتٌ ما بين المدينة والريف. تفاوت مختلف عما هو عليه الحال في تلك الفترة من غير مصر، منها الأمم المسيطر عليها. إلا أن هذه "الخصوصية" أبعد ما تكون عن التبسيط والثبات الجامد. فإذا كانت هذه الخصوصية محقَّة عندما تَعْتَبِرُ أن التكوين المصري، حتى غاية العام 1952، تكوينٌ "إقطاعي"، فإنها مرغمة على الاعتراف "أن مصر كانت تتقاسم مصير كل البلدان الواقعة تحت السيطرة الإمبريالية، والتي كان كل من أ. هوبسن.، لينين، و روزا لوكسبورغ، رسموا عنها صورة شاملة (ص 109).
هذه هي نقطة انطلاق التحليل الذي يقود أنور عبد الملك في تحقيقه عن مصر النهضة. هذه، أيضا، هي خلفية الفشل الذي يَلحق بأول نهضة مصرية تحت صدمة الاحتلال البريطاني. المؤلِّف يسجِّل موضوع دراسته طي هذه الخليفة، وهي علم الاجتماع الثقافي (ص 93) الذي، حسب ما يفعل الكاتب، يُعيد إنتاج الشروط الإيديولوجية الخاصة بالتجديد الوطني المعاصر. ثمة، في هذا السياق من الدراسة، أربع خطوات متتابعة (من القسم الثاني إلى القسم الخامس). ثمة، أيضا، مقطعين تاريخين (1805-1879، و 1879-1892). هذه الخطوات والمقاطع تَكشف بشفافية عن تكوينها. بناءً عليها، سنبيِّن بدورنا خطوطها الكبرى مع الاحتفاظ بحق الإلحاح، بوجه خاص، على المرحلة الأخيرة (الفصل الخامس، 1879-1892). هذه المرحلة هي التي تقود الباحث بصورة مباشرة نحو الحوار العميق.
***
في ما يتعلق بالبنى التحتية الوطنية الثقافية، حسب مصطلحات الكاتب، كما في ما يتعلق بالبنى التحتية الاقتصادية، فإن مصر ستَكشف عن مميِّزات مثيرة للاهتمام، لاسيما وأن هذه الميِّزات لن تحدَّد، فقط، مصيرها، وإنما ستحدِّد، علاوة على ذلك، مصير النهضة العربية حتى غاية اليوم (ص 183). ففي هذا المجال، فإن دولة محمد علي ستمارس الدور الأول في ما يتعلق بترجيح حركة يعرِّفها أنور عبد الملك على النحو التالي: "ليست البعثات الدينية وأصحاب الرؤى هي التي سَتَقْلِب التراب المصري. إنما، وبصورة جوهرية، الذي سيُنجِز ذلك هي الموجات من الشبان والنخب المصرية الجديدة التي حَمَلت معها من قلب أوروبا، ومن صميم العلوم والفكر المعاصر. إنها موجات من البعثات العلمية والفكرية المصرية التي أرسلت الشبان والنخب الحديثة إلى قلب أوروبا كي تضع نفسها في قلب العلم والفكر المعاصر. إنها التي تشكِّل بصورة جوهرية أساس البنية المصرية، وذلك بإيقاع سريع، ومن أجل أن يلتقي فوق التراب المصري العلم وتقنيات الثورة الصناعية، وذلك على غرار الأفكار السياسية والاجتماعية للثورات الاجتماعية الأوروبية، وأسلوب الحياة وأنماط من مسلك المجتمعات المعاصرة، رأسمالية وليبرالية، السائدة في أوروبا القرن التاسع عشر. فرنسا، في هذا السياق هي التي تتقدَّم بمسافة طويلة غيرها من القوى الأوروبية. فرنسا هي التي تمارس تأثيرا حاسما (ص 183-184).
أليس من المفيد أن تعود فرنسا اليوم وتتذكَّر بأن مصر نشرت الأنوار في ما كانت مصر بنفسها تتطلِّع للتجديد؟ أيكون ذلك من غير المفيد؟ ما حدث يتجلَّى بعلاقة ذلك بالبعثات المدرسية التي صَهَرَت موجة رائعة من النخب المعاصرة، بالمعنى النبيل للكلمة، ونَشَرَت موجة من الترجمات. ما حدث أيضا هو أن مصر، فلنسجِّل ذلك، هي الثانية من نوعها، وأن حركتها التجديدية تأتي على مسار معاكس لما كان سائدا في القرن التاسع. بمعنى أن العلوم التاريخية والجغرافية، ومن ثم الاجتماعية، هي التي، إبّان التجديد، تفوَّقت وسَبَقَت الفلسفة والأدب (ص 141-142). فلقد عَرِفت الأدمغة حالة من التخصيب بالمئات. في مقدِّمة هؤلاء، على حد قول عبد الملك، يأتي رفاعة الطهطاوي الذي يتبوأ لديه مكانة متميِّزة (ص 16)، والذي ظلَّ مجهولا في أوروبا، بالرغم من أن أعماله، بغير كلل وملل وكثافة، تمارس دورا حاسما في حركة التجديد، بما في ذلك ما يتعلق منها بالإعداد للتيار الاشتراكي. هذه الترجمات، وما كان يرافقها من طباعة ونشر، يعود على مصر بالجوائز الدولية (ص 167). لاسيما في ما يتعلق، بإلحاح، بالنظام التعليمي المعاصر الذي يَمنَح "القيم الإنسانية، العلمية والعقلانية" (ص 184) دورا في غاية الحداثة، إذا ما قورن هذا التعليم الجديد بالمعايير التربوية التقليدية. غير أن هذا التجديد يواجه صعوبات منشؤها العادات القديمة للتفكير، بالرغم من أن الطريق كان مفتوحا أمام التأسيس لصحافة وطنية حيَّة (ديناميكية) غير حكومية (ص 178) تساهم بتعميق التجديد. فضلا عن ذلك، فإن مصر، حينذاك، كانت أرض المنفى بامتياز لكل الذين كانوا إبان الإمبراطورية العثمانية موضعا للتنكيل والتعذيب.
بناءً على هذه القواعد تتكوِّن إيديولوجية الحركة الوطنية. ما حَدَثَ، حينذاك، هو أن العقلانية الاجتماعية فَرَضَت بصورة متعاظمة وعامة اجتماع عناصر متنوعة كانت تمارس تأثيرها. من هذه العناصر يُذْكَر السان-سيمونية التي سَبَقَت غيرها، وكانت الأولى من حيث الترتيب الزماني، والمتنفَّس الوحيد. إن عملها مرتبط بصورة مباشرة بنشأة الدولة تحت حكم كل من محمد علي وإسماعيل: سان-سيمونية تتميَّز باستمرارها وعمقها. يَحْدُثُ ذلك طالما يُبَيِّن محمد علي أن "الترابط ما بين الدولانية المصرية (مذهب سياسي يدعو إلى مد سلطة الدولة إلى مختلف أوجه الحياة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية. ح.خ.ش)، والتقنية الاجتماعية-الاشتراكية (ص 197؛ أيضا ص286) (مذهب سياسي يقارب ما بين سياسة اجتماعية تدافع عن المجتمع، والعدالة الاجتماعية -المُتَرجِم). أنور عبد الملك في عمله "مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون" يبيِّن أن النظام المنبثق عن الانقلاب العسكري للعام 1952 تمسَّك بتبصُّر بسياسة محمد على.
غير هذه وتلك من العوامل تتمفصل مع ولادة الوعي التاريخي تحت تأثير حركة الطهطاوي ومدرسته (ص 210-211). فقد أيقظت هذه الحركة تفكيرا متمركزا حول مفهوم الوطن، من حيث هو مختلف عن الأمة من حيث هي جماعة دينية. مركز هذا التفكير حول الوطن والأمة يَحْصر المسألة الإشكالية الرئيسة لدى البلدان العربية بمسعاها إلى الفصل ما بين الاندماج الوطني والانتماء غير القومي/الوطني للإسلام. إن صدمة أفكار الثورة الفرنسية 1789 فوق التراب المصري تمارس دورا صريحا: مصطلحات الاستقلال الذاتي، ومن ثم الاستقلال الوطني، تابعتين لها. إن هذين المعنيين يترجِمان لانطلاقة فكر سياسي واجتماعي يجدان في القرن التاسع عشر رمزا لهما في كلمة "الحرية" (ص 264). كما ظهرت لدى آخرين مشاغل التصويت العام (ص 275). لذا، فإن حركة الأفكار الجديدة تضطلع على هذا النحو بوظيفتين اثنتين: الوظيفة الأولى تُتيح لمصر بنفسها أن تؤكِّد على كيانها في مواجهتها للإمبريالية، فرنسية، بريطانية والباب العالي. الوظيفة الثانية تتيح لمصر أن تَعْقُد من جديد صلاتها بماضيها الألفي دون أن تتنازلَ عن أيِّ من مكوِّنات معاصرتها.
هذه المعاصرة تبدأ، خلال المرحلة قيد الدراسة، بعبارات مخالفة لسابقاتها، وبتأثير من أوروبا، تضحى فاعلة. التأثير الأوروبي كان بمثابة لدغة تَبثُّ، بصورة جوهرية، الحياة في هذه المعاصرة وتنعشها ص (331). فقد شملت هذه التغيرات الإحساس، وبداية الحركة النسائية، ومولد الرواية والمسرح، وتَكَوُّن اللغة العربية الحديثة (ص ص 326-331).
مظاهر وتشكيلات الليبرالية، في صدامها بالحكم الفردي المطلق والتقاليد، تكشف عن تشكيلاتها، بصورة رئيسة، في مجالي السياسة والمجتمع. إنها تفتح الطريق أمام مشكلة قوامها أن مشكلة الثقافة ودورها في النهضة الوطنية متأتية، بوجه الإمكان، من كونها تستطيع أن تَطرح نفسها من حيث هي مشكلة بحدِّ ذاتها ولذاتها.
***
إلى ذلك، فإن أنور عبد الملك يبلغ المنظور المركزي في عمله هذا. حيث أننا، هنا، نبلغ في هذه الدراسة إلى خطوطه الواقعية الرئيسة، على النحو التالي:
ففي العام 1882 يجتاز تاريخ مصر المعاصر حالة من القطيعة من جراء الاحتلال البريطاني. قطيعة نالت، في الواقع الملموس حركة الأفكار بتقسيمها إلى عهدين اثنين. القسم الأول يترجم عن تشكُّل الإيديولوجية الوطنية. القسم الثاني (ما يعادل خمسة فصول من هذا العمل) يشهد على تفرُّع هذه الإيديولوجية، تحت صدمة الاحتلال، إلى تيارين اثنين رئيسيين من الفكر مختلف أحدهما عن الآخر. لذا، فإن مؤثِّرات هذه الصدمة هي التي تحتل المقام الأول من الدراسة. وتحت هذين التأثيرين يأخذ هذا العمل، قبل أي اعتبار آخر، المسار الذي يقود عبد الملك في بحثه. فالمؤلِّف عبد الملك يفرد، هنا، فصلا كاملا في منتهي الأهمية يَحصد فيه السياسة الإمبريالية في المجال الثقافي. كرومير Cromer، القنصل الطاغية لمصر، هو صاحب هذه السياسة. فكرومير هذا، كان ينظر إلى مصر نظرةً مشوَّهة للواقع. مشوهة مرتين اثنتين. نظرة إمبريالية إمبراطورية بريطانية. نظرة ثانية منقولة عن تجربته الشخصية في الهند (ص 339). فقد تجسَّدَت هذه السياسة عبر شكلين اثنين. من جهة، التقليد الأخلاقي المسيحي. من جهة ثانية، وضع مصر تحت نظام أوروبي، وكأنها جزء من أوروبا في جميع المجالات. اتِّباع سياسة لتجهيل مصر. كرومير بمنطق هذه القواعد يَفرض بكياسة نظرية (ص ص 341-346). هذا يعني أن الثقافة المصرية فُرِّغَت من مكنونها الوطني، لتوجَّه في منحى يتراجع نحو الماضي. حتى أن اللغة العربية اعتُبِرَت لغة أجنبية. بل وإن مدة التعليم في المدارس تقلَّصت. البعثات الدراسية إلى البلدان الأجنبية أٌلغيت. زد على ذلك أن النسخ حلَّ محل الفلسفة. ناهيكم وأن النسخ عاد ليتربَّع على عرش الثقافة، في ما مُنِحَت الامتيازات للاتجاهات المسلمة السنية المحافظة إلى أقصى حد كنقيض لأي شكل من أشكال المعاصرة.
بالمقابل، فإن رد فعل المثقفين المصريين الأصليين واحتجاجاتهم شملت الأغلبية منهم (ص369). إلا أن أصواتهم جاءت متنافرة ما أن كان الأمر يتعلق بالمستقبل. فقد ظهر منذ ذلك الوقت نمطين، وخيارين اثنين كبيرين من العمل الثقافي. ظَهَرَ، وما يزال يظهر، ليُقَسِّم مصر وكل العالم العربي. أحدهما يَمْثُل في الأصولية الإسلامية. ثانيهما يَمْثُل في إيديولوجية وطنية جذرية متعدِّدة التيارات. إن ما تتضمنه أشكالها من الأهمية يستدعي بالضرورة استيعابها فكريا بحيث يتسنى للباحث أن يستوعب الحاضر. الأمر الذي لا يفوت شأنه على أحد. فلنتوقف، هنا، قليلا مع أنور عبد الملك، بحيث نقترب معه من هذه الشكلين الرئيسين، الإسلام الأصولي، والقومية الجذرية.
آ- تجديد الفكر الإسلامي:
إن المرجعية الدينية، وإن كانت تسيطر على الإسلام الأصولي، إلا أنها، بخلاف ما يذهب إليه المستشرقون الأوروبيون، لم تَعْرِف الانتشار والقبول في المجال اللاهوتي وحده. ذلك أن خوضها في مجالات علم الاجتماع، السياسة والإيديولوجيا (ص 372) لا يقل أهمية لدى من كان يريد قياسا دقيقا، في الماضي والحاضر، للحيِّز الذي يتسع أو لا يتسع للأصولية في النهضة الوطنية لمصر.
كان الشيخ محمد عبده المفكر النظري للأصولية الإسلامية. إنه صاحب الفكرة التي تدعو إلى الانكفاء على الذات لمجتمع تفاجأ بشراسة بالاحتلال الأجنبي. محمد عبده كان أسير السؤال الذي كان يتردد على جميع الألسنة: "ما هو السبب وراء انحطاط مصر والإسلام؟" (ص373). جوابه على هذا السؤال مسؤول إلى حدٍّ كبير عنة نشأة حركة الإخوان المسلمين وإيديولوجية الضباط الأحرار ص 405).
القرآن، حسب ما يراه محمد عبده، مصدرٌ لكل فكر. إنه رسالة جديرة بالعودة إليها. هو صاحب الأرثوذكسية النزيهة، والمنتمي للأشعرية، لم يكن ليخلو تفكيره من النتائج: "إن تقدُّم العلوم التاريخية، المناهج الجديدة للنقد التاريخي والنصوص، والتاريخ المقارَن للديانات، لا تعنيه، أو إنه يتجاهلها"(ص 386)... فإن القرآن مصدرٌ لكل حضارة (ص 386): إن هذا الجهد اللاهوتي يدافع عن الدين بقصد تبريره، فتراه يسعى إلى هدف محدَّد، ألا وهو "أن يسمح للدين أن يمارس دور الإيديولوجية الوطنية" (م.س). لذا، فإن الأمور واضحة: إن نسيان الإسلام مصدرٌ للانحطاط، وإن العودة إلى الإسلام برابطيه الاثنين، الحياة الاجتماعية، والحياة الدينية، كفيل، في مواجهته مع الآخر غير المسلم، بأن يستعيد الهوية المفقودة. فاستعادة الهوية المسلمة شديد الوضوح. حتى أن استعادة الوعي بها يشكِّل وعيا شديد القوة على الصعيد الاجتماعي. الأمر الذي يُتَرْجِم عن الحذر حيال الحركات الثورية، بل وحتى الديمقراطية (ص 387). هذه الاستعادة للهوية المسلمة يرادفها الانتماء إلى كل ما هو مُحَافِظ (ص 388)، ولالتحاق بالحزب في الجيش (ص 391)، والمناداة بالحاكم المستَبِد و"الديكتاتورية المستنيرة": (ص 389،394)، والتحالف المَخْفي مع كرومير الذي يجعل من محمد عبدة المفتي الكبير (ص 397)، والجامعة الإسلامية المناهضة للوطنية. إن مثل هذا الفكر تترتب عليه نتائج فكرية: حظر كل فكرة تريد لنفسها أن تكون مستقلة ذاتيا عن الدين (ص 403)، تكريسٌ للكتب المنسوخة، رفض المذاهب التاريخية، العودة إلى ماضي الإسلام، والرجوع إلى المفهوم اللاهوتي للمجتمع (ص ص 404-405).
وبعد، هل من ضرورة تلزمنا بالتساؤل إلى أي حدٍّ من القسوة المُحافِظَة تحيا إلى غاية اليوم هذه الإيديولوجية؟ إلى أي مدى من الالتباسات أصبح محمد عبدة قائدا لمدرسته؟ فلنجب بصورة إيجابية: بالأمس لَمَسَت النهضة العربية التي انطلقت من المشرق، لمَسَت الأرض المغاربية. حالها بالأمس كحالها اليوم، عندما يَحْتَفِل المحاضرون في الجزائر المنتصرة على الاستعمار الفرنسي، إلى جانب الصحافة وغيرهم من الكتَّاب، بالمعلِّم المصري تمجيدا لذكراه.
ب- صيرورة الإيديولوجية الوطنية:
في قمة الفصل الثاني من تيار الفكر المصري يَجلس الطهطاوي الذي يحظى لدى أنور عبد الملك بأكثر الصفحات حرارة. إنه يُكرِّس لآخر أعمال الطهطاوي عناية خاصة مُلٍحا على ضرورة أن يأخذ مكانة مرموقة بين أقرانه في مجال "البحث عن المصادر الإيديولوجية محض المصرية". أنور عبد الملك يرى في الطهطاوي المفكِّر المُمَجَّد من حيث هو الرائد الأصيل للاشتراكية في مصر (ص 418). فعرضه لأفكاره، بالاستناد بوجه خاص إلى تحليل النصوص الاقتصادية والتفسير الديني، يسترعي انتباه عبد الملك، يحدوه أمل بأن يلقى الطهطاوي في مصر ما يستحقه من عدالة. بل، وبوجه خاص، من أوروبا أيضا إذا ما تُرجِمت أعماله.
غير أن الطهطاوي يَخطب ويعظ الأمة في الفراغ. طهطاوي صاحب الرسالة انسان وحيد. إذ إن الاعتراف به، والإصغاء إليه، استغرق مدة ليست بالقصيرة. بل، وإن المدرسة الماركسية المصرية، هي وحدها التي اعترفت به في وقت متأخر. ذلك أن حركة الواقع كانت تتقدَّم في حيِّز آخر. حيِّز القناة الوطنية الدستورية، البراغماتية والانتقائية. هذا الحيِّز انغمس، ما بعدا الفشل الذي مُنيت به محاولة العرابي الثورية بوجه السرعة، في صراعات من أجل القيادة. صراعات مُلْتَبَسَة لتعدُّد أقطابها، فضلا عن ثقل وزنها المحَمَّل بالتهديدات في ما يتعلق بالمستقبل. أما على الصعيد الإيديولوجي، فقد كان خليطا مزيجا من المعاصرة والتشبُّه بالقدامى. الأمر الذي حال دون أن تتبنى الطبقة الصاعدة سياسة المبادئ. ثم حَدَثَ ما بعد 1882 أن المتنازعين الرئيسين على القيادة خانوا حركة النهضة المصرية (ص 448).
بيد أن مصير الشعبوية الثورية سار في اتجاه مخالف. فقد ظهرت "النديم" في العقد الأول من الاحتلال البريطاني. "النديم" اضطلعت بمهمة ولوج أطروحات الحركة الوطنية إلى الجماهير، والتي كانت حتى ذلك الوقت حصرا على النخبة (ص ص 449 و478)."النديم" أخذت على عاتقها مسؤولية الدفاع عن اللغة العربية الدارجة، تحليل نقدي للمجتمع، تبعية العوامل الدينية للعوامل التاريخية والاجتماعية، وفكرة مثالية عليا عن الوطن المصري: هذه الأفكار وغيرها مارست دورا حيويا في التقارب بين النديم والطهطاوي (ص 466). "إننا هنا أمام مثقف صحفي يرفض المنفى رفضه للاعتراف بالذنب. الطهطاوي يختار البحث في صميم الجماهير الشعبية، هو الذي لم يتوقف عن تشجيعها للنضال ضد الاستبداد والاحتلال. الطهطاوي يختار عن إرادة أن يحوز على الحماية. حماية الجماهير له في ما تَرفض سلطات الاحتلال منحه إيَّاها، وتجرِّده من حق البحث عن المصادر الممكنة لفكر متجدِّد (ص 463). إن أجيالا من المناضلين تُعلن عن انتمائها للبطل الملحمي الطهطاوي، وتكافح كي يأخذ الشعب بنفسه "قيادة الثورة". (ص 483).
هذان هما التياران الرئيسان اللذان مَّدَّا بالحياة الفكر الوطني المصري والعربي حتى غاية المرحلة المعاصرة. فإذا كانت الحاجة إلى الوضوح قد أَلزمت بالتمييز الواضح بينهما، فإن من المؤسف، مع ذلك، أن أنور عبد الملك في الخاتمة لم يأت ببعض اللبس إلى هذه اللوحة. ذلك أن القارئ العادي قد لا يدرك إلى أي مدى، في مجال الإيديولوجيا في البلدان المسلمة بوجه خاص، أن قبعة الرأس لا تميِّز وحدها المؤمن عن الكافر. فالجسور بين تيار وتيار آخر لا تَعرِف أبدا حدَّ القطيعة ما بينهما: "فإن هذا "الرجعي" مؤهل بالاقتناع بالرسالة الاشتراكية في القرآن. كما أن هذا التقدُّمي قد يرى في محمد عبده بطلا للنهضة الوطنية. الشيوعي بدوره قد يكتشف أنه مسلم، بدون أن يدري، ويمارس الشعائر والواجبات الدينية. الحال، هنا، أن المسألة لا تتعلق، بالضرورة، بالذاتية، أو بحيلة ما. إنما هي، على النقيض من ذلك، تناقضات، هي بالضرورة ذاتية تَعَرَّف كثرة منا عليها، من حيث هي نتاج مباشر لظروف موضوعية بديهية. من هذه الظروف تُذكر صدمة الأجنبي. هذه هي الظروف التي تبرِّر الانتماء في نفس الوقت، وعلى التوالي، بالأفغاني والطهطاوي. المسألة، هنا، لا تمت بصلة ب/"فضيلة الروح"، حسب ما يذهب إليه هذا وذاك، إنما هي واقعة من صنع الإمبريالية، ومن نتاج رفضها رفض المحرِّض عليها.
***
ما يتوصل إليه أنور عبد الملك هو الإشكالية الخصوصية للنهضة الوطنية الثقافية لمصر. هي مسألة تَستحق مرتبة عالية من الانتباه. ذلك أن هذه الخصوصية ليست خصوصية بلد واحد بعينه، وإنما العالم الثالث بأسره، عبر بلد واحد هو مصر. إذ إن هذه الخصوصية تُتَرجِم بفكرها، منهجها ومفاهيمها، أكثر من بلد واحد بعينه. إن مجموع أعمال المؤلِّف عبد الملك تؤكد بما فيه الكفاية على وجهة النظر هذه. ها هو يكتب في مقدِّمته لمؤلَّفه الذي ظهر في مجلة الإنسان والمجتمع l’Homme et la Société : "إن المحصِّلة التجديدية على سبيل الممكن والافتراض لبحثٍ من هذا النمط لا يكمن، إلى حد واسع أو مختصر، بتراكم حصاد من وقائع جديدة، أو غير معروفة سابقاً بصورة كافية، وليس أكثر من ذلك أن يكون كامنا في الطبيعة، البنية، والتكوين الحي للظواهر الاجتماعية المستنتجة والمحدَّدَة بتعريفها والمُفَسَّرَة، من حيث هي دوما فرضيات علمية". ها هو أيضا يكتب، في مطلع الفصل الأخير من الإيديولوجيا والنهضة الوطنية: "... هذا الانتقال من حصادٍ لما هو موجود في جميع الأحوال، الانتقال منه إلى دراسة حالة بعينها، إلى إنشاء نظري بصيغة الفرضيات والإشكالية التي تبدأ وتنطلق من حالة خصوصية، فهل يكون، والحالة هذه، الالتحام ما بين الخصوصي والشامل ملائما، حتى وإن كان يأخذ شكل الفرضيات ؟" (ص487).
إذن، ها نحن ذا قد وصلنا إلى قلب النقاش.
هنا، يَستخلص أنور عبد الملك نتائج بحثه في بابين اثنين: الباب الأول يتعلق بالمفاهيم، يتبعه الباب الثاني الذي يبحث في الإشكالية المترتبة عن هذه المفاهيم.
آ-) المفاهيم
يبلغ عدد هذه المفاهيم أربعة:
التعايش ضمن الدولة: بين إرث المجتمع القديم المتأتي عن "نمط الإنتاج الآسيوي"، وبين الدولة التي تجسِّد الأمة وتسيطر عليها بالاعتماد على الجهاز الإداري والقهر، وهما من اختصاصها وحدها، ومنها، بوجه خاص، الجيش والإيديولوجيا. غير أن الإيديولوجيا "التي تُعْتَبَر من اختصاص الدولة وحدها (...)، وهي التي تنصُّها، بل، وإنها، في جميع الأحوال، هي التي تديرها وتوجِّهها في الواقع وبفعالية" (ص 496)، فإن حالة من الانفساخ تَحصَلُ ما بين الإيديولوجية "السائدة بالعلانية"، الإيديولوجية الرسمية، وبين الإيديولوجية (الضمنية، الكامنة) التي تُعَبِّر عن " الحياة الفكرية، الخيالية والتصويرية" لمصر العميقة (ص 498).
إن مفهوم التشكيل الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالوي المتأخِّر من النوع الكولونيالي مع طغيان الزراعة،
إن هذا التعريف للمجتمع المصري يحوز على استحقاق مزدوج: إنه يتيح إغناء المفهوم التقليدي للرأسمالية، وتعامل حصري ودقيق مع الاقطاعية".
إن نص مفاهيم الوطن والأمة يطغى عليهما الالتباس: إذ إن المسافة ما بين الأمة والوطن تتسع لكل لبس، سواء أردنا ذلك أم لم نرده، فإنه يقطن في حيِّز الممكن (ص 501).
هذه الفكرة الأخيرة تُلْزِم بتحليل "الجدلية ما بين الاستقلال الوطني والدستور" (ص 502). أو بتعبير آخر التحليل الجدلي في ما يتعلق بالعمل المُنتَخَب لكل عوامل النهضة الوطنية (م.س.)
ب-) الإشكالية: إشكالية الانتقال من التعايش (الاتحاد بين تكوينين غير متسابهين – المترجِم) إلى التركيب الجدلي.
المؤلِّف أنور عبد الملك يُقَدِّم هذه الإشكالية على النحو التالي: "في ما يتعلق بالتعايش بين الأشكال الثلاثة للوحدة المصرية" (أي الدولة)، باعتبارها (العامل المركزي)، العامل الاقتصادي، عامل البنى العليا (ص ص 496-497)، ثم تأتي الفترة الثانية، حيث الجدلية بين هذه الخصوصية، هذا المشروع للإبقاء على القديم مستمرا بصلابة، من جهة، وانبثاق المعاصرة المتمثلة، هنا، بالأسلحة، الاقتصاد، المؤسسات والأفكار. تبقى الحالة الثالثة لهذا الجدل، حالة الانتخاب النقدي لهيمنة خيار ألا وهو، بوجه الدقة المركَّزة: المسار النقدي للمعاصرة، أي تركيب جدلي حقيقي يؤدي إلى رفض الغموض الكامن في هذا التعايش. ذلك أن كل هذه الحالات من الانفساخ ما بين إيديولوجيتين اثنتين تبقى حاضرة في جميع المجالات بين "الصريح المُعْلَن"، وما هو "ضمني كامن"، ما بين المعاصرة والتقاليد، ما بين الريف والمدينة، ما بين السلطة والشعب، ما بين الفعل والتفكير (ص504). أضف إلى ذلك أن مهمة المثقفين وخياراتهم – غير المضمونة (ص 517) – تقع عند هذه التقاطعات المتداخلة، ما دامت النهضة الوطنية المصرية الأولى، لم تستطع اكتساب إيديولوجية بكل معنى الكلمة (ص 516)، وعجزت أيضا عن تكوين " فلسفة الثقافة وصورة للإنسان الذي تصبو إليه"، وأن هذان الشكلان من الإيديولوجيا ما تزالان حتى غاية اليوم بدون جواب على سؤال مؤداه "كيف نكون مصريين؟". الجواب الذي لا ينطوي على غموض، الجواب الواحد مفقود.
إن مثل هذه النتيجة تعكس، حسب ما يبدو لنا، على خير وجه، درجة حرارة العمل بكامله، والوتيرة الفكرية، بلا شك، لتفكير أنور عبد الملك. فالإيديولوجية والنهضة الوطنية، إذا ما أردنا أن نفهم ونتيح أيضا رؤية واقع في غاية التعقيد، فإنه مشروع بناء شاهق مبنيٌ بعشق. إنها العودة بمصر قرناً كاملاً إلى الوراء، من مصر إلى استقلالها الوطني، إلى صعودها فوق ساحة التاريخ، باستقلالها الذاتي، لمصر أقدم الهويات الوطنية في العالم، ولمصر، بصورة أوسع، فوَّهةَ بركانٍ لانفجار ثوراتها الوطنية. بناء عامر مبني بعشق: إنها تَجْمَع أنصعً مُستلْزِمات الوضوح الناصع، برابط أعمق عمقً للأرض. تَجمع الموضوعية بالالتزام. فلماذا يا ترى يأتي السطر الأخير مدينا لألبير كامو أكثر منه إلى ماركس؟ إلى سيزيف أكثر منه إلى بروميتيه؟ ألا يعود ذلك إلى واقعة مفادها أن الزمان الأقدم بأقل تقدير ليس زمان التاريخ الواقعي. هنا، يَكتَشف الجهد النقدي وَيَعترِف أنه، من حيث هو موهوب، يقف أمام العجز ؟ إن المثقف، ما أن يُعاد تركيب الحبكة المعقدة بجهده، لصبوة هو الشاهد عليها، حتى تراه يمتنع عن كل شيء سوى الاعتراف إلى أي حدٍّ ما تزال الأفكار تعوم فوق رؤوس الجماهير، وإلى أي حدٍّ ما لا تزال المسافة الشاسعة تقاوم تفسير العالم وتحويله، هذا، بالرغم من أن هذا المثقف هو الذي فَرَضَ ضرورتها؟.
إلى ذلك، فإن هذه المسألة تنتهي بنا إلى عدد من ملاحظات ما هي بوجه الاحتمال سوى أسئلة.
***
أولى هاته الملاحظات تقع ضمن المجال المختار في أعمال أنور عبد الملك، ألا وهو الإيديولوجيا.
هنا، نحن باختصار أمام الأطروحة التالية: من الخصائص الذاتية للإيديولوجيا أنها معيارية، ليس بمعنى أنها تَخضَع بطبيعتها للقاعدة الاقتصادية، إنما لأنها تَستثني من هذه القاعدة الاقتصادية حالة أشبه ما تكون بما وراء الطبيعة. حالة ليست من تعريف وتحديد الحتمية الاقتصادية. إن مصر توَضِّح هذه الظاهرة، ما دام مسار النهضة الوطنية لا يستطيع التعبير عن نفسه، ويَستنبَط من ذاته ما يتعلق بعوامل التحديث (من الاقتصادي إلى البنى العليا)، بالرغم من أنها هي التي نقلته إلى حيِّز الممكن، لا يَستَنبِط معناه سوى عبر ما لدى المجتمع من أقدم الصور عن نفسه. ممارسة السلطة والمحافظة الدينية المترابطتان بصورة صميميه. هنا مكمن المفارقة، حيث تكمن "الالتباسات" حسب ما يَكشف عنها أنو عبد الملك، من حيث هي مرجعيات الخصوصية المصرية.
الالتباس الأكثر أهمية من غيره كامن ما بين أُمَّة ووطن. التباس هو الذي تَفرض بحتمية شروط "الجدلية ما بين الاستقلال الوطني والدستورية". إن العمل هنا ينصب على مفاهيم وصفية. ففكرة الوطن تنبثق وتحاول أن تَفرض نفسها في حيِّز العمل ما أن تبدأ جهود محمد علي الرامية إلى منح المنطقة المصرية من الإمبراطورية العثمانية بنية عليا اقتصادية وطنية: هذه الفكرة تَحمل منطقها الخاص بها، تطورها-الذاتي الذي يقود، خلال فترة البدء، وخلال هذ الفترة، إلى تشكيل الوعي الوطني في مواجهة الباب العالي، أي استعادة أو "الإحياء الجديد" للشخصية المصرية (ص 500). إنما إحياؤها من جديد بشكل جديد مرتبط بمرحلة اقتصادية جديدة: هنا تبدأ الفترة الثانية التي تلي تشكّل الوعي الوطني خلال الفترة الأولى، والتي يتشكَّل خلالها الوعي الطبقي الذي يَنتج، بدوره، بما يطرأ من تغيير في علاقات القوى ضمن بنية المجتمع. الأمة، من جهتها، التي تتكوَّن ضمن مستقبل من الأجيال المتعاقبة، ينضج وعيها مع ظهور جماعة المؤمنين التي تكوَّنت خلال فترة من الزمن تكوُّنا واقعيا، وكانت، خلال فترة أطول من الزمن تعني الحنين إلى هوية سياسية فعلية. ثمة، إذن، هنا مفهومين اثنين، أحدهما مرتبط بمرجعية علمانية، والآخر متعلق بمرجعية دينية. أحدهما جديد، والآخر قديم. ما بين هذين المفهومين أين يوجد مرقد الالتباس؟ هذا الالتباس يُعْثر عليه حيث هما يتبادلان معانيهما. أو، وبصورة أوضح، في واقع مؤداه أن الأمة تأخذ على عاتقها عبارة الوطن، وتُعبِّر عن "أمَّة"، وذلك في حالة من الاندماج. إذن، لماذا يَحدث هذا الاستيعاب للوطن من الأمة؟ إذا تركنا الأسباب اللغوية المذكورة أعلاه، فلنمعن النظر بالتوقيت. الاحتلال البريطاني الذي يَحدث، حسب ما هو معروف، بفظاظة، فإن النظام الذي كان في قيِّد التكوُّن يضطرب. نظام "الوطن" في قيِّد التكون يضطرب. إن "الوطن"، في هذه الظروف، لم يكن، أو لم يعد الجواب الأكثر تلاؤما مع الحالة المستجدَّة. لأن الأمة هي الجواب الملائم لأنها ذات معنى أعمق، وتَجمَع الأكثرية أكثر من غيرها، وأقل علما بالتنبؤ، حتى وإن كانت من ناحية النظرية أقل إلماما من الوطن بالواقع، وحتى، وإن كان عليها سداد ثمن الاختلاطات الخطيرة بين معنى العلمانية ومعنى الدينية، بين المعاصرة والتقليد، بين النخب والجماهير. هذه الاختلاطات أليست هي نفسها انعكاسا للظروف الموضوعية. فلنأخذ، على سبيل المثال، ضرورة الرد المضاد المشترك على العدوان الإمبريالي: هذا الرد يحمي الهوية الوطنية ويؤكد عليها مجددا (بكل ما في هذه الكلمة من معنى)، وإن كان في نفس الوقت يجازف بارتكاب ما هو مخالف لها بصورة لا رجوع عنها: إنها تفك التحالف ما بين المثقفين والشعب، في ما هي، في نفس الوقت، تحاول إلغاء الانشقاقات المجتمعية. إنها تعود للارتباط بالمصادر الحيّة أكثر من غيرها بالماضي الثقافي والروحي، في ما هي، في نفس الوقت، تهدِّد بالخطر كل محاولة ذات نظام ومنهج يعمل من أجل نشر أية معاصرة وتقدم. إنها تنظر إلى المستقبل من حيث هو ماض، وتمارس الثورة بالشكل المقلوب. إنها تُلغي بصورة بديهية كل فرصة أمام أولئك الذين يعاندون في قرارهم امتلاك الوضوح نحو كل شيء، الجبهة المعادية للإمبريالية والجبهة المعادية للرجعية. إنها تُلغي ما يعود على الشعب بصورة فورية بالخير والسلام. إن التمييز هنا ضروري ما بين المراحل، شأنه شأن وزن الحركة التاريخية من حيث أهميتها. ألا يتحوَّل هذا الذي كان تقدميا إلى رجعي دون أيِّ تغيير إيديولوجي؟ يبدو أن عبد الملك لا ينفي هذه المراحل عندما يُعلن: "إن من الأفضل قبل أي شيء آخر استيعاب الميدان من الداخل" (ص 502)، وذلك بعدما يشير إلى أن "الجدلية ما بين الاستقلال الوطني والدستورية" توجد في مجال المفهوم من حيث هو محض مفهوم. فإذا كانت هذه الجدلية تكمن في مجال ما هو "المفهوم"، فإن السؤال الذي يفرض نفسه يتساءل ما هو الجدوى بعد ذلك من الحديث عن الجدلية؟ ما الجدوى، بالأحرى، من التأسيس لنمط من منهج مبني على "التباس"(ص 502). منهج ليس له سوى مصدر آخر يتغذى منه سوى التناقضات الواقعية؟ ذلك أن الالتباس لا وجود له إلا على صعيد المجردات التي يفكر الناس من خلالها بتاريخهم. هذا الالتباس لا يعرف سوى نزاعات هي البنى ل"الأزمنة الراهنة" المتعاقبة.
إن إشكالية الانتقال من الاتحاد بين تكوينين اثنين غير متشابهين، والتركيب الجدلي، يعاني، حسب ما يبدو، من هذه التشابكات في خطة العمل، من حيث أن هذه الإشكالية تأخذ، حسب ما يبدو، مرقدها تارة في المجال الإيديولوجي وحده، وتعود، تارة أخرى، إلى التحليل الطبقي. إلا أن الهدف في هاتين الحالتين هو نفسه: اقتران التقدم الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي والثقافي، بشخصية تستمد ببطء نمطها من التاريخ. إذن، ما هو الحل؟ المخرج الأول قوامه ضمان "المرور" عبر الإيديولوجية نفسها لأن هذه الأخيرة غير قابلة للقهر. الأمر الذي يتيح لنا، لما كان الأمر كذلك، أن نطرحَ السؤال التالي: "لما كان الدليل يؤكد أن المعاصرة ليست من مهام السلفيين المستسلمين للأصولية، كيف لنا، والحال كذلك، أن نَدمُج هذا النمط من الميل الإيديولوجي، في صيرورة التقدم الوطني القابلة للإنجاز؟ (ص 509). أليس الاندماج بالسلفية بمثابة الانعكاس الخيالي للموضوع. انعكاس ينفي الموضوع التاريخي، ينفي الشخصية التاريخية المصرية، طالما يقود إلى الظن بأن الانعكاس (الشخصية التاريخية بمنطق السلفية) هو الموضوع، وليس الشخصية التاريخية (الواقعية) التي ينفيها الانعكاس؟ هذه المسألة هل هي قصر على فترة بدء النهضة الأولى؟ عبد الملك ينفي أن تكون قصرا عليها عندما يؤكد أن " العمل في العمق للأصولية الإسلامية، من عبده إلى الإخوان المسلمين والضباط الأحرار" يعطِّل المعاصرة الليبرالية، بما في ذلك الماركسية، وما يزال يحمل "التباسا نظريا" في التفكير. إذن، أين يوجد مرة أخرى هذا "الالتباس" الذي يفتقد إلى مرقد له في الأصولية والمعاصرة معا؟ ألم يجد مرقدا لها في الفكر؟ هذا عن المَخرج الأول. المخرج الثاني، على النقيض من الأول. إذ هو مبني على التحليل (الماركسي) للطبقات، يتقصى الانشقاقات من جذورها، ويفضح ما تحمله الأصولية من إيديولوجية رجعية، فإنه يقترح " من أجل إنجاز التحويل الجذري للمجتمع والإيديولوجيا بصورة ملموسة، وبالثورة، يقترح التركيب الجدلي النقدي ما بين مختلف مكوِّنات الإيديولوجية الوطنية". فهل يتَّسع المكان للحديث عن "تركيب جدلي"؟ ألا نجد أنفسنا، بعد كل ما تقدَّم، أمام ضرورة الاعتراف بوجود التباس صريح، حسب ما يظهر هنا هذه المرَّة، لدى الكاتب الذي، وإن كان يَعْتَبِر أن المخرج الثاني هو ما يقترحه، فإنه يُبقي على المخرج الأول من حيث الممكن. "إن المشكلة التي تَطرح نفسها هنا هي التالية: هل يجوز لتمييز إيديولوجي مبني هو نفسه على أسس من رؤية إيديولوجية مخالفة للعالم، أن تستمر إلى ما لا نهاية بدوافع إيديولوجية، (ص 507)، وتصبح فعالة مالم تستند إلى تمييز بين الطبقات والجماعات الاجتماعية المتنازعة في ما بينها من أجل حيازة سلطة القرار في الدولة الوطنية؟. الموضوع هنا يتعلق بتحليل إيديولوجية بعينها، الأصل، الدستور، المفاهيم، الوظيفة. إن جوابنا ينفي أن يكون للإيديولوجيا مثل هذا الدور: إن الفعالية تفترض تكوُّن مؤسسة تمثل الشعب، دستورية، لا وجود لها مالم تستند إلى سند هو وحده المؤهل لإنجاز أفضل تشكيلات التلاحم. لكن المشكلة تبقى ماثلة أمامنا عندما يتعلق الأمر بقياس ما يحمله المجال الإيديولوجي من طاقة على الوجود والاستمرار والاتساع بالاستناد إلى دوافع الخصوصية الإيديولوجية. إن الجملة الأخيرة تناقض سابقاتها: المشكلة هنا تتعلق بتحليل أيديولوجية بعينها. لكن هذه المشكلة لا تقتصر على موضوع واحد، ما دامت على الأغلب مرتبطة بالتقنية ضمن التأسيس لعلاقات الإيديولوجية بمحيطها، وهي إيديولوجية، وعنها تنفصل بالاعتماد على تقنيتها. فهل المعنى المقصود يفيد بأن ما هو إيديولوجي في بعض الحالات على الأقل، لا يستمد مرجعه سوى من نفسه. إن المشكلة إذن مشكلة واهية حسب ما يعرضه النص في مطلعه.
***
فلنذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مهما كانت المخاطرة، حتى وان كان مثل هذا التقدم قد يجعل منا محام عن الشيطان: ما هي حالة الخصوصية؟
عبد الملك يضع مرقدا لها على ثلاثة مستويات:
اقتصادي: راجع المفهوم الثاني الوارد ذكره أعلاه.
سياسي: الاتحاد بين مكوِّنات مختلفة في ما بينها ضمن الدولة.
إيديولوجي: "الفرعان الثنائيان" ما بين إيديولوجية "صريحة" وإيديولوجية "ضمنية".
فلنلاحظ على الفور إحدى سمات هذا التصنيف وما ينطوي عليه من منطق لا يخفى معناه على أحد: إن المستويات الثلاث متراصف الواحد إلى جانب الآخر. إنها ليست مراتب متدرجة (ميكانيكية؟). إذ إن (أ) و (ب) مترابطتين بصلة العلية: إن الاتحاد ضمن الدولة يَنتُج عنه "اكتفاء الإيديولوجيا بذاتها" من حيث هي أحد التعبيرات العضوية لها (ص 497). إن (أ) لا يتمخض عنها بصورة مباشرة سوى نتيجة نظرية – سنعود إليها لاحقا –، ويتمخض عنها بصورة غير مباشرة فعل في العلاقة ما بين (ب) و (ج) ضمن تكوين الإيديولوجية الوطنية، وذلك عبر التحليل الطبقي، وما يلازمه، حسب ما رأينا ذلك أعلاه، تارة من الاعتراف به، وتارة أخرى من نفيِّه. على هذا النحو، فإن (ب) تمارس دور الوسيط، في ما تصبح (ج) الحيِّز المفضَّل للتحليل، وذلك في ما تبقى (أ) معزولة نسبيا.
والحال، أليست الدولة هي دوما "القوة الإيديولوجية الأولى"، على حد قول إنجلز؟ إن الخاصية "المائية" لمصر (القديمة)، وخاصية الحكومة الربانية بإشراف رجال الدين في الدول التي انبثقت عن الإمبراطورية العربية – المسلمة، تتَّهم هذه المعاينة بأنها عامة، ويُعثر عليها في أمثلة غيرها، ممن عَرِف حدَّا ما من التطور.
وهل التمييز بين "الصريح" و"الضمني" خاصية تنفرد بها مصر عن غيرها من الدول؟ مرة أخرى الجواب ينفي ذلك. فإن هذا التمييز يبيِّن، في أحسن الأحوال، تحت تأثير تضخيمه، المسافة الفاصلة ما بين إيديولوجيات معلنة رسميا (دولة)، أو معدَّة من الناحية النظرية (نخبة)، والأشكال الإيديولوجية المتنوعة التي تمد الجماهير في حياتهم اليومية بعلاقتهم بالمجتمع. هذا يصح بصورة أعظم عندما يتعلق الأمر، من جهة، بدينامية اقتصادية مفاجئة (بناء قطاع رأسمالي)، وعندما يتعلق الأمر، من جهة ثانية، بسكان استعصى عليهم الانتقال المتطور إلى ما هو خارج نشاطاتهم التقليدية (الزراعي)، وهم، بالعلاوة على ذلك، أميَّين. غير أن هذا الحيِّز لا يتسع لأية خصوصية: إن كل مجتمع من هذا الشكل أو من غيره قد عَرِفَ مثل هذا الالتواء.
أما في يتعلق ب/"باكتفاء الإيديولوجيا بنفسها" إذا ما فهمنا من ذلك، حسب ما يبدو في (ص 506) أن الأفراد والجماعات الاجتماعية تستطيع الانتماء إلى إيديولوجيات غير مستمدَّة من ظروفها الاقتصادية-الاجتماعية، فإن الأمر لا يعدو كونه بديهيا. ذلك أن وكلاء إيديولوجية ما (مرضاها في الواقع) نادرا ما كانوا هم أنفسهم مؤلفيها. فمنظرو الأصولية الإسلامية لا يتوجهون إلى الفلاح، وإنما هم يتحدَّثون من أجل الفلاح. إنهم يتحدَّثون مستفيدين من صمته المفروض عليه لضمِّه إلى أصوليتهم، وكي ينتفعوا به. هذا من جهة. ومن المؤكد بقوة، من جهة ثانية بوجه خاص، أن وظيفة كل إيديولوجية حمل أفراد آخرين للانضمام إليها. وظيفتها أيضا حمل شرائح اجتماعية غير منتمية بصورة مباشرة إلى أصولها الطبقية، والاستفادة منها بصورة موضوعية. إن الإيديولوجية الوطنية (أو القومية) ربما تعبِّر بصورة أفضل من غيرها عن هذه الحالة، من جراء اختلاطات ملازمة لاعتمادها على الأكثرية. هذا الأمر لا يصح فقط على النهضة المصرية الأولى والثانية، وإنما يصح أيضا على فرنسا اليوم. فلو أن بعض شرائح الطبقة العاملة لا تصوِّت لديغول، ولو أن شرائحا من البورجوازية الصغيرة تتخلى عن عدائيتها للاشتراكية، لكانت الثورة في فرنسا وراء الأبواب... هل ما يَرِدُ ذكره هنا يختلف عن تلك الحقيقة القديمة (والحديثة) التي وردت في "الإيديولوجية الألمانية". أي "أن أفكار الطبقة المسيطِرَة هي نفسها أيضا الأفكار السائدة". بمعنى آخر أن الأيديولوجية الصريحة المُعْلَنَة تنتشر في الطبقات، في الشرائح والجماعات الاجتماعية المُسَيْطَر عليها من داخل الإيديولوجيات نفسها، سواء كانت صريحة أم لم تكن صريحة. إيديولوجيات هي بمثابة قناة تمر عبره للإعلان عن شخصيتها.
ما الذي يتبقى من الخصوصية؟ عنصران اثنان يُبرِّران فكريا، حسب ما يبدو لنا، ما يحظى به ما هو إيديولوجي، بالامتياز:
1)- عامل موضوعي: واقعةٌ مؤداها أن السياسة والدين لم ينفصل، حتى غاية الآن، أحدهما عن الآخر بصورة حقيقية. فمرجعية الإسلام ما تزال أيا كان شكلها مسَيطِرَة إيديولوجيا، وهي على المدى (؟) المتوسط، وبصورة حرفية، غير قابلة للتجاوز. بل وإن "الاشتراكية" نفسها ملزمة بخلع سترتها أمامها. الأمر الذي يعود لسببين اثنين مترابطين ما بينهما. السبب الأول متأت من كونها مشتقة من نفسها: إنها تحافظ وتُصلح خلال مرحلة الدولة الوطنية، حسب ما يرى عبد الله العروي، وخلال المرحلة القومية على حد قول عبد الملك، تحافظ وتصلح الهوية الثقافية، وذلك ما بقي التأخر الاقتصادي على حاله. السبب الثاني خارجي المنشأ مرتبط بالتهديد الإمبريالي المستمر، والذي يزن بثقله على هذه البلدان. هذا أمر لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح.
2)- عامل موضوعي-ذاتي: الأنتليجينسيا في البلدان المسلمة مكوَّنة بصورة ثابتة ضمن تناقض واقعي قوامه أن الأفراد يستطيعون ممارسة حياتهم كل حسب بنيته النفسية. إنها في الواقع ضحية لقطيعة ثلاثية مع الجماهير: من حيث موقعها الاجتماعي (الاقتصادي الثقافي بوجه خاص)، من حيث أنها تَجمع الأكثرية، حتى غاية اليوم (وإن كان ذلك يدخل في طور التغيير) وتحت تأثير الأجنبي، من حيث أفكارها، ومن حيث رؤيتها للعالم إذا ما تحدَّثنا بلغة الشمولية. وإنها تريد لنفسها، من جهة أخرى، أن تهب نفسها للأمة، ومنح أفضل خدمة للأمة بأسرها. هذا تناقض لا ينجو – وهو أمر بديهي – من الوقوع في تكرار ذاتي غالبا ما يكون دراماتيكيا.
فإذا كان من المؤكد أن المثقف العضوي أكثر من غيره، في مثل هذه الشروط ،هو الرابح، أي المثقف الذي يأخذ أصغر المسافات ابتعادا عن المرجع الديني، فإن ذلك لا يعفينا، كل حالة حسب نوعها، من رؤية ما قد يكون حجة يختبئ وراءها، خدعة، نفاقا أو أصالة حقيقية.
إن هذين العنصرين يقودان إلى التفكير أننا بالفعل أمام ظاهرة مؤداها أن الإيديولوجيا عامل حتمي ما فوق المحدِّد. فهل تحوز هذه الإيديولوجيا بصورة مطلقة على الخصوصية؟ ألا توضِّح بالأحرى، مع احترام التواضع بطبيعة الحال، الملاحظة التي كان إنجلز يشير إليها في ما يتعلق بالعصر الوسيط الأوروبي، عندما يكتب: "كان من الضروري تقديم المصالح الخاصة للجماهير المشبعة بالفكر الديني وحده، تقديمها إليها وراء قناع ديني؟ هذه الظاهرة تشهد في جميع الأحوال بأن هذه المرحلة لم يتخطاها بعد الزمان. إن المثقفين الحاذقين، على غرار المتسرعين منهم، ملزمون بالتلاؤم مع الإيديولوجيا من حيث هي عامل حتمي ما فوق المحَدِّد، أو أن يستمروا في التفكير بالتناقض عبر الواقع المشوَّه لإشكالية داخلية واحدة لدى الانتليجينسيا.
***
هل الصعيد الاقتصادي هو الحيِّز الوحيد للبحث عما هو خصوصي؟ عبد الملك يدعونا إلى السير في هذا الطريق مستنتجا مما هو خصوصي نتيجتين نظريتين تستحقان التفكير. فلنعد بدايةً إلى تعريفه لمصر. إنها برأيه "تشكيل اجتماعي-اقتصادي رأسمالوي متأخر من النمط الكولونيالي، يتفوق فيه الحقل الزراعي على غيره". يبدو لنا أن "الرأسمالوي" هو السمة الفريدة، أو المتفرِّدة. ذلك أن ما يلحق بالرأسمالوية في التكوين المصري، إن لم يكن بوجه الدقة مرادفات، فإنه غالبا ما يكون، في غيره من السياقات الوطنية، شريكا له يُصطَلَح على تسميته العالم الثالث. فما هو معنى "الراسمالوي"؟ الجواب يفيد بأن قطاعا رأسماليا في طور التطور، كان موجودا في مصر. قطاع رأسمالي بكل ما يُفترض وجوده على صعيد البنى التحتية (الانفتاح نحو استقلال واقعي)، وعلى الصعيد الاجتماعي تشكل بورجوازية من الأهالي الأصليين، وإعادة توزيع العلاقات ما بين الطبقات. غير أن نمو هذا القطاع الذي كان انطلق بنجاح مع محمد علي، تعطَّل من جراء الاحتلال البريطاني. ها هنا، فإن الإيديولوجيا والنهضة الوطنية تُمَثِّل الصدمة الثقافية المضادة. هذه الصدمة الثقافية المضادة تتضمن مكوِّنات نظرية. منها ما يتعلق، من جهة، برفض التفسير الإقطاعي، بما في ذلك "الشرقي" منه، والذي جاء الحديث عنه أعلاه، والذي كان يَقترح، على نقيض من الصيرورة الغربية، منح "الظاهرة القومية" حقها من العناية. هذه الصدمة الثقافية المضادة تتضمن، من جهة أخرى، توفر الفرصة أمام "إغناء المفهوم الرأسمالي (الغربي) بصورة بنيوية " (ص 499). إن أطروحة أنور عبد الملك، في ما يتعلق بهذه النقطة الهامة، هي التالية: إن تحليل التكوين الاجتماعي-الاقتصادي لمصر مرتبط لزوما بمفهوم الرأسمالية. غير أن هذه الرأسمالية نتاج لتاريخ آخر مختلف،" غير خاضع لأشكال "الرأسمالية الكلاسيكية"، حسب ما كان ماركس، بصورة خاصة، درسها وعرَّفها (م.س.). ما بين هاتين الرأسماليتين، على حد التحذير الموجَّه من عبد الملك، فإن الاختلاف ما بينهما، بأنظاره، ليست نوعية، وإنما هي كمية (م.س.). الأمر الذي يَفرُض بحثا يتعلق ب/"التكوين الطوبولوجي (الهندسي- المترجم) لمختلف أنواع الرأسمالية"(م.س). إن هذا التوضيح، وإن كان يُلغي التفسير الإقطاعي (اختلاف من حيث الطبيعة)، إلا أنه لا يقود، في هذه الأثناء، بخلاف ما هو متوقَّع، إلى تبني التحليل الماركسي. إن مفهوم الرأسمالية في تفكير عبد الملك، "إذ هو يأخذ معناه بمقاربة بنيوية غير ملموسة"( ص 498)، وأوروبية متمركزة على الذات، قد ألحقت برأيه "غاليا" العقم بالتفكير النظري في القارات الثلاث (م.س). فهل يقتصر الأمر هنا على التحفظ؟ إذ إن الرد على هذ الخلط بين الدراسة العلمية لنمط الإنتاج الرأسمالي، من حيث ماهيته لدى ماركس، وبين الأشكال التاريخية المتنوعة للرأسمالية، إن هذا الرد متيسر. لاسيما وأن الخلط بين تفسير ما لمفهوم الرأسمالية، وبين عمل رأس المال، موضع لتبديده دونما صعوبة.
غير أن الموضوع هنا ليس مجرد تحفظ بسيط، ما دام عبد الملك، حسب ما يبدو، لم يعد يأخذ من المادية التاريخية سوى ما يسميه "الماركسية الكلاسيكية"، أو، بتعبير آخر، مجرد تقنية مبسطة للظواهر الاجتماعية. إن هذا التقليص للمادية التاريخية، والذي يظهر في "الإيديولوجيا والنهضة الوطنية"، كان أيضا ظهر بوضوح في مقال له سبق نشره في مجلة « L’Homme et la société »ن الأأنن "الإنسان والمجتمع"، حيث يُلاحظ أن ما كان جاء ذكره في ما يتعلق بالرأسمالية، قد اتسع ليشمل الطبقات: "... إن المقاربة السياسوية حيث تسود الدبلوماسية، ما أن تُحَدَّد حدودها، حتى تقود التحليل على ثلاثة مستويات. قبل كل شيء آخر، نبدأ ببنية الطبقات حسب المنهج المتمركس الكلاسيكي. ذلك أن الطبقات، والجماعات الاجتماعية، والمؤسسات تختلف، حسب ما هو معروف، تختلف في هذا الشرق الذي يُلَمْلَم من هنا وهناك، عنها في الغرب، وبوجه خاص في بريطانيا التي كانت الحقل الإبستمولوجي (نظرية المعرفة) لماركسية كارل ماركس" (ص9). ها هنا لم يعد للخلط وجود: إن التشابه ما بين "النماذج" التاريخية المتنوعة تقلِّص على خير وجه الماركسية، وبارتياح، إلى مرافعات القرن التاسع عشر. أي، إن الماركسية ليست علما.
***
وبالرغم من ذلك، فإن عبد الملك يعلن، في نص له، عن تمسكه، من نواح عدة جديرة بالملاحظة، بالماركسية من حيث هي علم، حيث يعرض لمواقعه الأبستمولوجية في يتعلق بذلك. هنا يخلو النص لديه من أي تناقض. إنه يميِّز بوضوح بين ماركسية "كلاسيكية" صالحة للمجتمعات الصناعية المتقدِّمة، وبين "أداة للتحليل"، هي وحدها القادرة على الاعتراف بواقعية القارات الثلاث. إن الصلة ما بين هذين الشكلين من الماركسية أكيدة، حسب عبد الملك الذي يتفق، في ما يتعلق بذلك، مع س. ورايغت ميلس C. Wright Mills ، بشأن "مبدأ الخصوصية التاريخية"، والذي كان ماركس اشتقه. ماركسية بوجهين اثنين. الوجه التقني، والذي ما يزال مفيدا، والملتفت نحو الماضي، (أي نحو العالم الغربي الأوروبي). ثم وجه البحث الملتفت نحو القرن العشرين (أي نحو عالم "القارات الثلاث"). أفلا نجد هنا التفسير النظري لما كنا لقيناه من تشابكات، والتي كنا نظن أننا عثرنا عليها في الإيديولوجيا والنهضة الوطنية؟
نرجو أن لا يساء فهم مقاربتنا. إننا أبعد ما يكون عن تجاهل ما تستحقه منشأة عبد الملك من قيمة وتقدير. بل، وإننا ندرك أفضل الإدراك بالدوافع التي تؤسِّس لها. إنها قادمة من ماض بعيد، قاسى خلاله أنور عبد الملك وكل المدرسة الماركسية المصرية من التفسير الخاطئ، اليقيني، والبيروقراطي للماركسية، والتي كانت مصدرا لرد فعل معاكس تجلَّى، حسب ما هو معروف، بمختلف المحاولات النخبوية والانتهازية. ومن المؤكد أن المهمة الملقاة على المناضلين الثوريين لم تكن يسيرة. هؤلاء وقعوا خلال فترة سجناءً لبناء فكري-سياسي لا يستجيب للشروط الوطنية لنضالاتهم. ثم شعروا أنهم أسرى وحدتهم وقد أُلقي بهم إلى الفراغ النظري. إن المسألة بالنسبة إلينا لا تتوخى أبدا توجيه الاتهام لجهود الذين، على غرار عبد الملك، لم يتخلوا أبدا عن الطريق العلمي للبحث. هؤلاء، ممن تتضاعف أعمالهم (ولنقل ذلك رغم كل شيء، في الظروف الموضوعية الجديدة). أيضا، إن المسألة بالنسبة إلينا، ومهما أمكن لنا ذلك، تَنهى عن الاحتجاج على ما يأتي عنهم من مبادرات التحليل التي تمدُّنا، نحن الماركسيون الأوروبيون، بأغنى المعارف.
وبعد ما تقدم، وهو ليس عبارة ما بين قوسين، فلنعد إلى موقف عبد الملك، ولنقل دون أية سوء نية، إن هذا الموقف، حسب ما يبدو لنا، يرتكب خطأين اثنين من حيث النظرية، من جراء حالتين اثنتين من "النسيان".
وكنا أشرنا في البداية إلى معنى رأس المال. غير أن الموضوع، بالرغم من أهميته، لا يحتاج إلى المزيد من الإلحاح. رأس المال، إما أنه يؤسَّس لعلم، المادية التاريخية الذي يضع في حيِّز الممكن، بفضل المراجعة اليومية وتصحيح الواقع المستجد اليومي للمقولات الأساس لنمط الإنتاج الرأسمالي، هذا العلم من حيث هو نظرية عامة لأنماط الإنتاج، من حيث هو الموضوع الصريح للعلم (راجع مقدمة غروندريسي Introduction des Grundrisse ). وإما أن رأس المال لا يؤسِّس إلا لتشخيص تكوين اقتصادي تاريخي معطى. في مثل هذه الحالة، فإن المادية التاريخية لا تعدو كونها مربعا في الكلمات المتقاطعة، أو رقعة في ساحة الشطرنج. في الحالة الأولى، التي تُعتبر برأينا صحيحة، فإن "علاقة الخاص بالشامل"، ليس أمرا آخر سوى العلاقة ما بين كل خطوة علمية بموضوعها من أجل تكوين المعرفة بشكل المفاهيم. ومما لا شك فيه، أن ماركس، في هذا الصدد، ترك لنا من العمل، اعتبارا من التأسيس لعلم المادية التاريخية، أكثر مما أنجزه هو بنفسه. في الحالة الثانية، حالة عبد الملك، فإن الخصوصية تحجب الشامل الذي يرحل إلى حِيِّز المستقبل، كما تُستَبدَل المادية التاريخية ب/"سوسيولوجيا الحضارات". وعلى هذا النحو، فإن المادية التاريخية، سواء شئنا ذلك أم أبينا، تَرحَل إلى التفسير العلمي والوصفي في الفلسفة التجريبية.
إن المبادئ (الجميلة)، لا تتعارض برأينا مع الوقائع (العنيدة)؟ إن "النسيان" الثاني يجيب على هذا الاعتراض. إنه من الأهمية بمكان. كما وإن مقاربتنا في إطار هذا المقال، لا تتلاءم مع هكذا تعارض. فلنفصح فقط عما صدمنا أكثر من غيره. إننا لن نسكت عنه. إن ما يصدمنا لدى قراءتنا للإيديولوجيا والنهضة الوطنية هو غياب أية إشارة للينين. والحال، إن مبحث الخصوصية الوطنية، وهو يتناول هنا بالبحث تكوينا اقتصاديا اجتماعيا مغايرا للتكوين الذي كان يُمَثِّل قاعدة للعمل لدي ماركس، ألا تجد المنشأة اللينينية فيه حقها من الاعتبار؟ ألا تمدُّنا، دونما وجل من الكلمات القاسية، بالنموذج النظري الذي يستطيع تكوين المعقولية الجلية، موضع البحث هنا؟ إن روسيا ما بعد إلغاء الرق قد دخلت بصورة واسعه، ودونما عقبات، في التشكيل "الكلاسيكي" الداخلي للبلاد، والخارجي ( في الحركة العمالية للأممية الثانية)، وكانت غنية بالمعاني التوضيحية. أليس تطور الرأسمالية في روسيا تعبيرا عن علم رأس المال وفعلا له؟
إننا أبعد ما يكون عن اعتبار عقيدة ماركس عقيدةً بلغت منتهاها. عقيدة مقدَّسة لا تُمَس. على النقيض من ذلك. إننا مقتنعون أنها أرست فقط حجر الأساس للعلم. يبقى على اليساريين أن يُنجزوا تقدمه في جميع الاتجاهات إذا كانوا لا يريدون الجري وراء الحياة دون بلوغها. إن تطوير نظرية ماركس مهمة كانت تقع على عاتق الاشتراكيين الروس بأنفسهم. ذلك أن هذه النظرية لا تكشف سوى عن مبادئ عامة توجيهية تأخذ طريقها إلى التطبيق في كل حالة خاصة، في بريطانيا غيرها في فرنسا، وفي فرنسا غيرها في ألمانيا، وفي ألمانيا غيرها في روسيا...
هذا نص كتبه لينين الذي استمر طوال سنوات، وأكثر من أيٍّ غيره سواه، يعالج الخصوصية "الروسية". معالجة كانت موجَّهة إلينا.
فلنضف كلمة واحدة وإن كانت عديمة المهارة: إن "الحالات المتشابهة" لا تنسى، في الظاهر على الأقل، التشابه ما بين روسيا المقدَّسة ومصر القديمة، إلى حدِّ أن سمات إحداهن يمكن لها، على خير وجه، أن تسري مع الأخرى على جميع الصعد، اقتصادية، سياسية وإيديولوجية. فلينين، الذي يعالج الحالة الروسية، في نفس الموقع التاريخي الذي يعالج فيه عبد الملك الحالة المصرية، ألم يصطدم بالعقدة الإشكالية للرأسمالية المتأخرة، للاستغلال الأجنبي، لسيطرة الزراعة، حالة من دولة قوامها الاتحاد الوثيق بين تكوينات غير مستشابهة، وحالة، أيضا، من التضخم الإيديولوجي إلخ؟
فنتخط ذلك مادام تبُشكِّل إعادة لما بيّناه سابقا إزَّاء هذه الثغرة التي لا تجد تفسيرا لها. ثغرة النسيان الذي يلحق بالممارسة اللينينية في مؤلَّف عبد الملك. فالملاحظات الثانوية التي أبديناها خلال هذه الصفحات لم يكن الغرض منها أمرا أخر سوى التذكير بخصوبة الممارسة اللينينية. إننا مقتنعون بأن عبد الملك لا يجهلها. عبد الملك لا يحمل نية ترجيح ماركسية خصوصية ما. ماركسية، هي بالنسبة للنظرية، ما هي الممارسة السياسية للاشتراكيات الوطنية التي تطارد آذاننا بقسوة ليل نهار. أنور عبد الملك كان سجين موضوعه، وقد توغَّلَت الخصوصية المصرية إلى أفكاره أكثر مما يجب. حتى أنه انصرف عن وضع حدٍّ لها بصورة مقبولة. إننا من جهتنا نترك لديه بالتوكيد انطباعا بأننا ضخَّمنا أكثر من اللازم تلك الثغرات. لذا، فإننا مستعدّون كامل الاستعداد، للتعويض عن دور نكد مارسناه إلى أقصى حدٍّ، أن نحوِّل كل ملاحظاتنا إلى أسئلة. لاسيما وأننا لسنا أكثر مصرية، منا...روسيين. لكن العلم الذي ندافع عنه سويَّة، ليس كما قال موديبو كيتا ( الرئيس الأسبق لجمهورية مالي-المترجم) ذات يوم على خير وجه، ليس بدوره أيضا علما.
باريس، شباط/فبراير 1970