ثورة الخامس عشر من آذار: التآمرُ سياسةُ الثورة المضادة، حاكمُها، المتحكِّم بها وحكومتِها (*)
حسان خالد شاتيلا
الحوار المتمدن
-
العدد: 4304 - 2013 / 12 / 13 - 19:35
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
ثورة الخامس عشر من آذار:
التآمرُ سياسةُ الثورة المضادة، حاكمُها، المتحكِّم بها وحكومتِها (*)
تكاد ثورة الخامس عشر من آذار أن تَبلغ السنة الثلاثة من تاريخها. ثلاث سنوات والثورة المضادة باختلاف تكويناتها، السلطة المهيمنة، الجيش الحر، هيئة التنسيق، المجلس الوطني، الائتلاف الوطني، والقطب الديمقراطي، وغير ذلك من تنظيمات هي أشبه ما تكون بالشلل والنوادي والجمعيات، تتأهب الآن ،على عتبة انعقاد مؤتمر جنيف الثاني، لاستقبال العام الرابع من عمر الثورة على مسارات التآمر التي كانت استهلَّت بها الثورة منذ يومها الأول، في الساحة الدولية والإقليمية وعبر عواصم الإمبريالية، التي تسيطر اليوم على الشارد والوارد في المنظمات الدبلوماسية الدولية، وتُحكم بقبضتها الحديدية المزيَّنة بقفازات دبلوماسية بيضاء من الحرير المزركش، على غير ذلك من منظمات تابعة لمنظمة الأمم المتحدة. ناهيكم وأن الاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمم المتحدة، وقمم الثمانية، وقمة العشرين، ومنظمة التجارة الدولية، والبنك الدولي، ومنظمات حظر أسلحة الدمار الشامل، هي اليوم أجهزة وأدوات للعولمة النيوليبرالية. إن ما يُسمَّى ب"المعارضة" في سورية، بتكويناتها المختلفة، وعلى رأسها الائتلاف الوطني، مُدَمِّرة إيديولوجية فتَّاكة، أو دبابة إيديولوجية تدهس المضامين الاقتصادية الاجتماعية للثورة، وترمي المجتمع بقذائف من المبادئ الإنسانية، كحقوق الإنسان، المواطنة والديمقراطية، مبادئ منفصلة عن الواقع الاجتماعي، أو منقطعة عن كل ما هو برنامج سياسي من الممارسات، هي المسؤولة، شأنها شأن بشار السفاح، عن تفريغ الثورة من مضامينها الاقتصادية الاجتماعي. مسؤولة، زد على ذلك، عن حالة الفوضى السائدة من جراء افتقاد الطبقات الشعبية إلى تنظيم ثوري يَنتقل بالثورة من حالة العفوية إلى العمل الواعي المنظَّم. مسؤولة ، علاوة على ذلك وفي المقام الأول، عن تحويل الثورة من ثورة شعبية إلى قضية بين أيدي السياسة الدولية الإمبريالية.
من سايكس بيكو، إلى بريماكوف كيري:
إن الثورة المضادة التي تستعد للذهاب إلى مؤتمر جنيف الثاني، وهي متمسكة بأن مشاركتها فيه مرهون بإقصاء بشار السفاح عن أعماله، ويتوقف أيضا على استبعاده عن المرحلة الانتقالية ومن مستقبل سورية السياسي، الثورة المضادة التي نفَضت يدها من كل ما يتعلق بالأحوال المعيشية للطبقات الشعبية، وأَغلٌقت على ملف الجولان ومستقبل العلاقات مع الدولة الصهيونية في صندوق المرحلة الانتقالية، مقتنعة قناعة لا يتسلل إليها أي شك، أن مؤتمر جنيف الثاني الذي يتوق إلى رسم مستقبل سورية والسياسة الإقليمية، ما هو سوى سان ريمون جديد، وأن سورية التي وُلِدَت من أحشاء سايكس بيكو، تضع اليوم مستقبلها السياسي، ومستقبل الأوضاع السياسية الإقليمية، بين أيدي بريماكوف كيري. إن مؤتمر جنيف الثاني يكرِّس السيطرة الإمبريالية على سورية. مؤتمر بريماكوف كيري يعادل، من حيث ما تمارسه السياسة الدولية الإمبريالية من استقطاب للسياسة البورجوازية، عبر المنطقة الممتدة ما بين جبال زغروس وكردستان، وجبال الأطلس، يعادل سايكس بيكو.
ثلاث سنوات، وأربع سنوات عما قريب، من سياسة ذات اتجاه واحد أحد، فقط لا غير، قوامها التدخل الخارجي، تشجيع الدول الإمبريالية عليه، استجداؤه منها، بالإضافة إلى تسوُّل الأسلحة منها، وتقاضي الأموال من آل سعود وأل خليفة وآل نهيان. سياسة محشوة في حقيبة يد من الحجم الكبير، من أجل ملف واحد في طيها يحمل عنوانا رئيسا تحت اسم التعاون مع السياسة الدولية، وعناوين ثانوية كالتدخل العسكري للحلف الأطلسي، فرض الحظر الجوي، المناطق العازلة، والتحالفات العالمية للجيش الحر من أجل إسقاط النظام. فإذا ما انتهت السنة الثالثة من عمر الثورة على هذا المسار من المؤامرات، فإن الحقيبة السياسية لقوى الثورة المضادة ستتسع للمزيد من العناوين الثانوية ذات الصلة بالتدخل الخارجي ل"إنقاذ الشعب السوري"، وإن كانت تنحو بمنحى ينادي بدولة القانون، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. لكن الملف الأهم لثورة الخامس عشر من آذار، لم ولن يتسع له أي حيِّزٍ في هذه الحقيبة. ملف التكوين الاقتصادي الاجتماعي في سورية، مرفق به البرنامج الاستراتيجي من أجل إنجاز أهداف الثورة الشعبية. إن محتويات الحقيبة السياسية للثورة المضادة اتسع حجمها بصورة مبالغ فيها، حتى أن مصنفاتها اتسعت لتفسح المكان بحيث تستوعب فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ومصر وإيران والصين وآل كذا وكذا، والبنوك والحسابات المكشوفة والمخفية. أما التنظيم الشعبي للثورة، وبرنامج الانتقال نحو الديمقراطية، ومستقبل الاقتصاد والمجتمع في سورية، والسياسة الدفاعية ما بعد سقوط النظام، والجولان والقدس وملايين اللاجئين، والأزمات الاقتصادية الاجتماعية التي ستفترس سورية في عهد انتصار الثورة المضادة، ،أزمات اللاجئين السكنية والمعيشية والمهنية.، فإنها لا تجد مكانا لها في هذه الحقيبة. باختصار شديد لا يخفى مضمونه الواسع على أحد، فإن سياسة الثورة المضادة قوامها التآمر المقترن بالتدخل الخارجي العسكري وامتداداته من خلال الجيش الحر الذي يتقاضى كل نفر منه أجرا شهريا من جيوب آل سعود، أل نهيان، آل خليفة والكونغرس الأمريكي. سياسة تفتقد بصورة كاملة إلى معالجة الأزمة التاريخية التي استقرت حتى النخاع في التكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية. أي إعادة تنظيم الاقتصاد، والمجتمع، والتربية، والسكن، والصحة العامة، والدفاع، والمؤسسات الديمقراطية أو تنظيم نمط الحكم السياسي.
التآمر مصدر للاستبداد:
من خصائص السياسة المتآمرة، أن منظماتها لا تعير أي اهتمام لمكونات التكوين الاقتصادي الاجتماعي. هذا هو الجلي الواضح كما يظهر عبر وثائق المعارضة السورية، حليفة السياسة الدولية الإمبريالية. فبرامجها تُلغي القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وبوجه خاص الأحوال المعيشية والحياتية للطبقات الشعبية، لتصب اهتمامها على مؤتمر جنيف الثاني. إن المبادئ، كحقوق الإنسان، والحريات السياسية، والمواطنة، والديمقراطية، والمجتمع المدني، إذ هي أبعد ما تكون عن البرنامج السياسي، وكانت، علاوة على ذلك، تؤجِّل البت، من قريب أو بعيد، بالقضايا المصيرية، كمستقبل الجولان، والعلاقات مع الدولة الصهيونية، بحجة أن هذه الموضوعات مؤجَّلة إلى ما بعد سقوط نظام بشار الجزار، فإن سكوتها عن الأحوال المعيشية للطبقات الشعبية، وصمتها الرهيب حيال الجولان، ينبئ منذ الآن أن ما هو مخفٍ من مؤامرات، أو ما كان ظاهرا منها، هو الذي يُسيِّر اليوم وغدا وما بعد ما هو آتٍ، سياستها. إن التآمر عقلية بورجوازية معادية للمجتمع والوطن، إذا ما هي بدأت، كما هو حال البلانكيين في روسيا القيصرية، والائتلاف الوطني، المجلس الوطني، ميثاق دمشق، وهيئة التنسيق في سورية، فإن هذه البداية لا نهاية لها، طالما يَشْغَل التآمر مع السياسة الدولية، كما مابين الأحزاب البورجوازية للسيطرة على السلطة أو سرقة الثورة، وظيفة القلب في محرك الاستغلال، والاستعباد، والتسلط. بل، وإن تاريخ هذه التكوينات ، بدون استثناء أي منها، كان منذ عهد الاستقلال دوما وأبدا مرتبطا بالعامل الخارجي، متآمرة معه أو في ما بينها للاستيلاء على السلطة. زد على ذلك، أنها لم تمارس الديمقراطية في تاريخها، لأن رواسب الاستبداد الشرقي مستحكم بها، من جهة، ولأن سورية، من عهد البرلمان الكولونيالي خلال الانتداب الفرنسي، إلى مرحلة ما بعد الاستقلال التي كانت تحت سيطرة الجيش، إن بصورة مباشرة أم من وراء الستار، كما هو الحال أثناء عهد الرئيس هاشم الأتاسي، وعهدي الرئيس شكري القوتلي، ناهيكم وبرلمان الانفصال وحكوماته التي كانت تتقلب على وقع الجزمات العسكرية، لم تَعرف النظام الديمقراطي يوما واحدا في تاريخها.
الصلة وثيقة بصورة لا تتسع لأي فصل ما بين سياسة التآمر وسياسة الاستبداد المطلق. إن سياسة المعارضة، إذ هي تَموضُعٌ حول السياسة الدولية التي تسيطر عليها الإمبريالية، ونفيٌ لكل ما يمت بصلة إلى التنظيم السياسي للشعب على مسار الثورة الاقتصادية الاجتماعية، فإنها، وقد تركت الثورة بين أيدي السياسة الدولية، وكانت، علاوة على ذلك، مفرَّغَة من أي برنامج سياسي لقيادة المرحلة الانتقالية، فإنها مسؤولة عن حالة الفوضى التي تسيطر على الحالة السورية. لاسيما وأنها تفتقد إلى أي برنامج انتقالي يضع حدا للفوضى، ويقيم مكانها حالة من النظام. إنها دبابة سياسية، إذ هي، على هذا النحو، تضل طريقها، فتأخذ بمسار السياسة الدولية بدل أن تلتصق بالطبقات الشعبية تنظيميا وسياسيا، فإنها تنحرف بصورة مجنونة لا ضابط لها لتجري وراء بريماكوف وكيري، وغيرهما كثرٌ. إنها، منذ تأسيس المجلس الوطني المنبثق بصورة ما عن إعلان دمشق، تدوس بجنازير من المبادئ "الإنسانية" على المظاهرات الشعبية التي تردَّت، بفضل ما يسمَّى ب"الجيش الحر"، إلى درجة الصفر، وسياسة تلُّف وتدور دوما وأبدا حول مؤتمر جنيف الثاني، أو ما شابه ذلك. تَرَدَّت المظاهرات الشعبية والنضال السياسي إلى عدم مطلق. بالمقابل، ثمة فوضى مُستفحلة بالحالة السورية من جراء خلع ما هو اقتصادي، اجتماعي وقومي، عن الثورة الشعبية، ومن جراء تكوين الجيش الحر من شتى أنواع الخردوات. ناهيكم وأن انتشار الإيديولوجيات التي تتنازع المجتمع السوري استعدادا لتغلب إحداها على الأخريات، بحيث تصبح هي مبرر الدولة وحاميها، تمد الثورة المضادة بأسباب الوجود والديمومة. هذه المعطيات الموضوعية من الفوضى والتآمر تسير بالحالة السورية نحو مرحلة انتقالية تسود فيها "المبادئ الإنسانية" إياها في عالم المثل العليا للبورجوازية. إلا أن ظلَّ هذه المثل العليا على أرض الواقع، أو في ساحة الصراع السياسي، لن يكون لها أي أثر، بالرغم من أنها ستجد لنفسها سياسات تتعايش مع الاستبداد بأشكاله المستحدثة، وتكرِّس لطغيان البورجوازية. الاستبداد المتخفِّي وراء برلمان وليد السياسة الدولية، في وقت تضل فيه المعارضة طريقها نحو عنوان إقامتها، فتطرق أبواب باريس، لندن واشنطن وغيرها، بدل أن تتوجه نحو منازلها وحاراتها وأحيائها لتلتحم بشعبها، إذا ما انتقلت إليها السلطة يوما، فإنها، إذ هي تجهل عنوان إقامتها الأصلي، وكن خندق عميق وعريض يفصل ما بين الشعب والمعارضة، فإن أجهزة "دولة القانون" الموعودة ستغص بالمأجورين والمرتزقة والعملاء والفاسدين، وكانت، علاوة على ذلك، المعارضة غير منبثقة عن الشعب الشهيد، فإنها لن تجد أمامها من مؤسسات للسيطرة على المجتمع وممارسة الحكم، سوى الكذب، والرياء، والتملق، والتسويف، والمراوغة، والتلويح بالعصى الغليظة، وغير ذلك مما يُتقن لسان الاستبداد التلاعب به للانفراد بالسلطة، وممارسة الحكم الجائر.
الجيش الحر أحد مصادر هذه الفوضى المقرونة بالاستبداد طالما يتكون من جماعات هجينة، كتائبها المقاتلة خليط مزيج من المبادئ والمذاهب والعقائد، لا يُعرَف لأي منها برنامجا سياسيا ثوريا. لذا، فإن من غير المتيسر للمراقب الحاذق أن يميِّز ما بين رأسها وقدمها، ما تنادي به من عقائد وما تمارسه من تنكيل وجرائم. الأرجح أنها ستتقاتل في ما بينها، إن لم يكن خلال المرحلة الانتقالية، فقبل ذلك. فإذا كانت السلطة المهيمنة تشجِّع، من جهتها، الجهاديين على الوقوع في الفخ السوري الذي حُفِر بالتعاون ما بين بشار الجزار والسياسة الدولية، وكانت السلطة المهيمنة تَستدرج حزب الله إلى أرض المعركة في سورية حيث سيُدفن في سورية، وقد أصبحت مقبرة مترامية الأطراف لكل من كانت السياسة الدولية والصهيونية تريد إبادته من الساحة السياسية الإقليمية، وذلك في طوق واسع من التكتيكات المنسوجة ما بين بشار السفاح والسياسة الدولية والصهيونية، حول مؤتمر جنيف الثاني أو ما يشابهه، فإن المعارضة، وعلى رأسها الائتلاف، لم تكتف بالتغاضي عن حالة التسيُب التي تطغى على الجيش الحر، بل وإنها لم تسعَ إلى إعادة تنظيم هذا الجيش عسكريا وسياسيا، ما دامت هذه المهمة مستعصية عليها، وطالما كان الجيش الحر عاصٍ على الائتلاف لا يقيم وزنا للمعارضة. جهود الائتلاف في هذا المضمار تكاد أن تكون معدومة. ها هو الائتلاف والمجلس ينحيان أنظارهما عن رؤية الحالة السورية، ليلتفتا نحو تسمية رئيس للوزراء وحكومة سورية في المنفى.
غير أن الفوضى، وإن كان الجيش الحر أحد مصادرها الرئيسة، إلا أن ما ينشره الجيش الهجين من فوضى، قد طغى بفوضاه على أي نظام، بما في ذلك ما هو أشبه بالفوضى منه إلى النظام في أداء الائتلاف وحلفائه لوظائفه. ذلك أن السياسة التي تتمحور حول العامل الخارجي، بدل أن تكرس مهامها من أجل بناء الجبهة السياسية والاجتماعية والعسكرية في ساحة المعركة، فضلا عن افتقادها إلى برنامج سياسي استراتيجي ثوري كفيل بقيادة الثورة نحو المرحلة الانتقالية، فإن الفوضى وَجَدَت أمام هكذا سياسات لنفسها متسعا من المكان بحيث تنتشر وتعم. حتى أنها تسيطر اليوم على الائتلاف، إن لم تكن قد التهمته عبر تعاقب رؤساء للحكومات مجهولي الهوية او ممن يفتقدون إلى ثقة الشعب بهم، ومن جراء نزاعات ما بين تكويناته حيال تشكيل الحكومة الموعودة. ناهيكم وأن الفوضى تعم الائتلاف وحلفائه حيال ملفات مؤتمر جنيف الثاني.
على سبيل المثال، إذا كان إصلاح السلطة القضائية خلال المرحلة الانتقالية يحظى بأهمية عظمى، لأن القانون والحقوق والعدالة إيديولوجية تبرِّر الدولة وتحافظ عليها. وكانت الدولة السورية سقطت بعد انهيار أيديولوجيتها، عندما وضع الجنرال أسد قبضته الحديدية على السلطة القضائية، بالإضافة إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية. فعم َّمنذ ذاك الفساد والظلم والقمع والاستغلال ونهب الثروة الوطنية بعدما أطلق الجنرال المذكور يد أجهزة الاستخبارات التي حلَّت محل الدولة وأيديولوجيتها. المعارضة تتوزع إلى مذاهب وعقائد وفرق دينية ومبادئ إنسانية، متنافرة ومتصارعة. أي إنها تفتقد إلى الإيديولوجية، بما في ذلك الليبرالية منها بالرغم من أنها تزعم انتماءها لها. إن ما تنادي به من مبادئ ومثل عليا ومذاهب إنسانية سامية، وحريات ليبرالية، ليس مؤهلا لافتقاده إلى إيديولوجية يشكل القانون مرتكزا رئيسا لها، لبناء دولة ديمقراطية.
السلطة القضائية تَشْغَل، في ضوء ما تقدَّم بشأن العلاقة ما بين الدولة والسلطة القضائية والإيديولوجية، حيِّزا مركزيا بين مهام المرحلة الانتقالية. غير أن هذه المهمة غير قابلة للإنجاز. بل، وإنها تشكِّل إحدى الأسباب التي تطيل من عمر الفوضى ما بعد سقوط النظام. ذلك أن الائتلاف وحلفاء قد هبطت مقاييسه السياسية إلى حد أن لحس جزمة الإمبريالية، هنا وهناك من بلدان العالم، أصبح شغله الشاغل. إن تردي سياسة الائتلاف وحلفاءه إلى هكذا مستوى سياسي يؤكد، منذ اليوم، وعن يقين لا يتسلل إليه الشك، عجزه أمام بناء سلطة قضائية مستقلة ونزيهة، ويكشف أيضا عما يعانيه من شلل حيال بناء إيديولوجية الدولة، وإن كان ينادي بقيم إنسانية عالية، ويدعو إلى مذاهب على مسار الأنبياء والصدِّيقين، ويحمل عقائد إنسانية سامية.
برنامج المرحلة الانتقالية متقدِّم زمانيا على سقوط النظام المهيمن:
البرنامج السياسي والاستراتيجية الثورية ذات زمان مختلف عما يَلْزم من وقت لإسقاط النظام. فإذا كان إسقاط النظام يسبق زمانيا، على امتداد مجريات الأحداث وتطورها، المرحلة الانتقالية اللاحقة، فإن هذه الأخيرة تبقى معدومة المعنى، أو لا وجود لها ما لم تحز بصورة واضحة، ما قبل سقوط النظام، على مضمون سياسي، اقتصادي اجتماعي وإيديولوجي. ذلك أن اجتياز التوقيت القادم لسقوط النظام نحو المرحلة الانتقالية يستوجب بالضرورة، من حيث هي ممكنة وحتمية مادامت ضرورية، تَشَكُّل برنامج استراتيجي ثوري، ليس فقط فيما يتعلق بما ستكون عليه، وإنما معرفة مُسْبقة بكيفية إنجاز مهام المرحلة الانتقالية. التحالفات الطبقية، التحالفات الحزبية، المستقبل الاقتصادي الاجتماعي للطبقات الشعبية، القضايا القومية ومسألة القوميات، الإيديولوجية أيا كانت، المنظمات الديمقراطية بموجب دستور يُجيز أو يحظر تشييد مجالس شعبية تراقب عمل الدولة وسلطاتها، وعلى رأسها البرلمان من حيث هو إحدى سلطات الدولة، ولا يُشكِّل سلطة اجتماعية، هذا، إن لم يكن متناقض معها من حيث أن الدستور البورجوازي يوحِّد السلطة التشريعية والسلطات الاجتماعية، ويَعْتَبر أن الأولى تمثِّل الثانية وتلغيها. لذا، فإن زمان المرحلة الانتقالية يسبق زمان سقوط النظام، لأن تعبئة الشعب من أجل إنجاز مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية والسلطات الشعبية، وبناء اقتصاد وطني يلبي في المقام الأول احتياجات الشعب، واستعادة الجولان، ومنح الأكراد حقوقهم القومية، هو المحرِّك الأقوى والأقدر على إسقاط النظام من أجل إنجاز تغيير جوهري في التكوين الاقتصادي الاجتماعي.
ثم إن المرحلة الانتقالية هي التي تٌسقط النظام، وليس إسقاط النظام هو الذي يُنجِز المرحلة الانتقالية. فإذا كان الائتلاف وحلفاؤه لم يُعنى سوى بملف واحد، ألا وهو إسقاط النظام بالتعاون مع العامل الخارجي، فإن مصدر الفوضى التي تسيطر على الحالة السورية يكمن ها هنا. إن لسان حال الطبقة السياسية منذ تأسيس إعلان دمشق في العام 2005 يقول: إن إرجاء الأجوبة على المشكلات المصيرية التي تمسك بالمجتمع السوري من خناقه، والرد على الأسئلة التي تتعلق بالحلول الاقتصادية الاجتماعية، السياسية والعسكرية، التي تترقب مستقبل سورية مشهرة سيفها بلا رحمة، إن كل ذلك مُسَجَّل لدى هؤلاء وأولئك في قيد المؤجَّل إلى ما بعد سقوط النظام. أي إلى حين البدء ببناء المؤسسات الديمقراطية للدولة وأيديولوجيتها، وذلك بذريعة مفادها أن من السابق لأوانه الرد على هذه الأسئلة التي تهدِّد الوحدة الوطنية حول إسقاط النظام، بالتفكك. لكن الوحدة الوطنية إياها، إذا ما نظرنا إلى التكاثر المستمر للهيئات المعارضة، وهي ما فتئت تتكاثر، لم ولن تُشيِّد على التأجيل إلى ما بعد سقوط النظام. لكن نشوؤها يقف على قدميه على أسس متينة وواضحة من برنامج سياسي واستراتيجية ثورية لمرحلة انتقالية لديها منذ الأمس أجوبة وردودا على أسئلة لا تقبل منطق التأجيل والتسويف. ذلك أن إسقاط النظام، من حيث هو هدف استراتيجي، ليس كاف بحد ذاته لإنجاز الانتقال إلى المرحلة الانتقالية. إذ إن سقوط النظام، وإن كان سباقا من حيث التسلسل الزمني للأحداث على الحلول السياسية التي تتحكم بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية، بالإضافة إلى استعادة الجولان، والعلاقة مع الدولة الصهيونية، والسياستين الدولية والإقليمية، فإن البرنامج السياسي الواضح للمرحلة الانتقالية يسبق، حسب الزمان السياسي للثورة، الزمان المتسلسل للأحداث في مسارها المرهون بالوقت، والصدف، والعامل الخارجي، والانقلاب العسكري، أو احتلال الجيش الإسرائيلي لدمشق بحجة أن حزب الله بحوزته أسلحة جديدة منذ مشاركته في إخماد الثورة.
غير أن صياغة برنامج سياسي ثوري للمرحلة الانتقالية ما قبل سقوط النظام، ومنها برنامج لإعادة بناء السلطة القضائية، يسبق، تسلسل التوقيت الزماني لإسقاط النظام، ما دام هذا الأخير مرهون بالصدفة والديمومة. البرنامج السياسي الانتقالي، يتبع زمان الممارسة السياسية الواعية والمنظَّمة، وإن كان لاحقا بسلسلة من الأحداث تقود إلى توقيت لسقوط النظام، وذلك بالرغم من أن سقوط النظام يحتل مقام الأولوية من حيث التسلسل الزماني للأحداث، إلا أن الثورة السياسية، نقيض التآمر، ما دامت تغيِّر المجتمع بموجب الصراع الطبقي وتنظيم الطبقات الشعبية، وتتضمن برنامجا اقتصاديا اجتماعيا لتغيير النظام المهيمن للرأسمالية البيروقراطية، فإنها هي التي تحتل المقام الأول في السياسة الثورية. لقد آن الأوان كي يُميِّز أهل السياسة والثقافة والعسكريتاريا المتربعة على الساحة السياسية، ما بين إسقاط النظام من حيث هو وثيق الصلة بتوقيت الأحداث، وما هو عارض، والصدفة، والمجهول، والاغتيال، والانقلاب العسكري، والتدخل الخارجي، وفي مقدمته إسرائيل التي قد تحتل دمشق "لنزع الأسلحة من أيدي حزب الله"، وما بين المرحلة الانتقالية من حيث هي عملية سياسية ثورية بعيدة عن التآمر، لا صلة لها بالعامل الخارجي، ذات جذور اجتماعية، ومسلَّحة بأيديولوجية التغيير نحو عالم آخر، ومُسَيَّرة ببرنامج اقتصادي اجتماعي للتغيير بالاعتماد على تعبئة الطبقات الشعبية وتنظيمها. هي، من حيث الزمان السياسي، التي تحتل مقام الأولوية على الأحداث عبر الزمان. إنها، بالرغم من أنها لاحقة بزمان الأحداث، إلا أنها متقدمة على الأول من حيث الزمان السياسي. هي التي ستُسقط النظام، وليس إسقاط النظام هو الذي يقود إليها.
ها هنا، يَظهر أن اختصار السياسة لدى اليمين إلى بعد واحد هو التآمر مع العامل الخارجي، والتعويل عليه، هذا التآمر الذي يتَّسع ليشمل جيشا هجينا، خليطا مزيجا، لا سياسة له، إن لم تكن الاستقواء بالخارج، والتسول من السياسة الدولية الإمبريالية كي تتدخل عسكريا، هذا الاختصار للسياسة ليس عارضا، زائلا، وليد الظروف، ولن يلبث أن يزول بزوال أسبابة أو ما أن تبدأ المرحلة الانتقالية، إنما هو جوهري، ثابت، ماهية ساكنة، وبنية سياسية ممتدة عبر الزمان، يُشكِّل من حيث جوهره وماهيته، هذه السياسة التي ترسم لنفسها هدفا واحدا، ألا وهو الاستيلاء على السلطة بأي ثمن، حتى وإن كان ، برأيها، لحس الجزمات العسكرية للإمبريالية وسيلة مجدية لإسقاط النظام، ومن ثم للهيمنة على المجتمع والاقتصاد. غير أن افتقادها إلى أي برنامج سياسي على أسس من استراتيجية اقتصادية اجتماعية، ينبئ منذ الآن بأن هيمنتها على السلطة يتبع النمط الاستبدادي. لا سيما وأن الفوضى التي تسيطر على الحالة السورية من جراء سياستها هذه، فوضى مقصودة ومخطّط لها من أجل تفريغ الثورة من مكوِّناتها الاقتصادية الاجتماعية، وإبعاد الطبقات الشعبية عن السلطة ما بعد سقوط النظام. إن استبداد الفوضى مُبَرِّرٌ يُعين البورجوازية السورية على فرض سلطة تؤجِّل إنجاز مهام المرحلة الانتقالية إلى أجل غير مسمى، ويَحول، في المقام الأول، دون بناء الدولة على أسس من المبادئ "النبيلة" التي تؤمن بها"، طالما هي تفتقر إلى المؤسسات والرجال والقادة المؤَّهلين لبناء دولة القانون والمواطنة، والإيديولوجية. لاسيما وأنها تفتقد للبرنامج الانتقالي، وتعاني، علاوة على ذلك، من عجز يَحُول دون إنجازها لمهام المرحلة الانتقالية بسبب من انتشار الفاسدين والانتهازيين والعملاء والمرتزقة والمأجورين في صفوفها. عجز يلَحق بها من كثرة وشدة ما انحت أمام السياسة الدولية الإمبريالية. حتى أن ظهرها المنحني كالقوس نحو الأرض، لن يقوى على رفع رأسه عاليا باسم الدفاع عن الحرية والكرامة. الأمر الذي يشير إلى أن الفوضى، والاستبداد، والصراع ما بين أطراف المعارضة إياها، للسيطرة على السلطة والانفراد بها، والاقتتال ما بين العسكريتاريا الجديدة، وعزلة الطبقات الشعبية عن أهل السياسة إياهم ونبذها للمثقفين، نبذها لهم إلى حد العداء الطبقي والحقد الطبقي، هي التي ستسيطر على الحالة السورية خلال المرحلة الانتقالية. فليستعد ، إذن، الشيوعيون والقوميون اليساريون- منذ الآن - لخوض معارك الثورة المستمرة على المدى البعيد.
ثورة مستمرة نحو منعطفات بعيدة المدى:
في ضوء استبداد الفوضى أو الفوضى الاستبدادية، فإن ثورة الخامس عشر من آذار تأخذ منعطفاً اجتماعيا اقتصاديا، نحو أزمنة تاريخية بعيدة المدى. فإذا كانت الثورة المضادة تعمل منذ البدء على إخمادها، تشويهها، سرقتها، ومسخها، وكانت السلطة المهيمنة قطب رئيس في الثورة المضادة، وذلك حنبا إلى جنب مع السياسة الدولية الإمبريالية، وإذا كان لدى الثورة المضادة ألف سبب لتبرير ما قد تقدِّمُه من تنازلات أمام السلطة المسيطرة والسياسة الدولية من أجل "وقف سفك الدماء"، و"وضع حد نهائي لتدمير البلاد"، و"وعودة اللاجئين المشرَّدين إلى ديارهم"، فلنعلم علم اليقين أن الظروف الثورية السائدة في سورية منذ منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، والتي انفجرت في يوم الخامس عشر من آذار للعام 2011، فلنعلم إن هذه الظروف الثورية لم تتبدَّد فقط، وإنما تضاعفت أسوة بمادتها، وهي من صلب التكوين الاقتصادي الاجتماعي الذي يسجَّل مع انطلاقة الثورة ما يحدث من تغيير في التركيب الطبقي للمجتمع في سورية، وما يرافق الحالة السورية السائدة منذ ثلاث سنوات من تغيير في نمط الإنتاج الرأسمالي، قوى الإنتاج، علاقات الإنتاج، وأدوات الإنتاج. فلقد التهمت الرأسمالية البيروقراطية الأخضر واليابس، وتضاعفت ثروة أصحاب كبار الثروات، في ما أفلس أصحاب الثروات المتواضعة أمام افتراس كبار الثروات لهم، وأثبتت البورجوازية ممثلة بغرف التجارة والصناعة والمهن الحرة معاداتها للثورة الشعبية.، وانتصارها للثورة المضادة بكل تكويناتها.
ثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011 منعطفٌ سياسي، اجتماعي اقتصادي، إلخ، نحو أزمنة بعيدة المدى. نعم، إن زمان المعركة السياسية العسكرية لإسقاط السلطة السائدة تمخض عن ترجيحٍ لكفة الثورة المضادة في موازين القوى، في ما يعجز اليسار الشيوعي والقومي ، خلال هذا الزمان السياسي، عن التكون كل على حدة. ناهيكم وأن زمان تشكيل جبهة يسارية موحَّدة ما يزال متأخرا وراء زمان الثورة المضادة التي أحزرت تقدما مساو لانتشار الفوضى، واستمرار التآمر، وحالة الفلتان الأمني، السياسي والمدني، التي تواكب ممارسات الجيش الهجين. هذا، وإن التكوين الدبلوماسي الدولي الثورة المضادة ما يزال حتى الآن تترك مستقبل بشار السفاح بن الجزار معلقا، طالما تقود سياسته حتى الآن إلى إخماد الثورة الشعبية، وتحويل التربة السورية إلى مقبرة عظمى لدفن الجهاديين وحزب الله معا. ذلك، على غرار ما أنجزه الأب عندما جعل من التراب اللبناني مقبرة للثوار الفلسطينيين وقوى الديمقراطية والتحرر اللبنانية.
إلا أن للظروف الثورية المنبثقة عن التكوين الاقتصادي الاجتماعي، ومنها في المقام الأول، تردي الأحوال المعيشية والحياتية للطبقات الشعبية، ومعها شرائح من البورجوازية الصغيرة معدومة الدخل الكافي، وحالة من انعدام للدخل المستقر لشرائح قليلة من الطبقة الوسطى التي تخشى من أن تَسرُقَ منها الشرائح الميسورة من الطبقات الوسطى المتحالفة مع الرأسمالية البيروقراطية لقمة عيشها. هذا، والبروليتاريا الرثة المنتشرة بكثرة في ضواحي المدن الكبرى والأحياء الفقيرة المتهالكة، بالإضافة إلى تاريخ مخزٍ لجيش السلطة. جيش ذو تاريخ غير وطني في سورية والأردن ولبنان والعراق وفلسطين. هذه الظروف الثورية ذات زمان مستمر، ما دامت المرحلة الانتقالية بمفهومها الشعبي، لن تتعايش مع الثورة المضادة التي نظَمَت سياستها على التآمر والفوضى. ما يجعل منها غير مؤهلة لمعالجة ما من شأنه تبديد الأسباب التي تحرِّك الظروف الثورية المستمرة والمسيطرة على المجتمع، والمعادية للسلطات القمعية الاستغلالية بعدما حلَّت هذه الأخيرة محل الدولة وأيديولوجيتها. مما ينبئ، منذ الآن، أنها ستعبث بالمجتمع السوري باسم ديمقراطية زائفة، ممولة من آل سعود، وأل نهيان، وآل خليفة، ومجلس الشيوخ الأمريكي الذي يَمنح "المعارضة" مائة ونصف مليون دولارا، وراء مليون آخر، ومسيَّسة من قِبَل السياسة الإمبريالية والمشايخ والأمراء. كل ذلك تحت راية الاستقلال التي ترتفع من جديد لتمحو من الذاكرة والتاريخ راية الوحدة بين سورية ومصر؛ مصدر اعتزاز وفخر وأمانٍ في ضمير السوريين.
زمان الظروف الثورية مستمر على مسارات زمانية غير متساوية من حيث السرعة والوتيرة والأهداف. الثورة منعطفٌ نحو أزمنة تاريخية بعيدة المدى. منها، إن لن يكن في مقدمتها، أن ترتفع جاهزية اليسار الشيوعي والقومي لخوض ثورة مستمرة أثناء المرحلة الانتقالية. الظروف الثورية خلال المرحلة الانتقالية المزعومة مستمرة طالما تستمر الأزمة الثورية ما بين سلطتين اثنتين، سلطة الثورة المضادة الحاكمة، وسلطة الطبقات الشعبية التي تناهض سلطة معادية لحقوقها المعيشية والحياتية والقومية.
إذا كانت الظروف الموضوعية للمجتمع السوري ظروفا ثورية، وكانت المعارضة أو الثورة المضادة هي التي ستقود المرحلة الانتقالية المزعومة، ما دامت كفة الثورة المضادة هي الراجحة في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، وبالرغم من أن زمان الثورة المستمرة، أو زمان ثورة الطبقات الشعبية متأخرٌ وراء زمان الثورة المضادة بمسافات شاسعة، إلا أن التكوين الاقتصادي الاجتماعي الذي يَعرف حالات من التناقض والصراعات الاجتماعية، ومنها مناهضة الإمبريالية والصهيونية والمشايخ والأمراء والعسكريتاريا، وكانت الظروف الموضوعية للثورة متوفَّرة منذ منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فإن الزمان التاريخي للظروف الموضوعية الثورية كان وما يزال مصدرا لثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011 الشعبية، بالأمس واليوم وغدا، وما بعد ذلك وعلى المدى البعيد. أي إلى أن تتكون القيادة الثورية للطبقات الشعبية، فتسيطر على السلطة، وتأخذ من جديد منعطفا ثوريا نحو أزمنة تاريخية بعيدة المدى.
هذه الظروف الموضوعية الثورية متفجِّرَة بصورة مستمرة ولن تتوقف للأسباب إياها. لا سيما وأن الخيانة والاستغلال والقمع والفوضى والاستبداد، ستكون عنوانا للمرحلة الانتقالية المزعومة، والتي تأتي وقد لا تأتي. في ما لن تكون الصبوة إلى الديمقراطية سوى خطاب إيديولوجي، أشبه بالمذاهب والعقائد والديانات منه إلى القانون الذي يشكل حجر الأساس في كل أيديولوجية خطاب المذاهب والمبادئ يُخفي ما يخفيه من سيطرة رأس المال العالمي، والعولمة النيوليبرالية، وعسكريتاريا العولمة وحروبها، والسياسة الدولية الخاضعة للإمبريالية منذ سقوط حائط برلين. هذا التكوين الاقتصادي الاجتماعي هو الذي يَحْمِلُ ويركِّب ما بين هذين الزمانين. الزمان السريع للثورة المضادة. والزمان المتعثر والبطيء للثورة الشعبية. هو الذي يوحِّد ما بين كل هذه الأزمنة عبر زمان واحد، زمان التكوين الاقتصادي الاجتماعي. زمان الثورة المستمرة.
الشيوعيُّون على مسار من زمان الثورة المستمرة:
أمام الشيوعيين في هذا السياق التاريخي من أزمنة متباينة في ما بينها، من حيث السرعة والوتيرة والأهداف، مهمَّتين اثنتين استراتيجيتين. الكفاح ضد الثورة المضادة. النضال من أجل الثورة المستمرة. علما أن زمان الفوضى الذي ينشأ ويترعرع عن سياسة الثورة المضادة، برعايتها وتشجيع منها، لن يستسلم خلال المرحلة الانتقالية. هذه الأخيرة غير مؤهلة ما أن تستولي على السلطة، وتصطدم بالطبقات الشعبية والواقع الاقتصادي الاجتماعي، على ما انتجته بسياستها من فوضى، بالرغم من أنها هي التي نشرته وعمَّمته. الأمر الذي يشكل مناخا موضوعيا مناسبا أمام الثورة المستمرة. إن الثورة المضادة، شأنها شأن نمط الإنتاج الرأسمالي، تحمل فناءها معها إذا ما توفِّر شرط سياسي رئيس. إلا وهو أن يدرك الشيوعيون أن المستقبل السياسي للمجتمع السورية، من جراء الظروف الموضوعية الثورية، بمتناول أيديهم إذا هم اتحدوا حول استراتيجية ثورية من قطبين اثنين. الكفاح ضد الثورة المضادة، والنضال من أجل الثورة المستمرة. ( في ما يتعلق بالاستراتيجية الثورية والبرامج السياسية للشيوعيين والجبهة اليسارية، راجع برنامج كلا من ائتلاف اليسار، والتيار اليساري الثوري، البرنامج السياسي العام لحركة الراية الحمراء، تنسيقيات الشيوعيين السوريين). وكان كاتب هذه الأسطر نشر عبر موقع الحوار المتمدن أوراقا تستشف معالم الاستراتيجية الثورية. (انظر الحوار المتمدن، اليسار في سورية: مهمة واحدة من أجل انتصار الثورة العفوية، العدد 2013 / 7 / 27 4166 - ثورة2الخامس عشر من آذار: الأزمة السياسية للثورة الشعبية مستمرة مالم يتكَوَّن النضال الثوري المُسَلَّح، العدد 2013/ 5 / 8 4086 - حسان خالد شاتيلا - كاتب ومفكر يساري - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: دور ومهام اليسار الاشتراكي الثوري في ثورة الخامس عشر من آذار 2011 في سوريا، العدد 2013 / 3 / 10 4027 - دور ومهام اليسار الثوري في سورية- (تتمة وتصويب). العدد 2013 / 3 / 14 4031 - ثورة الخامس عشر من آذار في سورية: الانتقال من عفوية الثورة إلى الاستراتيجية الثورية، العدد 2013 / 1 / 11 3969)
إن أخطر ما يهدَّد الشيوعيين، اليوم وينال، بالتالي، ثورة الخامس عشر من آذار بالخمود، هو أن يتسلل اليأس الى نضالهم من هول ما يرونه من خراب ودمار وسفك للدماء، فيؤثروا على أنفسهم الحل السياسي المنبثق عن مؤتمر جنيف الثاني أو أي مؤتمر مشابه له، اعتقادا منهم، تحت تأثير الفوضى العسكرية والسياسية لجيش هجين ومعارضة متآمرة، وظنا منهم إن ما وصلت إليه الحالة السورية من خراب يُؤذن باجتياز مرحلة إسقاط النظام للانتقال إلى المرحلة الانتقالية.، فينتهي بهم الأمر - على هذا النحو - إلى مقولة مؤداها أن تكوين القيادة الثورية شرط ضروري مسبق لنشوء ثورة شعبية وقيادتها نحو أهدافها. الشيوعيون الذين ينال منهم اليوم هذا اليأس واهمون. إن سفك الدماء، أولا، لن يتوقف. بل، وإنه مرشح خلال ما يسمى المرحلة الانتقالية لتطورات أشد قسوة من حالتها السابقة. إن الحل السياسي الذي يتمخض عن جنيف الثانية، ثانبا، سيحمل المعارضة إلى السلطة، لكن ثورة الطبقات الشعبية ستستعيد حيويتها السياسية أمام عجز الثورة المضادة المتسلطة عن إنجاز أي تغيير في التكوين الاقتصادي الاجتماعي. إن المرحلة الانتقالية، ثالثا، وإن نجحت الثورة المضادة في هيكلة ديمقراطية مزيفة، كأن يكون برلمانها تقاسم ٌ للمقاعد على أسس من الاقتراع العام تقاسما أثنيا، فإن الظروف الثورية الموضوعية هي التي تحدِّد مستقبلا المشهد السياسي السوري. كل هذا وذاك لا يترك أمام الشيوعيين واليسار القومي سوى السير قدما على مسار الثورة المستمرة والكفاح ضد الثورة المضادة، وتشييد استراتيجية ثورية.
حسان خالد شاتيلا
النصف الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر 2013
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
(*) ما يأتي من أسطر تحت عنوان: " التآمر سياسة الثورة المضادة..."، ما هي سوى استكمال لورقة كان كاتبها نَشَرها عبر صفحات "الحوار المتمدن"، تحت عنوان: "ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون والمتآمر عليهم"، العدد 4209، بتاريخ 8/9/2013. وكانت الورقة السابقة مزيلة بكتابات للينين تفضح سياسة التآمر التي تحتل حيِّزا هاما في السياسة البورجوازية، وذلك على نقيض من السياسة الشيوعية التي تَعتَمد في المقام الأول على الاستراتيجية الثورية لتغيير السلطة والمجتمع، وتَنبذ سياسة التآمر التي تقود خطا البورجوازية إلى السلطة، وتشجِّعها ، بالمقابل، على إهمال مطالب الطبقة العاملة ومصالح الشعب. النص التالي مُزَيَّل أيضا بنصَّين اثنين للينين ينتقدان سياسة التآمر، وذلك بالإضافة إلى النصوص التي كانت نُشرت على هامش الورقة السابقة، أو المذكورة أعلاه.
-) في ردٍ للينين على مقال ل/ لافروف " في ما يتعلق بمسائل البرنامج السياسي"، يشير لينين إلى أن المفاهيم السياسية ل/لافروف الذي ينتمي إلى "نارودنايا فوليا" ( إرادة الشعب ) تختلف بصورة جلية عن مفاهيم الاشتراكيين الديمقراطيين حول البرنامج السياسي، والنضال السياسي. إن لافروف، إذ هو يتصدى لبرنامج الاشتراكيين الديمقراطيين، فإنه يتساءل "عما إذا كان، من حيث الممكن، تنظيم حزب عمالي قوي في ظل نظام الحكم المطلق على أن لا يكون حزبا ثوريا؟ ".. "تنظيم حزب عمالي روسي يقع تحت سيطرة نظام الحكم المطلق، على أن لا يكون، في الوقت نفسه، هذا الحزب منظَّما تنظيما ثوريا موجَّها ضد نظام الحكم المطلق؟". ويضيف لينين: "إن لا فرورف يفسِّر هذا الرأي الغريب العجيب على النحو التالي: "لا بد بقوة الأشياء من تنظيم حزب عمالي روسي ما دام نظام الحكم المطلق مسيطر بصورة قبيحة. فإذا ما كُتِب النجاح للاشتراكيين الديمقراطيين في تنظيمه، على أن يمتنعوا في الوقت نفسه عن تنظيم مؤامرة سياسية ضد نظام الحكم المطلق، وتوفير كل الشروط اللازمة التي تفرض نفسها على مؤامرة من هذا القبيل، فإن برنامجهم السياسي سيكون بصورة بديهية صالحا للاشتراكيين الروس، ما دام تحرر العمال سيأتي بأيدي العمال أنفسهم. غير أن ذلك موضع لشك قوي، هذأ إن لم يكن ضربا من المستحيل".
يأتي رد لينين على لافروف على النحو التالي: "إن لافروف" يَجْمَع في ماهية واحدة مفهوم النضال السياسي ومفهوم المؤامرة السياسية. ولا بد من الاعتراف أن لافرورف نجح بعدد قليل من العبارات في تسليط الأضواء على ما بين تكتياكات النضال السياسي المُعتَمَدة من قبل أنصار "نارودنايا فوليا"، وتلك المعتمدة لدى الاشتراكيين الديمقراطيين، من خلافات جوهرية. إن التقاليد البلانكية في ما يتعلق بالتآمر تجد صدى قويا لدى أنصار "نارودنايا فولفا". إنها من القوة بحيث أنهم عاجزون عن تمثل النضال السياسي ما لم يأخذ شكل المؤامرة. والحال، إن الاشتراكيين الديمقراطيين لا يضحون بأعز ما يميزهم من أجل هكذا وجهات نظر ضيقة. إنهم لا يؤمنون بالمؤامرة، ويعتقدون أن زمان المؤامرات قد ولى منذ فترة بعيدة، وأن تقليص النضال السياسي إلى مؤامرة، من شأنه، من جهة، أن يقلصها بصورة متطرفة، وأن يأخذ ، من جهة ثانية، بالأعمال النضالية الأكثر تعاسة. ويدرك الجميع أن تصريحات لافروف التي تزعم "أن الغرب نمط نموذجي ماثل أمام أنظار الاشتراكيين الديمقراطيين الروس"، ما هي سوى مجادلة لفظية، وأن الاشتراكيين الديمقراطيين الروس لم تَغِب، في الواقع، عن أنظارهم شروطنا السياسية، ولم يحلموا بتشييد حزب عمالي في روسيا معترف بها قانونيا، وأنهم لم يفصلوا أبدا عبر الزمان النضال من أجل الاشتراكية، عن النضال من أجل الحرية السياسية. وبالمقابل، فإن تفكيرهم يذهب دوما وأبدا إلى القول إن هذا النضال لا تسييره أبدا المؤامرات، وإنما حزب ثوري يعتمد على الطبقة العاملة. أن أفكارهم تقول إن النضال ضد نظام الحكم المطلق إذ هو ُملْزَم بالامتناع عن حياكة المؤامرات، فإنما هو يأخذ بالتربية، و تنظيم البروليتاريا، وتنظيم الانضباط، وأن يعمل على التحريض السياسي بين العمال كي يفضحوا كل ما يدلل على نظام الحكم المطلق، ويُشَهِّروا بأبطال الحكومة السياسية، وإرغام هذه الأخيرة على تقديم التنازلات".
المصدر، مهام الاشتراكيين الديمقراطيين الروس، الأعمال الكاملة للينين، النسخة الفرنسية، موسكو 1958، ص 346-347.
-) "إن لافروف لا يُدرك من "النضال" ضد نظام الحكم المطلق سوى المؤامرات ضد نظام الحكم المطلق.. ولعل لافروف يعتقد أن كل من لا يحبك المؤامرات السياسية لا يمارس أيضا نضالا سياسيا؟ إننا نعود من جديد إلى القول: إن هذا النمط من الرؤية مرتبط بصورة كاملة بالتقاليد القديمة ل"نارودنايا" القديمة، بيد أن أي رابط كان معها لا يرتبط بالفكرة التي تكونت لدينا حاليا في ما يتعلق بالنضال السياسي، وما يسود اليوم من الحالات الواقعية.
مصدر سابق، ص 350-351