القطيعة الماركسية مع الفلسفة - جورج لابيكا، الوضع الماركسي للفلسفة،
حسان خالد شاتيلا
الحوار المتمدن
-
العدد: 5197 - 2016 / 6 / 18 - 10:31
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المـلــحــق التاســـع
القطــيعة الماركســية مــع الفلســـفة
* جورج لابيكا، الوضع الماركسي للفلسفة، بروكسيل، منشورات كومبليكس، 1976
Georges Labica, Le statut marxiste de le philosophie, Burxelles, Ed.Complexe, 1976
أولا: مــقــدمــــة
يَعرض جورج لابيكا في "الوضع الماركسي للفلسفة لتكَوُّن الماركسية ما بين 1841 و 1848، أي حتى غاية صدور "البيان الشيوعي"، مسلطا الأضواء، من جهة، على دور فريدريك إنجلز الذي غالبا ما يَغيب إسهامه في ظهور الشيوعية عن الأذهان، وأوضاع أوروبا، من جهة ثانية، ما بين 1820 و1848، وعلاقة ماركس وإنجلز، من جهة ثالثة، مع كل من هيجل وفويرباخ وستيرنر وبرودون. هذا العمل يدور حول مسألة العلاقة ما بين الفلسفة والماركسية، فيتساءل عما إذا كانت المادية التاريخية تشكل إنكارا قاطعا ونهائيا للفلسفة من حيث هي تأمل فكري نظري ومثالي، وأيديولوجية بامتياز، أو كما يقول لابيكا "إيديولوجية بالتربيع".هذا العمل يحمل بوجه خاص سؤالين اثنين: الأول ما هو وضع الفلسفة من وجهة نظر ماركسية، والثاني ما هو وضع الفلسفة ومسارها في أعمال ماركس وإنجلز. إن جورج لابيكا يتتبع، من أجل الإجابة على هذين السؤالين، المسار النظري والسياسي لماركس وإنجلز دون أن يخلط ما بين هذين الأخيرين، وذلك حتى غاية صدور "البيان الشيوعي" ونشوء ثورة 1848، لمعرفة ما آلت إليه الفلسفة في هذا المسار. إن هذا العمل، وإن كان يبدأ بمناقشة موقع الفلسفة، فإنه لا ينتهي من تقصيه للجواب إلا بعدما يَعرض لنهاية الفلسفة في الماركسية، هذه النهاية التي نَقلت الوعي والفكر من حيِّز الأنساق الشمولية، النظرية والفكرية، إلى حيز التاريخ والصراع المجتمعي كمصدرين اثنين للمعرفة.
إن جواب لابيكا على هذا السؤال واضح وحاسم. لقد صفى كل من ماركس وإنجلز حسابهما مع الفلسفة بصورة نهائية. فتعبير "مَخْرَج" بالألمانية Ausgang) الوارد في عنوان كراس لإنجلز بعنوان "لودفيغ فويرباخ ونهاية Ausgang الفلسفة الكلاسيكية الألمانية"، يُعلِن، ليس عن نهاية نمط بعينه من الفلسفة، وإنما يشير إلى المخرج من كل فلسفة بجميع أنماطها، ليجعل من حيِّز الإنتاج المادي مصدرا للمعرفة، أو من المادية التاريخية علما أو معرفة Wissenschaft للتاريخ بصورة مخالفة جوهريا لكل إيديولوجية.
وتقود نهاية الفلسفة إلى القطيعة ما بين الماركسية نفسها وكتلة الفكر الفلسفي. إن وجه اختلاف الماركسية عن غيرها من النظريات والمذاهب الفكرية والفلسفية هو أنها ترفض أن تُنقل موضوعاتها إلى حيِّز المتخيَّل الذي يَجهَل أصوله التاريخية زاعما لنفسه أنه يَقبُض على النظرية، أنه هو نفسه النظرية، نظرية الحقيقة، بما في ذلك نظرية التاريخ نفسها. فالماركسية بهذا المعنى، إذ هي تَدْحَض الفلسفة من أسسها وفي جوهرها وترفضها، فإنها تعود بمزاعم الفلسفة حول الحقيقة إلى جذورها في التاريخ بعدما تكشَّف عن التاريخ بصورة علمية.
ويَتْبَع هذا التتبع للمسارين النظري والسياسي منهجا يقوم على ثلاثة أسس. أولها يقول بأن من الوهم استعادة العمل بالتقدُّم من الوراء إلى الأمام، لأن ذلك ينطوي على مفهوم لاهوتي للتطور. وهمٌ يقول بأننا حيث يبلغ بنا البحث في النص إلى ما نتقصاه من معرفة، فإننا نعرف بصورة علمية ما هو الطريق الذي كان ماركس وإنجلز سلكاه (ص 148، الحاشية 94، وص 169). أي إن المعرفة في المادية التاريخية تبدأ من حيث تصل إليه الممارسة والنظرية في الحتضر، لتعود من ثم إلى الماضي. "إن تشريح جسم الإنسان – حسب ما يأتي في "الإيديولوجية الألمانية"- مفتاح لتشريح جسم القرد"، بالرغم من أن الطبيعة والتاريخ يتطوران في الاتجاه المعاكس للوعي العلمي. الأساس الثاني يستند إلى قاعدة مؤداها أن من الخطأ المساواة على صعيد واحد ما بين نصوص كتبها كل من ماركس وإنجلز في الأربعينات، وتلك التي كتباها في ما بعد "الإيديولوجية الألمانية"، ليلخصا فيها مسارهما ( ص 38، 54). ذلك أن هذا العمل المشار إليه يُسجل نقطة التحول في مسار ماركس وإنجلز من ماركس الشاب إلى ماركس الراشد، ويؤرِّخُ أيضا لانتقالهما من الفلسفة إلى نقد الاقتصاد السياسي. الأساس الثالث مفاده أن من الخطأ أن نتعقب الوعي وصيرورته وننطلق منه، لأن الوعي يفتقد إلى الاستقلال الذاتي، وهو وثيق الصلة بالواقع والممارسة، إلا ما كان منه ينتمي إلى عالم الأوهام. إذ إن الوعي غير منفصل عن الظروف الموضوعية التي ترافقه. أضف إلى ذلك، أن الماركسية بدأت بالمقلوب، من البنى العليا إلى البنى السفلى بالرغم من أن البنية السفلى هي التي تفسِّر البنية العليا. أوبتعبير آخر: إن مسار المعرفة ليس هو نفسه المسار الزماني المتسلسل للواقع. إن تشريح جسم الإنسان هو المفتاح لتشريح جسم القرد، وإن كان هذا الأخير من حيث التاريخ الزماني للسلالة موجود قبل ظهور الإنسان. وعلى هذا النحو، فإن اللاحق في مجال المعرفة هو نقطة الانطلاق لمعرفة ما هو سابق، وإن كان هذا الأخير هو الذي يتقدَّم من حيث الزمان على الأول.
تحليل النصوص والتاريخ لدى جورج لابيكا، في منهج بحثه هنا، يتتبَّع بصورة مادية وثيقة الصلة بالظروف التاريخية، وليس متتبعا مسار الوعي أي العمل النظري لماركس وإنجلز من حيث هو متصل ومشحون بصورة متطورة ومستديمة بممارساتهما السياسية التي قادتهما إلى التخلص، على هدى من الفعل والحدث، من شكلٍ من الوعي لم يكن سوى مجرد وهم، أو وعي إيديولوجي؛ ما يؤذن في أعمالهما بنهاية الوعي الفلسفي.
وكان مسار حياة كل من ماركس وإنجلز، وإن كان كل منهما مختلفا عن الآخر حتى غاية شهر سبتمبر من العام 1845، متوازيان. فقد سارا معا متوحدين بصورة كاملة، وإن كان ماركس منظِّرا أكثر من إنجلز المناضل، ما بعد التقائهما في باريس. ماركس وإنجلز كانا يعتقدان ما بين 1846 و1847 أن المسألة الوحيدة ذات الوجهين، وهي مسألة رئيسة ويتوقف عليها كل ما عداها، هي: ما هي الفلسفة من وجهة نظر ماركسية، وما هو وضعها ضمن الماركسية؟ فلقد وَجَدَت هذه المسألة لديهما حلا حاسما في «الإيديولوجية الألمانية". وكانت هذه المسألة نشأت تحت تأثير الأوضاع الثقافية والمجتمعية لأوروبا. فخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كفَّت البورجوازيات عن حمل ونشر وتسيير المسارات الثورية، لينتقل هذا الدور إلى البروليتارية. إلا أن هذه المسارات الثورية تختلف من بلد إلى آخر. فمن هذا الوضع المتمايز والمتكامل ما بين ثلاثة بلدان أوروبية ، هي فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ينطلق كل من ماركس وإنجلز.
ثانيا: أوروبــا والـمصـــادر الــثلاث
يأت هذا الانتقال للمعرفة والممارسة من الفلسفة إلى المادية التاريخية والمعرفة البروليتارية في صلب الأوضاع التي كانت سائدة حينذاك في أوربا. فقد كانت هذه البلدان الأوروبية الثلاث الأكثر تحضُّرا في حينه، تُشكِّل كل منها نمطا أو نموذجا مختلفا عن الآخر. فألمانيا المكوَّنة في حينه من ثلاثة وخمسين دولة، كانت تعوِّض عن تأخرها في المجال العملي بتقدُّمها في المجال النظري. فقد تحرَّرت وازدهرت عقلانيا بفضل الإصلاح أولا، ثم هيجل ولاحقيه الذين انتقدوه بالرغم من أنهم من أتباعه، من أمثال فويرباخ وستينر. فرنسا، جهة ثانية، كانت تَشهد حالة من التحرر الأخلاقي بالإضافة إلى التحرر الفكري. فقد أَرسَت ثورة 1789 عصر ثالوث سياسي جديد، ثالوث الحرية والمساواة والإخاء. حتى أن تعبير "الاشتراكية" أصبح، ما بعد الثورة الفرنسية، رائجا. بريطانيا، من جهة ثالثة، كانت تمثِّل حالة من الجمع والتركيب ما بين ألمانيا المثالية، وفرنسا المادية. فمناهضة الفقر وأرستقراطية المال كانت بلغت قمتها في بريطانيا. رافق ذلك ظهور البوادر الأولية على تشكُّل بروليتاريا ما. هذه الأنماط الأوروبية الثلاثة كانت تُعتبر حتى غاية صدور "البيان الشيوعي" المصادر "النظرية" الثلاث للماركسية. ‘ علما أن انتشار النقابات في بريطانيا، و"كومونة باريس في العام 1971، وثورة العمال في العام 1848 في ألمانيا، هي في صلب ما يسمَّى بالمصادر النظرية، شرط أن نعلم أن هذه الأحداث التاريخية تشكل ،مع ما يرافقها أو ما يتبعها من أحداث، هي، والمصادر النظرية الثلاثة، تتشكَّل من عجينة تاريخية واحدة. ف/"البيان الشيوعي" يكف عن اعتبار هذه الخصائص مصادر لعلم المجتمع البورجوازي أو الماركسية، طالما يُرْجِع المادية التاريخية أو العلم الجديد في "البيان" إلى المادية التاريخية، أو والصراع الطبقي والبروليتارية والأممية، ونمط الإنتاج الرأسمالي، والتكوين الاقتصادي الاجتماعي، إلخ، من حيث هي مصادر المعرفة.
وكان إنجلز يقول منذ العام 1843 إن هذه البلدان الثلاثة قد اكتَشَفَت أن من الضروري إنجاز ثورة كاملة في مجال العلاقات المجتمعية، وأن الألمان وصلوا إلى هذه النتيجة فلسفيا، والفرنسيون سياسيا، والبريطانيون عمليا. وسيقول لينين في وقت لاحق إن الماركسية جمع وتركيب جديد للفلسفة الألمانية، والاشتراكية الفرنسية وعلم الاقتصاد البريطاني. وكان ماركس وإنجلز معنيان بالبحث في العلاقة ما بين هذه الأنماط الثلاث، وما بينها من وحدة. فقد دعا إنجلز منذ العام 1845 إلى تحالف ما بين "الفلاسفة من أجل التفكير، والعمال كي يناضلوا معنا". ولم يفتأ ماركس في مرحلة الشباب عن ترداد أن الثورة تُوْلَد من الذين يفكِّرون لأنهم يتعذَّبون، أي العمال، ومن أولئك الذين يتألَّمون لأنهم يفكِّرون، أي الفلاسفة. والفكرة المسيِّرة التي استخلصاها منذ وقت مبكر، وفي ضوء هذه العلاقة ما بين الفلاسفة والبروليتارية، هي الوحدة الجدلية ما بين النظرية والممارسة أو الإعمال من حيث هو اتصال ضمن عجينة واحدة ما بين أولوية الممارسة وتبعية النظرية للعمل.
إن إشكالية الفلسفة في أعمال ماركس وإنجلز وثيقة الصلة بأوضاع ألمانيا، صلتها بأوضاع المثلث فرنسا، بريطانيا وألمانيا. ف/لابيكا يرى أن هذه الإشكالية وثيقة الصلة للغاية بأوضاع ألمانيا بوجه خاص، ذلك أن كل مثقَّف ألماني، كان– على حد قول لابيكا – ما بين 1841 و1842 يبحث عن حيِّز ومكانة لنفسه في عالم الفكر والثقافة، فإنه كان يلتقي بهذا الثالوث الذي كان يَنشر وعي العصر. ثم سرعان ما ظَهر تكامل ما بين مكوناته، وذلك ما بين فرنسا بلاد الثورة السياسية، وألمانيا بلاد الثورة الفلسفية، وبريطانيا بلاد الثورة الاقتصادية. جورج لابيكا يُبيِّن على هذا الصعيد أن ألمانيا هي التي كانت مهيَّأة تاريخيا للتفكير في أوضاعها كما في أوضاع الثالوث الأوروبي، وأن تفكر مكان فرنسا التي أَنتجَت أول ثورة شيوعية (كومونة باريس). فقد صَنعت فرنسا الثورة، إلا أن ألمانيا ماركس وإنجلز هي التي استخلصت معانيها، وذلك في إشارة إلى المادية التاريخية، والصراع الطبقي، والدور الفكري للبروليتارية، وفكر الحزب، ونمط الإنتاج الرأسمالي، إلخ.
تَحتل مقاربة هذا الثالوث، وما بين مكوِّناته من تكامل، حيزا هاما في أعمال الشابين ماركس وإنجلز. فقد كان إنجلز كثير التردُّد على بريطانيا، حيث كان يعكف على دراسة الأزمة المجتمعية، ويتمثَّل في الوقت نفسه الاقتصاد السياسي. ويُشكل هذا الطريق في مسار إنجلز مخرجا من الأوضاع الألمانية. لذا، فإن لابيكا يضع هنا يده على المفاصل التي تتداخل ما بين مساري إنجلز وماركس الشاب. ها هنا يُحرز إنجلز تقدما ما على ماركس، وإن كان تقدما محدودا. فبالرغم من أن إنجلز قد غادر الأراضي الألمانية للإقامة في بريطانيا، إلا أن صلاته النظرية بالفلسفة الألمانية من خلال فويرباخ كانت ما تزال مستمرة، وإن كانت أعمال هذا الأخير مفارقة للتاريخ. ماركس كان في هذه الأثناء يتلقى الاقتصاد السياسي من إنجلز، وإن كان متأخرا عنه. هذا التفاوت الزماني ما بين ماركس وإنجلز يعود إلى توزيع العمل ما بين الاثنين. ففي ما كان إنجلز يتابع ويصحِّح عبر انتقاده للاقتصاد السياسي البريطاني المسار الذي كان موزيس هيس Moses Hess سار عليه على خطا من إنسانية فويرباخ والاشتراكية الفرنسية والبريطانية، فإن ماركس كان يتابع ويصحِّح عبر انتقاده لهيجل المسار الذي كان اختطه آرنولد روج Arnold Ruge (من الهيجيليين الشبان) في تفنيده للفكر الدستوري الكاذب في ألمانيا، ودحضه للمعنى التاريخي للثورة الفرنسية. وكان ماركس يَعمل بوجه خاص، من خلال الفلسفة نفسها في هذه المرحلة، مرحلة "ماركس الشاب"، على نقد فلسفة القانون الذي كان يسيطر إلى حد كبير على عمله منذ نهاية العام 1842 حتى غاية مطلع العام 1844. ماركس لم يغادر حيِّز الفلسفة إلا بعدما يتقدّم في تحليل الأوضاع في ألمانيا، وينتهي في الوقت نفسه إلى تشخيص ما تعانيه الفلسفة الألمانية من مفارقة تاريخية متغلغلة في اليسار الهيجلي كله. مفارقةٌ ما بين الفكر والواقع، ليُحدث بذلك، في قلب هذا الوسط الفكري، ثورة نظرية متصلة بصورة وثيقة بعالم الواقع، وظهور البروليتاريا كقوة ثورية، ثورة نظرية مؤثِّرة في عالم الواقع. أو بتعبير آخر، فإن تغيير إشكالية الفلسفةيتوافق لدى إنجلز بصورة تلقائية مع التطور السياسي، وذلك في ما لا يكتفي ماركس بالجانب النظري من تغيير الإشكالية من حيث أن هذا التغيير عقلاني ومفهوم، وإنما يريد علاوة على ذلك أن يدلِّل نظريا بأن هذا التغيير ضروري وموضوعي وذي سياق تاريخي.
ثالثا: مــن الفلســـفة النقـــدية إلــى نقــد الفلســــفة
يتتبَّع إذن لابيكا المسار النظري لماركس وإنجلز من حيث صلته الوثيقة بممارساتهما السياسية والظروف الأوروبية. إن المَخْرَج من الفلسفة يأتي في صلب الأوضاع السياسية والمجتمعية لأوروبا، وهو في مطلع الأمر مَخْرَج من الفلسفة بالفلسفة، قبل أن يغادرها في نهاية الأمر إلى البروليتاريا التي تحمل نمطا جديدا من الوعي هو العلم أو المادية التاريخية. هذا المَخرَج يأخذ طريق الاقتصاد السياسي، عبر انتقاد المقولات الإنسانية والطبيعية في فكر فويرباخ، والتي تُؤَسِّس لسياسة اشتراكية على أُسس إنسانية وطبيعية، أو فلسفية. هذا النقد الفلسفي على أسس من الاقتصاد السياسي ما كان لفويرباخ نفسه أن يدركه.
إن أعمال ماركس وإنجلز في "الوضع الماركسي للفلسفة" تصل إلى القطيعة مع الفلسفة، والكشف عن المادية التاريخية عبر ثلاثة مراحل انتقالية، هي: نقد الفلسفة، الفلسفة النقدية، والقطيعة مع الفلسفة. فإذا كانت المادية التاريخية لم تأت دفعة واحدة، وبصورة تلقائية، فلأنها أخذت في أعمال ماركس وإنجلز مسارها نحو الواقع المادي والقطيعة مع الفلسفة بصورة مقلوبة، اعتبارا من البنى العليا، وليس من البني السفلى، لتنتقل بعد ذلك من البنى العليا إلى البنى السفلى (ص 46).
وكان إنجلز خرج من الفلسفة في وقت مبكر، أو هو بالأحرى لم يدخل أو يقيم فيها أبدا، كما يقول لابيكا (ص 61). فقد اجتذبه التحليل الاقتصادي إليه منذ وقت مبكِّر، أو منذ أول إقامة له في بريطانيا. وبالرغم من إسهامه المهم في العمل المشترك مع ماركس، فإنه يعترف بأن ماركس هو الذي وصل قبله إلى المادية التاريخية. وكان مقال إنجلز "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي" الذي صدر لأول مرة في الحوليات الفرنسية الألمانية Annales franco-allemande يسجِّل لظهور علم. "علم كان ما يزال بحاجة إلى تمتين أُسسه، والتعريف بموضوعه، وتسمية طرقه الخاصة في البحث" (ص 120). وكانت هذه المقدِّمة ما تزال سجينة إشكالية فلسفية. ويأتي هنا نقد الاقتصاد السياسي في العام 1844 تحت عنوان يحمل اسم فويرباخ، وحسب ما يتبين من عنوان الفقرة نفسه. فويرباخ الفيلسوف الذي وَضع أسسا عارضة، إنسانية وطبيعية، للاشتراكية. وكانت أعمال العام 1843 تُعلن كما يبيِّن لابيكا عن قطيعة مبدئية مع الفلسفة، و"بالأحرى قطيعة مع كل فلسفة بما في ذلك فلسفة فويرباخ" (ص 131).
انطلاقا من هذا البحث المشترك لماركس وإنجلز، فإن الأول هو الذي سيمارس دور المفكِّر. فإذا كان مسارهما واحدا، وهو يسير في البداية على خطا هيجل الذي يمارس عليهما تأثيراعظيما، إلا أن إنجلز عَثَرَ لدى تعرُّفه على ماركس على بنية متينة لتشييد الأفكار. فلقد انطلقا، وهما ألمانيان، من الفلسفة الألمانية، والفلسفة الهيجيلية التي كانت موضعا لانتقادات كثيرة. الفكرة العظيمة لدى هيجل هي التاريخ، تاريخ منطقي ذو معنى، ويضع نهاية للبناء الاعتباطي. إلا أن هذا التاريخ بالمفهوم الهيجلي يبقى تاريخا من حيث هو "فكرة". لكن ماركس وإنجلز، إذ يَعْمَلان على تحليل الفلسفة الألمانية والنقد الموجَّه إليها، والذي كان ما يزال نظريا، فإنهما يتوصلان إلى "مخرج" من هذه الفلسفة، إلا أنها كانت ما تزال مخرجا بالفلسفة، وليست من الفلسفة ككل. وكان ما يزال أمامهما عملا طويلا ينتظر الإنجاز حول هذين المفهومين المترابطين، وهما الفلسفة والبروليتارية. إن الوظيفة العملية للبورجوازية، أي الفلسفة، تنتقل – على حد قول ماركس - إلى البروليتارية عندما تنحط البورجوازية.
اعتبارا من هذا المخرج من الفلسفة بالفلسفة يَعْمَل ماركس وإنجلز على "تصفية حسابهما" مع "الوعي الفلسفي القديم". إنجلز يقترح في العام 1845 على ماركس "التضحية بالفائدة النظرية لصالح فعالية الممارسة". لكن الدكتور ماركس وإن كان يعترف بأهمية الممارسة، فإنه ينكب، بكل قواه وإلى آخر الشوط، على التحليل النقدي الذي كان بدأ به وتابعه اعتبارا من "مخطوطات 1844"، حتى غاية "الإيديولوجية الألمانية" في العام 1846 (بالتعاون مع إنجلز)، مرورا ب"أطروحات فويرباخ"، حيث لم يَعد العمل ينصب على تفسير العالم، وإنما على تغييره. ماركس الشاب، حتى غاية هذا التاريخ، لم يكن ليُدْرِك بعد إلى أي مدى يمس مفهوم البروليتارية، ما بعد اكتشافه خلال مرحلة الشباب للبروليتارية بالفلسفة، إلى أي مدى تمس البروليتارية بالفلسفة من أًسسها وجذورها وتزرعها بالألغام. إن معادلة "الفلسفة والبروليتارية" تترك مكانها، ما بعد "الإيديولوجية الألمانية" لتحل محلها معادلة "الاقتصاد والبروليتارية".
كان إنجلز، في هذه الأثناء، يعمل على دراسة الاقتصاد وينقده بتصميم لا يلين. ففي شهر مارس من العام 1845، وعلى إثر عودته من رحلة له إلى بريطانيا، يبيِّن أن الاقتصاد الليبرالي يقود إلى تقسيم الاقتصاد ما بين رأس المال والعمل، وهذا التقسيم هو نفسه نتاج الملكية الخاصة.
لكن ثورة عمال النسيج في سيليسيا Silésie في شهر حزيران/يونيو من العام 1844 هي التي تقود ماركس إلى القول إن البروليتارية هي العامل الفاعل بصورة مباشرة في الثورة المجتمعية (ص 139). هذه الثورة تلعب دورا حاسما في ما طرأ على المسار النظري لماركس من تغيير في ما يتعلق بأوضاع البروليتاريا، ودورها السياسي التاريخي. علما أن مصطلح البروليتارية مأخوذ عن الاشتراكيين والشيوعيين الفرنسيين في نهاية العام 1843 (ص 106، حاشية 122). هذه الثورة هي التي تُخَلِّص البروليتارية من فويرباخ. ذلك أن البروليتارية تتخلَّى، من "الأسرة المقدَّسة" إلى "بؤس الفلسفة"، مرورا ب"الإيديولوجية الألمانية"، عن الفلسفة لتحيلها إلى ظاهرة مرتبطة بالمجتمع البورجوازي. أي أن المجتمع البورجوازي هو "الموضوع الوحيد، الواقعي والمادي والمؤرَّخ، الذي يتعذَّر إرجاعه إلى الأفكار النظرية أو التأملية. بل، وإنه هو الذي، على النقيض من ذلك، يجعل من هذه الأفكار مفهومة من حيث طبيعتها، ووضعها، ووظيفتها"(ص 207).
رابعا: الـمَـخْـــرَج مــن الفـلســـــفـة
تأتي القطيعة مع الفلسفة في العام 1845-1846 مع ظهور علم التاريخ أو المادية التاريخية التي أصبحت علما حسب لابيكا ولم تعد فلسفة. علم أو معرفةٌ قوامها الموضوعية والسياق التاريخي. هذه المادية هي التي "تحدِّد وضع كل فلسفة، سواء كانت مثالية أم مادية، وتضعها في مكانها الحقيقي في طيَّ الإيديولوجية" (ص 282). إن لكل طبقة سائدة مسيطرة "مِهنيُّها المتخصَّصين بالانسلاخ عن الواقع، وهم صانعو الشمولية" الفلسفية (ص 300). فالفيلسوف ما هو إلا إيديولوجي بالتربيع (ص 301). إن هذا الأخير يعمل على الإيديولوجيات دون أن يقيم الصلات التي تربطها بالواقع، وذلك بخلاف القاضي الذي يضطر رغما عنه إلى مراعاة الواقع إلى حد ما. علما أن القاضي إيديولوجي شأنه شأن الفيلسوف. والأمثلة على الفلاسفة/ الإيديولوجيين لا تنته. ومن هؤلاء برودون، هذا البورجوازي الصغير الذي يحظى من قِبَل ماركس وإنجلز على "نقد طبقي، ومن وجهة نظر البروليتارية التي تشكل وجهة النظر العلمية الوحيدة في عالم الإنتاج الرأسمالي" (ص 345). إن الفلسفة برأي لابيكا تحتل حيزاً لنفسها في طي الإيديولوجية.
ويلح إنجلز في "وضع الطبقة العاملة في بريطانيا" على تعميم "التنافس"، فيما تخوض البورجوازيات المعارك من اجل تحديد وتثبيت حد أدنى للأجور، ويقاتل البروليتاريون من أجل من أجل انتزاع الحد الأدنى. إلا أن ماركس في "أطروحات فويرباخ" يَستَخلِص الفكرة المسيِّرة، وهي التاريخ، أي مجموعة العلاقات المجتمعية، بالإضافة إلى الإعمال من حيث هو العلاقة الجدلية المتطورة ضمن الاتصال عبر زمان الظروف الموضوعية والسياق التاريخي ما بين الممارسة والنظرية؛ الممارسة والوعي. إن عملهما الذي يحمل عنوان "الإيديولوجية الألمانية"، والذي يعتبر من الأعمال الرئيسة، يُحاكِم الفلسفة التي تَظهر باعتبارها إجراءات لمصادرة الوجود الحقيقي. والأفكار الثلاثة التي تحرِّك "الإيديولوجية الألمانية" هي: نقد الفلسفة بصورة جذرية، والفلسفة ذات طبيعة إيديولوجية، والمادية لم تعد نظرية وإنما هي ممارسة، وإعمال جدلي متصل ما بين الممارسة والنظرية، ومن هذه الممارسة يتكوَّن التاريخ وتظهر المادية التاريخية.
إن ماركس، بعدما ينتهي من تفحُّص الإشكالية الفلسفية للهيجيليين الشبان وأنصار فويرباخ دعاة اشتراكية فلسفية إنسانية، يرسم حدود هذه الإشكالية، فيجعل من المجتمع البورجوازي الموضوع الحقيقي للمعرفة العلمية، ولينتهي في الوقت نفسه من الخطاب الفلسفي. هذه النتيجة تجد تكريسا لها في "الإيديولوجية الألمانية". ماركس وإنجلز هنا ينتهيان إلى هذه النتيجة في ما يتعلق بالمجتمع البورجوازي من حيث هو موضوع المعرفة العلمية عبر حركة مزدوجة. الاعتراف، من جهة، بالبروليتارية كما يتبيَّن أعلاه. هذا الاعتراف يأتي في المرحلة الأولى ضمن الفلسفة النقدية، أي التحالف ما بين الطبقة التي تتألم، والإنسانية التي تفكِّر. الأمر الذي يقود في "الأسرة المقدَّسة" إلى البحث ضمن بنية المجتمع البورجوازي عما يُرغم البروليتارية على خوض المعركة من أجل تحررها بصورة نهائية. ويأتي، من جهة ثانية، ظهور المجتمع البورجوازي كموضوع للمعرفة العلمية، عبر نقد فلسفة القانون التي تحدِّد المجتمع المدني البورجوازي من حيث هو الساحة الحقيقية للتاريخ.
بتعبير آخر، فإن الاعتراف بالبروليتارية كطبقة، يرافقه إنكار للفلسفة وقطيعة مع تصوراتها. هذا المسار لدى ماركس يَنتقل من الفلسفة النقدية، أي التحالف ما بين الطبقة والفكر الإنساني، إلى نقد الفلسفة بالاستناد إلى الواقع. وفي مرحلة ثالثة لاحقة، يُشكِّل المجتمع المدني البورجوازي، هذا الموضوع الواقعي الذي يقع فريسة للخطاب الإيديولوجي الحاضن للفلسفة، يشكِّل موضوعا للمعرفة، وهو الذي يَكشف عن حقيقة الفلسفة والإيديولوجية. هذا الخطاب الإيديولوجي الذي يَضَع القناع على الواقع المجتمعي لإخفائه. مما يجعل حينئذ نقد الفلسفة شرطا لتكوُّن علم التاريخ والقطيعة مع الفلسفة.
يأخذ إذن مفهوم الفلسفة في أعمال الأربعينات من القرن التاسع عشر المسار التالي:
آ/- إذا ما درسنا علاقات ماركس وإنجلز بالفلسفة في المرحلة الهيجيلية، أو عندما كان ماركس هيجليا شابا، وقرأنا نقده لفويرباخ، فإن المخرج من الفلسفة يَظهر بنمطين اثنين. الأول مخرج كاذب، وهو فلسفي ومن داخل الفلسفة. ثم يأتي مخرج من حيث هو قطيعة (ص 167 على سبيل المثال)، لأنه يستدعي تنظيما جديدا للمعرفة والممارسة ككل، أي علم التاريخ / المادية، والذي كفَّ كما يقول لابيكا عن أن يكون فلسفة. إنه الصراع الطبقي ومعه اختفت الفلسفة.
ب/- مسار ماركس انطلاقا من تطور مشكلة كانت تجمعه بالهيجليين الشبان، وهي علاقة الفلسفة بالعالم، فإن هذا المسار لا يرسم خطا مستقيما (ص 77). وكان بعض هؤلاء المثقَّفين يعتقدون واهمين أن ألمانيا تعوِّض عن تأخُّرها الموضوعي، بالمقارنة مع تاريخ بريطانيا وفرنسا، بتقدُّمها التاريخي في مجال تمثل ما هو "جليل" (أو الرفيع العالي). هذه هي الفلسفة الألمانية. بيد أن المخرج من الفلسفة خلال المرحلة الأولى، مرحلة الفلسفة النقدية، لا يتأتى لماركس وإنجلز إلا عبر هذا الشكل من الوعي الفلسفي مشحونا ومتصلا بالواقع التاريخي. لابيكا يرى أن هذه العلاقة ما بين الوعي والتاريخ تبقى في هذه المرحلة، مرحلة الفلسفة النقدية، داخل الفلسفة، وإن كانت العلاقة ما بين الوعي والتاريخ هي المحرِّك على امتداد المسار التاريخي للمخرج من الفلسفة، والذي يجتاز مراحل حاسمة عبر "مدخل 1843"، و"مخطوطات 1844"، و"الأسرة المقدسة". هذا المحرِّك ليس نظرية ذات حركة مستقلة ذاتيا فلسفية وشاملة ككل النظريات الفلسفية وغيرها، وإنما ما كان كل من ماركس وإنجلز يتعلمانه من التاريخ الواقعي، من المشاركة في صراع الطبقات. فللبروليتارية، في "مدخل "1843 ، مصدر أو أصل فلسفي في هذه المرحلة من إشكالية الفلسفة قبل أن تصبح في ما بعد قطيعة. إلا أن مثل هذا الاستخدام وليد التجربة الصحفية لماركس في "لاغازيت رينيان" La Gazette rhénane (ص 110 وما بعد). مِثْلُ هذه المقاربة الفلسفية للبروليتارية ليست سوى حنينا أو وهما (ص 44)، طالما أن الفلسفة هنا خلال مرحلة الفلسفة النقدية تنقل "البؤس الألماني".
وطوال هذه المرحلة، مرحلة الفلسفة النقدية، لم يخرج ماركس وإنجلز من الفلسفة بصورة كاملة. وأيا كانت المزايا النقدية لأعمال مثل "مخطوطات 1844"، إلا أنهما سينتهيان مع ذلك في ما بعد إلى القطيعة مع حالة ما من الوعي بكليتها من أجل المشاركة بصورة كاملة في المعركة الطبقية.
ج/- يبدأ ماركس وإنجلز في صياغة مفاهيم أساسية وثيقة الصلة بمشاركتهما الفعلية في تنظيم الصراع الطبقي. هذه الممارسة السياسية الطبقية يرافقها انتقال للوعي من الحيِّز النظري إلى حيز التاريخ والصراع الطبقي. الأمر الذي يُسجِّل للانتقال من الفلسفة النقدية إلى نقد الفلسفة، لأن النقد الموجَّه إليها لم يعد نظريا وفلسفيا، وإنما يستند إلى الطبقة. بيد أن لابيكا يعترف بأن القطيعة مع الفلسفة في هذه المرحلة ليست أحيانا، أو في ما يتعلق ببعض الموضوعات، صريحة بصورة كافية. من الأمثلة على ذلك ما يتعلق بمفهوم الاستلاب في"الإيديولوجية الألمانية" (ص ص 268-269).
د/- إن الفلسفة في هذه المرحلة، مرحلة الفلسفة النقدية، تتميَّز من حيث وظيفتها الطبقية. فستيرنير برأيهما، بوصفهما أعضاء في حزب ثوري، فيلسوف أو صحفي مأخوذ بالفلسفة، شأنه شأن برودون. إلا أن ستيرنير وبرودون بورجوازيان صغيران في المقام الأول (ص ص 197-199 و306، 327، إلخ). إن الفلسفة في هذه المرحلة، مرحلة الفلسفة النقدية، ظاهرةٌ طبقية. وما أن تٌعقد الصلة ما بين العلم والطبقة العاملة، حتى تَفقَد الفلسفة كما يقول لابيكا أية فائدة مرجوة منها، ومعها الفلاسفة. ها نحن ذا نصل إلى المرحلة الثالثة، مرحلة القطيعة مع الفلسفة. ها نحن ذا في العام 1848، تاريخ صدور "البيان الشيوعي".
إن المخرج Ausgang من الفلسفة يصبح قطيعة معها حسب ما جاء في "لودفيغ فويرباخ ونهاية Ausgang (المخرج) الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. فلنلاحظ أن المخرج من الفلسفة يأتي في النص الألماني Ausgang، وليس نهاية الفلسفة حسب النص الفرنسي والعربي، أو بالأحرى النهاية بمعنى المَخرج. "المَخْرَج" برأي لابيكا ليس مجرد نفي للفلسفة، وإنما هو إنكار لها. إن "المخرج" أكثر جذرية من "القطيعة الإبستمولوجية" مع هيجل والتي كان لويس ألتوسير يتحدَّث عنها في عمله "من أجل ماركس". هذا، وإن كان لابيكا يلاحظ أن هذه القطيعة تبدو أحيانا غير مستقرة. فإن ماركس يخرج حقا من إشكالية الاستلاب دون أن يَخرج الاستلاب من الإشكالية" (ص 269). إن تكريس هذه القطيعة يأتي في "الإيديولوجية الألمانية" حسب لابيكا، وذلك على غرار ما كان يرى ألتوسير. ففي "الإيديولوجية الألمانية" ثمة تفنيد للمصادر الثلاث، الفرنسي والألماني والبريطاني، من حيث هي مصادر للمادية التاريخية. ولن تلبث المصادر الثلاث أن تختفي في "البيان الشيوعي" لتحل محلها الاشتراكية الأممية. فإذا كان ماركس استهل عمله بالفلسفة، فإنه ينتقل بعد ذلك إلى الاقتصاد والسياسة ليلازمهما. "إن الماركسية بدأت بصورة مقلوبة" (ص 46)، فقد انتقلت من البنى العليا إلى القاعدة (م.س).
خامســا: ظــهور الطــبقة العـاملــة ونهــاية الفلســـفة
ثمة تزامن معرفي ما بين ما تشغله البروليتارية من حيِّز هام في المادية التاريخية، وبين نهــاية الفلســـفة. تزامن عبر مسار القطيعة مع الفلسفة، والتي تبدأ بالفلسفة النقدية، لتنتقل بعد ذلك إلى نقد الفلسفة، ومن ثم إلى القطيعة مع الفلسفة. إذ إن الاعتراف بالدور الكامل للبروليتارية، هو اعتراف بها من حيث هي مصدر القطيعة مع الفلسفة، ومصدر الثورة المعرفية التي تؤذن بالخروج بصورة قاطعة مانعة من الفلسفة. هذا المسار يأخذ طريقه إلى هذه النهاية عبر عدد من المعادلات النظرية التي ترافق مسار ماركس وإنجلز. فحيِّز المعرفة والفلسفة ينتقل من "أطروحة ماركس لنيل درجة دكتور في الفلسفة"، إلى "الأسرة المقدَّسة"، عبر المراحل أو المعادلات التالية:
آ/- المعادلة الأولى أو الفلسفة النقدية قوامها علاقة الترابط والتوازي ما بين الفلسفة والعالم من أجل صياغة فلسفة نقدية تقوم على أُسس من فكر يتمثَّل عالم الواقع.
ب/- المعادلة الثانية أو نقد الفلسفة قوامها علاقة التحالف ما بين الفلسفة والبروليتارية، حسب ما يتبيَّن من "المدخل إلى نقد فلسفة القانون". إن الاعتراف بالبروليتارية في هذه المرحلة ما يزال نظريا. بيد أن هذا التحالف ما بين الفلسفة والبروليتارية لن يلبث أن يتوارى تاركا مكانه لمعادلة ثالثة قوامها المادية التاريخية والعلم. إلا أن الانتقال الأخير لن يأتي حسب ما يتبيِّن في "مدونات هامشية نقدية" Notes marginales critiques لماركس إلا بعد ظهور عدد من حالات الانتقال، وذلك قبل أن تنتهي هذه الحالات الانتقالية إلى منح البروليتاريا معناها العلمي عندما تتعرَّف على ما تحدثه البروليتارية من ثورة في نظام المعرفة. البروليتارية في المرحلة الثالثة، مرحلة القطيعة مع الفلسفة، هي مصدر الثورة المعرفية ذات المضمون السياسي، وليس مصدر هذه القطيعة معرفية (أبستمولوجية) ، وإنما هي مادية تاريخية. هذا وإن كان معنى أن البروليتارية في المرحلة الثانية ما يزال معنى فارغا من الناحية العلمية والمادية، ومرادفا للتحرر الإنساني من العذاب، وهو نتاج سلبي للفقر. إن البروليتارية على هذا النحو، معناها وجوهرها، من حيث هي نفي للمجتمع البورجوازي، ما يزال ينتظر المرحلة الثالثة، مرحلة القطيعة مع الفلسفة. وتُسَجِّل " مدونات هامشية نقدية" كما يلاحظ لابيكا ما يطرأ من تغيير على مفهوم التحرر الذي كان ما يزال فلسفيا، قبل أن يأخذ ما هو إنساني معناه المجتمعي. وهذا النص غير المعروف بصورة كافية في أوساط الماركسيين يضمن الانتقال من "مخطوطات 1844"، إلى الأطروحة السادسة لفويرباخ. وفيه يتبلور المجتمع المدني البورجوازي ويظهر من حيث هو الحيز الحقيقي للاستلاب.
ج/- يقود هذا المسار عبر "مدونات هامشية نقدية"، ومن "مقدمة 1843-1844" حتى غاية "البيان الشيوعي" في العام 1848، إلى ممر نظري يستغرق سنوات. إن المعادلة بروليتاريا / فلسفة في المرحلة الثانية، مرحلة الفلسفة النقدية، لن تُنجِزَ الانتقال من الفلسفة النقدية إلى العلم، فتنتقل المعرفة من الفلسفة إلى العلم، إلا عندما تأخذ البروليتارية معناها الكامل من حيث هي ثورة معرفية، أي انتقال المعرفة من الفلسفة إلى الطبقة العاملة. الأمر الذي ينفي ويدحض مقولات على نحو ما يأتي عن لويس ألتوسير وستالين وغيرهما، مقولات مثل الماركسية من حيث هي "الفلسفة العلمية" أو من حيث هي "الفلسفة الثورية". إن "مخطوطات 1844" تنطوي على محاولة لسد هذا الفراغ عبر معادلة قوامها الفلسفة / الاقتصاد السياسي. إذ إن نقد الفلسفة في مرحلة الفلسفة النقدية يَعتمد على الاقتصاد السياسي ومفهوم للبروليتاريا غير ناضج بصورة نهائية. إلا أن مثل هذه المعادلة لم يكتب لها الحياة المديدة. إذ إن ظهور "الأسرة المقدَّسة" سرعان ما يعلن عن ظهور التداخل ما بين النظرية وممارسات البروليتاريا في علم التاريخ، ما يشير إلى بزوغ بديل جديد عن المعادلة اقتصاد سياسي / فلسفة.
ما هو هذا الممر النظري من نقد فلسفة القانون إلى "الإيديولوجية الألمانية"، عبر "مخطوطات 1844"؟ إن تلمُّس الجواب يبدأ برسائل ماركس المُوَجَّهَة إلى آرنولد روج Arnauld Ruge المنشورة في "الحوليات الفرنسية الألمانية" Les Annales franco-allemandes، والتي تشير إلى أن ماركس يدرك بقوة بأن نقد الدين والقانون لم يعد كافيا، وأن من الضروري معالجة الاشتراكية والشيوعية بصورة جدِّية. فمفردات الفلسفة النقدية في الرسائل إلى بروج تتعرَّف على المبدأ الاشتراكي كأحد أوجه ماهية الإنسان. إلا أن هذا غير كاف للتعرف على التحرر الإنساني من الناحية النظرية لأن هذا التحرر مهمةٌ تاريخية ضرورية. ثمة إذن طريق آخر غير ذاك الذي يسلكه روج والاشتراكية كماهية إنسانية. هذا الطريق الآخر يختطه إنجلز في العدد نفسه من "الحوليات الفرنسية الألمانية"، حيث يُطَبِّق المقولات النقدية لدى فويرباخ على دراسة للاقتصاد السياسي من وجهة نظر اشتراكية.
اعتبارا من ذلك تَرتسم بوضوح الخطوط العريضة ل"مخطوطات 1488". ففي ما كان إنجلز يتقدَّم في نقده للملكية الخاصة نحو موقف حاسم تاركا وراءه الاشتراكيين والشيوعيين الذين كانوا يكتفون بنفي الملكية الخاصة، كان ماركس يأخذ من انتقادات إنجلز هذه نقطة انطلاق ليدرج التحرر الإنساني في التاريخ. لذا، تراه يعود إلى هيجل لينتقد فويرباخ، كما يعود للثاني لينتقد الأول. فإذا كانت فلسفة فويرباخ تبدو ضمن الفلسفة الألمانية هي وحدها القادرة على استيعاب التحرر، فلأنها تَستَمد معناها التاريخي هذا من التكامل ضمن الثالوث الأوروبي. لذا، فإن فلسفة فويرباخ تبدو على هذا النحو من حيث هي ما تَفتقر إليه الاشتراكية كي ما تستطيع أن تنجز بصورة كاملة نقدها للاقتصاد السياسي، وذلك في ما يبدو نقد الاقتصاد السياسي هذا من وجهة نظر اشتراكية من حيث هو ما يفتقر إليه فويرباخ كي ما يستطيع أن يفك بصورة كاملة لغز الفلسفة النظرية التأملية الشمولية. الأمر الذي يحمل ماركس على القول بأن أحدهما يلغي الآخر، فويرباخ والاشتراكيون.
ما أن يظهر هذا الإلغاء المتبادل ما بين فويرباخ والاشتراكيين من جراء تقصير الطرفين في نقد الاقتصاد السياسي والفلسفة، حتى يصبح الانتقال من الفلسفة النقدية إلى المخرج من الفلسفة في متناول اليد، وذلك حسب ما يتبيَّن في "الأٍسرة المقدَّسة"، حيث يَظهَر برودون والمادية الفرنسية كنقيضين للفلسفة الألمانية. وهنا ترتسم - كما ورد قبل قليل - بوضوح الخطوط العريضة ل/"مخطوطات 1844" بأعين ماركس، باعتباره هذا العمل، أي "المخطوطات"، كان محاولة للخروج من التأمل النظري من داخل الفلسفة وضمنها، وليس باعتبارها مخرجا من الفلسفة، هذا المخرج الذي لن يلبث أن يشق طريقه مع "أطروحات فويرباخ".
يبدو برودون في "الأسرة المقدَّسة"، وغداة "المدونات الهامشية النقدية" التي تَستخلص الدروس من ثورة عمال النسيج في ألمانيا، بوصفه ممثل البروليتاريا التي تدخل إلى الساحة وقد حازت على قوتها الثقافية الخاصة بها. إن البروليتاريا عبر برودون تضع الفلسفة النقدية الألمانية خارج الزمان، وتفرِّغها من ميِّزة مواكبة التاريخ، وتضع في الوقت نفسه نهاية للتحالف ما بين الفلسفة والبروليتاريا.
وتظهر المادية الفرنسية في "الأسرة المقدَّسة" باعتبارها نقيض الميتافيزيقا التأملية. ماركس يَكتشف من خلالها طبيعة المادية من حيث هي نقيض للفلسفة. ذلك أن الاشتراكية الفرنسية بحاجة إلى المادية ضد الميتافيزيقا. لذا، فإن ألمانيا اعتبارا من هذه المعطيات تَفقد الرسالة الفلسفية التي كانت تحملها في أوروبا، وذلك في ما يجد ماركس نفسه مضطرا إلى الغوص في ثالوث المادية، والاشتراكية، والثورة، ككل واحد. الأمر الذي يقود بالتالي إلى ظهور "أطروحات فويرباخ"، ومن ثم "الإيديولوجية الألمانية". علما أن "أطروحات فويرباخ" هي التي تُرسي برأي لابيكا لعلم التاريخ أو المادية التاريخية، وتُحدث ثورة في عالم المعرفة والعمل. ف"أطروحات فويرباخ" تؤذن بالقطيعة بصورة نهائية مع الفلسفة، وهي التي تَرفع آخر العقبات الفلسفية التي تَعترض ظهور علم التاريخ، قبل أن يَظهر الاكتشاف الثاني في هذا المسار من القطيعة مع الفلسفة، وهو المجتمع المدني البورجوازي.
سـادســا: الـمـجــتمـع المــدني الـبورجـــوازي
المَخْرَج من الفلسفة هو مَخْرَج من الإيديولوجية، ومن "الفلسفة من حيث هي إيديولوجية بالتربيع"، على حد قول لابيكا. إن مسار ماركس وإنجلز يجتاز للوصول إلى القطيعة مع الإيديولوجية يجتاز ممرا آخر: نقد الدولة ودراسة الهيكل التشريحي للمجتمع المدني. ففي مقدمة 1859 ل"المسألة اليهودية"، يَعمل ماركس على نقد الحياة السياسية، وحقوق الإنسان، وما انتهى إليه مفهوم المجتمع المدني لدى هيجل بعدما تحوَّل في عمله من مفهوم سياسي إلى مفهوم يدلِّل على الحياة المدنية، و"المجتمع الخاص" (الأهلي)، والذي يصبح بتدخل الدولة مفهوما شموليا. وهو الأمر الذي يقود ماركس إلى إدراك أن المجتمع المدني ليس موضوعا من موضوعات الدولة كما يرى هيجل، وإنما قاعدتها.
ومن "المسألة اليهودية" إلى "الإيديولوجية الألمانية"، تأتي نظرية الدولة جنبا إلى جنب مع المجتمع المدني البورجوازي، من حيث هما جزء من البنى العليا. ويرافق الدولة علم التكوينات الاقتصادية والمجتمعية. وعلى هذا النحو، فإن مفهوم المجتمع المدني، على نقيض من الإنسانية لدى فويرباخ، ونظريات الحقوق الطبيعية، يصبح هو موضوع المعرفة ويحل محل إنسانية فويرباخ والحقوق الطبيعية، بما يقود ماركس وإنجلز إلى الانتقال بصورة نهائية من نقد فلسفة القانون إلى المادية التاريخية. وعلى هذا النحو أيضا، فإن المجتمع المدني يشكِّل، حسب ما جاء في "الإيديولوجية الألمانية"، "البيت الأصيل للتاريخ كله وساحته".
ويُعثَر على المقولات التي تؤسِّس للمادية التاريخية، ليس في طي "أطروحات فويرباخ"، وإنما ضمن "الإيديولوجية الألمانية". هذا العمل الذي يَستعيد المفاهيم السابقة للنظرية السياسية والاقتصاد السياسي ليحوِّلها إلى مقولات جديدة هي موضوعات المادية التاريخية. فمقولة التنافس التي كانت تَشْغَل حيزا مركزيا في أنماط الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، والتي كانت موضع هجوم في انتقادات إنجلز، تركت مكانها ليحل محلها مفهوم جديد هو تقسيم العمل. هذا العمل، "الإيديولوجية الألمانية"، يكشف أيضا عن نشوء علم قوامه الكشف عن النظام الواقعي للعوامل المُحَدِّدة، مقابل المسار النظري التأملي النقدي الذي كان يميز المرحلتين السابقتين، مرحلة فلسفة النقد، ومرحلة نقد الفلسفة. ثمة هنا ربط مفصلي ما بين زمان التحليل النقدي، أي المسار التاريخي التكويني للمجتمع المدني البورجوازي الذي يتكشَّف للمعرفة عبر تاريخ الدولة، والمُنتَج من النظريات، وأشكال الوعي، وما بين الزمان اللازم لإعادة بناء المسار التكويني التاريخي للمجتمع المدني. ويتعذَّر على الإدراك أن يفهم هذه العوامل بصورة واقعية ما لم ينطلق من الإنتاج المادي لإعادة بناء حركة الكل من حيث هي كلية متداخلة. فالدولة، في هذا السياق التاريخي، ليست مجرد بنية عليا كما يلاحظ لابيكا، وإنما تؤدي أيضا وظيفة المُحَوِّل الذي يقوم بعمليات التبديل ما بين القاعدة والإيديولوجية. لذا، فإن التخلِّي عن الدولة للمجتمع المدني، كما يتخلى المرء عن الوهم كي ما يلامس أرض الواقع، لم يعد واردا كما كان عليه الحال في "المسألة اليهودية". إن العلم هنا قوامه إعادة اكتشاف العلاقات المعقَّدة للعوامل المحدِّدة، والتعرُّف من خلال ما تُنْتِجُه الحياة المادية على القانون الذي يَحكم تَحوُّل المجموع.
في ضوء ذلك، فإن نقد الإيديولوجية يَنْصًبُّ بدوره على شكل المسار التكويني التاريخي للمجتمع والدولة. إذ لم يعد كافٍ أن نَنزع الأقنعة، وإنما أن نَعرف ما هي العلاقات الموضوعية المختبئة وراء ما تنتجه الإيديولوجية من أفكار. إن مادة الإيديولوجية هي، من ستينر إلى برودون، حسب ما جاء في "الإيديولوجية الألمانية"، الفلسفة من حيث هي بامتياز التأمل النظري الذي يفكر بنفسه، والذي يجد حيِّزا لإنتاجه لدى وعي البورجوازية الصغيرة. لذا، فإن "البيان الشيوعي" في العام 1848 يضع الاشتراكية الفلسفية تحت عنوان "الاشتراكية الرجعية". وحتى غاية العام 1848 لا يكف ماركس عن دحض وتفنيد أنواع من الفلسفات لا تكف عن تهديد الاشتراكية. وليس من قبيل الصدفة أن "البيان الشيوعي" يتخلَّص من الثالوث الأوروبي ليرسخ الاشتراكية الأممية، وذلك في ما كان برودون بدأ لتوه بالالتفات نحو الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي البريطاني، ويريد الاستفادة من الثالوث الأوروبي. إن "البيان" يتخلص من المصادر الثلاث ليسلِّح الحركة الاشتراكية الأممية بنظرية علمية تشكل إنكارا لهذا الثالوث، وهي أول تعبير واضح ومتكوِّن لعلم التاريخ. إذ إن صدور "البيان الشيوعي" يَمنع استنتاج أي فلسفة من النظام الداخلي لمفاهيم "البيان" نفسه. الأمر الذي يَمتنع معه نشوء فلسفة ماركسية، أو اقتصاد سياسي ماركسي. وهذه هي مفارقة رئيسة في أعمال ماركس وإنجلز يضع جورج لابيكا يده عليها.
ســابعـا: الإيديولـوجــــية هـي حـامـل تقســــيم الـعـــمـل
إن التاريخ المادي يَكشف ما كانت تُخفيه الفلسفة التي انتهت بصورة قاطعة ونهائية مع ظهور المجتمع البورجوازي من حيث هو – على حد قول ماركس، وكما ورد سالفا - الموضوع الواقعي الوحيد، المادي والمُؤَرَّخ، وغير قابل للاختزال إلى مفاهيم، بل وأنه على النقيض من ذلك هو الذي يفسِّر المفاهيم، من فلسفة وإيديولوجية وأفكار، إلخ. التاريخ هو الذي يَمنح المفتاح لفهم هذه المفاهيم، والكشف عن طبيعتها، ووضعها ووظيفتها. وإن التمييز ما بين الدولة والمجتمع المدني واضح بصورة جلية للغاية: فالإنسان في الدولة عضو مُتَخَيَّل لسيادة وهمية، وهو في المجتمع ليس أكثر من وسيلة تؤول إلى لعبة بين أيدي القوى الغريبة عنه.
وَيَحتَل تقسيم العمل في نقد الإيديولوجية ودحضها مقام الأولوية. إنه مبدأ للتناقض ما بين العمل الثقافي والعمل اليدوي اللذين يأخذان في الإيديولوجية البورجوازية طبيعة متعارضة، شأنها شأن التعارض ما بين الإنتاج والاستهلاك. "راس المال" (ص245)، منذ الجزء الأول يُظهر تقسيم العمل بوصفه مصدرا لبتر الإنسان والمجتمع، لتقطيع الأول كما الثاني، ومصدرا لفقدان المساواة، محمَّلا بمبادئ النزاعات والصراعات والتعارض، والتي تنتهي وهي تتعمق إلى تحريض الحل عبر الثورة المجتمعية العالمية (ص 270). فإن الشيوعية متعذِّرة ما لم تأخذ شكل ثورة عالمية (ص 270).
وقاعدة المجتمع قوامها نمط الإنتاج الذي يتكوَّن من علاقات وأدوات وقوى الإنتاج من جهة، وشكل العلاقات ما بين هذه المكوّنات المترابطة بصورة وثيقة، من جهة ثانية. وإن نمط الإنتاج بما في ذلك شكله هو الذي سيُغَيِّر في تقسيم العمل ويلغيه، ويغيِّر ويلغي في الوقت نفسه الملكية الخاصة الملحقة بها. فالثورة ضمن نمط الإنتاج هي الشرط الأساسي لاستعادة القوى المُنتِجة لكيانها، واستعادتها لنفسها. الثورة البروليتارية هي التي تعيد الفرد إلى نفسه وتسمح له بأن يكون نفسه بصورة كاملة غير منتقصة، وأن يحقِّق وجوده.
إن هدف الماركسية برأي جورج لابيكا هو الانتقال من الفرد المُقَسَّم إلى الفرد الكامل. الفرد بصيغة الجمع هو الشاغل وهو الأساس. إنه يثور ضد تقسيم العمل من أجل التحرر من النبذ المهني، والملكية الخاصة من حيث هي نتيجة لتقسيم العمل، ومن أجل عمل حر متعدد الأشكال، وذي معنى واحد بالرغم من تعددية أشكاله. الفرد، الأفراد، يثور ضد تقسيم العمل من أجل تفتُّحه وتحرره عبر علاقات مجتمعية متداخلة وخاضعة لشروط تطور الصناعة الكبرى. إن المادية التاريخية، وهي مادية الممارسة، ومادية الإنتاج الذاتي للإنسان (القاعدة المادية للإنتاج والعلاقات المجتمعية)، تنقلب على هذا النحو ضد كل الأنماط الإيديولوجية التي تَحمل تقسيم العمل وتحميه (ص 280)، الإيديولوجية من حيث هي تشويه للتاريخ وإنكار له بالرغم من أنها نتاج له. المادية التاريخية تنقلب أيضا ضد الإيديولوجية من حيث هي القوة الثانية للفكر الفلسفي وتأملاته. المادية التاريخية تفسَّر المقاطع المميِّزَة لانسلاخ الإيديولوجية عن الواقع، ولتصوراتها المقلوبة، والتي تشَوِّه حقيقة الشروط الواقعية للإنتاج بما تُسْقِطُه على الواقع من قناع للشمولية موهوم، وذلك من أجل إخفاء نظام ومراتب الصراع الطبقي ودفنه في طي النسيان.
ثامــنا: الـشــــيوعـية حــركــة الـواقـــع
لم تكن مرجعية الاشتراكية والاقتصاد البريطاني كافية لإنجاز هذا التغيير. وإن مثال برودون يدلِّل على ذلك بقوة. إن برودون يُمثِّل هذا الجمع بين البورجوازية والشعب، وهو بتعبير آخر النموذج الصادق للبورجوازي الصغير المتأرجح والمهتز بصورة مستديمة ما بين رأس المال والعمل، ما بين الاقتصاد السياسي والشيوعية. إنه يريد أن يجعل من الاقتصاد ما فعله هيجل بالدين والقانون. فلقد جعل من المقولات الاقتصادية "أفكارا أبدية". إنه لا يكتب تاريخ الإنسان، وإنما تاريخ مقدَّس، وتاريخ الأفكار. وإن ستيرنر لا يختلف عن برودون. إنه يمسك بكل شيء من طرفه الفلسفي مختصرا التاريخ إلى تاريخ للفلسفة.
وكان إنجلز في العام 1847 في "مبادىء الشيوعية" يزيح كل المسائل من حيِّز الفلسفة ليضعها في حيز المادية التاريخية. فالمجتمع البورجوزاي على سبيل المثال موضوعٌ يَخضع للدراسة العلمية. وفي العام 1847 يُلخِّص ماركس كل المكاسب التي تحصَّلت له مع إنجلز في رسالة له موجَّهَة إلى كارل هاينزن Karl Heinzen، حيث يبيِّن أن الشيوعية ليست عقيدة، وإنما هي حركة، وهي لا تنطلق من مبادئ وإنما من الوقائع. والشيوعيون لا يستندون ويرجعون إلى هذه الفلسفة أو تلك، وإنما هم يستندون إلى المعرفة العلمية للتاريخ الماضي ونتائجه الفعلية في البلدان المتحضِّرة. ها نحن ذا عشية كتابة "البيان الشيوعي".
إن "البيان الشيوعي" يُؤذن بنهاية العودة إلى مرجعية المصادر الثلاثة التي تحدثا عنها في العام 1843، أي الفلسفة الألمانية، والاشتراكية الفرنسية، والاقتصاد البريطاني التي اندثرت بعدما لحقت بها عدوى الفلسفة. إلا أن هذه المصادر خلَّفَت قبل أن تختفي علم التاريخ. ولم يبق سوى علمين اثنين. علم الطبيعة، وعلم الإنسان أو التاريخ. بل، وإنه علم واحدٌ، هو علم الإنسان طالما أن التطور أصبح مع الإنسان تاريخا، وطالما أن الطبيعة مرتبطة بصورة كلية بالمستقبل الإنساني. وإن هذا العلم - حسب جورج لابيكا - يستغني عن كل فلسفة بما في ذلك ما يسمَّى الفلسفة العلمية (لدى ألتوسير وستالين من قبله). إن الفلسفة من وجهة نظر ماركسية قد انتهت.
إن "الوضع الماركسي للفلسفة" بقلم جورج لابيكا يكشف عن هذا الجهد الهائل من الممارسة السياسية التاريخية والعمل النظري في حياة ماركس وإنجلز، ليَنتَهي إلى قراءة لمستقبل الثورة في ضوء التحليل المادي للتاريخ والمجتمع المدني. مستقبل ثوري مؤهَّل للإنجاز شرط أن تُفِنَّد ما تفرزه الإيديولوجية من أوهام وأكاذيب. فإن الإيديولوجية خطر ما فتىء يهدِّد الحركة العمالية الثورية باستدراجها وراء أنساق فكرية شمولية، حيث تُلغي المفاهيم الواقع، والإنسان الطبقة، والماهية التناقضات أو الصراع، وحيث تُخفي المدنية المثالية المجتمع البورجوازي (ص ص 355-356). إن هذا العمل لا يَقتصر على دراسة مرحلة تاريخية من أعمال ماركس وإنجلز ونشاطهما السياسي. إنه إذ يُقدِّم تحليلا لهذه الأعمال وثيق الصلة بالتاريخ وخصوصياته، فإنه يَكشف أيضا عن مداها الذي يتعدى ما هو آني إلى العام والشامل (على سبيل المثال: ص 90، 176، 199). إن السؤال عن مكانة الفلسفة في الماركسية، والدفاع عن مَخْرَج منها، يأتي هنا في هذا العمل لجورج لابيكا لتفنيد استخدام الفلسفة، وبصورة أعم "النظرية" الماركسية، كأدوات وأجهزة. الفلسفة كأداة لتبرير ما يحدث لإنزال قناع عليه. ذلك أن "الحركة العمالية الثورية مرشَّحة في كل لحظة إلى الوقوع أسيرةً لسراب الخطاب الشمولي"(ص355-356). الأمر الذي يقود إلى إلحاق الاستعصاء بالممارسات السياسية والعلمية، "إن لم يكن استبدال للعلم وهو في حالة الفعل، إلى فلسفة رسمية؛ حسب ما رأينا ذلك يحدث أمام ناظرينا"(ص 367). هذه ظاهرة نموذجية تتجلَّى عبر الدوغمائية.
إن "الحيِّز الماركسي للفلسفة" عمل يرمي من حيث دوافعه النضالية إلى الحيلولة دون استخدام للماركسية كفلسفة تَتَستَّر بصورة نظرية، فكرية تأملية وشمولية، على التناقضات الواقعية والصراعات الإيديولوجية والسياسية الملموسة في المجتمع.
وما تحمله الماركسية في هذا المسار الثوري هو "نهاية الفلسفة وظهور علم للإنسان يتوق إلى التشبُّه بعلم الطبيعة أو الاقتراب منه، وذلك في الوحدة الواقعية للصناعة، حيث الإنسان طبيعة والطبيعة مجتمع"(ص ص 367-368). إن الماركسية بدورها ليست نظاما فلسفيا أو انساقا فكرية (ص 366). فالخبرة النضالية أو الممارسة لا تَخلُط ما بين التنبؤات العلمية التي تحمل دوما معها قدرا ما من الفرضية والمجازفة في المجال الإنساني والمجتمعي، وهي أقرب ما تكون إلى الجزئية منها إلى المطلقة، وتجريدية ما لم تتحقق بصورة ملموسة على أرض الواقع، لا تخلط التنبؤ العلمي في المجال الإنساني مع السحر المترجرج والقاسي لنبوءات الأنظمة الشمولية. إن جدل النظر والعمل، الوعي والممارسة، الإعمال المتصل والمستمر ما بين الممارسة والنظرية ضمن عجينة واحدة متطورة من التلقائية والعفوية إلى المعرفة العلمية، لا يقوى على تجاوز الهيجيلية وهي في حالة التخفي والاختباء، ما لم يَعترف هذا الجدل بأن من المستحيل بصورة قاطعة، مانعة، صياغة مفهوم للتاريخ باعتباره شمولية ملموسة، ومنح هذا التاريخ الشمولي مضمونا يشبه تطور النوع في علم الأحياء. هذه هي إحدى أهم الأفكار التي يدافع عنها لابيكا في "الحيِّز الماركسي للفلسفة"./.