أنس قاسم المرفوع
أكاديمي وكاتب وسياسي سوري باحث في مركز دراسات الشرق للسلام
(Anas Qasem Al-marfua)
الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 14:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ ولادة الدولة كنظام حكم، ونحن نشهد صراعات وحروباً طاحنة وإبادات بأبشع الطرق والوسائل، بل تم تطوير أسلحة لتكون أكثر فتكاً. والسبب هو الرغبة في تركيز السلطة في يد فئة محدودة، مما يؤدي إلى إلغاء التعددية وقمع الحريات. هذه النزعة المركزية التي تفرض هيمنة ثقافة وسياسة واحدة على مجتمعات متنوعة، كانت السبب الرئيسي في نشوء الحروب والإبادات الجماعية والاغتيالات السياسية.
لا يمكننا فهم جذور هذه المشكلة واستكشاف بدائل تحررية إلا من خلال إدارة تعتمد على اللامركزية واحترام التنوع.
الدولة المركزية: آلة قمع منهجية
فحقيقة الدولة المركزية هي آلة قمع؛ فهي نظام هرمي يهدف إلى إخضاع الشعوب تحت سيطرة سلطة واحدة. هذا النظام لا يعترف بالاختلافات الثقافية أو السياسية، بل يسعى إلى توحيد المجتمع تحت هوية واحدة مفروضة من الأعلى. هذا النموذج ينتج عنه قمع منهجي للهويات المحلية، مما يؤدي إلى تفاقم الصراعات الداخلية واندلاع الحروب الأهلية.
وتعتبر الدولة المركزية نتاجاً تاريخياً للأنظمة الأبوية والاستعمارية التي سعت إلى السيطرة على الموارد والبشر. وهذه الأنظمة، بدلاً من أن تكون أداة لخدمة المجتمع، تتحول إلى آلة قمعية تقمع أي محاولة للتمرد أو التحرر.
إبادات جماعية: نتاج طبيعي للدولة المركزية
ومن الأمثلة التاريخية على تلك الإبادات الجماعية التي حدثت في ظل الأنظمة المركزية القمعية، حيث تم تهميش وإبادة المجموعات العرقية أو الدينية بأكملها تحت ذرائع توحيد الأمة:
· الإبادة الجماعية للأرمن (1915): حيث كانت محاولة من الدولة العثمانية المركزية لفرض هوية تركية موحدة على مجتمع متعدد الثقافات. فحقيقة هذه الإبادة تعكس النزعة القمعية للدولة المركزية التي تسعى إلى إلغاء أي تنوع يهدد سلطتها.
· الهولوكوست (1939-1945): في ألمانيا النازية، تم تنفيذ إبادة جماعية ضد اليهود والغجر كجزء من سياسة الدولة المركزية التي سعت إلى "تطهير" المجتمع الألماني. فحقيقة تعتبر هذه الإبادة نتاجاً طبيعياً للنزعة المركزية القمعية.
· الإبادة الجماعية في رواندا (1994): حيث أدت السياسات المركزية القمعية إلى إبادة جماعية ضد التوتسي.
· حرب البوسنة والهرسك (1992-1995): حيث اندلعت بعد تفكك يوغوسلافيا، وشهدت إبادة جماعية ضد المسلمين البوسنيين من قبل القوات الصربية التي كانت تسعى إلى فرض هيمنة قومية صربية على منطقة متعددة الثقافات. فحقيقة هذه الإبادة كانت محاولة لفرض هيمنة مجموعة واحدة على مجتمع متنوع.
· مجازر حلبجة في العراق: خلال حملة الأنفال، حيث يقول الكاتب كريستوفر هيتشنز معلقاً على الحادثة: "إن هذا التطهير كان لحظة فاصلة أصبح فيها صدام سيداً مطلقاً على العراق، وهو ما يقابل ليلة السكاكين الطويلة في ألمانيا النازية أو قتل سيرجي كيروف في الاتحاد السوفيتي".
ومن خلال ذلك نرى أن السلطة المطلقة والدولة المركزية هي نتاج نظام هرمي قمعي يقمع التعددية والحرية. فصعود صدام حسين إلى السلطة المطلقة في العراق يمكن فهمه كتجلٍّ لنموذج الدولة المركزية التي تسعى إلى توحيد السلطة تحت قيادة واحدة، مما يؤدي إلى إلغاء التعددية السياسية والثقافية. هذه النزعة المركزية هي السبب الرئيسي للصراعات الداخلية والقمع الذي تعاني منه المجتمعات في الشرق الأوسط.
الحروب الثقافية والسياسية: أدوات القمع المركزي
ومن أبرز نتائج الدولة المركزية هي الحروب الداخلية والخارجية التي تشنها هذه الأنظمة للحفاظ على سلطتها. هذه الحروب ليست فقط بالشكل العسكري التقليدي، بل أيضاً هناك حروب ثقافية وسياسية حيث يتم قمع أي صوت معارض أو مختلف.
· أمثلة على الحرب الثقافية:
· قمع اللغة والهوية الكردية في تركيا: حيث تم حظر استخدام اللغة الكردية في التعليم والإعلام لفترات طويلة كمحاولة لفرض الهوية التركية الموحدة.
· تدمير التراث الثقافي: ففي البوسنة، تم تدمير المساجد والمواقع الثقافية الإسلامية خلال الحرب كجزء من سياسة التطهير العرقي.
· قمع الممارسات الدينية: ففي الصين وميانمار، يتم قمع الممارسات الدينية للأويغور والتبتيين والروهينغا كجزء من سياسة الدولة المركزية لفرض الهوية الموحدة.
· أمثلة على الحرب السياسية (قمع التعددية السياسية): هذه العملية تشمل إلغاء الأحزاب السياسية وقمع المعارضة ومنع أي محاولة للتمرد. في العديد من الدول، يتم إلغاء وقمع الأحزاب والمعارضة السياسية التي تدافع عن حقوق الأقليات كجزء من سياسة الدولة المركزية التي تسعى إلى فرض هيمنة سياسية واحدة. هذا القمع هو نتاج طبيعي للدولة المركزية التي تسعى إلى إلغاء أي تنوع أو صوت معارض يهدد سلطتها.
· الاغتيالات والاعتقالات السياسية: تعتبر أداة شائعة في الأنظمة المركزية للتخلص من القادة أو المفكرين الذين يشكلون تهديداً لسلطة النظام. حيث أن الدولة المركزية دائماً تخلق أعداء وهميين لتبرير قمعها.
· من أشهر عمليات الاغتيال:
· اغتيال سيرجي كيروف (1934) في الاتحاد السوفيتي: كجزء من التطهيرات السياسية التي نفذها ستالين لتعزيز سلطة الدولة المركزية.
· اغتيال باتريس لومومبا (1961) في الكونغو: كجزء من سياسات الدولة المركزية التي سعت إلى الحفاظ على الهيمنة الاستعمارية.
· اغتيال مهاتما غاندي (1948) في الهند: الذي كان يدعو إلى الوحدة الوطنية واحترام التعددية الدينية، ويعكس الصراع بين التعددية والهيمنة المركزية.
· اغتيال رفيق الحريري (2005) في لبنان.
· الاعتقالات السياسية:
· اعتقال المفكر عبد الله أوجلان (1999).
· اعتقال المناضل تشي جيفارا.
· اعتقال نيلسون مانديلا (1962-1990) في جنوب أفريقيا: لمدة 27 عاماً بسبب نضاله ضد نظام الفصل العنصري، وكان جزءاً من سياسة الدولة المركزية لقمع المعارضة السياسية.
· الاعتقالات في العديد من الدول العربية حيث يتم اعتقال الآلاف من النشطاء السياسيين.
البديل: نحو ديمقراطية إيكولوجية ولامركزية
وايضا هناك آليات أخرى تستخدمها الدولة المركزية لتوحيد المجتمع، كشعارات المقاومة والشعارات الوطنية أو الدينية أو القومية، بينما الهدف الرئيسي هو تعزيز سلطة النخبة الحاكمة. هذه السياسات تؤدي حقيقة إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وإلى مزيد من العنف والدمار، كما حصل ويحصل في سوريا والعراق وفلسطين واليمن والسودان وفي كثير من الدول.
وفي مواجهة هذا النموذج القمعي، أرى أن يكون هناك نظاماً بديلاً يعتمد على الديمقراطية الإيكولوجية واللامركزية. فالديمقراطية الإيكولوجية نظام سياسي يعترف بالتنوع الثقافي والبيئي، ويسمح للمجتمعات المحلية بإدارة شؤونها بشكل ذاتي. هذا النموذج يعتمد على التشاركية واحترام حقوق الإنسان والطبيعة بدلاً من الهيمنة والاستغلال، لأن التحرر الحقيقي يبدأ من الاعتراف بالهويات المتعددة وبناء نظام سياسي يعكس هذا التنوع.
· اللامركزية: تعني توزيع السلطة بين المجتمعات المحلية، مما يسمح لها باتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها دون تدخل مركزي قمعي. من خلال إنشاء مجالس محلية تدير شؤون المجتمع بشكل مباشر، مما يقلل من اعتمادها على السلطة المركزية. هذه المجالس يمكن أن تكون أداة لتعزيز المشاركة السياسية وضمان تمثيل جميع الفئات الاجتماعية.
· اقتصاد تشاركي: بدلاً من الاقتصاد المركزي الذي يسيطر عليه عدد قليل من النخب، اقتصاد تشاركي اي نظاماً اقتصادياً يعتمد على التعاونيات والمشاريع المحلية التي تخدم المجتمع بشكل مباشر.
· حماية البيئة: الديمقراطية الإيكولوجية تعني احترام البيئة واستقلالها، من خلال إدارة شؤونها بشكل ذاتي دون تدخل الإنسان الجائر، واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من النظام السياسي والابتعاد عن هيمنتها واستغلالها، من خلال تبني سياسات بيئية تحمي الموارد الطبيعية وتضمن استدامتها للأجيال القادمة.
خاتمة
في النهاية، تعتبر الدولة المركزية، ومن خلال تركيزها على السلطة والقمع، سببا رئيسيا في الحروب والإبادات والاغتيالات التي شهدتها البشرية عبر التاريخ. ويمكننا فهم جذور هذه المشكلة من خلال استكشاف بدائل تحررية تعتمد على اللامركزية والديمقراطية الإيكولوجية.
هذه البدائل حقيقة ليست فقط حلولاً سياسية، بل هي أيضاً رؤية لمجتمع أكثر عدلاً وحرية على كافة المستويات، حيث يتم احترام التنوع وحقوق الإنسان والطبيعة. فالتحرر ليس مجرد تغيير في النظام السياسي، بل هو تحول في الوعي والعلاقات الاجتماعية. وهذه الرؤية يمكن أن تكون طريقاً نحو بناء مجتمعات أكثر سلاماً وعدلاً في عالم يعاني من آثار الدولة المركزية القمعية.
#أنس_قاسم_المرفوع (هاشتاغ)
Anas_Qasem_Al-marfua#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟