عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 22:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتجاوز سيطرة الرأسمالية الطفيلية في السودان حدود الاقتصاد والعنف المباشر لتشمل قلب المعركة الحاسمة: معركة الوعي[1]. فالسيطرة على الاقتصاد والجيش لا تكتمل دون إخضاع قدرة الجماهير على التمثّل والتفكير، بحيث يظهر النظام الطفيلي وكأنه قدر محتوم، لا بديل عنه[2]. وقد تمكنت النخبة الطفيلية—المكونة من تحالف ثلاثي بين العسكر، الإسلام السياسي، والطائفية—من بناء شبكة متكاملة من الهيمنة الثقافية تستند إلى ثلاثة أركان أساسية: التعليم، الإعلام، والأيديولوجيا الدينية. هذه الأركان لم تُعِد إنتاج الوعي الزائف فحسب، بل أخفت التناقض الطبقي الأساسي ووجهت غضب الجماهير نحو صراعات ثانوية على أساس القبيلة، المنطقة، والمذهب، ما ساعد النظام على استمرار سلطته دون مساءلة[3].
لم يكن التعليم في السودان يوماً أداة محايدة، بل كان منذ الحقبة الاستعمارية وسيلة لإنتاج طبقة وسطى تابعة تدعم الإدارة الاستعمارية حسبما أوردنا في مقال سابق، واستمر هذا النهج بعد الاستقلال مع تغيّر المحتوى الأيديولوجي وفق مصالح الأنظمة المتعاقبة[4]. وقد أدى هذا إلى تقليص التعليم الفني والزراعي لصالح التعليم النظري الذي لا يخدم التنمية المنتجة، بينما تشير تقديرات اليونسكو إلى أن نسبة التعليم الفني من إجمالي الالتحاق الثانوي لا تتجاوز 5%، مع استمرار معدلات أمية مرتفعة وفوارق كبيرة بين الجنسين، خاصة في الأطراف المهمشة[5]. وقد أسهمت سياسات الإنقاذ، كذراع للإسلام السياسي، في تحويل المناهج إلى أداة لإعادة تشكيل الهويات بما يخدم المشروع الطائفي، بحيث أصبح التعليم وسيلة لإنتاج العمالة المهيأة لخدمة البيروقراطية العسكرية والطبقة الطفيلية على حساب القاعدة المنتجة، مع تعزيز التجهيل المتعمد لعامة الشعب[6].
تعمل وسائل الإعلام كذراع دعائي لهذا المشروع، حيث تتركز ملكية معظم القنوات والإذاعات في أيدي الدولة والعسكر وكبار التجار المرتبطين بالطفيلية[7]. لم يكن هدف الإعلام نقل المعلومة بقدر ما كان إدارة وعي الجماهير وتحويل غضبها عن قمة النظام الطفيلي، عبر خلق صراعات هوياتية: الأمن ضد الفوضى، الدين ضد العلم، القبيلة ضد المذهب[8]. وقد ساهم الإعلام في تبرير سياسات النهب وتبييض عمليات خصخصة القطاع العام، وتحويل احتجاجات العمال والمزارعين إلى أعمال تخريب، كما ظهر جلياً خلال الحروب في الأطراف حيث صُوّرت الصراعات على أنها نزاعات هوياتية بدل أن تكون صراعات على الموارد والسلطة[9].
أما الدين والإيديولوجيا فقد استُخدما كأداة لشرعنة النهب وتثبيت الطفيلية. فقد وظف الإسلام السياسي الخطاب الديني بالتحالف مع المؤسسة العسكرية لتبرير سياسات خصخصة الأراضي والموارد، وتكريس الريع الاقتصادي لصالح فئات متنفذة، مع تصوير أي احتجاج شعبي أو حركة مقاومة على أنها خروج على الشرع أو إثارة فتنة[10]. وبرز هذا بوضوح في فترات حكم الإنقاذ، حيث تم توظيف "فقه سلطاني" لإضفاء شرعية على قرارات سياسية واقتصادية تعزز القوة الطبقية للنخبة العسكرية والدينية، مع تقوية خطاب الطائفية لتبرير استبعاد أطراف مجتمعية معينة من النفوذ والموارد[11].
الجيش بدوره لم يكن مجرد قوة قسرية، بل أداة اقتصادية وسياسية تكاملت مع التعليم والإعلام والدين لإعادة إنتاج الهيمنة الطفيلية[12]. فقد سيطر العسكر على الشركات الكبرى والمشاريع الاقتصادية، وأصبح الإنفاق العسكري يتفوق بشكل صارخ على التعليم والخدمات الاجتماعية، حيث أظهرت بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) تفاوتاً كبيراً في توزيع الموارد، مما يعكس ترتيب أولويات يخدم النظام الطفيلي ويعزز سلطته[13]. وقد أدى هذا إلى تكريس علاقة تبعية عميقة بين الجيش والسلطة الاقتصادية، وهو ما دعم مشروع الإسلام السياسي في الحفاظ على النظام القائم، كما ساهم في تحويل الدولة إلى أداة لإعادة إنتاج الطائفية الاقتصادية والثقافية[14].
نتيجة هذه الشبكة المتكاملة من التعليم والإعلام والدين والدور العسكري، يتم إنتاج وعي زائف يحوّل الصراع الطبقي الحقيقي إلى نزاعات ثانوية على أساس القبيلة والمذهب والجنس والمنطقة[15]. ويصبح الغضب موجهًا أفقياً بين المضطهدين أنفسهم، بدل أن يتجه رأسياً نحو قمة الهرم الطفيلي[16]. لكن هذا الهيكل لم يكن مطلقاً، فقد ولدت منه مقاومة ثقافية متنوعة ظهرت في الشعر الثوري، الأغاني الشعبية، المسرح، والإعلام المستقل، وكذلك في المظاهرات الجماهيرية والثورات، كما حدث في ثورة ديسمبر 2018–2019 التي كشفت قدرة الجماهير على تحدي الخطاب المهيمن وفتح مساحات للحوار الطبقي، ومواجهة الطائفية والخطاب الديني السلطوي[17].
إن مواجهة الهيمنة الثقافية تتطلب برنامجاً مزدوجاً: معركة فورية ضد سياسات التضييق على التعليم والإعلام، وبناء ثقافة بديلة طويلة المدى تعيد الاعتبار للتعليم النقدي والمنتج، وترسيخ القيم الشعبية التي تكشف خيوط الطفيلية وتفكك الأيديولوجيا الزائفة[18]. كسر هذه الآلة ليس مجرد مهمة ثقافية، بل خطوة استراتيجية أساسية لتحرير المجتمع من سيطرة الطفيلية العسكرية والدينية والطائفية، وهو شرط مسبق لتحرير الأرض وتحقيق العدالة الاجتماعية. كما قال أنطونيو غرامشي: "الثورة الحقيقية هي أن نرى العالم كما هو، وأن نغيره".
النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] De Waal, A. (2015). The Real Politics of the Horn of Africa: Money, War and the Business of Power. Polity Press.
[2] Sharkey, H. J. (2008). Arab Identity and Ideology in Sudan: The Politics of Language, Ethnicity, and Race. African Affairs, 107(426), 21–43.
[3] Mamdani, M. (2009). Saviors and Survivors: Darfur, Politics, and the War on Terror. Pantheon Books.
[4] Breidlid, A. (2005). Education in the Sudan: The privileging of an Islamic discourse. Compare: A Journal of Comparative and International Education, 35(3), 247–263.
[5] UNESCO. (2021). Education and Literacy in Sudan: Statistical Profile. UNESCO Institute for Statistics.
[6] Berridge, W. J. (2015). Civil Uprisings in Modern Sudan: The Khartoum Springs of 1964 and 1985. Bloomsbury Academic.
[7] Reporters Without Borders. (2023). Sudan: Annual Report on Press Freedom. RSF Publications.
[8] Thomas, E. (2010). The Kafia Kingi Enclave: People, Politics and History in the North-South Boundary Zone of Western Sudan. Rift Valley Institute.
[9] Patey, L. (2010). The New Kings of Crude: China, India, and the Global Struggle for Oil in Sudan and South Sudan. Hurst Publishers.
[10] Komey, G. K. (2010). Land, Governance, Conflict and the Nuba of Sudan. James Currey.
[11] Verhoeven, H. (2015). Water, Civilization, and Power in Sudan: The Political Economy of Military-Islamist State Building. Cambridge University Press.
[12] SIPRI. (2022). Military Expenditure Database. Stockholm International Peace Research Institute.
[13] De Waal, A. (2015). The Real Politics of the Horn of Africa: Money, War and the Business of Power. Polity Press.
[14] Sharkey, H. J. (2008). Arab Identity and Ideology in Sudan: The Politics of Language, Ethnicity, and Race. African Affairs, 107(426), 21–43.
[15] Mamdani, M. (2009). Saviors and Survivors: Darfur, Politics, and the War on Terror. Pantheon Books.
[16] Breidlid, A. (2005). Education in the Sudan: The privileging of an Islamic discourse. Compare: A Journal of Comparative and International Education, 35(3), 247–263.
[17] Berridge, W. J. (2015). Civil Uprisings in Modern Sudan: The Khartoum Springs of 1964 and 1985. Bloomsbury Academic.
[18] Reporters Without Borders. (2023). Sudan: Annual Report on Press Freedom. RSF Publications.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟