إذا كان الاعلام يلعب دورا بالغ الأهمية في تشكيل الوعي لدى أفراد المجتمع بشكل عام، وينقل اليهم الرسائل التي يريد أولو الأمر توجيهها اليهم واقناعهم بها ودفعهم الى العمل أو السلوك بمقتضاها، فإن الاعلام يلعب الدور نفسه،
في تشكيل صور طوائف المجتمع في ذهن أعضائه، ويلعب دورا موازيا في تثبيت صور بعينها عن (الرجل) أو (المرأة) في أذهان أفراد المجتمع جميعا بلا تفرقة بين كبير أو صغير، غني أو فقير، خصوصا في منطقة القيم والاعراف الاجتماعية والسلوكية التي تتجاوز حدود الفقر أو الغنى.
ومن الطبيعي ـ والامر كذلك ـ أن يسهم الاعلام في تكوين الوعي المجتمعي للمرأة سلبا أو ايجابا، مستعينا على ذلك برسائله الاعلامية التي تحملها الجريدة والمجلة، وتؤديها الاذاعة والتلفزيون، خصوصا التلفزيون الذي أصبح اداة اعلامية خطيرة، يتصل تأثيرها المتزايد بالاعمال الدرامية التي اصبحت تحتل مساحة متميزة من الخارطة الاعلامية، وتلقى التفافا واسعا من الجماهير لمتابعتها. ويحدث التأثير السلبي للاعلام عن طريق صياغة وتثبيت واشاعة الصورة السائدة عن المرأة التابعة سواء في أذهان الرجال الذين تربوا ثقافيا واعلاميا على انهم الأقوى والأقوم، أو في أذهان النساء اللائي لا يزلن خاضعات للايدلوجية المجتمعية السائدة عن المرأة التابعة، أو في أذهان الأطفال الذين تربوا على تمثل الصورة السائدة للمرأة، فتتابع أجيالهم المؤمنة بسلامة هذه الصورة وصحتها، ولا يخامرهم الشك في مصداقيتها، سواء أصبحوا رجالا يعيدون انتاج ايدلوجيا التفوق الذكوري التي تبقى على وضعهن المتردي، أو يمارسن العادات التي لا تخرجهن من منطقة الهامش الاجتماعي.
ويمكن للاعلام أن يمارس دورا نقيضا لدوره السلبي، وذلك عن طريق صياغة وتثبيت واشاعة صورة امرأة جديدة، مساوية للرجل، وموازية له في قوة الحضور المجتمعي وفاعلية التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي. ويكون ذلك بواسطة التركيز على الرسائل التي تدعم صورة هذه المرأة الجديدة وتبث تجلياتها المختلفة، ملحة عليها، مكررة نماذجها، وذلك بما يعمل تدريجيا على تحول الوعي المجتمعي من صورة المرأة القديمة السالبة التابعة، الى صورة المرأة الجديدة الفاعلة والمستقلة. وبذلك تتمثل أذهان الرجال صورة مختلفة، سرعان ما تتعود عليها بفعل العادة، والتكرار، وسرعان ما تتقبل التصديق بفعل التأثيرات الابداعية التي تكتسبها أشكال الرسائل، فتتغير أفكار الرجال التقليدية عن المرأة، وتتعدل تصوراتهم السلبية عن حضورها، ويغدو الرجال مستعدين للتعامل المتكافيء مع المرأة من غير عقد الهيمنة والتفوق والقوامة الموروثة من تقاليد جامدة.
ويحدث الأمر نفسه في عقليات النساء في المجتمع، فتنداح الصورة السلبية التي ظلت راسخة في لا شعورهن الجمعي بفعل عوامل التثبيت الاعلامي، ويصبحن أكثر سعادة لتقبل لوازم الصورة الجديدة وتبعاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية في الوقت نفسه. وينتج عن ذلك ان يختفي من المجتمع، تدريجيا بالقطع، ذلك الفيلق من النساء المعاديات للنساء، أقصد الى الفريق النسائي الذي لا يزال على ثبات المعتقدات الجامدة التي ترى الرجل أفضل من المرأة بإطلاق، ولا ترى في المرأة الا كائنا تابعا ناقصا مذعنا لا قيمة له أو مكانة بعيدا عن الرجل، خصوصا في الكثير من تجمعاتنا الاجتماعية التي لا تزال فيها المرأة تؤمن بالمثل العامي (ظل راجل ولا ظل حيطة).
أحسبني في حاجة الى تأكيد أن هذا الفريق من النساء في ممارسة الافكار التقليدية الجامدة أكثر خطورة على وضع المرأة وصياغة صورتها المجتمعية من فريق الرجال المعادين لتحرير المرأة ومنحها حقها في المساواة والوضع الاجتماعي السياسي المكافئ لوضع الرجال، وما ذلك الا لأن عدو الداخل أقوى تأثيرا من عدو الخارج، فهو الذي يسبق بالهزيمة وهو الذي يقوض الصفوف من داخلها قبل خوض أي مواجهة. وتزداد خطورة هذا الفريق عندما يتسرب الى أجهزة الاعلام، ويسهم في صياغة رسائلها، ويضيف الى قيم الهيمنة الذكورية قيم الخضوع النسائي التي هي قيم الاستسلام الكامل لسطوة الرسائل الاعلامية المعادية لحضور المرأة.
ولا جدال أن تخلص الرسائل الاعلامية من قيم الهيمنة الذكورية التي يؤكدها الرجال أو تؤكدها النساء يجعل هذه الرسائل أكثر صفاء في تأكيد القيم الايجابية في عقول الناشئة، واكساب الاطفال ملامح الصورة الايجابية الجديدة في فعل التنشئة الاجتماعية التي هي تنشئة ثقافية في الوقت نفسه.
ومن المؤكد أن أجهزة الاعلام لا يمكن ان تبث رسائل موجبة عن المرأة الا اذا كانت الدولة التي تمتلك هذه الأجهزة مؤمنة بقضية المرأة، مسلمة فعلا أنها نصف المجتمع الذي لا ينبغي تجميده أو الاسهام في تخلفه، ويحدث ذلك عندما تكون سياسات الدولة نفسها لا تعرف تحيزا يمايز بين الرجل والمرأة، أو يضع المرأة في درجات أدنى بكثير من الدرجات التي تضع عليها الرجل. وإذا آمنت الدولة بقضية المرأة، وراعت في استراتيجيات عملها المساواة الفعلية بين المرأة والرجل، وازالة العقبات التي تحول دون ذلك، يمكن للاعلام الحكومي، في مجالاته المتعددة وأساليبه المتنوعة، أن يبث رسائل ايجابية من شأنها تغيير الوعي المجتمعي الخاص فيما يتصل بصورة المرأة الجديدة، وتصفية الأذهان من الشوائب التي تظل عالقة من بقايا الصورة القديمة السلبية.
وإذا تآزرت أجهزة الاعلام التي تمتلكها الدولة مع أدوات الاتصال الجماهيري التي لا تكف عن بث رسائلها الموازية لاعلام الدولة، أو توافقت هذه الأدوات في محتوى رسائلها الموجبة مع الرسائل الموجبة الموازية التي يبثها اعلام الدولة، حدث التقدم الحقيقي الفعال فيما يتصل بصورة المرأة الاعلامية، وفيما يتعلق بمضمون الرسائل المبثوثة على نحو مباشر أو غير مباشر، ومن خلال أجهزة الدولة ووسائل الاتصال الجماهيري الموازية لأجهزة الدولة.
ولكن هذا الوضع المثالي لم يحدث للأسف الى اليوم، وذلك لأسباب متعددة. أول هذه الأسباب أن (الدولة) في المجتمعات العربية لم تتخذ بعد موقفا متحدا في ايجابيته من المرأة بوجه عام، ومن عوامل تشكيل صورتها الاعلامية بوجه خاص، فبعض الدول العربية تمنح للمرأة من الحقوق ما لا يمنح في غيرها، ولذلك فإن التفاوت بين الصورة الاعلامية للمرأة تختلف من دولة عربية إلى أخرى، نتيجة اختلاف الأوضاع الاجتماعية الثقافية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي يؤكده ذلك التباين الحاد في صورة المرأة في أجهزة الاعلام العربية من المحيط الى الخليج سواء على مستوى ظهور المرأة أو عدم ظهورها في أجهزة الاعلام من ناحية، أو أشكال ظهورها وشروطه وأوضاعه من ناحية ثانية. والناحية الأولى تتصل بالدول التي تسمح لأجهزتها بإبراز المرأة المحلية في تلفزيوناتها مثلا، أو تخفي هذه الصورة وتستبدل بها غيرها في حالات كثيرة. والناحية الثانية تتصل بما تتكون به ملامح الصورة على مستوى الملابس، ومستوى السلوك الفاعل وغير الفاعل، ومستوى المشاركة مع الرجل في مواجهة المواقف أو السلبية ازاءها وترك الأمر كله للرجل. ويتصل بأشكال الاداء السمعي والبصري في هذا المجال اللغة التي تصوغ صورة المرأة، أو التي تنطقها المرأة في علاقتها بالرجل، خصوصا حين تستخدم من الجمل والمفردات ما يؤكد مكانتها بالقياس الى هذا الرجل، سواء في حالة حضورها أو حالة غيابها