أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عباس بوصفوان - هدم الإقطاعيّات.. ورعاية الإقطاعيين















المزيد.....


هدم الإقطاعيّات.. ورعاية الإقطاعيين


عباس بوصفوان
(Abbas Busafwan)


الحوار المتمدن-العدد: 7924 - 2024 / 3 / 22 - 02:19
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


الفصل السادس من كتاب: "البحرين 1923: نقدٌ منهجيٌ للسّرديّة السّائدة عن عِشرينيّات القرْن العِشرين" لـ عباس بوصفوان.


الفصل السادس:
هدم الإقطاعيّات.. ورعاية الإقطاعيين

أوّلاً: معنى الإقطاع

يقصد بالإقطاعيّات: تلك المدن والقرى المأهولة بالبحارنة، بما فيها من بساتين وماشية وطيور وقوارب ومصائد أسماك، التي أخضعها رموز العائلة الحاكمة لسطوتهم، وأداروها وفق أعرافهم الخاصة، يتعدّون على أراضي السّكان وأموالهم، ويفرضون العمل على أهلها ، ويستأثرون بالضّرائب لجيوبهم، لا جيب الخزانة المركزيّة، بتصريح من الحاكم ابن علي.
تستند الإقطاعيّات على مقولة "العمل مقابل الطعام"، أو العمل مقابل الاحتياجات الأساسيّة، فماهية” الإقطاع فيما يتعلق بالأرض، هو تقسيم الأراضي الزراعيّة الداخليّة من وحدة اقتصاديّة إلى وحدات صغيرة، يقوم الفلاحون بزراعتها لحساب مالك الوحدة الكبرى بقوة، وبأدواتهم، ويحصلون منها على حاجات معيشتهم" .
تضمنت الإقطاعيّات ممارسات مؤذية لسكان المدن والقرى الشيعية، مثل إجبارهم على قيادة القوارب والحيوانات للتنقل، وإخضاعهم لمحاكمات جائرة، وسجنهم في ظروف بالغة السّوء، وفرض ضرائب مصممة عليهم، مثل: ضريبة السّمك، ضريبة شهر محرم، ضريبة النخيل، إضافة إلى ضريبة "الرّقبة" أو "الرقابية" التي تفرض على السّكان الشّيعة من الذكور في سن 15 عاما فما فوق.

قاست العوائل والأسر الشّيعيّة الأمرّين طوال نحو ثلاثين عاما في تقدير أولي، من تطبيق الإقطاع وما يتفرع منه من مظالم، ولم يكن الإقطاع مجرد عمل قسري وضرائب، ولم يكن باهظ الثمن مالياً وحسب، فقد كان كاسراً للظهر سياسيًا، إذ يتم التعامل مع الشيعة في هذه الإقطاعيّات بازدراء واذلال ومهانة، ولا يعترف بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، كبقية السكان في الجُزُر، وبطبيعة الحال، فإنهم مستثنون من الحقوق السّياسيّة، التي تنفرد بها أقطاب العائلة الحاكمة.

ثانياً: الإقطاعيّات.. النمط الواعي للحُكم

اختار ابن علي نمطاً من الحكم يسمح بنشوء الإقطاعيّات، مُؤسساً بذلك بؤر نفوذ، تتبع النموذج اللامركزي في اتخاذ القرار، إن صح القول، تغطي المُدن والمناطق الرّئيسيّة في الجُزُر، ويشتغل شيوخ تلك الإقطاعيّات تحت إمرة الحاكم أو ولي العهد وليس خلاف هواهما، وتحت عين الإنجليز وبصرهم، والذين يوفرون حماية للحكم وشيوخه.

يسمي المُقيم السياسي، نوكس، منهج ابن علي في الإدارة بـ "اللاحكم"، وتتكرر مثل هذه الفرضية في بعض الروايات السائدة، وهو توصيف غير دقيق، ومحاولة هجوميّة ومفهومة لتبرير سحب الصلاحيّات من الشيخ الطاعن في السن، ويساعد هذا الخطاب الإنجليز للنأي عما وقع في تلك المناطق من تعديّات.

والتوصيف الدقيق إنه حكم ظالم وجائر، والإقطاعيّات هي النمط التفويضي الذي اختاره ابن علي، ونخبة البيت الخليفي بوعي وإدراك، وليس اعتباطاً، وقد جنت منه العائلة الحاكمة ومناصروها مكاسب ماليّة وسياسيّة هائلة.

تشير الرّواية السّائدة إلى ضعف الحاكم ابن علي كمبرر لنشوء الإقطاعيّات، ويتناقض ذلك مع العناد الذي أبداه، على مدى سنوات، في رفض بعض مقترحات الإنجليز ورغباتهم، والذين كانوا حتّى بدايات القرن العشرين حذرين من الغرق في مشاكل الجُزُر الدّاخلية، كما يتناقض والعراقيل التي وضعها، والمراسلات التي أجراها مع أطراف عدة داخلية وخارجية، بعد إعلان نوكس.

كما تمنح بعض السرديات حكم ابن علي صفة "اللامركزي"، وهو توصيف يحتاج إلى نقاش، لكننا لا نوافق عليه إذا قصد منه ربط اللامركزية بنشوء الإقطاعيّات والانتهاكات والمحاكمات الجائرة، وفوقية طرف على آخر، فليس من أساس نظري أو عملي أو تاريخي لمثل هذا الربط الذي روّجه الإنجليز، وكرره كتاب آخرون.

ثالثاً: تقطيع أوْصال ابن علي

ارتكز ابن علي في سطوته على الاقطاعيّات، التي كانت أكبر من مجرّد دوائر بيروقراطيّة تقليديّة، فقد كانت أعمدة رئيسيّة لسلطته الطاغية، وليست المتساهلة، أو المتسامحة، كما يدّعي نوكس، وتتكرّر مثل هذه الصفات في السّردية المتداولة عن الحاكم المعزول وعهده، والواقع أن يد ابن علي كانت ثقيلة على الناس وباطشة بهم، وما كان حلفاؤه ووزراؤه إلا معبّرين عن سياساته، ولم تكن أفعالهم نتاج اجتهادات فرديّة.

مثّلت الإقطاعيّات ثقافةً للحُكم، ومصدراً للثروة، ومركزاً للقوة، وأدّى حظرها إلى تقطيع أوصال الحاكم المعزول، وتفتيت القوى المتحالفة معه.

هدمُ الإقطاعيّات، إذاً، كان في جزء رئيسي منه، متّصلاً بقرار الإنجليز تنصيب حاكم يريدونه طيّعاً في أيديهم، لكنه قوي أمام منافسيه المحلّيين، وهذا يشبه إلى حد كبير قيام حاكم جديد بحل الوزارات القائمة، وتشكيل مجلس وزراء جديد، يُعيّن فيه المقربين منه والثقات.

استفادت البحرين من ذلك، خصوصاً البحارنة، بيد أن الهدف الأبرز من حظر الإقطاع، تمثّل في تحطيم سلطة ابن علي، وعدم السماح له بمنافسة الحاكم الجديد، وحل المؤسسات التي يتمرس فيها الحرس القديم، وتحريم نشاط مراكز القوى المنافسة لحَمَد، ومثلُ ذلك حدث في 2001، حين هدم الملك الجديد مراكز القوى الموالية لخليفة بن سلمان، رئيس الوزراء السابق .

ويتحدث نوكس عن تشكيل الدواسر "دويلة داخل الدولة"، وإنه لن يقبل بذلك مع قدوم حكومة الشيخ حَمَد، ذلك أن الدواسر كانوا في سلوكهم ذاك جزء من حلف ابن علي ونهجه، وفي اخضاع الدواسر للحاكم الجديد اخضاع لكل حلفاء ابن علي لحكومة ديلي – حَمَد، وتالياً حكومة بلجريف – حَمَد.

رابعاً: فرض السّخرة وتوسعها

لا نعرف متى بدأ تطبيق السّخرة في البحرين، في تقديرٍ أوّلي لهذه الموجة من الإقطاع والسخرة ، فإنها قد تكون فُرِضَتْ في السّنوات الأخيرة من القرن التّاسع عشر، ربما في 1899م، أو مطلع القرن العشرين (1900م)، استناداً إلى ما يقوله زعماء الأسر والعوائل الشّيعية في بعض رسائلهم التي بعثوا بها إلى "رئيس الخليج" س. ج. نوكس، وفيها يشيرون إلى ان الأوضاع ساءت بعد ثلاثين عاما من حكم عيسى بن علي، بسبب تقسيم القرى بين شيوخ آل خليفة، واستبداد كل منهم برأيه، فزادت المظالم، ولم يستطع الحاكم ضبط أولاده وأبناء عمومته، وعلى الإنجليز التدخل .

ومن الملاحظ أن تلك السنوات العشرين الصعبة على البحارنة، يعتبرها نوكس إيجابية للأجانب الذين ازدادت أعدادهم وثرواتهم .

لعل توسع الإقطاعيّات يعود في جزء مهم منه إلى الحظر الذي فرضه الإنجليز على الغزوات الخليفيّة خارج الحدود، خصوصاً باتجاه قطر، ثم بسبب عدم الحاجة إلى جيش خليفي لصد الاعتداءات الخارجية، ما دامت القوة البريطانيّة قادرة على رد هذه الاعتداءات.

دفع ذلك رموز الحكم للتركيز على فرض سطوتهم على كل أراضي الجُزُر، ثم توسّعوا نحو فرض الإقطاع، في اتساق مع ممارسات البريطانيين في مستعمراتهم الاستيطانية في أفريقيا، إبان القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث طبقت أشكال مختلفة من العمل القسري، وظاهرياً انتهت في غرب أفريقيا البريطانيّة، حوالي عام 1920، إلّا أنّها كانت متخفية ، في الوقت ذاته الذي يراد إلغاؤه في البحرين.

في العراق، استخدمت السّلطة البريطانيّة العراقيين في إعمال السّخرة لاستكمال مراكزها العسكرية، وحفر الخنادق وبناء سكة الحديد، وإنشاء الطرق .

في الأدبيات المعاصرة، يعتبر العمل القسري ضمن صنوف "العبودية الحديثة" ، لذا، فإن الحديث هنا يتسم، وبحذر بالغ، عن أشكال من الاستعباد، وهو وصف استخدمه لوريمر في حديثه عن أوضاع البحارنة، إذ اعتبرهم في "موقع العبيد"، لكني لا أقصد في حديثي هنا العبودية بما هي "حالة يعتبر فيها شخص أو مجموعة من الأشخاص ملكاً لمالك العبيد، وتمكنه من الاتجار بهم.. في مثل هذه الحالات، يتحكم مالك العبيد في الضحايا وذريتهم، وبالتالي يصبح هؤلاء الأفراد في الغالب مستعبدين منذ الولادة" .

العبودية بهذا المعنى لم يسجل تطبيقها على البحارنة، وإنما فُرضت أشكال أو ممارسات كانت تطال العبيد، مثل العمل القسري وفرض ضرائب مصممة على البحارنة، ومع ذلك فإن جوهر العبودية "استغلال الأشخاص المستضعفين بشكل عام لتحقيق مكاسب اقتصادية. إنها تترافق بالإكراه الجسدي أو النفسي" .

خامساً: السّخرة.. الموقف الدّولي

اعتمدت عصبة الأمم، المنظمة الدّولية التي كانت بمثابة الأمم المتحدة، "الاتفاقية الخاصة بالرّق"، في 26 سبتمبر (أيلول) 1926، ودخلت حيّز التنفيذ في 9 مارس 1927، وقد صيغت استناداً إلى تقرير لجنة الرّق، التي عيّنها مجلس العُصبة في 1924.

يمكن القول إن الاتفاقيّة جاءت لتنظيم العمل القسري والسّخرة، أي تشريعِهِ، وليس إلغائه، وتنص المادة (11) من الاتفاقية على أنّه "لا يجوز أن يُفرَضَ عمل السّخرة أو العمل القسري إلّا على الذّكور البالغين الأصحاء الأجسام، الذين يبدوا أنهم يبلغون من العمر ما لا يقل عن 18 سنة ولا يزيد عن 45 سنة"، وكما هو واضح، لا تجرّم الاتفاقية السّخرة، وتحدد المادة (12) مدة زمنية قصوى لاستغلال الفرد في العمل القسري.

وتعتبر المادة الخامسة من الاتفاقية "اللجوء إلى العمل القسري أو عمل السّخرة يمكن أن يفضي إلي نتائج خطيرة"، وتتعهد أطراف الاتفاقية "باتخاذ جميع التدابير الضرورية للحؤول دون تحوّل العمل القسري أو عمل السّخرة إلى ظروف تماثل ظروف الرّق"، وهذا يعني تزايد القلق الدّولي من احتمال تطور السّخرة إلى عبودية بمواصفات كاملة .

تشير ديباجة الاتفاقية إلى الجهود الدّوليّة لـ "ضمان القضاء الكامل على الرّق، بجميع صوره، وعلى الاتجار بالرّقيق في البر وفي البحر"، منها "الصّك العام لمؤتمر بروكسل المعقود في 1889-1890، واتفاقيّة سان جرمان - إن – لاي، عام 1919، التي وضعت تنقيحاً للصّك العام الموقع في برلين عام 1885، والصّك العام والإعلان الصادرين في بروكسل عام 1890" .

قبل ذلك، وجدت العبوديّة نفسها بلا غطاء قانوني في بريطانيا عام 1722، فيما تعد اتفاقية 1820، الموقّعة بين البريطانيين وإمارات السّاحل المتصالح، أول معاهدة بشأن تجارة الرّقيق في الخليج، ونصت المادة التاسعة منها على أن "نقل العبيد من سواحل أفريقيا أو غيرها ونقلهم في السّفن يعد نهباً وقرصنة" .

ثم قام فيليكس جونز، المُقيم السّياسي في الخليج ين 1856 إلى 1862، بتكثيف الدوريات المكلفة بمراقبة سّفن القواسم التي كانت عائدة من شرق إفريقيا، والمتهمة بتجارة العبيد، وبوصف أسطول القواسم منافس للبحرية البريطانية .

في 31 مايو (أيار) 1861، وقّع شيخ البحرين على الاتفاقيات الثلاث التي قبلها شيوخ ساحل عُمان، ووافق على الامتناع عن العبودية وغيرها من الممارسات غير القانونيّة عن طريق البحر .

سادساً: البحارنة من السّخرة إلى المُواطنة

هدمُ الإقطاعيّات، وحصول البحارنة على بعض من حقوقهم الاقتصادية والمدنية، يوازي في تأثيره ربما انهاء العبودية، أو منح السّود حقوقهم المدنية في أمريكا، إنه بمثابة إعتاق البحارنة الذين كانوا مسجونين في قفص الإقطاع، ونطاق ضيّق من الحقوق والأرض.

أدى هذا الزلزال إلى إطلاق مارد شعبي من قمقمه بكل ما للكلمة من معنى، ونقل الأغلبية الشعبية من طور "الاستعباد" إلى أفق "المواطنة"، وإن استمر التمييز والإقصاء السّياسي سارياً في الجُزُر.

وتمامًا، كما يُركَّز على نزع الصلاحيات من يد ابن علي ويُتجاهل تنصيب الشيخ حَمَد حاكما، لم يُعطَ ملف الإقطاع الأهمية التي يستحق، ولم يفرد له كتاب خاص، حتّى بعد مئة عام على زواله، وبدلاً من ذلك يتم التركيز على ما يسميه الإنجليز "الإصلاحات الإدارية"، المتعلقة ببناء قوة للشرطة، وتحديث الجمارك، وغيرها من الإجراءات التي استفاد منها السّكان، فيما زادت السّلطة التنفيذية قوةً وتغوّلاً وتعالياً.

ونعتقد أنّه لا يمكن مقارنة هدم الإقطاعيّات، بأي حال، باستحداث ميزانية للحكومة، ودفاتر محاسبية في الجمارك، على أهمية ذلك، فكل شيء مهم في الحياة، لكن المساواة بين الأشياء المهمة، يفقد التّحليل السّياسي معناه.

سابعاً: مسؤوليّة الإنجليز عن الإقطاع

تكاد تبرئ الرّواية السّائدة الإنجليز من مآسي الإقطاع، لكننا نعتقد أنّ الإنجليز كانوا قد سمحوا بنشوء الإقطاعيّات، التي تعني تلقائياً ممارسة الإقطاعيين أعرافهم وقوانينهم وتقديراتهم ومزاجياتهم وأذواقهم الخاصة على سكانها.

لم تكن السّخرة وما يتفرع منها من ألوان الاضطهاد مطبقة على السّكان السّنة ، وقد ألغى البريطانيون السّخرة على الأجانب، بما في ذلك الفرس، في 1905، واستمر مطبقةً على البحارنة حتّى 1923م، وأرجو ألّا يتبادر للذهن بأن السّنة لم يكونوا واقعين تحت الجور، سواء من العائلة الحاكمة أو النواخذة أو غيرهم.

ذلك لا يجعل مجالاً للشك بأن البريطانيين كانوا طرفاً في شيوع الانتهاكات، فقد حطّوا رحالهم في الجُزُر بدءاً من 1820، كانوا لا يعبئون خلالها بالظّلامات التي تطال الشّيعة، وبعد مئة عام من حمايتهم النظام وتحالفهم معه، وتقريرهم أفعاله، وإمضائهم ممارسته، قرروا فرض "إصلاحات"، من الأنسب تسميتها إجراءات، رامين برزايا أربعة وخمسين عاما خلت على ظهر ابن علي.

عمل البريطانيون، وهم يعلنون الإجراءات في 1923، على إخلاء مسؤوليتهم عن المظالم التي عمّت الجُزُر عقوداً سابقة، واعتبار الأخطاء الحاصلة إبّان حكم ابن علي ناتجة عن سوء إدارته، يتحملها الحاكم وحده، منفردا، فهي ليست نتاج منظومة متكاملة معنية بتسيير المَشْيَخة، حتّى نحتاج إصلاح المنظومة برمتها، ولا علاقة للتعدّيات على الناس بكون الحُكم قبلي وأحادي وقمعي، حتّى تجرى تغييرات في بنية النظام، ولا صلة للانتهاكات بقرارات الإنجليز أو بالسّند الذي يتلقاه الحكم منهم حتّى نعيد النظر في القبضة البريطانيّة على مفاصل الدّولة. نعم، الانتهاكات حصلت، بيْد أنّ المَشْيَخة بريئة، والإنجليز وولي لعهد ورموز الحكم أبرياء.

لذا، جاءت القرارات التي اتخذها المُقيم السّياسي بعد إدانته حكم ابن علي، محافظة على النسق القائم: حكمٌ خليفي لا شريك له، تقف أمامه وخلفه سلطة استعمارية، معنيةٌ ببناء حكومة مركزيّة متمحورة حول القصر، تهيئ أرضية قانونيّة للقمع، وتخترع قفازات "تشريعية"، ومسوغات قانونيّة للاستيلاء على موارد النفط والأراضي والإرادة العامة، عوضاً عن الإقطاع، فقد غيّروا الوسيلة وحافظوا على جوهر الممارسات الأحاديّة.

ثامناً: الحفاظ على امتيازات الإقطاعيين

هدمُ الإقطاعيّات يُعَدُّ التحوّل النوعي الأبرز في العِشرينيّات من القرن الماضي على صعيد بنية المجتمع، فقد أدّى حظرها إلى إعادة تعريف المواطنين في الجُزُر.

بيْد أنّ الإنجليز لم يفعلوا شيئًا يذكر لإصلاح المستويين السياسي والمالي، اللّذين يُبرزان التمايز لصالح رموز الإقطاع، علماً بأنه لا يوجد اقطاعيّون إلّا من أسرة آل خليفة، بحسب المعلومات المتوافرة، ولا تُدرِج الوثائق التي اطلعنا عليها أسماء لمتنفذين شيعة أو سنة كانوا يديرون أراض ومقاطعات، ويُخضعون ساكنيها لأعرافهم، فقد انحصر الإقطاعيّون في أعضاء بارزين من الأسرة الحاكمة، يوظّفون من يساعدونهم، قد يكونون من أبناء المنطقة.

بعد "مجلس التّنصيب"، انفرد الإقطاعيّون بالحكم، واستمرت البنية السّياسيّة أحاديّة، وقائمة على علويّة طرف ودونيّة آخر، ولم يُقِم نظام "الإصلاح" الإنجليزي المُّدعى أي محاكمات، جادّة أو شكليّة، في الانتهاكات التي طالت البحارنة إبّان عهد ابن علي، المُدان على لسان نوكس، ولم يتم إعادة كثير من الحقوق إلى أصحابها، فقد أصدر نوكس فعليّاً - وليس نصاً مكتوباً - ما يمكن وصفه بـ "عفوا عاما"، عن أي ممارسات خاطئة قام بها رموز الإقطاع ومعاونوهم وجنودهم، وسادت مقولة "عفا الله عما سلف".

فوق ذلك، اتخذ المُقيم السياسي والمُعتَمَد السياسي جملة من الإجراءات، التي سُميّت تحديثيّة أو إصلاحيّة، لشرعنة "النظام الجديد"، والمحافظة على المكانة السّياسيّة للعائلة الحاكمة.

على الصعيد المالي، وبّخ المُقيم السياسي آل خليفة لتمتعهم بالمكاسب، لمجرد كونهم أبناء الأسرة الحاكمة، وانتقد اعتمادهم في معيشتهم الباذخة "على حساب المجتمع، سواء أكان ذلك عبر مخصصات تقتطع من عائدات هذه الجُزُر، أو عبر استغلال الفقراء والمساكين" في الإقطاعيّات.

ومن دون الإشارة إلى مصطلحي الإقطاع والسّخرة صراحة، دعا نوكس أفراد الأسرة الحاكمة إلى القبول بحظر العمل الجبري، واعتبار نظرية "من لا يعمل لا يأكل" التي كان يطبقها الإقطاعيون، أمراً من الماضي، وحثهم على الانسجام مع المرحلة الجديدة، والتعلّم، والانخراط في المؤسسات الإدارية التي كانت قيد التشكل، أمّا "الذين يجلسون بلا عمل، فينبغي أن يرضوا بمرتبّ زهيد".

رغم ذلك، لم يكن الإنجليز جادّين في جعل عمل أفراد العائلة الحاكمة شرطاً لتلقّيهم رواتب من الميزانية العامّة للمشيخة، فقد قرر المُعتَمَد السّياسي، ديلي، "أن تكون مخصصات آل خليفة 30 ألف روبية لكل منهم، وهذا المبلغ لا يشمل التقاعد والرواتب الشهرية لهم. وأحيانا كانت المخصصات أعلى" ، وذلك كي لا يجوروا على خزينة الدّولة، من دون حساب، في ضوء هدم الإقطاعيّات التي كانت تدر إلى جيوبهم إيرادات ماليّة.

إذاً، بعد انتهاء نظام الإقطاع، وإلى جانب وزنهم السياسي الذي لا يُضاهى، فقد حَظِيَ الإقطاعيون بحق التمتع بالموارد المالية للمشيخة، واستحوذوا على الأراضي، ولم يخضعوا للقانون المتبع، وبعبارة واحدة: حفظ لهم الإنجليز جوهر المكاسب السّياسيّة والمالية، التي كان يدرّها الإقطاع.

كان تركيز نوكس منصباً على تثبيت حكم الشيخ الجديد، ومبايعته حاكما من طرف أسرته، ولم تكن تلك العبارات النقدية إلّا لزوم ما يلزم، أو نوعاً من المقايضة، أو لفت انتباه الأسرة بأن الإنجليز يحيطون بواقع الحال.

ومربط الفرس، تمثل في حث نوكس أفراد الأسرة الحاكمة على "مساعدة الشيخ حَمَد في مهمته الصعبة في ترقية حكومة هذه الجُزُر"، ومن يعارضونه فإن الإنجليز لهم بالمرصاد، فـ "الحكومة البريطانية تعده هنا، وعلى لساني أنا، بتوفير الدعم الكامل له في بسط السلطة بصورة شرعية كاملة".

باستثناء الخط الأحمر المتعلّق بمنافسة الحاكم على ملكه، فإن أي "حماقات" تصدر من أفراد الأسرة سيتولّاها الحاكم الجديد، ولم يكن الحاكم الجديد في وارد فتح جبهات داخل العائلة، بل عليه مُراضاة أطرافها، في ظل هشاشة موقفه، والحقيقة بأنّ رمي الإنجليز الكرة في ملعب حَمَد بشأن كل ما سبق، تأكيد إضافي إلى عدم سعيهم إلى أكثر من فرض ولي العهد حاكما، وليس هذا بالهدف الصغير.

ما أوضحناه في السطور السابقة لم يكن فعلاً اعتباطياً أو غير مخطط له، فقد كان التصور النظري للمقيم السّياسي، نوكس، كما يتضح في رسالة كتبها في 11 مايو 1923م، أي قبل نحو أسبوعين من إعلانه الإجراءات، بأنه يجدر بالخطوات الإنجليزية أن تحافظ على مكانة أعلى للحاكم والجماعات السّنيّة، سياسياً ومالياً، ولا يجدر بالإدارة البريطانيّة القلق من عدم عدالة الضّرائب، وإذا عزمت على فرضها بالتساوي على السّنة والشّيعة، فستواجه رفضاً، وهذا يقتضي ضرورة الحفاظ على التمايز المادي لصالح السّنة، أخذا بالاعتبار الوضع في الخليج، من أجل المحافظة على موقع الحاكم السُّني وعدم إضعافه، في الوقت الذي لن يجد تقديراً من الشّيعة جراء تخفيف الاضطهاد الذي يطالهم .

وفي كل الأحوال، يجب تفادي المضي بسرعة في الإصلاحات، حتّى وهي متواضعة، فقد كانت الحكومة البريطانيّة في الهند قلقة من احتمال قيام الميجور ديلي بالضغط على الحاكم الجديد لزيادة سرعة الإصلاحات ووتيرتها "أكثر مما يجب"، في ظل "وضع حَمَد ثقته" بالمُعتَمَد السّياسي .



#عباس_بوصفوان (هاشتاغ)       Abbas_Busafwan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التولية نص رئيسي.. والتنحية حاشية
- تحليل المُحتوى لـ “خطاب التّنصيب”
- البحرين.. الطّريق إلى نظام 1923
- البحرين: التأثيرات الجيوسياسية: المَشْيَخات وفارِس
- الغايات الكبرى للإنجليز في عشرينيّات القرن العشرين
- البحرين 1923: إجراءات استعمارية في قالب حلوى


المزيد.....




- كوريا الشمالية تدين تزويد أوكرانيا بصواريخ ATACMS الأمريكية ...
- عالم آثار شهير يكشف ألاعيب إسرائيل لسرقة تاريخ الحضارة المصر ...
- البرلمان الليبي يكشف عن جاهزيته لإجراء انتخابات رئاسية قبل ن ...
- -القيادة المركزية- تعلن إسقاط 5 مسيرات فوق البحر الأحمر
- البهاق يحول كلبة من اللون الأسود إلى الأبيض
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /29.04.2024/ ...
- هل تنجح جامعات الضفة في تعويض طلاب غزة عن بُعد؟
- بريكس منصة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب
- رئيس الأركان الأوكراني يقر بأن الوضع على الجبهة -تدهور- مع ت ...
- ?? مباشر: وفد حركة حماس يزور القاهرة الاثنين لمحادثات -وقف ...


المزيد.....

- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين
- السودان - الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ - / محمد عادل زكى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عباس بوصفوان - هدم الإقطاعيّات.. ورعاية الإقطاعيين