أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - حاتم الجوهرى - السردية الإسلامية وتعالقات الحضارة المطلقة: المعضلة العربية والإيرانية والتركية















المزيد.....


السردية الإسلامية وتعالقات الحضارة المطلقة: المعضلة العربية والإيرانية والتركية


حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)


الحوار المتمدن-العدد: 7914 - 2024 / 3 / 12 - 00:17
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


"هناك مدرسة في مقاربة السياسات الخارجية العربية أصبحت تعتمد على النظر إلى الأشياء بفلسفة انطباعية استقطابية تتمركز حول الصراع السياسي (إما مع أو ضد)، متجاهلة وضع الحقائق المجردة نصب عينيها وطرح مسئولية البدائل في التعامل المستقبلي مع هذه الحقائق، وهذه المقاربة العلمية القاصرة ساهمت بجزء كبير فيما وصلت له الذات العربية وأزمتها الراهنة في القرن الـ21"

إذا كانت السردية الصهيونية لها تعالقاتها وجذورها العميقة الضاربة داخل الحضارة المطلقة الغربية (الحضارة المطلقة هي فكرة أن الحضارة الغربية تمثل ذرورة الوجود الإنساني ونهاية سلم التطور الحضاري من ثم هي مطلقة ونهائية وأبدية)، ومن خلال تمثلاتها الرئيسية الثلاثة قديما وتوظيف كل منها بطريقتها، سواء مع التمثل: الماركسي أو الليبرالي أو الفاشي، فإن السردية الإسلامية لا تخلو من مثل هذه التناقضات والتعالقات مع الحضارة المطلقة وتمثلاتها، بما يستلزم دراسة هذه التعالقات، لاستكشاف المقاربات الممكنة للتعاطي معها جزئيا أو التخارج منها كليا.

التعالقات الرسمية للسردية الإسلامية
يمكن النظر إلى تعالقات السردية الإسلامية مع الحضارة المطلق وتمثلاتها في مستويين، المستوى الرسمي وهو مستوى الدول والمستوى غير الرسمي وهو مستوى الأحزاب والأكاديميات والتصورات المعرفية والثقافية.

على المستوى الرسمي قديما في القرن الماضي ومرحلة ما بعد الخلافة العثمانية، تعالقت الذات العربية الإسلامية (تركيا والعرب وإيران) مع الحضارة المطلقة في عدة تصورات، أولا على المستوى التركي ارتبطت تركيا الحديثة بفكرة العلمانية الغربية أو الأتاتوركية نسبة إلى كمال أتاتورك وتبنت تناقضا رئيسيا في تصورها الوجودي، يقوم على القطيعة التامة مع إرث الخلافة الإسلامي السياسي والثقافي، وتبنت فكرة الدولة الأمة التركية (القومية) بإرثها الغربي المعاصر.
أما العرب فعند الاستقلال عن الاحتلال الأوربي (أي الحضارة المطلقة) لم يعيدوا إنتاج الشكل السياسي للبلدان الإسلامية عندما تخلت عنه تركيا الأتاتوركية أي "الخلافة"، وتبنوا أحد تمثلات الحضارة المطلقة المتمثل في الدولة القُطرية أو الوطنية مع تصور جماعي "قومي اشتركي"، تجسد في الناصرية في مصر والبعثية في العراق والشام.
ومن جهة إيران فقد شهدت تأثيرا ثقافيا وسياسيا من الغرب تمثل في الثورة الدستورية وعمل أول دستور للبلاد، ثم شهدت تدخلا مباشرا من الغرب في ظهور دولتها الحديثة بدعم إزاحة النظام الجمهوري في مرحلة ما بعد الاستقلال أواسط القرن الماضي، وظهور النظام الملكي الموالي للغرب الليبرالي مع حكم الشاه، ثم تمردت إيران بنظامها السياسي الحالي على حكم الشاه عبر الثورة الإيرانية التي أدت لظهور جمهورية إيران الإسلامية ونظام الحكم القائم على ولاية الفقيه وتصدير الثورة الإسلامية، لتكون إيران في إحدى تمثلاتها على قطيعة مع الغرب دون تعالق مشابه للحالة التركية أو الحالة العربية لحد كبير.

التعالقات غير الرسمية للسردية الإسلامية
هذا بالإضافة إلى أنه على المستوى غير الرسمي سنجد الحضور الحزبي أو الأيديولوجي للتعالقات مع الحضارة المطلقة، وسنجد الحضور الأكاديمي والثقافي والمعرفي العام، فعلى المستوى الحزبي تعالقت المكونات الثلاثة العرب وتركيا وإيران مع الحضارة المطلقة في تمثلها الماركسي الأيديولوجي، وعلى المستوى الأكاديمي تعالقت مع التصورات الليبرالية وأفكار ما بعد الحداثة بشكل رئيسي.

أزمة غزة وراهن تعالقات السردية الإسلامية في القرن الـ21
تتبدى معضلة تعالقات السردية الإسلامية مع الحضارة الغربية وتمثلاتها أكثر ما تتبدى حاليا في ظل أزمة حرب غزة، وقدرة السردية الإسلامية بمكوناتها الثلاثة الرئيسية (العرب وتركيا وإيران) على مواجهة المشهد أو النظام الأممي أو العالمي الرسمي، لكي يحترموا الجغرافيا الثقافية الإسلامية وثوابتها في قضية فلسطين واحتلالها من قبل يهود أوربا، وتغول هذا الاحتلال وحصوله على اعتراف الحضارة المطلقة – بسبب تعالقاته معها- ورغبته في إزاحة السردية الجيوثقافية الإسلامية تماما، والهيمنة الكاملة على فلسطين التاريخ والأماكن المقدسة في مدينة القدس للمسلمين (والمسيحيين الشرقيين أيضا).
ووصلت السردية الإسلامية لأقصى أزمتها مع الحضارة المطلقة وتمثلها الصهيوني عندما سعى الغرب و"إسرائيل"، إلى التفكيك التام والدعوات الصريحة لتفريغ فلسطين من سكانها العرب والمسلمين بعد عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر، والتي تمثلت في المطالب "الإسرائيلية" والغربية بتهجير أهل قطاع غزة إلى سيناء المصرية بكل علانية، وأهل الضفة إلى الأردن بخطاب أقل حدة.
وهو ما وضع السردية الإسلامية والجغرافيا الثقافية الخاصة بها كلها على المحك، حيث وصل الأمر بحلول مارس 2024م وشهر رمضان المعظم إلى حارة سد، مع استمرار الحصار والتجويع، واستمرار القصف وإرهاب الدولة ممارسا عملية "إبادة جماعية" بحق الشعب الفلسطيني، في ظل عجز كافة الدول الإسلامية ومكوناتها الرئيسية (العرب- تركيا- إيران) عن تحريك المشهد الأممي والدبلوماسي في الأمم المتحدة لاستصدار قرار بوقف الحرب والعدوان، وتمكين الفلسطينيين من أرضهم وحقوقهم الطبيعية.
وهذه الأزمة تجعلنا نراجع الشكل الحالي لتعالقات أطراف السردية الإسلامية الرئيسية مع تمثلات الحضارة المطلقة في القرن الـ21، لنحاول البحث عن مقاربة وإجابة للسؤال هل يمكن أن للسردية الإسلامية بوضعها الراهن أن تتخذ موقفا جذريا دفاعا عن الجغرافيا الثقافية الخاصة بها في فلسطين، وما البدائل والمقترحات الممكنة في هذا السبيل.

تعالقات تركيا مع الحضارة المطلقة بالقرن الـ21
في البداية سنجد أن تركيا القرن الـ21 تحمل تناقضا بارزا في جدل العلاقة بين السردية الإسلامية وجغرافيتها الثقافية التي من المفترض أن تنتمي لها، وبين الحضارة المطلقة وتمثلاتها، وهذا التناقض يكمن في علاقة تركيا العضوية بالليبرالية الغربية (إرث هيجل الجرماني) من خلال عضويتها في حلف الناتو العسكري أو حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا، وهذا التعالق فيما بين تركيا وحلف الأطلسي يجعلها تنظر بحرص إلى التوازنات الممكن القيام بها دفاعا عن السردية الإسلامية وجغرافيتها الثقافية في فلسطين، وهنا علينا تذكر أن دولة الاحتلال "إسرائيل" تحظي بصفة حليف رئيسي خارج الناتو (Major non-NATO ally)‏ أو "MNNA"، وكذلك مساعي تركيا للانضمام للاتحاد الأوربي والملفات التي تديرها في هذا السياق، بما يجعل مشكلة تركيا في تعالقها مع تمثلات الحضارة المطلقة وحلف الأطلسي عصية على التفكيك القريب.

تعالقات العرب مع الحضارة المطلقة بالقرن الـ21
سنجد أن الذات العربية في تعالقها مع تمثلات الحضارة المطلقة في القرن الـ21 كثيرة متشعبة؛ أولها الاتفاقيات التي عقدها وتوقيعها مع دولة الاحتلال برعاية أمريكية وغربية (كامب دافيد – أوسلو- وادي عربة- الاتفاقيات الإبراهيمية)، بداية من السلطة الفلسطينية ومنظمة فتح نفسها التي هي نتاج لاتفاقيات أوسلو التي جرت في تسعينيات القرن الماضي، من ثم هي عالقة في اتفاقية أوصلتها إلى حائط سد طوال أكثر من ثلاثين عاما، مصر وقعت اتفاقية كامب دافيد للسلام عام 1979م مع دولة الاحتلال، الأردن وقعت اتفاقية السلام "وادي عربة" مع دولة الاحتلال عام 1994م. كما وقعت الإمارات والبحرين على معاهدة سلام "الاتفاقيات الإبراهيمية" عام 2020م. وفي السياق نفسه أعلنت السودان والمغرب تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال عام 2020م. وكان يجري الحديث قبل الحرب وعملية طوفان الأقصى عن انضمام السعودية لـ"الاتفاقيات الإبراهيمية".
وفي الوقت نفسه تم استخدام تكتيك تفجير التناقضات في الدول العربية وفقا لمخططات تمهيد الطريق لهيمنة دولة الاحتلال على المنطقة وطمس الهوية العربية، وتحويلها إلى مسمى جديد "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، عبر إثارة النزعات الانفصالية وتفجير التناقضات الثقافية ورعاية الأطراف المتناقضة، كما جرى في الصومال وجيبوتي والسودان والقرن الأفريقي عامة، وكما جرى في بلدان المغرب العربي، وكذلك مثلما حدث في العراق ولبنان واليمن وسوريا وليبيا.. مع توظيف الأدوات الدبلوماسية الأممية لتمرير أهداف أمريكا والغرب وإدارة التناقضات كافة لصالحها.
لتصبح معظم الدول العربية متعالقة مع الحضارة المطلقة وتمثلاتها؛ بعضها مقيدة باتفاقيات رسمية مع دولة الاحتلال وبرعاية أمريكية وغربية تربطها أمريكا بالمساعدات الاقتصادية وأحيانا إلغاء الديون الناتجة عن هذه المساعدات الاقتصادية عند الحاجة، والبعض الآخر قامت أمريكا بتفكيكه وتحويله إلى شبه دولة للفواعل غير الرسميين تضغط على القرار فيها عبر إدارة تناقضاتهم متى تشاء، والبعض الآخر فجرت تناقضاتهم الداخلية ليصبح من الصعب عليهم الوصول لقرار مشترك، وتلعب أمريكا دورها في إدارة التناقضات بينهم.
من ثم تفتقد الذات العربية عموما إلى مشروع جيوثقافي واضح تجتمع عليه وتستطيع أن تتخارج به من تعالق الحضارة المطلقة وتمثلاتها التي تمددت فيها بقوة شديدة.

تعالقات إيران مع الحضارة المطلقة بالقرن الـ21
في القرن الـ21 طورت إيران علاقاتها مع تمثل آخر وجديد للحضارة المطلقة تجسد في روسيا والصين، روسيا التي قدمت مشروع إعادة إنتاج المسألة الأوربية القديمة والصراع الحدي بين مشروع "الأوراسية الجديدة" وبين الغرب الأطلسي، وبين الصين التي أكدت على اختيارها الشيوعي القديم وشعاراته وطورت مشروع "طريق الحرير الجديد".. في هذا السياق تعالقت إيران بقوة مع روسيا تحديدا ومع الصين بدرجة مساوية أو أقل بعض الشيء.
وفي الوقت نفسه دخلت إيران في عداء صريح ومعلن مع أمريكا والغرب ودولة الاحتلال، وأصبحت هي الداعم الرئيسي لفصائل المقاومة الفلسطينية، وطورت آلية تنظيمية للتمدد في الدول العربية التي تحوي وجودا شيعيا عبر التسليح والتنظيم والتمويل، كما حدث في لبنان واليمن والعراق، لتتصدر إيران محور المقاومة الداعم لفلسطين.
ولكن تبقى الإشكالية الجيوثقافية أن مشروع الأوراسية الجديدة يعتبر نفسه مركزا حضاريا للعالم في مواجهة الغرب، ولا يمنح السردية الإسلامية ثقلا سوى على سبيل ضرب المثل في التنوع الحضاري والثقافي ونقد الممارسات الغربية.
إنما يبدو أن إيران تتعامل مع الأمر بواقعية وتتحرك في نطاقها المرحلي في مواجهة أمريكا ودولة الاحتلال، لذا تبدو إيران أقل تعالقا مع الغرب الأمريكي، وأكثر تعالقا مع الشرق الجديد الروسي والصيني، الذي قد يرى مصلحة ساقها القدر في تفجير الشرق الأوسط وملف فلسطين، ليخفف الضغط على روسيا في ملف أوكرانيا، ويخفف الضغط على الصين في ملف تايوان.
والمحصلة من العرض السابق؛ يتبين لنا أن تركيا شديدة التعالق مع الغرب ودولة الاحتلال من خلال حلف الأطلسي والاتحاد الأوربي، وأن العرب شديدوا التعالق مع الغرب ودولة الاحتلال من خلال الاتفاقيات ومعاهدات السلام، وإيران أقل تعالقا مع الغرب لكنها شديدة التعالق مع الشرق الجديد ولو بشكل مرحلي وتوظيفي.


إطلالة على السردية الإسلامية
وتاريخ تعالقاتها وتناقضاتها الداخلية
كان للسردية الإسلامية تاريخيا تناقضاتها الداخلية وتعالقاتها الخارجية كعادة كل السرديات الكبرى عبر التاريخ سواء السرديات الدينية والامبراطوريات العادية؛ وتداخلها مع أو ضد، تحالفا أو تصارعا في أثناء تمددها باتجاه الجماعات البشرية الأخرى، حيث يبدأ الأمر بالصراع (الفتح أو الغزو بالمفهوم الإسلامي) ثم تبدأ التعالقات أو التناقضات الداخلية تجاه التراتبات الاجتماعية أو السلطوية القائمة، كما حدث مع دولة المدينة أو دولة الرسول (ص) عندما بدأت في التمدد باتجاه الفرس والقبائل التركية في المرحلة اللاحقة (دولة الأمويين ثم دولة العباسيين)، ولاحقا باتجاه القبائل الأمازيغية شمال أفريقيا وغرب مصر (دولة الفاطميين)، وفي بعض هذه الأثناء كانت دولة المسلمين تتصالح أو تتحالف أو تتعالق مع أطراف خارجية، بسبب أن تراتبات اجتماعية أو سلطوية ما كانت ترى في ذلك إما مصلحة مرحلية موضوعية في المهادنة، أو مصلحة ذاتية للبقاء في السلطة والحكم والتمكين.
السردية الإسلامية في بدايتها مع الخلفاء الراشدين في شبه الجزيرة العربية دامت ثلاثين سنة، كانت فيها الخلافة مستقرة في المدينة المنورة قبل أن تنتقل مع آخر الخلفاء الراشدين على بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الكوفة بالعراق، ومن وجهة نظر معينة يمكن القول أنه عندما انتقلت حاضرة السردية الإسلامية إلى العراق بدأ تأثير المسلمين من غير العرب أو الموالي في الظهور والتعالق معها من وجهة نظر تاريخية (حيث أن الدين الإسلامي لا يفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى)، وبعد وفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه انتقلت السردية الإسلامية إلى مرحلة الخلافة الملكية الوراثية مع الدولة الأموية وانتقالها إلى دمشق في بلاد الشام (حوالي 90 سنة)، ثم الصدام وانتقال الخلافة إلى الدولة العباسية، وبعدها ظهور الدولة الفاطمية في بلاد المغرب وشمال أفريقيا وفرع آخر للدولة الأموية في الأندلس.
يمكن القول بكل وضوح أن انتقال السردية الإسلامية من اسرة حاكمة إلى أسرة أخرى كان يعتمد كثيرا على اكتساب دعم الفرس في مرحلة ثم دعم القبائل التركية المتنوعة في مرحلة أخرى وكذلك دعم القبائل الأمازيغية (البربرية) في شمال أفريقيا، ومن هنا لا يمكن القول إن التدافع الحديث على صدارة السردية الإسلامية بين العرب والترك والفرس هو شيء وليد اللحظة، بل كان سنة من سنن التاريخ الإسلامي وعادة كل الأفكار والأديان في توسعها وتمددها بين الجماعات الإنسانية المختلفة.
ففي لحظة معينة من تاريخ السردية الإسلامية استقبلت القبائل الأمازيغية دعاة الأحقية السياسية لآل بيت الرسول (ص) في الخلافة؛ وتحولت إلى حاضنة اجتماعية لهم لتهاجم الشرق وتستولي على مصر من الخلافة العباسية، ويؤسسوا بها الخلافة الفاطمية، وفي السردية الإسلامية ذاتها ظهر صلاح الدين الأيوبي في الغرب منتميا إلى القبائل التركية (أو الكردية في بعض الروايات) من منطقة العراق ليزيح دولة الفاطميين والمذهب الشيعي الذي جاءوا به إلى مصر ويؤسس الدولة الأيوبية ويعيد المذهب السني، وهي الدولة التي استطاعت تحرير بيت المقدس وفلسطين من الحملات الصليبية.
ذلك قبل أن يشتد عود القبائل التركية وتسيطر على الخلافة الإسلامية فيما عرف بالدولة العثمانية وعاصمتها الأستانة، وهي السردية الإسلامية ذاتها التي شهدت صعود الفرس في بعض الموجات مع الدولة الصفوية مثلا التي أزاحت المذهب السني وفرضت المذهب الشيعي في إيران.
وهكذا هو التاريخ تعالقات وتناقضات مستمرة للهيمنة والصراع والمهادنة والسيطرة بين الجماعات البشرية ومذاهبها الدينية؛ والجدير بالذكر أن صلاح الدين كان يهادن الصلبيين حينا، وهو يعلم أنهم أهل حرب وعدوان لكنه لم يركن إلى الهزيمة، إنما كان يعد العدة ويجهز صفوف المسلمين لوحدة يمكنها أن تحقق الانتصار.

نحو جيوثقافية جديدة: ما الممكن عربيا؟
بالعودة إلى اللحظة التاريخية الحالية؛ سنجد خلاصة أن فرص الذات العربية الراهنة في أزمة فلسطين تحديدا -وفي مشروعها الوجودي العام- للانعتاق من التعالق مع تمثلات الحضارة المطلقة في حاجة لجهد كبير، ومشروع جيوثقافي جديد يتجاوز فشل سردية الخلافة الإسلامية التي فككتها تركيا الأتاتوركية، وتعثر سردية القومية العربية التي فككتها مواجهة "إسرائيل" والغرب مع ضرب مشروع عبدالناصر عام 1967م وضرب العراق عام 1990م، وكذلك تجاوز الصراع الراهن في القرن الـ21 بين ورثة دولة ما بعد الاستقلال بمفصليتها الثقافية القديمة عن الاستقلال عن الاحتلال وشعاراته، وبين دعاة الثورات العربية الجديدة بمفصليتهم الثقافية الجديدة عن شعارات تجاوز مرحلة ما بعد الاستقلال وإرثها السياسي مع التقدير لدورها التاريخي.
وهذه النقطة الأخيرة لها أهمية كبرى لأنها تشق الصف العربي بين المسارات الرسمية والمسارات الشعبية بشكل مسكوت عنه، لذا يجب تجسير المسافة بين المفصليتين لبناء مشروع عربي جديد يعتمد على الجغرافيا الثقافية العربية المشتركة، وتجاوز الاستقطابات القائمة شيئا فشيئا، لأنها هي التناقض الجيوثقافي الرئيسي والمسكوت عنه حاليا في العالم العربي، مع الإشارة إلى أن التناقض بين مفصلية دولة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي إرث القرن الماضي، وبين مفصلية الثورات العربية ضد جمود دولة ما بعد الاستقلال نفسها وتحولها إلى الثبات؛ يرجع في جزء كبير منه إلى التناقضات التي فجرها الغرب وحضور دولة الاحتلال "إسرائيل" ودورها، في علاقة ملتبسة وشديدة التعالق.
وهنا يصبح الحوار بين المفصليتين حتميا إذا أردنا أن نواجه الحضارة المطلقة وتمثلها الصهيوني، من أجل تفكيك التناقضات وبناء مشروع عربي وإسلامي جديد. لأن ما تفتقده إيران إلى حد ما هو وعيها بأهمية التمايز عن الحضارة المطلقة، وربما هذه ميزة تستطيع الذات العربية التحرك فيها، وربما يبدأ مشوار الألف ميل بخطوة صغيرة.


خاتمة: التمدد الشيعي في السردية الإسلامية ومعركة القدس
وتعالقات العرب والترك
من وجهة نظر ما (الشيعة تحديدا) قد يرى البعض أن إيران تمارس التمدد الجهادي الذي كان يقوم به صلاح الدين (عبر تمددها في اليمن ولبنان والعراق)، وهي توقن أن النصر والمقاومة كفيل باكتساب التعاطف العام لدى عموما المسلمين بغض النظر عن المذهب، بل يرى البعض ان تبني إيران للمقاومة والجهاد في الجغرافيا الثقافية للمنطقة كفيل بنشر المذهب الشيعي وتصدره للسردية الإسلامية واكتسابه ملحما بطوليا.
ومن وجهة نظر مغايرة للأمر؛ يرى البعض أن العرب والأتراك في مرحلة تراجع حضاري وتآكل بسبب غياب مشروع جيوثقافي واضح، الخلافة العثمانية انتهت والقومية العربية تفككت، والدولة العلمانية في تركيا شديدة التعالق مع حلف الأطلسي، والعرب شديدوا التعالق مع المعاهدات المرتبطة بدولة الاحتلال بالرعاية اللأمريكية (كامب دافيد- أوسلو- وادي عربة- الاتفاقيات الإبراهيمية)، وسقطوا في فخ التناقضات الداخلية بشدة.. مما قد يعطي الفرصة لإيران للتمدد أكثر واكثر في السردية الإسلامية، بسبب دفاعها عن الجغرافيا الثقافية الإسلامية وثوابتها.

توصية:
إنما إن كانت من هناك توصية تتركها هذه المقالة عن تعالقات السردية الإسلامية التاريخية والراهنة؛ فستكون أن مصر والذات العربية لا فرصة أمامهم في مواجهة التعالقات الخارجية والتمدد الشيعي؛ طالما اقتصرت المقاربات على التعاطي الجزئي ودون مواجهة الواقع الكلي بكل صراحة، والاعتراف بعدم وجود سردية جيوثقافية عربية واضحة ومركزية قادرة على مواجهة كل المخططات مع الحضارة المطلقة وممثليها والتعالقات القائمة معها، ومع المتنافسين على صدارة السردية الإسلامية وتمددهم عبر الدفاع عن ثوابت الجغرافيا الثقافية المرتبطة بالذات العربية والإسلامية في فلسطين وبقاعها المقدسة.



#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)       Hatem_Elgoharey#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حقيقة حرب غزة: سيناريو صفقة القرن الخشن
- في ضرورة إزاحة جيوثقافية مصر فيما قبل 7 أكتوبر
- عملية رفح الباردة: سياسة حافة الهاوية بين الاسترتيجي والتكتي ...
- الصهيونية وتعالقات الحضارة المطلقة: الماركسية والليبرالية وا ...
- حرب غزة: بؤرة الصدام الحضاري الثالث وأفق المستقبل
- فلسطين والأفريقانية: بين جنوب أفريقيا التحريرية وأثيوبيا الع ...
- مبدأ الجيوثقافية المستدامة: البدائل السياسية للعرب فيما بعد ...
- الأزمة والمسارات: محور المقاومة وسؤال اللحظة الاستراتيجية
- تناقض الاستراتيجي والتكتيكي: 2024م وتفاقم أزمة الجغرافيا الث ...
- توزان الرسائل الأمريكية: ضرب الزوراق وسحب حاملة الطائرات
- التوازن الجيوثقافي للحرب: حتمية تراجع أمريكا والممكن العربي
- الحرب بين الأوراس والأطالسة والعرب: الوعي الجيواستراتيجي وتو ...
- المأزق المصري: تكتيك الحشود الدولية بين ضرب العراق وحماية إي ...
- محددات التراجع الأمريكي والفرصة العربية لدعم المقاومة
- مصر والكتلة الجيوثقافية الثالثة: استراتيجية الخروج من الأزمة
- ناقوس الخطر: اختزال التمثيل والعدو المطلق للجيوثقافية الغربي ...
- الجيوثقافية والميتا أيديولوجي: مصر والمقاومة الفلسطينية مشتر ...
- هل حان موعد الاستقطاب المصري الجيوثقافي الثاني في الحرب!
- هل حقا هناك هدنة.. العدوان على الضفة الغربية!
- إعلان الدولة الفلسطينية: الرهان المصري الثاني في المعركة الد ...


المزيد.....




- تربية أخطبوط أليف بمنزل عائلة تتحول إلى مفاجأة لم يتوقعها أح ...
- البيت الأبيض: إسرائيل أبلغتنا أنها لن تغزو رفح إلا بعد هذه ا ...
- فاغنر بعد 7 أشهر من مقتل بريغوجين.. 4 مجموعات تحت سيطرة الكر ...
- وزير الخارجية الفرنسي من بيروت: نرفض السيناريو الأسوأ في لبن ...
- شاهد: أشباح الفاشية تعود إلى إيطاليا.. مسيرة في الذكرى الـ 7 ...
- وفد سياحي سعودي وبحريني يصل في أول رحلة سياحية إلى مدينة سوت ...
- -حماس- تنفي ما ورد في تقارير إعلامية حول إمكانية خروج بعض قا ...
- نائب البرهان يبحث مع نائب وزير الخارجية الروسي تعزيز العلاقت ...
- حقائق عن الدماغ يعجز العلم عن تفسيرها
- كيف تتعامل مع كذب المراهقين؟ ومتى تلجأ لأخصائي نفسي؟


المزيد.....

- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين
- السودان - الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ - / محمد عادل زكى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - حاتم الجوهرى - السردية الإسلامية وتعالقات الحضارة المطلقة: المعضلة العربية والإيرانية والتركية