أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مهدي خالد - لماذا تثور الطبقات الشعبية؟ ولماذا لا تثور الطبقات الشعبية؟















المزيد.....


لماذا تثور الطبقات الشعبية؟ ولماذا لا تثور الطبقات الشعبية؟


مهدي خالد

الحوار المتمدن-العدد: 6615 - 2020 / 7 / 10 - 10:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يتحدث سلامة كيلة في كراسته الصادرة طبعتها الأولي 2007 بأن : " هذه المسافة بين السؤالين ربما تطرح مشكلة الوعي الذي يحكم الحركة السياسية ، والماركسية منها خاصة، كما يحكم المثقفين ".
وعليه فقد تم طرح السؤال الأول حينما ثارت الجماهير، وطُرح السؤال الثاني حينما لم تثُر ، ورغم أهمية السؤالين وضرورتهما المنهجية، فإن المشكلة تتمثل في أن السؤال الأول طُرح بعد ثورة هذه الطبقات، ولم يطرح بشكله الإستشرافي والإستكشافي لمعطيات الواقع، فبالتالي لم تتوقف المشكلة علي عدم الإجابة علي السؤال فقط، بل تجاوزتها لحالة من التخبط والضبابية وعدم وضوح للرؤي والأولويات الموضوعية والإنسياق وراء تحديدات لا تسبقها تحليلات. وعلي الجهة الأخري ، فالسؤال الثاني طُرح ليس للبحث في ممكنات الثورة ، بل يطرح من أجل التأكيد علي خمود وإنصياع تلك الطبقات وإنغماسها وتأبيدها في اللامبالاة، وبالتالي تجاوزت المشكلة نطاق الإجابة للدخول في دوامات العدمية وتسيّد خطابات ساذجة مبنية علي عدم جاهزية الجماهير للتغيير وتقبّله، وخطابات إستعلائية مثبطة تحتقر الجماهير.
ولكي نتطرق للإشكالية السابقة لابد وعي حقيقة أن السياسي يفكر وفق تصوّراته ، بينما الجماهير تفكر وفق إحتياجاتها ، السياسي كثيرا ما يهتم بالمتغيّرات وتأثيرها علي تصوره ، أما الجماهير دوما تبحث عن الثوابت لتأمين إحتياجاتها ، وعلي أثر ذلك فتقاطع تصورات السياسيين مع إحتياجات الجماهير هي نقطة انطلاق كل عمل سياسي جماهيري، وهذه هي العلاقة التي تحكم السياسي بالجماهير.

بهذين التساؤلين يناقش سلامة مجريات واقع الشعوب العربية (مصر 1977 ، تونس 1978 ، المغرب 1981 ، السودان 1983) ، حيث تحركات وإنفجارات الجماهير المتتالية في الأقطار المنهوبة، التي جاءت ردًا علي سيرورة الإلحاق والإدماج في مجال رأسمالي معولم، وإخضاعها للقانون الرأسمالي الأساسي القائم علي الحصول علي أقصي ربح من خلال من خلال إستغلال الشركات الإحتكارية التي تضع يدها علي الموارد والثروات المحلية ، والبنوك الدولية المنفذة للإقراض وبرامج الإصلاح الإقتصادي التي تمتص قوة العمل المحلية.
فكانت تلك الإنتفاضات هي بحق "ثورات الخبز" ، وليست بإنتفاضة "حرامية" مثلما دعاها السادات ونظامه حينها، وأيضا موجةإنتفاضات ما بعد 2010 بتونس ومصر وسورية وليبيا ، ثم الموجة التي نعيشها حاليا التي افتتحتها السودان ثم لبنان والعراق، كل هذه الموجات المتعاقبة من إنفجارات الطبقات الشعبية المقهورة، التي سقطت تحت خط الفقر بسبب عمليات الإدماج المتفاوتة للفقراء في العمليات الإقتصادية والسياسية علي نطاق واسع ، وعالمنا العربي خير دليل علي ذلك ، فينشأ الفقر في عالمنا المقصي كنتيجة لعملية الدمج الإجباري ، فيحدث التفاوت نتيجة أن الشعوب تتعارض مصلحتها في طرف ضد الحكومة كوسيط تابع للشركات الكبري والبنوك الدولية في طرف آخر ، فتتسارع الحكومة لتميل في كفّة رأس المال التجاري والإحتكاري ، تاركة الشعب للمعونات وحظوظ العناية القدرية.
هذه المنطقة -منطقتنا العربية- المُحاصَرة بحكومات التبعية المالية والوجود الصهيوني ومصاصي أقوات الشعوب ترفض كل إستقرار زائف ، تُهزَم ثورة ، وتخطو أخري ، تُقمع ثورة بالرشاشات والصواريخ والطائرات والإقتتال الأهلي ، وتندلع أخري ، وطالما في حاضرنا تم تخويف الشعوب بمصير سورية والعراق ، إلا أنه انتفض العراق ، وطالما كان لخطاب الطائفية والكراهية وجوده ، إلا ان وجود سطوة المال وتعبيده للشعب وحّدت ما فرقته الملل والطوائف ، وخرج شعبنا اللبناني يهتف ضد المال والحكومة والطائفية.
فشبح الثورة الذي ينتاب عالمنا العربي ، وبرغم كونه مازال شبح غير مُنظّم ، إلا انه يثبت ما اتفق الجميع علي نفيه : أن الشعوب ما زالت حاضرة ، وأن الشعوب والجماهير تبني وعيها من خلال وجودها الجمعي ، وأن أزمة هذه المنطقة الكبري لن تُبعد وتُنحّي الثورة.
فشعبنا اللبناني اليوم في إنفجاره هو مُجسّد للحظاتنا المكبوتة ، هو مُهدّد للجوار الصهيوني ، هو كاشف للأزمة البنيوية الإقتصادية-الإجتماعية التي تخضع شعوب منطقتنا لها ، مجموعة من العوائل والأغنياء تستولي علي مقدرات شعب منهوب ، ومنطقتنا العربية وشعوبها تجابه طبقة نهب حاكمة ، طبقة بالية تعتمد في بقاءها علي إرث رجعي وشبكة تبعية مالية وإتصال عضوي بالكيان الصهيوني ، في ضوء ذلك تتشكّل الطغم الحاكمة العربية ، الطغم الجاثمة علي طموحات وتطلّعات الشعوب العربية في التغيير والثروة والحقوق والديمقراطية، وفي ضوء ذلك تأتي إجابة : لماذا تثور الطبقات الشعبية؟

لماذا لا تثور الطبقات الشعبية؟

لن يثور الشعب إلا بنُضج الوضع والحالة ، والوضع الثوري يُنشيء حالة ثورية ، والوضع الثوري لكي ينشأ يلزمه نضج للظروف الموضوعية -أزمة شاملة تجتاح المحكومين من بؤس وتردّي معيشي وتصيب الحاكمين بعجز وشلل عن ممارسة الحكم- ، ونُضج للظروف الذاتية - تحلّي جيل ما بقدرة وعي إضطهاد حقيقي يفرز من خلالها قيادة للإنتفاضة- ، فنجد أغلب السياسيين والمثقفين لا يمتلكوا سوي خطاب تتفيه وعي الجماهير وسبّ ظروفهم وإتهامهم بحب العبودية وولعهم بالديكتاتور وغرقهم الأبدي في اللامبالاة ، بالرغم من أن تلك اللامُبالاة الصامتة هي "سلاح الجماهير المطلق" بحسب تصريح أحد الفلاسفة الذين يأسوا من الجماهير والتغيير "بودريار" ، بل ويزيد قولًا :
" الجمهور رغم القيام بعمليات مسح له حتي الموت ، إلا انه لا يقول هل الحقيقة مع اليسار أم مع اليمين؟! ولا يقول هل يفضّل الثورة أم القمع؟! الجمهور يستخدم صمته اللامُبالي كقدرة علي التحمّل وكقدرة أخري علي تدمير كل أشكال السلطة ".
بالإضافة لغلبة "الجهل" بالتجارب الثورية والتاريخ والمعرفة والتخطيط والعمل الحزبي والمطالعة والنقد، وبإفتقاد تلك الآليات والجهل بها لا يجعل من الفرد سوي عدو للثورة.
فمن الممكن أن تكون مُخلص ونقي ومؤمن بالثورة ، لكن جهلك وحده يجعلك عدو للثورة ، نعم "عدو" بالمعني الحرفي لها ، عدو يعطل سير الحركة من خلال لامُبالاته وتثبيطه وعدميته وعدم ثقته ودرايته بسيكولوجية الجماهير وتطلعاتهم ، عدو بعدم وقوفه في صف العاملين لأجل الثورة والدفع بها ، بل يقف في صف المُشككين الذين يعلنون الهزيمة بإعتبارها مآل كل فكرة وكل طرح وكل حراك.
تتحدث الألمانية الشيوعية "روزا لوكسمبورج" عن دور الشعوب :
"الميزات الرئيسية لتكتيكات نضال الشعوب لا تُختَرع ولكنها نتيجة سلسلة طويلة من الأعمال الخلّاقة للصراع الطبقي ، هنا يسبق اللاوعي الوعي ، ويأتي منطق العملية التاريخية الموضوعية قبل المنطق الذاتي لحاملها".
أي أنه لن يخترع الثوريون والقادة الطليعيون تكتيكات ثورية ونضالية من العدم ، ولن يأتي بها وحي ، بل تُطرح تلك التكتيكات من قلب حركة وواقع الجماهير ، فمثلًا :
في ١٨٧١ أقام عمال باريس دولتهم -كوميونة باريس- بدون جيش دائم وبدون نظام بيروقراطي ، حيث يتقاضي كل الموظفين مرتب العامل ، مع حق إنتخاب الموظفين والمسئولين بالإضافة لحق عزلهم أيضا ، وعليه فهذا التصور لشكل الدولة كان مطروحًا من قبل ماركس ، ومن اطلع علي أعمال ماركس سيجده يصرّح بأن تجربة كوميونة باريس كان لها الفضل الأول في تكوين رؤيته حول بنية الدولة العمالية ومفهوم ديكتاتورية البروليتاريا.
أيضًا في ١٩٠٥ أقام عمال بتروغراد في روسيا سوفييت مستقل تمامًا عن الحزب البلشفي ، وفي الواقع كان خلافًا للرؤية المحلية البلشفية وخصوصًا لينين نفسه ، وبالنهاية سنجد أن السوفييت كان الشكل او العمود الفقري للسلطة البلشفية ١٩١٧.
فإشتراكك في المظاهرات ووجودك داخل أوساط مارست سياسة عفوية لا تجعل منك سياسي وصي علي الجماهير ، اقرأ وتعلّم وطالع التاريخ ، لإن تلك الجماهير التي تُسبّ وتُحتقَر هي الصانع الوحيد للتاريخ ، والأسماء اللي تطرح وتبرز في الوسط السياسي إما أن تكون مع الجماهير من البداية إلي المالانهاية ، وإما ستكون لها نهاية مع كل فترة تاريخية من الإنحسار الجماهيري ، ولن يكونوا سوي عدميين.

قيام ثورة أم إنتصار ثورة؟

شتّان بين مفهومي "قيام ثورة" و "إنتصار ثورة" ، ومُخطيء من يظن أن قيام ثورة يستدعي فقط إنتفاض الشعب .
فلا يكفي من أجل الثورة أن تدرك الجماهير المظلومة عدم قدرتها علي العيش في ظل الطريقة القديمة ، بل إن من الضروري أيضاً للثورة أن تغدو الطبقة الحاكمة غير قادرة علي تسيير مصالحها بالنمط القديم ، هي معادلة طرفها المُستثمِرون والمُستثمَرون ، وقد أوجز الثوري الروسي فلاديمير لينين تلك المعادلة بكلماته : "أن الثورة مستحيلة بدون أزمة وطنية عامة تشمل المُستثمِرين والمُستثمَرين معاً".
وبمطالعة كتابات لينين ، فقلّما حين يتحدث أو يذكر كلمة " ثورة " إلا ويسبقها بكلمة "إنتصار" .
لأنّه كان يُدرك جيداً الفارق بين "قيام ثورة" -وهنا نتحدث عن العوامل الموضوعية في السيرورة التاريخية التي بتراكمات علي أصعدةٍ ما في النهاية من الممكن أن تؤول لإنفجار مُجتمعي - وبين "إنتصار ثورة" وهنا تلعب العوامل الذاتية للحزب وقادته وأعضاءه الذين يُمثّلوا تطلّعات وحفيزة الجماهير دورًا محوريًا في قلب دفّة الأحداث، وهُم حفنة لا تزال قلَّة صغيرة. فهكذا تكون الخميرة: حفنة، لكنَّها تكفي لترفع العجين كلّه فيصبح خبزاً .
فالثورة في ذاتها ليست نجدة ولا عاصماً للمُضطَهَدين , بل إنتصارها هو الضامن الوحيد لعدم إضطهادهم من جديد ، وإنتصارها مستحيل بدون رجالاتها ، وهؤلاء لا يكفي وعي الإضطهاد وحده بأن يكون هو الجامع الشامل لهم ولأهدافهم المرجوّة ، بل وعي الإضطهاد هو لبنة لوعي أرقي : وعي التنظيم والتمثيل الطبقي.
لذلك فلا يجب أن ننسي الدرس الصغير الواجب تعلمه من سبتمبر 2019 ، حيث رجل الأعمال الهارب "محمد علي" الذي كان يهاجم النظام بفيديوهاته وحكاياته، فالفترة القصيرة التي لم تتجاوز الأسبوع كشفت للأعمي حالة "الفراغ السياسي" التي سمحت للص برجوازي شعبوي أن يركب موجة الأحداث من خلال دعايا مستمدة من قصة "النهب العام" ، وعلي أثره رأينا التيارات السياسية التي جمدت نشاطها ، والتي جنحت لحضن الدولة والحفاظ علي أمنها، والتي جنحت للتمويه والإختباء ، وجميعهم تركوا الشعب بأزمته وحيدًا بلا شك، وهذا سيحيلنا لشيء هام ومحوري، وهو فكرة "القيادة والمسئولية السياسية" التي لابد أن تعمل علي تنحية وعزل القيادات السياسية القديمة من النخب الديمقراطية الفارغة ، وضرورة "خلق قيادة سياسية جديدة" ببرنامج سياسي جديد مُحمّل بعبء الأزمة الداخلية ومسألة التبعية الإقتصادية والوصاية الصهيونية ، وتجاوز برنامج الحد الأدني لصالح برنامج الحد الأقصي ، الذي يتجاوز معاداة السياسات لصالح معاداة الطبقة المنتجة للسياسات.

الدرس الأكبر : القيادة السياسية

الشعوب دومًا في حاجة إلي قيادة ، وفي اللحظات الحرجة في حياة الشعوب ، تكون لحظات الهبّات والثورات تعبيرًا عن فقدان الثقة في قيادة وضرورة توافر قيادة بديلة ، وشعبنا المصري في لحظته الآنية يعبّر عن محنته الكبري منذ 2011 ، فاستلم المجلس العسكري السلطة، وفي ظل ضغط قيادة سياسية فرضت نفسها علي المشهد العام -الاخوان المسلمين- ، سلم المجلس العسكري القيادة ، وفشلت القيادة الجديدة ، وأعني ب"فشلت" : كونها فشلت في أن تفرض وجودها بالقوة الموضوعية ، واستلم المجلس العسكري القيادة بإعتباره القيادة الموضوعية الوحيدة المتواجدة ، واستمرّ في السلطة وتحايل عليها واستمرّ بالقوة ، ويحاول ان يستمرّ بالقوة.
فحين خرج الشعب المصري بعفويته - وعفويته هنا لها معني إيجابي يتعلق بتفجّر حالته ، ومعني آخر سلبي يتعلّق بغياب القيادة الحزبية وتأثيرها- وخرج بهتافه الشهير : " الشعب يريد إسقاط النظام ".
هنا أنجز الشعب مهمته التاريخية بالإنتفاض ، وتبقّي علي السياسيين والمشتبكين الثورين تحديد ملامح هذا الإنتفاض ، وملامح هذا المطلب الشعبي : إسقاط النظام.
ولإن السياسيين لم يكونوا علي استعداد لبلورة مفهوم لإسقاط النظام ، الذي لم يكن له معالم واضحة حول ما هو النظام المراد اسقاطه؟! وهل النظام يعني الدولة أم لا ؟! وهل النظام مجرد آلة قمع بوليسية أم يمتد ليشمل القوات المسلحة وباقي أجهزة ومؤسسات الدولة؟! وهل النظام متجسّد في شخص أم مجموعة أم بمعني أدق وأكثر تحديدًا متجسّد في طبقة؟!
لذا فما تمّ في يناير 2011 وتحت ضغط إعتصامات الجماهير بميادين مصر وإضرابات الطبقة العاملة في فترة "ال18 يوم الشهيرة" ، أدي "لإزاحة مبارك" ، وإستخدام "إزاحة" هنا لا ينفي فعل وتأثير الجماهير ، لكنّه يمثل أيضًا فعل للطبقة الحاكمة نفسها بمثابة إحتواء للمشهد.
هنا يبرز مفهوم "الثورة" الذي طرحته الكاتبة الإنجليزية لوسي ريزوفا : "بأنها حالة يتم فيها تعليق الدولة أو وضعها موضع الشك".
وهذا الشكّ هو مغزي الأسئلة السابقة التي تكشف تموضع السياسيين والعاملين بالعمل العام ، والذي علي أثره تشكلت القماشة السياسية لفترة ما بعد الثورة حتي الآن ، وتلك القماشة السياسية -سواء الإسلام السياسي من إخوان وسلفيين أو تيار ليبرالي وحقوقي ومنظمات مموّلة- فلم يكن في تصورها مفهوم محدد لإسقاط النظام ، حيث أن نفس هذا النظام الذي يريد الشعب اسقاطه -نظام مبارك- هو نفسه النظام الحاضن لترعرع جماعة الشاطر وحسن مالك التي عاشت علي التمويلات الخارجية والتجارة والمضاربة الداخلية وممارسة آلية " الزيت والسكر " كمشروع سياسي إجتماعي لغزو البؤر الشعبية وحصد أصوات البرلمان وملء الفراغ الإجتماعي الذي خلفته دولة مبارك حيث تنامي العشوائيات والنطاقات الريفية التي كانت أرض خصبة للخطاب الإسلامي ، ونفس هذا النظام الذي خلق مشاريع حقوقية حكومية وغير حكومية نشط فيها أبناء الطبقي الوسطي من المثقفين والليبراليين والنسويات صاحبات النزعات التحررية الفردانية والإستقلال الذاتي .... الخ ، والتي تربّحت من التمويلات والعطايا الأوروبية والأمريكية ، والتي في حالة الفراغ السياسي جسدوا شكل للمعارضة الصورية تحت مسمي "المجتمع المدني" ، والذي يستبدل منظمات الجماهير الشعبية كالنقابات والمنظمات الفلاحية والأحزاب العمالية والسياسية ، لصالح منظمات الFAO والأنروا و.... الخ من منظمات الNGOs .
وحين خرج الشعب اللبناني بهتافه الشهير " كِلُّن يعني كِلُّن " الشعار الذي تجاوزت به الجماهير اللبنانية تقسيمة المحاصصة الحكومية و وجودها الطائفي وكل التعبيرات والتمثيلات السياسية علي أرض الأزمة كمقررات "سيدر" مثلا ، شعار يتجاوز فكرة الإستثناء بصيغة تأكيده لرفضه السياسة والطائفية وسياسات اللبرلة والتبعية للدولار، فمن أهم ما تطرحه الثورة اللبنانية هو أزمة القيادة السياسية وتعفّن كل الصيغ البالية التي هي إما محافظة تفتقد لشجاعة المبادرة ، وإما إصلاحية مستفيدة من بقاء النظام القديم ، وإما "ممانعة" تقاوم الإمبريالية والصهيونية من داخل المجتمع والحفاظ عليه وعلي علاقات إنتاجه التي لا تناسب سوي المسيطرين-أي الإمبريالية- ، كما تكشف الغطاء عن فكرة الممانعة او المقاومة وممثلها الاول : حزب الله ، نزع غطاء القداسة وإخضاعه لشعار " كِلُّن يعني كِلُّن " بإعتبار التنظيم جزء من المشكلة ، مشكلة الطائفية والوجود الإجتماعي والطبقي بإعتباره ببساطة شريك في سلطة المحاصصة الحالية.
فالثورة اللبنانية مثلما تعلن وهي تعبير جليّ عن فشل حكومة المحاصصة الليبرالية وكل مشاريعها لتنمية التبعية أكثر وأكثر ، فهي تعلن أيضا عن فشل كل معارضة لم تتجاوز وتصل لمعارضة ليس شكل التبعية وفقط ، بل السياسات التي تنتجها التبعية والفئات الطبقية الواضعة والحارسة لتلك السياسات.
لذلك فالأحداث الكبري في التاريخ يحتاجها الثوريون والسياسيون دوما لإختبار منهجيتهم ورؤيتهم للصراع وطريقة حلّه ، ولاسيما ونحن بمصر هنا لسنا بعيدين كل البُعد عن الأزمة اللبنانية ، حيث نشهد ظرف موضوعي مأزوم اقتصاديا واجتماعيا وقوميا ونري ما يحدث في المحيط الإقليمي من إنتفاضات وهبات جماهيرية نتاج السياسات الإقتصادية الجائرة ، وكل هذا ان دل علي شيء فهو أن القرن الحادي والعشرين الذي لم يكمل ربع عمره ، يأبي أن يمر بدون أن نري الرفض التام المتمثل في إنتفاضة تلو أخري، حيث الرفض للإستقرار والإستكانة لصالح وجود الرأسمالية ومشاريع التبعية والإستعمار بالديون.
فكل ما صرّحت به الثورة الشعبية اللبنانية ليس ببعيد عنا ، انه أزمة غير قابلة للتسكين ، أزمة بقاء شكل من السلطة يسمح بتكوين فائض للنهب علي حساب ما يقتطع من الشعب ، أزمة تحاول التمويه علي أصل الصراع ، كل ما يحدث يقول ان هناك صراع طبقي يجري علي قدمٍ وساقٍ ، وما نحتاجه ليس الثورة فقط ، الثورة ضرورة حتمية ، لكنها ليست ضرورة للإنتصار ، ما نحتاجه هو رؤية وخط سياسي يقف أمام المناورين والممانعين والإصلاحيين.

فبالرجوع لديسمبر 2010 حين أشعل التونسي الشريف "بو عزيزي" النار في نفسه وتفجّرت الثورة التونسية ، كان الخبر والزخم منتشر إعلاميًا ، وكان لعدوى الثورة دور كبير في تفجّرها بمصر ، بالإضافة طبعا للظرف الموضوعي الداخلي المصري ، أما في 2020 ، وفي ظل حالة الحجب والتعتيم وإحتجاز المصريين في واقع يطوله البؤس المعيشي والسياسي ، وحالة الإستقرار الزائفة المرسومة من السلطة الحاكمة من خلال قمع وإعتقال ومصادرة الرأي العام ، والتكتيم عن انتفاضة الشعب السوداني والعراقي واللبناني وتهميش الصراعات الإقليمية الكبري : فلسطين وسورية واليمن ، كل ذلك همّش قضية الثورة وأفق التغيير وحصرها في مجموعة من الأشخاص ذوي الثقافة والمطالعة وفصلهم عضويًّا عن كل أفق للتواصل والعمل السياسي ، كما تم تفريغ كل المحتوي السياسي لمرحلة ما بعد يناير 2011 وحصرها إما في مخطط هدم الدولة الإخواني أو مخطط الحفاظ علي الدولة العسكري/الوطني ، وتدعيم الرأي العام بمخططات الجيش في بناء الدولة من بنية تحتية ومشاريع تنموية وسكنية بإشراف الجيش.
لذلك ففكرة الثورة كحدث ، يتم تهميشها بتهميش فئات وطبقات بعينها ، والتهميش هنا هو مفهوم ثنائي التعيين ، وبرغم ظاهره القمعي والإقصائي، إلا أنه يرسخ في حد ذاته مفهوم وضرورة الثورة بإعتباره مُسبّبها الموضوعي ، أما المُسبّب الذاتي فهو يرجع لقدرة أولئك الأفراد الذين مازالوا يعيشوا الثورة لا برومانسية وأفعال طفولية غير مسئولة بل بالتعلّم والتحليل والتنظيم.
وكلما زاد البؤس والتهميش كلما تم تطويع الظرف الموضوعي لخلق ناقمين ورافضين أكثر ، أما الظرف الذاتي -القيادة الثورية وتنظيمها- هو ما يتبلور في ثنايا الأول ، لذلك فمن الممكن أن تنضج الثورة موضوعيًّا ولا تجد أدواتها الذاتية التي تنظمها وتدعمها وتساعدها علي انتصارها ، ومن الممكن أن تنضج الثورة ذاتيًّا في عقول ثوّارها وحتي تنظيماتهم -ان وجدت- ولا تجد أداتها الموضوعية لكسر أساس الدولة البوليسي والنظامي -الشعب- ، لذا فالثورة هي الحصيلة التقدمية للأجيال ، والجيل المحظوظ تاريخيًّا هو من ينوجد فيه عامليه الموضوعي والذاتي ، أما جيل يناير 2011 فهو غير محظوظ بالمرّة.
فالثورة ليست عدوي فقط ، ولا بؤس متراكم فقط ، ولا عمل تنظيمي ثوري محترف فقط ، الثورة هي مجموع كل ذلك ، فما هو الجيل الذي يتشبّع بكل ما سبق؟!
فالأزمة التاريخية التي تعاني منها الإنسانية هي أزمة القيادة الثورية، بحسب تصريح الثوري الروسي ليون تروتسكي، لذا فعلي الماركسيين السعي الدائم وراء تجديد القيادة وتأكيد القناعات الماركسية ويعلموا بأن المهمة الأساسية لعصرنا لم تتغير ، لسبب بسيط هو أنها لم تُنجز بعد .
"فحين يتعلق الأمر بأعمق التغييرات في الأنظمة الإقتصادية والثقافية ، تزن 25 سنة علي مستوي التاريخ أقل مما تزنه ساعة في حياة رجل ، فما الذي كنا نقوله عن فرد يتخلّي لأنه عاني من نكسات في بعض الساعات في بعض الأيام عن الهدف الذي حدده لنفسه علي أساس كل تجربة ؟ " هكذا علّق تروتسكي علي المرتدين الثوريين والإنهزاميين.
وهذا ما يعلمنا إياه التاريخ ، أنه من الممكن أن تعيش أجيال وأجيال في عالم في كامل إنحطاطه دون أن تدري ذلك ، وكل فترة من الردة الرجعية تُجبي ضريبتها في أوساط جيل من المكافحين المتعبين الذين يكفّون عن المقاومة ، لكن عاجلاً أم آجلاً تحل محل العناصر الشائخة والمتعبة ، عناصر شابة تدخل ميدان النضال بشجاعة متجددة وتستخلص الدروس من إنحطاط سابقيهم .
في النهاية أقول أن التاريخ مازال يعطينا فرصه بأطروحات ظرفه الموضوعي ، فتواجد تلك الأنظمة في محيطنا العربي بل والعالمي أيضاً علي سُدة الحكم ما زال يفتح أبواب الإنتفاض أمام جماهيرها ، خطوات الإنتفاض ستُنجز بالتأكيد بمدها المُتشبع ببؤس وعوز الجماهير لكن الأهم الآن كيف نجهّز لإنتفاض ؟ كيف نصبح ثوريين لديهم من المنهجية ما يجعلهم قادرين علي طرح رؤاياهم وتحليلاتهم وتوقعاتهم المستقبلية ؟ قبل أن تسألوا أنفسكم ذاك السؤال المتكرر " ما البديل ؟ ".



#مهدي_خالد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن السيسي والفاشية التي يريدها
- الإختيار : الإرهاب كطريقة لعمل السلطة
- لا أدعم جيش بلدي


المزيد.....




- بيسكوف: نرفض أي مفاوضات مشروطة لحل أزمة أوكرانيا
- في حرب غزة .. كلا الطرفين خاسر - التايمز
- ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم -كروكوس- الإرهابي إلى 144
- عالم فلك: مذنب قد تكون به براكين جليدية يتجه نحو الأرض بعد 7 ...
- خبراء البرلمان الألماني: -الناتو- لن يتدخل لحماية قوات فرنسا ...
- وكالة ناسا تعد خريطة تظهر مسار الكسوف الشمسي الكلي في 8 أبري ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 795 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 17 ...
- الأمن الروسي يصطحب الإرهابي فريد شمس الدين إلى شقة سكنها قبل ...
- بروفيسورة هولندية تنظم -وقفة صيام من أجل غزة-
- الخارجية السورية: تزامن العدوان الإسرائيلي وهجوم الإرهابيين ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مهدي خالد - لماذا تثور الطبقات الشعبية؟ ولماذا لا تثور الطبقات الشعبية؟