|
في نقد كارل بوبر – نحو مفهوم علمي للثورة
يوسف يوسف المصري
الحوار المتمدن-العدد: 4730 - 2015 / 2 / 25 - 08:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في نقد كارل بوبر – نحو مفهوم علمي للثورة ----------------------------------------------------- تتكون هذه المداخلة من عدة نقاط. وتغطي هذه النقط عددا متصلا من القضايا هي نقد موجز لافتراضات كارل بوبر في كتابه "اعداء المجتمع المفتوح" وعرض نقدي لما قاله الكاتب المصري خليل كلفت في مقالتيه "نحو نظرية علمية للثورات الشعبية" و"الثورة الشعبية بين سياقين تاريخيين مختلفين" ومناقشة للنظرية العلمية الماركسية للثورة وعرض موجز لاسباب تفاقم الازمة الرأسمالية والمسارات المحتملة لهذا التفاقم. وليس الهدف في الحقيقة هو نقد كتاب لبوبر صدر قبل عقود وانما آمل ان يتضح الهدف من المتن كما ان الهدف ليس نقد مفهوم كلفت للثورة بل الهدف هو عرض مفهوم علمي لها في مواجهة مفهومه الذي يقترح انه لا مبرر للثورة التي لا تجلب اي تقدم وانما تأتي فقط بالدمار والدم وان مسار التاريخ لا يفسح مكانا لمقولة الثورة من الاصل. *** كان القرن العشرين هو قرن انتصار الاشتراكية التي بدا انها عاصفة هوجاء تجتاح العالم بأسره. وما لبث ذلك القرن ان انتهى بانكسار العاصفة وتبددها وهزيمة الاشتراكية في اركان الارض. اما الآن فها نحن في القرن الحادي والعشرين – ان وضعنا التواريخ في مسودة عامة من التتابع – الذي يمكن ان يسمى قرن ازمة الرأسمالية. فقد بدأ القرن بأزمة خانقة نتجت هي نفسها عن التطور الهائل في العلوم ومن ثم التركيز المتزايد لرؤوس الاموال وافساح مجال متزايد الاتساع لحركة تلك الاموال. وبدا للحظة ان ذلك المجال بات "منفصلا" نسبيا عما يسمى الاقتصاد الفيزيقي يمكنها ان تربح فيه دون حاجة الى عملية انتاج السلع او الخدمات اي دون حاجة – مباشرة – لذلك الاقتصاد. لقد عاش منا كثيرون وقت كانت اعلام الاشتراكية ترفرف فوق عدد كبير من بلدان العالم وشهدنا انتصار راياتها في جنوب شرقي آسيا في السبعينيات. ثم انتهى القرن لنجد "المولد" وقد انفض. انها حكاية طويلة وهي ليست مقصدي من هذه المساهمة الا انها تلح على ذهني كلما فكرت في موضوعة "الثورة". نحن نغني الآن وقت الغروب كبومة مينرفا. بأمكاننا ان ننظر الى "اليوم" وان نتأمل احداثه الجسام. فبعد عامين سيكون قد مر مئة عام على اول انتصار للاشتراكية. وبعد عامين ايضا سيكون قد مر نحو 28 عاما على انهيارها المزلزل. ان ذلك يدعونا الى تأمل عميق وبحث اعمق في هذا المشوار بأكمله. ولكن ان كانت الرأسمالية تواجه هذه الازمة الكبيرة التي نرى تبدياتها كل يوم، الا يحتم علينا ذلك ان نعود الى مفهوم الثورة. ثورة لماذا؟ اليس من الممكن "انقاذ" المجتمع الانساني من الثورة بآلامها وتضحياتها عبر درب آخر. الهندسة الاجتماعية مثلا. او التطور التدريجي ل"الاصلاح". اي التقدم "واحدة واحدة" على طريق افتراضي يتيح للبشر جميعا ان يستردوا انسانيتهم؟ ثم ثورة نحو ماذا؟ الم تتداعى الاشتراكية امام اعيننا جميعا لكي تكتسح تلك الرأسمالية نفسها – التي نراها الآن مأزومة – اركان الارض الاربعة لترفع الانخاب على انقاض "اشباح" ماركس ولينين وهوشي منه وماوتسي تونج؟ ثورة نحو ماذا اذن؟ في هذا الضباب الذي يلف عقل الانسان في مرحلة مشواره الراهنة على الارض يتعين علينا ان نطرح هذه الاسئلة بوضوح وان نجيب عليها بوضوح اكبر. ففي هذا المشوار تجتمع كل الغربان على ما يبدو للحظة انه بقايا الثورة الاشتراكية. نجد من يروجون لمقولات معادية للثورة ومن يقولون انها لا مبرر لها طالما ان بالامكان ان نحقق تقدما خطيا نحو عالم يتراجع فيه ظلم البشر للبشر واغتراب من يظلمون ومن يظلمون معا. بيد ان الاشتراكية لا تموت حتى وان اردنا نحن انفسنا ذلك. انها موجودة وجودا ماديا على الارض طالما كان هناك رأسمالية اصلا. فليتمنى من يشاؤون ما يمكنهم تمنيه. ولكن اين يمكن لنا ان نضع الطبقة العاملة والمنتجون المستغلون في مشوار حاضرنا ومستقبلنا؟. نوديهم فين بالظبط؟ لا تعيش الرأسمالية الا بهم ولن تهزم الا بهم. انهم النقيض الكامن في نسيج الرأسمالية اي في بنية تلك الظاهرة ذاتها. هزمت الاشتراكية اذن ولكن هناك من يرون مثلي انها في حقيقة الامر لم تهزم. ليس ثمة سبيل آخر لانهاء معاناة الانسان. ولكن هل هذا صحيح حقا؟ هل يمكن ان نجد طريقا آخر لانهاء تلك المعاناة. الا يعني افتراضنا بان الانتقال الى الاشتراكية لابد ان يأتي اننا نسلم بان هناك "حتمية تاريخية" قدرية ميتافيزيقية تفترض اولا ان الانسان سيتمرد على المجتمع الرأسمالي ثم تفترض ثانيا ان ما سيأتي به هذا التمرد هو المجتمع الاشتراكي؟ (1) فلنناقش السؤالين اذن في ضؤ مساهمتين يهدفان على تنوعهما الى تحقيق الهدف ذاته اي هدف اثبات ان الانتقال الى مجتمع مختلف تنتهي فيه معاناة الانسان ليس ضرورة تاريخية بل انه قد يكون نزقا مزاجيا او افتراضا يجوز تعليقه على الشماعة او وضعه على الرف بقرار او تعبير عن "طموحات اخلاقية". المساهمة الاولى هي مساهمة كتاب قديم كتبه كارل بوبر عن اعداء المجتمع المفتوح والاسهام الثاني يتلخص فيما قدمه كاتب مصري هو خليل كلفت كانعكاس باهت لمقولات بوبر عن الهندسة الاجتماعية التي تجعل الانتقال الاجتماعي بلا موضوع. والاثنان يتناولان موضوعة الثورة ببعض العمق الفلسفي في الحالة الاولى وبضحالة مثيرة للدهشة – كما سنرى بانفسنا – في الحالة الثانية. ولكن لماذا يتعين الرد على الاثنين اصلا؟ ان مصر تمر بمرحلة بالغة الثراء في اللحظة الحالية. هناك روح نقدية صاعدة بجموح بين شباب المدن لا تترك اي مسلمات دينية او سياسية او اجتماعية دون الاشتباك معها بقدر متفاوت من الوعي. وهناك مسلسل لا يتوقف الا ليبدأ من الاضرابات والاحتجاجات التي تطالب بحقوق نقابية ضائعة او بحقوق سياسية منتهكة. ولم يكن ذلك في اي سابقة تاريخية الا علامة لا تخطئها العين على تجمع رياح الثورة. ويعني ذلك ان القول – كما قال الكاتب المصري - بانه "لا حاجة للثورة" من الاصل وانها "لا تجلب الا الدماء والآلام" او المجتمعات البشرية "شهدت آلافا من الثورات ولكنها لم تؤد الى تحولها" او ان "الثورة الاشتراتكية تحدث بلا ثورة!" كما يقول كلفت ليس الا تجمعا للغربان يروج ل "موت" التاريخ في ذات اللحظة التي يجمع تاريخنا نحن قواه لاقتحام ما هو آت. ولكنني سأوضح كل ذلك بعد دقائق. على اولا ان انقل بعض ما قاله بوبر وما قاله كاتبنا حتى يتضح في ذهن القارئ الاطار الذي يؤسس ما سأقول. خلاصة نظرية بوبر في كتابه هي (كل ما بين قوسين صغيرين هو ما قاله هذا الكاتب او ذاك)"هل في مقدور اي علم اجتماعي ان يقدم مثل هذه التبنؤات التاريخية الشاملة؟ هل في مقدورنا ان نتوقع الحصول على اكثر من اجابة من عراف اذا ما سألناه ما قد يخبئه المستقبل للجنس البشري؟ هذا سؤال عن منهج العلوم الاجتماعية. ومن الواضح انه سؤال اساسي اكثر من اي نقد لاي حجة مقدمة لدعم اي نبؤة تاريخية. وقد ادى بي الفحص المدقق لهذا السؤال الى القناعة بان مثل تلك النبوءات التاريخية الشاملة انما تقع كليا خارج النطاق العلمي. فالمستقبل يعتمد علينا ولسنا معتمدين على اي ضرورة تاريخية. ومع ذلك ثمة فلسفات اجتماعية مؤثرة تتمسك بوجهة النظر المقابلة. انها تزعم ان الانسان يستخدم عقله للتنبؤ بحوادث وشيكة الوقوع ...وهم يقررون ان مهمة العلم بصفة عامة هي اجراء التنبؤات اليومية وترسيخها على اساس اكثر متانة. وان مهمة العلوم الاجتماعية بصفة خاصة هي اجراء تنبؤات تاريخية طويلة الامد وهم يعتقدون انهم قد اكتشفوا قوانين التاريخ التي تمنكهم من التنبؤ بسمار الاحداث التاريخية". وهو يقول ايضا "ان ميتافيزيقا التاريخ تعرقل تطبيق مناهج العلم المتدرجة على مشكلات الاصلاح الاجتماعي. وهي تحاول فضلا عن ذلك ان تبين اننا قد اصبحنا صانعو مصيرنا عندما نكون قد توقفنا عن وضع انفسنا كأنبياء". ويقول الكاتب في موقع آخر من تقديمه لمحاجاته ان كتابه "يحاول فضلا عن ذلك ان يفحص تطبيق طرق العلم النقدية والعقلانية على مشكلات المجتمع المفتوح فهو يحلل البناء الاجتماعي الديمقراطي ومبادئ ما اصطلح على تسميته "الهندسة الاجتماعية المتدرجة" في مقابل "الهندسة الاجتماعية اليوتوبية" كما انه يحاول ان يزيل بعض العوائق التي تعترض سبيل حل مشكلات اعادة البناء الاجتماعي بطريقة عقلانية". ثم يقول "لماذا تؤيد كل الفلسفات الاجتماعية الثورة على الحضارة؟ وما هو سر انتشارها؟ ولماذا تجتذب وتغري الكثير جدا من المثقفين؟ انني اميل الى الاعتقاد ان السبب هو انها تعطي تعبيرا عن شعور عميق بعدم الرضى عن عالم لا يستمر – ولا يمكنه ان يستمر – على مستوى المثل الاخلاقية واحلامنا بالكمال. ان ميل النزعة التاريخانية الى دعم الثورة ضد الحضارة يرجع بقدر كبير الى النزعة التاريخانية ذاتها. وهي ذاتها (اي تلك النزعة) الى حد كبير رد فعل ضد الضغوط التي تفرضها حضارتنا وما تفرضه علينا من مسؤوليات شخصية". واخيرا فانه يوجه نقده الى الماركسية التي تستبدل شعب الله المختار في التعاليم اليهودية المبكرة "بالطبقة المختارة التي ستكون اداة خلق المجتمع اللاطبقي وفي نفس الوقت الطبقة المقدر لها ان ترث الارض" حسب قوله. ولا ينسى الكاتب هيجل بطبيعة الحال اذ يقول انه اصل الكارثتين اي كارثة التفوق العرقي وكارثة الطبقة الموعودة بالجنة على الارض اذ يقول "والسمة التاريخية لهاتين الحركتين تجعل بحثنا يتضمن عدة موضوعات في اجزاء لاحقة من هذا الكتاب اذ يعود كل منهما مباشرة الى فلسفة هيجل ولذلك فينبغي ان نتناول هذه الفلسفة ايضا". وسوف نرى الى اي حد نجح المؤلف في اثبات صحة معطياته خلال تناولنا للمتن بالنقد. *** ولكن قبل ذلك يتعين الاشارة الى ان انكار انتقال المجتمعات والدعوة الى الاصلاح "واحدة واحدة" سواء أكان هندسيا او غير ذلك تتردد على نحو مرتبك في مقالات كلفت الذي يقول في مقاليه المذكورين "قدم ماركس التفسير العلمي لقوانين هذه التحولات واكتشف محركها التقني والاجتماعي. ولا حاجة اذن الى "الثورة الاجتماعية" او "الثورة السياسية" لان الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتحول عمليات تراكمية مترابطة. ولا مكان هنا لتفسير هذه التحولات بالثورات ضد ظلمها دون ان تخلقها". ويقول الكاتب نفسه " والحقيقة أنه لا معنى لأن نصنِّف الثورة الفرنسية على أنها ثورة بورچوازية أو ثورة رأسمالية لأن صانع النظام الرأسمالى هناك كان التراكم البدائى للرأسمال ثم التراكم الرأسمالى ولم يكن صانعها الثورة". ثم يقول الكاتب نفسه "نظر الماركسيون إلى الثورة على أنها محرك التحولات الاجتماعية-السياسية، وكأن سنوات قليلة من ثورة شعب تكفى لتغيير مجتمع قديم فتحقنه بعناصر نمط إنتاج جديد يحل محل نمط الإنتاج القديم. وقد يُقال إنها تفتح الباب أمام مثل هذا التغيير؛ ولكنْ ما هى حقا خصائص المجتمع الجديد التى يمكن أن تكون متحققة فى المجتمع القديم بحيث يبدأ بها مثل هذا التغيير؟". ويقول ايضا "شهدت المجتمعات البشرية آلافًا من الثورات ولكنها لم تؤدِّ إلى تحوُّلها. وإذا كانت هذه الثورات تحقق بعض النجاحات والمكاسب أحيانا فإنها تؤدى دائما إلى إغراق الشعوب فى الدم عبر القمع الدموى أو الحروب الأهلية الطاحنة، ولنا فى سوريا وليبيا واليمن درس بليغ، نتعلَّمه أيضا من الاستقراء العلمى لظاهرة الثورات، بعيدا عن أقنمة التصورات العاطفية والرومانسية للثورات وللشعوب ذاتها". ووجه التماس بينهما واضح. فنحن في حالة بوبر نواجه نقضا للنهج الماركسي برمته دون لف او دوران. اما في حالة كاتبنا فاننا امام محاولة بدائية - كما هو واضح من الفقرات التي اوردتها توا - لتفريغ مفهوم الثورة من محتواه ولتفسير التاريخ على انه تطور خطي لقوى الانتاج وللمجتمعات التي تصنعها وتصنع بها. وينفي هذا التطور الخطي اي ضرورة للثورة التي وان كانت تحدث فانها لا تحقق شيئا بل تجلب فقط الدماء والدمار دون ان تؤدي الى تحولات اذ ان التحولات كانت ستحدث على اي حال بدون ثورة ولا هم يحزنون. *** (2) والهدف الواضح من كتاب بوبر ومن ارتباكات كاتبنا هو الابقاء على المجتمع الحالي على ما هو عليه. فمحاولات تغييره - حسب قول بوبر – هي "حركات رجعية حاولت ولا تزال هدم الحضارة والعودة الى النظام القبلي الذي ادعوه في هذه الايام المجتمع الشمولي". او ان تلك المحاولات "غير ضرورية" لان "التطور يمضي في تطورات مترابطة" حسب قول كاتبنا الهمام. ولابدأ من بوبر. يبدأ بوبر بانتقاد التاريخانية منذ ما يفترض انه بدايتها. والتاريخانية في نظره هي "ما تراكم حول المذهب التاريخي المركزي اي مذهب ان التاريخ محكوم بقوانين تاريخية او تطورية معينة وان اكتشافها يمكننا من ان نتنبأ بمصير الانسان". ويلوم بوبر اصحاب هذه النظريات لتمسكهم في حالة التاريخانية الايمانية - مثلا عند تمثلها في اسطورة شعب الله المختار الذي سيرث الارض في النهاية - انهم ينحون الى تبني نظرة قبلية (نقيض البعدية مثل ان نقول قبل وبعد) اي سابقة على الواقع "وهي نظرة لا يساوي الفرد بدونها شئ على الاطلاق". "اما اولئك الذين تجاوزوا القبلية فمشكلتها انها تشدد على اهمية جماعة ما او تجمع ما – طبقة مثلا – دون اعتبار للفرد على الاطلاق". "وبالنسبة لاولئك الذين يعتقدون بهذه الفكرة فانها تمنح اليقين فيما يتعلق بالمصير النهائي للتاريخ الانساني". بعبارة اخرى لقد نسيت التاريخانية "الفرد" – في زعم بوبر - كي تصل الى يقين مطمئن حول حتمية المصير النهائي للتاريخ الانساني. ولا ينكر بوبر التاريخ بطبيعة الحال انما ينكر ما يعتبره تنميطا او نسقا لحركة التاريخ. وهو يقارن بين مفهوم افلاطون الاجتماعي لتطور المجتمعات وبين مفهوم ماركس الا انه يقول ان تطور افلاطون كان في حقيقة الامر تأريخا لانحطاط المجتمع الانساني وليس لتقدمه. ولن اخوض طويلا في مناقشة موقف بوبر الفلسفي او بالاحرى موقفه من تاريخ الفلسفة اليونانية ولكن يكفي ان اقول انه قرأ تطور المجتمعات لدى افلاطون بالمقلوب كما ان حديثه عن "الجمهورية" او المدينة الفاضلة من حيث كونها مقارنة بكريت مثلا او باسبرطة هو حديث غير مؤسس تاريخيا على اي نحو. الا ان ذلك سيثقل على القارئ بلا فائدة حقيقية. الفائدة هي نقد نقد بوبر للتاريخانية ومن ثم خلطه بين هيجل وماركس ووضعها على نحو متعسف تحت راية هذه المدرسة الفلسفية. وحتى اوضح للقارئ غير المتخصص ملامح هذه المدرسة ولو في خطوط عامة سريعة سأعرض ما قاله واحدا من روادها وهو جوان جوتفريد هيردر الذي عاش في الربع الاخير من القرن الثامن عشر (بينما عاش بوبر طوال القرن الماضي تقريبا) ثم سأتناول نهج هيجل وماركس في هذه المسألة في خطوطه العامة لاسيما موقف ماركس من الثورة حتى يتسنى للقارئ ان يحدد موقفه بنفسه. كان موقف هردر يحمل نقدا تنويريا "المانيا" لمفكري التنوير الفرنسيين الذين قالوا ان العقل هو عنصر ثابت في اركان الارض وفي كل الاوقات. وكانت خلاصة نقده هي ان مفكري التنوير يحكمون على التاريخ من منظور الحاضر وبمعاييره وان هذا الحكم هو حكم مجرد ومنزوع من سياقه التاريخي. وارتكز هردر على ثلاث نقاط منهجية. الاولى هي ان لكل شئ في المجتمع والسياسة والقوانين والثقافات والمعتقدات تاريخ معين اي انها تتغير بحكم تاريخيتها وهي جميعا في النهاية تنتج عن تطور تاريخي معين. والثانية هي انه يتعين فحص كل المعتقدات والممارسات في سياقها التاريخي لنرى كيف نبعت من ضرورات نتجت بدورها عن ظروف معينة اقتصادية او اجتماعية او قانونية او ثقافية او جغرافية اي يجب ان نراها كجزء من كل. والثالث هو ان المجتمع هو جسم واحد لا يقبل التقسيم تعتمد فيه سياساته واقتصاده ودينه واخلاقه كل على الآخر كما انه شأن الاجسام الحية الاخرى فان المجتمع يولد ويشب عن الطوق ويصبح فتي ثم يكبر ويشيخ ويموت. غير ان رؤية هردر لم تتح له ان يبلور اي مفهوم عام للفرد الفاعل وطبيعة القوانين التي تحكم تصرفه. كما ان طريقته لاثبات صحة استنتاجاته كانت طريقة مفككة تماما. فضلا عن ذلك فقد كان "نسبيا تاريخيا" اذ لو طبقنا معاييره فانه لا يجوز لنا ان نتخذ موقفا نقديا من هتلر او ستالين مثلا او من قرار استخدام سلاح نووي في هيروشيما ونجازاكي او من اي تاريخي آخر باعتباره كان "محتوما" (هوا كده). وانا لا اقصد بكلمة النقد هنا اي نقد اخلاقي. انني اقصد بأختصار الحكم على الملابسات التي ادت الى ارتكاب ما ارتكب من فظائع بدلا من اعتبارها "ضرورة تاريخية ميكانيكية". ومن الوجهة الفلسفية على اي حال فان التاريخانية اثرت في هيجل (لا يوجد دليل واحد يقول ان هيجل عرف هردر او قرأ له الا ان كتابات هردر كانت قد تركت اثرا في المثقفين الالمان بصفة عامة آنذاك). الا ان هيجل لم يكن تاريخانيا. لقد كان مثاليا جدليا في نظرته للتاريخ. كما ان ماركس لم يكن تاريخانيا (وهو ما سأبرهن عليه بقدر من التفصيل بعد قليل). بل كان ماديا جدليا. ان اي منهما لا يمكن ان يوضع على نحو ما فعل بوبر في حقيبة التاريخانيين. هيجل مثلا اعتبر ان المجتمعات الانسانية تشهد دوما عمليتين في آن معا. عملية بناء وعملية تحلل. ونظر الفيلسوف الالماني الكبير الى الثورة باعتبارها تركيبا للعمليتين. ويقول هيجل في نقد معاصريه لافلاطون ان الفيلسوف الاغريقي هو الذي وضع اسس الدولة الدستورية الحديثة ويضيف "لا يمكن لرجل ان يؤخذ خارج زمنه. ان روحه (اي روح افلاطون) كانت روح اليونان في ذلك الوقت. الا ان المهمة المركزية هي التعرف على الروح بالتعرف على محتواها ومكوناتها". الا ان بوبر قدم محتواها على نحو ما اراد باعتباره مفكرا ينتمي الى المدرسة الكانطية الجديدة. فمن الواضح ان هناك خطا دقيقا يفصل بين التاريخانية والجدل. ولكن كيف يمكن افتراض ان تجريبي امبريقي كانطي مثل بوبر قادر اصلا على رؤية هذا الخط؟. وقد اشار بوبر الى ان هيجل اسس تصورا عن العالم انطلاقا من العقل المطلق. وسوف اعرض لهاذا النقد خلال كتابتي في مجال آخر عن هيجل. ذلك ان فهم بوبر لهيجل ليس متعسفا فقط ولكنه مشوه ايضا. ويتعين ان اضيف هنا ان هيجل اشار في كتابات متعددة الى ان "الروح" او العقل تغيب عن المجتمعات لفترات طويلة. صحيح انه ارجع ذلك لشكل الحكم (راجع مثلا "تاريخ الفلسفة" في حديثه عن المجتمعات الشرقية ودور الحاكم واستخدام الدين "الايجابي") الا اننا نجد عقلا مختلفا في مجتمعين متقدمين مثل اليابان والولايات المتحدة (العقل تشبه ان نقول عقلية الناس او ان نقول روح المجتمع) بل اننا نجد مجتمعا واحدا يصمت ثلاثين عاما ثم ينفجر. كما انه اشار ايضا الى عودة الروح (او العقل) الى تلك المجتمعات التي غابت عنها لبعض الوقت وارتباطها بمشوار التقدم نحو الحرية او المطلق. الروح او العقل اذن ليس معطيا يساوي نفسه دائما كما ذهب المنورون الفرنسيون كما انه ليس "سلعة" تنتج من "اسطمبة" او قالب شكلته الظروف في اللحظة. فهل يدعو الماركسيون حقا الى حتمية تاريخية بالمعنى المبتذل اي بوضع التاريخ فوق التاريخ او بالاحرى بجعل مشواره مشوارا غائيا محدد الهدف بواسطة التاريخ نفسه على نحو مسبق. (كأن يقال ان "التاريخ" رسم المسار مسبقا..مصيرنا الى ثورة اشتراكية لا مناص..ما تتعبوش نفسكم. لقد قالت السماء (او التاريخ) كلمتها!) ولكن فلنعد الى كلمة معلمهم الاول. كارل ماركس. يقول ماركس في موضوعات عن فيورباخ الذي كان ماديا غير متسق ان جاز التعبير: "ان النظرية المادية التي تقول ان الناس هم نتاج الظروف والتربية وبالتالي بان الناس يتغيرون نتيجة ظروف اخرى وتربية اخرى تنسى ان الناس هم الذين يغيرون الظروف وان المربي هو نفسه في حاجة الى تربية. ولهذا فان هذه النظرية تصل بالضرورة الى تقسيم المجتمع الى قسمين احدهما فوق المجتمع (عند روبرت اوين مثلا- اضافته). ان اتفاق تبدل الظروف والنشاط الانساني لا يمكن بحثه وفهمه فهما عقلانيا الا بوصفه عملا ثوريا". نحن هنا ازاء فهم جدلي حقيقي للعلاقة بين الفرد الفاعل وبين الظروف التي يعيش فيها. فبقدر ما تربي الظروف هذا الفرد فانه قادر على ان "يربيها". لقد تركت دوجما بليخانوف في كتابه "تطور النظرة الواحدية للتاريخ" الذي انتقده لينين انتقادا كاسحا في عام 1915 – اي بعد ان قرأ هيجل - فهما ميكانيكيا لقضية الثنائية وتفسيرا اسؤ للاحادية. فهذا السعي نحو اتساق وعي الانسان مع ظروفه انما هو في واقع الامر عملا ثوريا. لم يكن ماركس هردريا اذن. ولم يجعل الفرد مجرد مرآة سلبية تعكس صورة عصره. على العكس جعله فردا قادرا على اعادة صياغة هذه الظروف واعادة تشكيلها. بعبارة اخرى لو لم يسعى الانسان على نحو مبادر وثوري الى تغيير مجتمعه (والتقدم نحو الاشتراكية مثلا) فان هذا التقدم باختصار لن يحدث مهما تفاقمت ازمة النظام الرأسمالي او اي نظام بات عبئا على تطور قوى الانتاج في. سيواصل المجتمع الرأسمالي تعفنه الى ان يصبح جيفة تزكم رائحتها الانوف وساعتها لن يلبث البشر ان يفكروا حتى ولو كانت اللحى تدفعهم دفعا الى التفكير فقط في العالم الآخر. الا ان ذلك يمكن ان يستمر قرونا وقرونا. ان التغيير هنا – اي في حالة الانتقال الى الاشتراكية – هو تغيير "قصدي" وليس آليا. فهل هو ضروري ام "اكفي على الخبر ماجور" بدل الدم والآلام ودعنا نقلص سعينا الى اصلاحات واحدة واحدة؟ . سأعود الى هذا توا. ولكنني سأعرض الآن حتى يواصل القارئ متابعة ما قلت فقرة اخرى في الايديولوجيا الالمانية تفسر لنا اكثر حكاية الفرد ودوره في صنع تاريخه او في الا يكون هو نفسه مصنوعا سلبيا لا حيلة له فيما يحدث. ان ذلك يتناقض مع عرض بوبر للماركسية باعتبارها "تاريخانية غائية" اي انها "تعرف مسبقا" ما يمكن ان يحدث بحكم امتلاكها لقوانين تطور المجتمعات على نحو نظري. ذلك ان بوبر يصور الماركسية باعتبارها مادية مبتذلة تمتلك كرة البللور وتنتظر اي شئ يحدث لتشير اليها قائلة "مفهوم..لقد كان حتمية تاريخية على اي حال". انه يصور ان ماركس يغفل دور الفرد ووعيه. ولكن لنعد الى الفقرة الاخرى: "ان التاريخ ليس سوى تعاقب متتابع لاجيال مختلفة من البشر يشغل الموارد والقوى المنتجة التي احالتها اليه جميع الاجيال الاسبقة. وهذا السبب يواصل الجيل المعني – من جهة – النشاط الموروث في ظروف متغير تماما كما انه يعدل من الجهة الاخرى الظروف القديمة بواسطة انخراطه في نشاط مختلف تماما. ولكنه يضفي على القضية في التصور التأملي المشوه مظهرا يبدو معه وكأن التاريخ الاحدث كان هدفا للتاريخ السابق اي وكأن اكتشاف اميركا مثلا كان هدفه الاساسي مساعدة الثورة الفرنسية على الانفجار. وهكذا يعين التاريخ (في نظر هذا البعض – اضافتي) اهدافه الخصوصية ويصير "شخصا الى جانب اشخاص آخرين" مثل الوعي الذاتي والنقد والاوحد الخ الخ. كل ذلك في حين ان ما يقصدونه بكلمات مثل غاية وهدف وبذرة وفكرة التاريخ السابق لا يعدو كونه تجريدا للتاريخ السابق. تجريدا للتأثير الفاعل الذي يمارسه التاريخ السابق على التاريخ اللاحق". لقد "سحق" المفكر الكبير بهذه الرؤية من يدعون ان "التاريخ يحدد اهدافه الخصوصية" اي "حتمية تنفيذ برنامجه المعد سلفا" اي امتثال البشر "لاجندة" خفية ماقبلية لا نعرف من وضعها واين وضعت ولكننا نعرف بحكم معرفتنا ل"القوانين" الناظمة لحركة المجتمع ان القوانين "قالت كده". وحيث ان "القوانين قالت كده" فمن ذا الذي يستطيع ان يعترض؟ هي يجرؤ احد على مناقشة القوانين المزعومة؟ نعم. ماركس يجرؤ على ذلك. ان نقده لفيورباخ مؤسس على ان فيورباخ لا ينظر الى الوعي باعتباره ممارسة. "ان معرفة ما اذا كان التفكير الانساني له حقيقة واقعة ليست معرفة مطلقة او نظرية. انما هي قضية عملية. ففي النشاط العملي ينبغي على الانسان ان يثبت الحقيقة اي واقعية وقوة تفكيره واثر وجود هذا التفكير في عالمنا هذا. والنقاش حول واقعية او عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي انما هو قضية كلامية بحتة" هكذا قال. واحتاج هنا لان اوضح فقط ان الممارسة يقصد بها تفاعل الانسان مع الطبيعة والآخرين. اي النفي الدائم للموضوع ومن ثم الخطو الى الامام نحو مستوى ارقى من الوعي. اي باختصار نمط عمل وانتاج هذا المجتمع ومن ثم طريقة تنظيمه. لقد شوه الفهم الستاليني (والبليخانوفي وان بقدر اقل) للمادية التاريخية افكار اجيال بأكملها. نحن اذن في نهج المفكر الكبير نصنع عالمنا. نحن نشكل هذا العالم. نحن لسنا مرآة سلبية هردرية تاريخانية. وان كنا نصنع مستقبلنا فان بأمكاننا ان نتلكأ في صنعه وبأمكاننا ان نسرع في ذلك. بأمكاننا ان نفكر وان نفعل وبامكاننا ان نغرق انفسنا في الملذات ان وجدت اصلا (الفضيلة عجز كما قال احدهم!) او ان نتكاسل. نحن طرف اصيل فاعل ولسنا بيدق يحركه "شخص الى جانب اشخاص آخرين" اطلقنا عليه اسم التاريخ. هل كان ماركس اذن يضع مخططا مسبقا لحركة التاريخ؟ لقد رصد تطور المجتمعات السابقة. وقال ان استنتاجاته لا تمثل قانونا عاما وجامدا باي حال. فان كان تتابع انماط الانتاج هو واحد من تلك "القوانين" فكيف اذن نفسر ما قاله بانه كان بوسع الامبراطورية الرومانية ان تتجنب مرحلة الاقطاع لولا فتوحاتها الكبيرة التي وضعت تحت تصرفها مساحات شاسعة من الارض او قوله ان بوسع روسيا ان تتجنب نمو الرأسمالية على النمط الاوروبي او حديثه عن دور الحروب البونابرتية في هدم البنية الاقطاعية في وادي الراين. وفي حالتنا نحن فانه يقول ان اي نمط للانتاج لن يرحل الا بعد ان يصل الى ذروة ما يمكنه تقديمه. ومن الوجهة النظرية فان ذلك يحدد ضمنا مهمة الثورة المقبلة باستكمال مهام البورجوازية التي لم تنجزها بسبب عجزها الموضوعي. الا ان الاقرار بعجزها يعني باختصار ان طبقة جديدة بات منوطا بها انجاز تلك المهام نحو افق بناء مجتمع مختلف تماما في علاقاته الانتاجية والجتماعية والسياسية والحقوقية والثقافية الخ. *** (3) ولكن الى اي مدى يمكن ان تنجح وصفة بوبر في "الحفاظ" على المجتمع المفتوح – اي المجتمع الراسمالي - ضد خصومه؟. لن ابدأ من اية تجريدات معقدة. سأبدأ مما يحدث الآن – في هذه المرحلة من تاريخ "المجتمع المفتوح" – لنختبر معا فعالية وصفة بوبر. في ذروة تداعيات ازمة 2008 كتب الاقتصادي الاميركي المحافظ نورييل روبيني في "وول ستريت جورنال" (11 اغسطس 2011) ما يلي: "لقد ادرك ماركس الامر بصورة صحيحة. فعند نقطة محددة يمكن للرأسمالية ان تدمر نفسه. ليس بوسعك ان تواصل تحويل الدخل من العمل الى رأس المال بدون ان تحصل في النهاية على طاقة انتاجية معطلة ونقص في الطلب الكلي. الناس عقلاء. فالشركات حتى تزدهر وتعيش يمكنها ان تخفض تكلفة العمل اكثر واكثر. الا ان تكلفة العمل هي دخول واستهلاك اشخاص آخرين. انها عملية تدمر نفسها". وطبيعي ان يرى الآن اقتصاديون يمينيون دقة ما قاله ماركس قبل ذلك بنحو 150 عاما. الا ان روبيني تناول المسألة من زاوية واحدة وبصورة ابسط من ان يحتملها الماركسيون كما انه علقها على احتمال ان يحدث ذلك بقوله "يمكنها" ان تدمر نفسها. اي انه يمكنها ايضا – بالاصلاح او الهندسة الاجتماعية ان تتجنب ذلك. وواقع الامر انها تفعل ذلك بالفعل ولكن على نحو مختلف. لقد اضطرت السلطة السياسية الى ان تحول دخل الضرائب الذي يدفعه الجميع بما في ذلك طبعا المنتجين لانقاذ الشركات التي ادى جشعها (اي تحويل الدخل من العمل الى رأس المال طبقا لروباني) الى ان قوضت – اي الشركات - قاعدتها هي نفسها. وقد كان مشهدا ساخرا بحق ان تستخدم اموال المنتجين لانقاذ من يستغلونهم ومن ثم انقاذ النظام. كان النظام الرأسمالي الاميركي بداية من السبعينيات وحتى الثمانينيات مثلا قد انتقل من منطق كينز – وهو هندسة اجتماعية بامتياز - في استخدام المال العام الى منطق فريدريك فون هايك الذي يدعو الى خفض الانفاق العام لانعاش رأس المال الخاص. وكانت العودة الى ضخ المال العام لانقاذ التجربة هي خطوة في اتجاه العودة الى كينز. الا ان تلك الخطوة لم تستكمل ولم يكن لها اصلا ان تستكمل. لقد اعلن رأس المال الكبير حربا بلا هواده على السلطة السياسية لنرى اصلاحات اوباما في مضمار التأمين الصحي (تحسين مستوى قوة العمل ورفع عبء التأمين الصحي عن دخل المنتجين لحثهم على المزيد من الاستهلاك) تقاوم بضراوة هائلة من قبل شركات التأمين لتخرج تلك الاصلاحات على هيئة مسخ مضحك سواء في مجال التأمين الصحي. وتكرر الامر نفسه في مجال القروض الميسرة لاستكمال التعليم اذا قاومتها المصارف بضراوة اشد وهي تجهضها الآن. ولم تكن السلطة السياسية تتمتع بهامش واسع للحركة من الاصل فقد ادى اضطرارها لانقاذ الشركات المترنحة الى اثقال الموازنة العامة بكمية فلكية من الديون لم يسبق تسجيلها في التاريخ منذ بداية تدوينه. كنا نرى اذن – وعلى نحو ملموس وليس نظريا في شئ – نظرية بوبر عن "الهندسة الاجتماعية" وهي تتعرض لمحنة حقيقية. وحين نتحدث عن الهندسة الاجتماعية سوف يتعين علينا دوما ان نراها في تحققها الملموس وليس باعتبارها تجريدا يولده الرأس من الرأس. وحين نراها عند تطبيقها سنجد انها تتعرض لقيود هائلة من قبل من يمثلون القاعدة الحقيقية للسلطة السياسية اي للمهندس المقترح. ولكن ما هو حقا الهيكل العظمي لتلك الازمة الاخيرة التي اعتقد انها لم تنته بعد. لقد نزحت الشركات كميات هائلة من الاموال وركزتها على نحو لا يكاد يصدق في صناديق "تحوط" اي تكهن اي في صناديق تأمين ضد مخاطر المقامرة. وحين عجز الناس عن مواصلة وضع اموال على "ترابيزة الروليت" سحبت الشركات اموالها (التقديرات الاميركية ان الشركات كبحت عن السوق 2 تريليون دولار. والتريليون الف مليار والمليار الف مليون!). فقد الناس مدخراتهم ووظائفهم وباتوا عاجزين عن تقديم المزيد من الدماء في هذا النزيف المتصل. وفقدت الشركات الرغبة في مواصلة اللعبة مع من تعرف مقدما انهم مفلسين بلا دماء. واوشك نادي القمار كله ان ينهار. فقد توقفت الماكينة. الا ان الشركات واصلت الجلوس ببرود كامل فقد كانت تدرك ان هناك خزانة واحدة لم تفرغ بعد، تلك هي خزانة الدولة كدولة. وكان رهان الشركات (الاخير) هو ان السلطة السياسية التي تمثل "النظام" ستعمل على انقاذه من انهيار محتوم. وهذا ما حدث بالفعل. فقد افرغت الشركات بحمد الله خزانة الدولة وجلست تنتظر ان يعيد من ظلوا يعملون ملأها مرة اخرى. وواقع الحال ان دخل من يعملون تراجع بالفعل منذ بدء عملية "التعافي" ليصل الى ادنى مستوياته في تاريخ الولايات المتحدة (57.7% من الدخل القومي الاميركي). بعبارة اخرى تعين افقار العمال اكثر لتمويل خزانة الدولة ولتعويض التراجع في قاعدة المستهلكين ولتمويل الشركات التي ترنحت بسبب الافراط في المقامرة). كانت هذه هي "الهندسة الاجتماعية" في ابهى صورها!. (لا اريد ان اجعل من هذه المداخلة مداخلة اقتصادية. ولكن من يلح علي ان اقول ان افتراض ان الطاقة الاستهلاكية للمجتمع وصلت الى سقفها وان هذا هو سبب توقف الماكينة هو افتراض خاطئ – يمكن فقط مراجعة الجزء الثالث من رأس المال لمخاطبة هذه الحجة). العمال يجدون وظائف في الشركات في حالة واحدة فقط هي ان كان توظيفهم سيجلب الربح لتلك الشركات. وسيظل حجم الاستهلاك الذي تستطيع الطبقة المنتجة تقديمه الى السوق هو المؤشر الاول لاي ازمة. كما سيظل هذا الحجم من الاستهلاك دالة في الاجور. وستظل الاجور بدورها دالة في "القسمة" التي يفرضها رأس المال والتي تدخل في تحديدها عوامل كثيرة منها وفرة "سلعة" قوة العمل اي كثرة العمال الباحثين عن وظيفة ومن نزوع الاجور الى الانخفاض. (من الخطأ ايضا افتراض ان العجز عن الانتاج هو الذي اوصل المجتمع الى هذه الازمة. يقول ماركس في ذلك "لقد استثمر رأس المال فيما اصبح في الازمة اموالا ميتة ومتوقفة عن العمل. مصانع مغلقة ومواد خام متراكمة وسلع جاهزة تملأ السوق. وليس هناك ما هو اكثر تضليلا من اتهام المجتمع بندرة رأس المال المنتج في هذه الظروف". لا تحدث الازمة اذن بسبب نقص قوة العمل او تراجع قدراتها او كسلها او انخفاض انتاجيتها. كما انها لا ترجع الى نقص رأس المال المنتج (فالمصانع موجود ولكنها مغلقة او تعمل بقدر محدود من طاقتها). المشكلة هنا هي ان الرأسماليين الذي يديرون هذا ال"شو" بأكمله لا يريدون من ال"شو" كله الا شيئا واحدا :الربح. وليتهم يريدونه بالعقل. ولكن كلما اتيح ملليمترا واحدا لزيادته فانهم يتحركون للتقدم مترا كاملا. وثمة عنصر آخر يكمل الدائرة. ذلك هو عنصر تزايد الطاقة الانتاجية الذي يترافق مع تراجع القدرات الاستهلاكية (او نموها بمعدلات اقل) ليؤدي الى ما نراه من تراكم للسلع واحيانا حرقها او التخلص منها لتجنب نفقات التوزيع. انها ظاهرة قديمة الا ان الجديد فيها يجعل من كبار المنتجين اكثر شراسة في مواجهة صغارهم ويجعل الدول الرأسمالية الكبيرة اكثر توشحا في مواجهتها لرأسماليي الدول الرأسمالية المتخلفة. وبصفة عامة فان من الممكن شرح ذلك كله على نحو منفصل الا انني اعتقد ان الهدف مما اريد ان اقول بات واضحا بقدر ما. ان ازمة الرأسمالية لا تنتج من اعداء الرأسمالية. الرأسمالية هنا مثل الشرطة المصرية..عدوة نفسها. انها منظومة تتطور باستمرار لتشهد ما وصفه هيجل بصراع بين عوامل تدميرها وعوامل بقاءها. الا ان هذا الصراع ينتهي بتركيب مختلف يتضمن بداخله كل الانجازات الهائلة للرأسمالية على طريق تقدم الانسان. اي ان التركيب الهيجلي لا يعني "نشطب اللي فات ونبتدي من اول السطر". ليس ثمة شئ مثل هذا في التاريخ او في الجدل. المجتمع التالي للرأسمالية لا يلغي اذن انجازاتها باي حال. الرد اذن على قول بوبر بان هؤلاء الاعداء الوهميين للرأسمالية يعملون على تدميرها لانهم يتحركون وفق مثل اخلاقية هو "كلام فارغ". والرد على قوله ان بالامكان اصلاح النظام عبر اعادة هندسته يفترض ان بالامكان تغيير هوية رأس المال على نحو ايديولوجي اي "اقناع" الرأسمالي بان الافترا حرام وبان عليه ان "يتقي الله". وحتى لو اقنعنا هذا الرأسمالي الطيب بان "يتقي الله" فكيف يمكن لنا ان نوقف التطور الدائم في العلوم والتكنولوجيات وهو تطور يؤدي الى تراكم سلعي لا يمضي متسقا مع تزايد قدرة المجتمع على الاستهلاك؟ يتعين علينا ان نقنع هذا الرأسمالي ان يبيع ببلاش لفقراء الدول الاخرى؟ سنترك هذه الوصفة لبوبر او لمن يروجون لمقولاته كي يتبعونها.. جود لك يا جماعه. اما نحن – اتباع ثوري عظيم هو كارل ماركس – فان لدينا وصفة اخرى. انها وصفة تقول ان الانسان هو نشاطه (بالمناسبة ليس عمله فقط كما يقول البعض ولكن مجمل نشاطه). وان اي مجتمع طبقي يعرقل بحكم طبيعته تقدم القدرات الانسانية الخلاقة للعقل بجعل ذلك العقل اسير ضرورة العمل الاحادي الفعالية. انه يحصر العقل في عالم الضرورة. يجعله مغتربا عن ذاته وعن محيطه الاجتماعي والطبيعي. او بعبارة هيجلية يجعله "عقلا تعسا". ونحن نحلم ونعمل من اجل ان ينتقل هذا الانسان الى عالم الحرية. فهل يمكن ان نرى الآن في ضؤ مختلف قليلا لماذا يتصدى ابطال الطبقة العاملة المصريين المجهولين الذين لا اسماء ولا وجوه لهم لاغلاق المصانع وترك الآلات لتصدأ. ان كنا في بلد يفتقد الى رأس المال ويستجدي الرأسمال الاجنبي فكيف يتسنى تجميد هذا الرأس المال الثابت وتركه للصدأ؟ ما السبب؟. ان تأمل هذا السؤال يجعلنا ندرك فورا كيف يقضي "منطق" الانتاج الرأسمالي على قدرة المجتمع على صنع الخيرات. *** (4) والآن لنرى ما يقوله كلفت على ارتباكه. يقول الكاتب ان الماركسيين يرون ان الثورة هي "محرك العلاقات الاجتماعية والسياسية". من قال لك هذا؟ فلنعد الى ما قاله ماركس مرة اخرى ولكن في هذه المسألة بالذات: "ان التناقض بين قوى الانتاج والعلاقات الاجتماعية الذي تكرر كما رأينا على مدار التاريخ (اي على امتداد عملية تبدل علاقات الانتاج) "ادى" (التشديد من قبلي) بالضرورة في كل مرحلة الى ثورة يمكن ان تأخذ اشكالا فرعية كأن تكون صداما عاما او بين عدد من الطبقات او تناقضات في الوعي او معارك فكرية او نضال سياسي الخ. ومن وجهة نظر ضيقة يمكن للمرء ان يعزل احد تلك الاشكال الفرعية وان يعتبرها اساسا لتلك الثورات. ويصبح ذلك اكثر سهولة حين يقدم من بدأوا الثورة اوهاما حول نشاطهم هم انفسهم طبقا لدرجة ثقافتهم وتطورهم التاريخي. الا ان كل صدامات التاريخ تجد اصلها في تقديرنا في التناقض بين القوى المنتجة واشكال العلاقات. وبالمناسبة فان الوصول الى ذلك الصدام لا يتطلب بالضرورة ان تكون التناقضات فيها قد وصلت الى حدها الاقصى. فالمنافسة بين الدول الاكثر تقدما صناعيا التي تحدث بفعل توسع العلاقات الدولية تكفي لكي تسبب تناقضات من ذلك النوع في الدول الاقل تقدما مثلما حدث في تطوير البروليتاريا الالمانية عبر المنافسة مع الصناعات البريطانية".(الايديولوجيا الالمانية ص 82 – 83 طبعة برومثيوس – نيويورك). الثورة اذن نتيجة للتحولات الاجتماعية وليست سببا لها. وحين يفترض الكاتب ان الماركسيين يقولون عكس ذلك فانه اما يجهل ما يتحدث عنه او ينسب الى الماركسيين فهما معينا اعدادا لما هو اسؤ، الى لتصفية المفهوم الثوري للثورة ذاتها. وكتب ماركس مع انجلز في تعميمها للحزب الاشتراكي الديمقراطي اي خلال ردهما على محاولات بعض مفكري الحزب الترويج لنقد رجعي للمفهوم العلمي للثورة عام 1879: "لقد شددنا لمدة 40 عاما على أن الصراع الطبقي هو القوة المباشرة المحركة للتاريخ، وبصفة خاصة، أن الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا هو الرافعة العظمى للثورة الاشتراكية الحديثة، ولذلك لا يمكننا أن نتعاون مع رجال يسعون إلى استبعاد الصراع الطبقي من الحركة. وقد صغنا بشكل جلي عند تأسيس الأممية شعار المعركة: إن تحرر الطبقة العاملة يجب أن يكون من صنع الطبقة العاملة ذاتها. ولذلك لا يمكننا أن نتعاون مع رجال يقولون صراحة أن العمال غير متعلمين كفاية لتحرير أنفسهم، وأن عليهم أن يتحرروا أولاً من أعلى على يد الأعضاء الخيرين للطبقات الوسطى بدرجتيها العليا والدنيا". هل يمكن لاحد من القراء ان يتفق بعد ذلك مع قول الكاتب "نظر الماركسيون إلى الثورة على أنها محرك التحولات الاجتماعية-السياسية ثم تمضي جهود تصفية المفهوم الثوري للثورة الى القول: "وشهدت المجتمعات البشرية آلافًا من الثورات ولكنها لم تؤدِّ إلى تحوُّلها. وإذا كانت هذه الثورات تحقق بعض النجاحات والمكاسب أحيانا فإنها تؤدى دائما إلى إغراق الشعوب فى الدم عبر القمع الدموى أو الحروب الأهلية الطاحنة، ولنا فى سوريا وليبيا واليمن درس بليغ، نتعلَّمه أيضا من الاستقراء العلمى لظاهرة الثورات، بعيدا عن أقنمة التصورات العاطفية والرومانسية للثورات وللشعوب ذاتها". ويقول الكاتب نفسه " وهناك اعتقاد بأن الثورة والإصلاح نقيضان يستبعدان بعضهما البعض. ولا تقوم حتى أىّ ثورة "اشتراكية" مفترضة بشيء اسمه الثورة بل تقوم بإصلاحات ترتبط ببرنامج ثورى ورؤية ثورية" اي ان الكاتب يقول للناس في بلادنا – باختصار – ان الثورة "عيب" و"قلة ادب". وان المطلوب هو الاصلاح. بل ان الثورة الاشتراكية "المفترضة" لا تقوم بثورة بل تقوم باصلاحات. انه شئ مذهل حقا. ويواصل كلفت " وفيما تتواصل التحوُّلات، تؤدى مظالم نظام ناشئ عن التحوُّل إلى أعاصير احتجاجات شعبية عفوية انفجارية مفاجئة نسميها ثورات شعبية ضد هذا النظام لإجباره على إجراء إصلاحات فى مستويات المعيشة وتخفيف الفقر أو فى مطالب الديمقراطية الشعبية. وكما يشهد التاريخ تكون متلازمة الفقر وراء هذه الثورات، وقد تأتى شرارتها من حركة شبابية أو طلابية غير أن استجابة الشعب هى التى تحوِّلها إلى ثورات. وتحدث هذه الثورات فى ظل مختلف العهود ولا يؤدى منطقها، وليس أوهامها، إلى أكثر من تحقيق إصلاحات، فلا تنتج عنها أنظمة أخرى، وكما قال فريدرك إنجلس فإنه ما كان لثورة العبيد أن تؤدى فى حالة نجاحها إلا إلى إعادة إنتاج نفس النظام العبودى.وبالطبع فإن الثورات الشعبية فى العهد المشاعى مستبعَدة لأنه مجتمع لاطبقى، وكذلك الثورات الشعبية فى عهد الرأسمالية المتقدمة باستثناءات. وبالطبع فإن التراكمات الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية هى أساس هذه الانتقالات". الثورات اذن تنشأ عن "متلازمة" الفقر ولا يؤدي منطقها "الى اكثر من اصلاحات". يعني دعونا اذن نتخلص من مفهوم الثورة العلمي ونركنه على جنب لان نتائجها هو الاصلاح فيما يمكن دوما ان نحقق هذه الاصلاحات من غير ثورة ولا دم ولا وجع راس. وأورد هنا ما قاله قاله ماركس وانجلز في كراسهما "العمل المأجور ورأس المال" حين ذكرا "ان تحسن ملحوظ في الاجور يفترض مسبقا تزايد ملموس في رأس المال المنتج. والزيادة السريعة لرأس المال المنتج تؤدي الى زيادة في الثروة والرفاهية والاحتياجات الاجتماعية والمتعة الاجتماعية. ومن ثم فان على الرغم من ارتفاع استمتاع العمال فان رضاهم الاجتماعي تراجع بالمقارنة مع متع الرأس مالي التي لا يحصل عليها العامل وبالمقارنة مع حالة المجتمع بصفة عامة. ان حاجاتنا ورغباتنا تنبع من المجتمع ونحن نقيسها بالتالي على مقياس اجتماعي وليس بالاشياء التي تلبي تلك الاحتياجات والرغبات. فلانها ذات طبيعة اجتماعية فانها بالتالي ذات طبيعة نسبية". ص 94 ويقول توكفيل في المقابل "لا تأتي الثورات دائما كنتيجة لتدهور الحال من سئ الى اسؤ. فالامم التي تحملت بصبر وبدون ادراك تقريبا قهر هائل تنفجر عادة في تمرد ضد قمع اللحظة حين يتراجع القهر تدريجيا. والنظام الذي تحطم بواسطة الثورة يكون عادة افضل في المدى المباشر مما يليه...ان الشياطين التي امكن تحملها حين كان الاعتقاد الشائع انها محتومة تصبح لا تطاق حين تروج فكرة الافلات منها". (النظام القديم والثورة الفرنسية ص 214). وانجلز لم يقل في "اصل العائلة" ان ثورة العبيد يمكن ان تنزع عن سياقها الاجتماعي بل قال العكس تماما اذ لم يكن امامنا نمط انتاج مهيأ لان يحتل موقع نمط الانتاج القديم. الثورة مثلها مثل الماركسيين لا "تصنع تحولات". انها لحظة كيفية على درب الوعي بمظالم. والمهم هو فهم اسباب وجود تلك المظالم. وخلاصة ما يريد الكاتب ان يقوله ان الثورة لا تصنع شيئا وان نمط الانتاج الرأسمالي سيظل على ما هو عليه ويتعين فقط العمل على اصلاحه لان تطور ادوات الانتاج يؤدي الى انتقال المجتمعات "على المزحليقه" بسلاسة الى يومنا هذا وان ما حدث من ثورات شعبية جاء نتيجة لاوهام وان تلك الثورات لا تؤدي الا الى اصلاحات كان يمكن ان تتحقق بدون ثورة ولا وجع دماغ. وقد اجبت على ذلك من قبل بايضاح ان ازمة النظام الرأسمالي هي من صنع بنية النظام الرأسمالي وليس من صنعنا. لو كان بايدينا ما كناش اتأخرنا ولوعشان خاطر السيد كلفت. ان الرأسمالية تتطور الى ازمتها لتبلور ضمنا وعي من سيزيحونها الى متحف التاريخ. *** (5) بقي ان اوضح مسألة اخيرة. تلك هي مفهوم الثورة العلمي وليس كما يفهمه كاتبنا المرتبك الذي يدعو الى اصلاح خطي وكفى الله المؤمنون شر القتال. ونحن يا حاج والله لا نريد قتالا. ليس لاننا غير مؤمنين فنحن مؤمنون ولله الحمد والشكر. ولكن لانه لا يوجد عاقل في هذا الكون يمكنه ان يحقق هدفه سلما ويصر مع ذلك على ان يحققه بالدم. ولكنا دعنا – ولو باختصار – نرسي مفهوما علميا حقيقيا - وليس على ما تدعي - للثورة. سأبدأ هنا من سؤال واضح وباشر وبسيط وان كان له طابعا نظريا : هل الثورة "ضرورة" تاريخية؟ واجابتي على السؤال باختصار وبساطة ووضوح هي : لا. انها ليست ضرورة تاريخية ان تصورنا انها "انفجارا" شعبيا وقتال ودم الخ. ثم انها ضرورة لو تصورنا انها انقلاب طبقي يزيح طبقة لم تعد ملائمة لتطور المجتمع الانساني ويأتي بطبقة اخرى. ويمكن ان يحدث هذا الانقلاب الطبقي بالعنف او بالسلم، بالثورة الشعبية او بدون ثورة شعبية عامة. انه يتخذ في التاريخ اشكالا بالغة التنوع. يقول انجلز في "لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية" في الباب الاول (ص 18) خلال مداخلة (اعترف بانني لا اوافق على تناوله لهيجل فيها) ضد من يفسرون مقولة هيجل بان "كل ما هو حقيقي معقول وكل ما هو معقول حقيقي": " في مسار التطور يصبح كل ما كان حقيقيا فاقدا للضرورة اي للحق في الوجود اي المعقولية. وبدلا من الوقاع المحتضر فان حقيقة جديدة تتواجد سلميا ان كان القدامى لديهم ذكاء كاف لكي يذهبوا الى موتهم بدون عناد او بالقوة ان قاوموا الضرورة". (استخدم انصار الامبراطور البروسي هذه المقولة لهيجل لتبرير ما هو قائم. غير ان هيجل لم يكن يعني ما استخدمه رجال الامبراطور كما انه لم يكن يعني مافهمه انجلز. فالحقيقي عند هيجل هو القائم ليس على ما هو عليه ولكن كما نتصوره في العقل. وان كان تصورنا لما هو قائم اي لو لم يكن الحقيقي متسقا مع معايير العقل في اللحظة اي مع ما هو معقول فان ما هو قائم – على نحو وجوده موضوعيا وعلى نحو تصوره في العقل في آن يصبح لا معقولا اي يصبح غير حقيقي. ان "شرعية" وجود شئ لا تأتي من وجوده. انها تأتي من كونه حقيقيا اي متسقا مع العقل). ويقول ماركس في فقرة اوردتها من قبل ان "الثورة يمكن ان تأخذ اشكالا فرعية كأن تكون صداما عاما او بين عدد من الطبقات او تناقضات في الوعي او معارك فكرية او نضال سياسي الخ". فما هي الثورة؟ لقد افتى الكاتب من قبل فتاوى ما انزل الله بها من سلطان عن الثورة السياسية في السياق الاجتماعي المتخلف وهي مستحيلة في نظره وعن الثورة الاجتماعية في المجتمعات المتقدمة وهي ايضا مستحيلة في نظره ثم عن الثورة الاشتراكية الآن التي لا مبرر لها. وارتباكه هذا ربما يكون ناجما عن مفهوم خاطئ للثورة (ان افترضنا حسن النية). لننظر اذن الى المفهوم الصحيح. ان الثورة ليست مرادفا للانقسام الطبقي. كما انها ليست نتيجة لهذا الانقسام على اي نحو مباشر. انها نتيجة للصراع الطبقي. ويختلف الصراع الطبقي – بما انه فعل – عن الانقسام الطبقي في كون الاول - اي الصراع - تعبيرا عن انقسام في وعي المجموعة على اساس من انقسامها الى طبقات. نحن هنا نتحدث عن مسارين منفصلين نسبيا. المسار الموضوعي لتطور قوى الانتاج وعلاقاته من جهة ووعي – كوعي – الطبقات المختلفة بانقسامها وبصدام مصالحها كأنعكاس لذلك المسار. ويعني ذلك ان الثورة ليست دالة حسابية مباشرة في التطور الكمي لادوات الانتاج وقواه او تقدمها الذي يفترض الكاتب انه "خطي". وهذا الوعي بدوره ليس انعكاسا ميكانيكيا لتقدم تلك الادوات والقوى. وفي لحظة ما تكون علاقات الانتاج السائدة قد برهنت تماما على انها قد تحولت الى عائق يحول دون مواصلة تقدم ادوات الانتاج. في تلك اللحظة بالذات تصبح الثورة مرشحة للظهور باعتبارها انقلابا طبقيا من حيث ماهيتها النهائية. (سأعود لذلك توا). ثم ان الثورة باعتبارها كما قلت من قبل تركيبا لتناقض سابق على وجودها تعد انتقالا من "لحظة" الى "لحظة" اعلى. الا ان هذا الانتقال لا يتصل بانقطاع تحولات موضوعية – لم تكن نتيجة الوعي باي تناقضات لم توجد بعد – تتوالى على ارض المجتمع. لقد بدأت تلك التحولات بالضرورة قبل ان يتبلور الوعي بماهيتها. الوعي لاحق على تلك التحولات. ذلك ان وجود وعي طبقي معين يفترض مسبقا وجود الوضع الطبقي الذي اثمره. وان كانت الثورة تعبيرا عن درجة من درجات الوعي فانها بالتالي ليست انعكاسا مباشرا لاي تحولات في ادوات الانتاج او حتى لحدة المظالم التي تقع على المنتجين. انها باعتبارها فعلا ترتبط بوعي المنتجين بهذا القدر او ذاك من المظالم. وحين تشكل نمط الانتاج الجديد – ولنأخذ مثلا على ذلك بنمط الانتاج الرأسمالي الذي بدأ بتراكم بدائي لرأس المال في بطن المجتمع الاقطاعي – وجد نفسه محاطا بجبال من المفاهيم والعلاقات والقوانين والاعراف التي تقيد حركته تماما. في مقابل تقبيل يد الاقطاعي كان الرأسمالي يرى ان ذلك الاقطاعي الذي يستحوذ على السلطة والثروة حصل عليهما دون وجه حق – اي بدون ان يعمل - وانه يحول بما يحمي من علاقات ومؤسسات دون نمو نمط الانتاج الوليد. كان الانتقال من مقاطعة لاخرى في فرنسا مثلا يحتم على منتج السلعة الباحث عن سوق ان يواجه حدودا بين المقاطعات وحدودا بين مناطق النبلاء يدفع رسوما عند عبورها ومنطقا يقول ان السلعة يجب ان ترش بالماء المقدس الذي يحتم الدفع للكنيسة ايضا ثم تضييقا من فرسان النبلاء ثم خضوعا عاما من العامة لحياة بدأ الرأسمالي يراها مذلة اذ بدأ يرى ان الحرية ضرورية وان سلطة الاقطاعي تعني انه لا مساواة بين البشر وان سلطة الكنيسة باعت الله لتشتري عطايا النبلاء ولتساندهم وانه لا حق في مواجهة العلم (الذي يساعد انمو ادوات الانتاج الجديدة) باللاهوت ولا حق في وجود محاكم خاصة للنبلاء تختلف عن محاكم العامة وهكذا. بعبارة اخرى كفت علاقات المجتمع السياسية والحقوقية والثقافية عن ان تكون معبرة حقا عن نمط الانتاج الصاعد. يحتاج هذا النمط الى علاقات مختلفة والى مؤسسات مختلفة لكي يزدهر. بل ان ثقافة هذا الجديد الصاعد تكون قد تطورت في صدام مع ثقافات قديمة تقبل يد القس وتحرم الانسان من حق ان يكون متساويا ولا تنضبط لقانون يسري على الجميع اذ كان للنبلاء محاكم تختلف عن محاكم الناس وقوانين تختلف ايضا عن قوانينهم وهكذا. ولان القديم رفض ان يعلن الهزيمة فقد تحتم اجباره على ان يرحل. ان الثورة هي حل التناقض السابق من حيث انها نقلة كيفية تأتي عند تمكن الطبقة الصاعدة (ولتكن الرأسمالية مثلا) من ان تسود وتقلب الطبقة القديمة لتستولي على السلطة ولتواصل عملية اعادة صياغة كافة العلاقات الاجتماعية على اساس من رؤيتها هي لما ينبغي ان يكون عليه المجتمع اي مجتمع "الحرية الفردية" ودعه يعمل دعه يمر ولكن من موقع السلطة السياسية هذه المرة. وحين تفعل البورجوازية الصاعدة ذلك فانها تكون قد انهت وظيفتها على مسار تاريخ الانسان اذ سرعان ما تتحول هي نفسها الى عائق يحول دون تطور قوى انتاج الخيرات. انها في واقع الامر تتحول الى طبقة رجعية فور استيلائها على السلطة فقد انتهى التناقض السابق ورفعت اللحظة الى تناقض جديد تماما هو المواجهة بين الرأسمالي والعامل الذي ينكر عليه الرأسمالي "حرية" التمتع بنتاج عمله كاملا. وهنا تكتسب الحرية مفهوما جديدا ثوريا يواجه مفهوما للحرية بات رجعيا حين استدار لمواجهة نقيضه الجديد اي العمال واخذ يفسر الحرية التي تغنى بها الى حق ينحصر في طبقة الملاك فقط. نحن اذن امام عملية بأكملها تحدث على صعيد العلاقات الاجتماعية تمضي على نحو يواكب تطور قوى الانتاج. وتتألف هذه العملية من نفي متصل لما سبقها ومن تناقض يحل بهذا "الشكل" او ذاك دون ان يبدل ذلك من محتوى اطرافه او نتيجته. انه يتحول عبر الصراع اي انه ينتقل دوما من نقطة الى نقطة اعلى في تحولات كيفية تتيح لادوات الانتاج قفزات اضافية. وحين تتحول العلاقات الاجتماعية الى كابح لنمو قوى الانتاج والى عائق امام نموها يتجه هذا التناقض الى حله اي ينمو في مقابل الوعي السائد وعيا بان العلاقات السائدة باتت عبئا على المجتمع وينبغي ازاحتها. وفور ازاحتها تواصل قوى الانتاج نموها في مناح افضل يتيح لها الازدهار اكثر واكثر. من هنا فان المفهوم العلمي للثورة هو انها عملية تهدف الى تحقيق الانقلاب الطبقي وتمر بمراحل مختلفة وصولا الى انتصارها وتعتمد في نموها على الصراع الطبقي او بالاحرى على نمو وعي الطبقات المختلفة بمصالحها المختلفة. لقد قرأت لبعض الشباب المصريين وصفا لما يحدث في بلادنا بانه "عملية ثورية". وقد كان هذا في حقيقة الامر وصفا دقيقا لما يحدث. فالثورة في مشوارها – اي في سياق عملية استكمالها لهويتها – تطل علينا بين لحظة واخرى. انها تكون غير مكتملة الملامح تماما في تلك اللحظات. الا انها تستكمل هويتها عبر تلك العملية المعقدة. وقد تطل علينا مرات لتعود الى ضباب يبدو وكأنه صمت دامس. الا انها هناك. وهي تجتر وتبحث وتحقق مع نفسها وتستجوب الاخطاء وتستعيد الحكايات لتحللها وترى منها ما لم تره من قبل فيما يبدو صمتا كاملا. وهي قد تطل مرات اخرى لتعود بعد ذلك الى اشجارها. الى ان تطل في لحظة بلغت فيها من القوة ما يتيح لها البقاء لتستكمل وعيها بذاتها في ميدان المواجهة ولتخرج تلك المرة ظافرة منتصرة. لقد اتحدت اخيرا مع ذاتها ان شئنا استخدام تعبير هيجلي. ويقول كاتبنا : "وفى فترات الانتقال جميعا يوجد ازدواج بين كل نظام قائم وكل نظام لاحق. ويهمنا هنا بصورة خاصة ازدواج بقايا الإقطاع مع مستوى كبير من التطور الرأسمالى كما كان الحال فى معظم البلدان الرأسمالية المتقدمة فى الوقت الحالى. والمثال الأبرز لهذا الازدواج هو النموذج الذى أحاط بثورة 1789 الفرنسية الشعبية". "والحقيقة أنه لا معنى لأن نصنِّف الثورة الفرنسية على أنها ثورة بورچوازية أو ثورة رأسمالية لأن صانع النظام الرأسمالى هناك كان التراكم البدائى للرأسمال ثم التراكم الرأسمالى ولم يكن صانعها الثورة. غير أن الثورة أسبغت على فرنسا وَهَجًا لا ينطفئ". ويعني هذا الكلام باختصار انه كان هناك ازدواجا وان الازدواج صب في مصلحة الرأسمالية الفرنسية اي البورجوازية الفرنسية بحكم الصراعات المختلفة. علينا اذن الا نقع في الخطأ الفادح الذي يفترض ان انتصار البورجوازية الفرنسية كان راجعا لانها قادت ثورة عصفت بالنظام القديم. هذه اشاعة. لماذا انتصرت اذن "بحكم الصراعات المختلفة التي اثارتها الثورة". تشكلت البورجوازية اذن في فرنسا ووجدت نفسها "مزدوجة" مع الاقطاع وحدثت الثورة وبسبب "الصراعات المختلفة" التي رافقت الثورة التي تفجرت بفعل الفقر وحده انتصرت البورجوازية. ولكن لماذا لم ينتصر الاقطاع ايضا "بحكم الصراعات المختلفة"؟ معلش. حظ بقا. ان كاتبنا ينسى ان لحظة انتصار الثورة الفرنسية كانت هي لحظة سيادة طبقة جديدة – كانت موجودة وتنمو من قبل الا انها لم تكن سائدة – واطاحتها بخصومها الطبقيينز لقد كانت لحظة الانقلاب الطبقي. (6) ان الكاريكاتير التطوري للمجتمعات في نظر كلفت يمضي كالتالي : العلوم تتطور في كل الاحوال. وهناك مظالم تحدث من هذه الطبقة او تلك. ولكن بما ان العلوم تتطور فان ادوات الانتاج ستتطور. وما يتعين علينا فعله هو ان نحاول رفع هذه المظالم عبر الاصلاح ونترك التطور الموضوعي للعلوم كي يتولى تطوير ادوات الانتاج تدريجيا منه فيه ومن ثم تطوير المجتمع. وهذا بطبيعة الحال تخريف صاف لان الكاتب نسى شيئا صغيرا : علاقات الملكية. ولو اقترحنا عليه ان يضيف ذلك الى حكايته غير المسلية فانه سيضطر الى بحث الآليات التفصيلية لتبعات تلك الملكية على مجمل النشاط الانساني وعلى نمو المجتمع ككل وعلى تطور العلوم ذاته. لكن تقول لمين. فلنعد اذن الى طبيعة مقولة الثورة عند النظر اليها علميا. يعمد البعض – بما فيهم كاتبنا – الى تنميط الثورة او وضعها في قالب معين بقياسها على نموذج عياري مجرد لا يصلح ان يكون "فئة عامة". الثورة البورجوازية البريطانية مثلا تحققت بشكل مخالف عن الفرنسية برغم انها مرت بمحطة "بروفة" فرنسية تمثلت في اعدام الملك تشارلز الاول وتقلبات الفترة من 1640 وحتى 1660 وبدء عملية تاريخية مرت بمحطة تمرد الميثاقيين لتنتهي بانفراد البورجوازية بالحكم في القرن الثامن عشر. وثمة ابحاث مختلفة عن "الشكل" الذي اتخذته الثورة البورجوازية البريطانية او الثورة البورجوازية الالمانية (التي تلقت دعما هائلا من الحروب النابوليونية) ومن الفلسفة الكلاسيكية الالمانية ثم من توحيد الامارات الالمانية. الا ان احدا لا يجادل في اننا رأينا بالفعل انماطا مختلفة من الثورة البورجوازية في تلك المجتمعات. اي منها يصلح اذن ك"معيار"؟ لو كانت الثورة البريطانية هي المعيار لما استحقت الثورة الفرنسية بان توصف انها ثورة. كما لو اننا اعتبرنا الثورة الفرنسية هي المعيار لما كان لدينا اي "اعتراف" نظري بان ثورة بورجوازية وقعت في المانيا. يمكن اذن كما رأينا في بعض الحالات ان تدرك الدولة الاقطاعية ان الثورة "جاية جاية" بسبب اضرابات واضطرابات متناثرة وان تدرك انها لن تكون قادرة بدرجة تماسكها عندئذ على مواجهة العاصفة ومن ثم تتحرك بسرعة لتعديل صيغة الحكم طوعا بضم البورجوازيين والتحالف معهم لتجنب حدوث اضطراب عظيم. وينتقل المجتمع على نحو ما من مجتمع يحكمه تحالف الاقطاع والكنيسة (بريطانيا في مطلع القرن السابع عشر) الى مجتمع يحكمه تحالف بين الاقطاع والبورجوازية بقدر محدود من العنف والدماء لينتهي الامر بانفراد البورجوازية بالحكم عبر التحول التدريجي من نمط معين للانتاج الى نمط آخر اكثر تفوقا او بالاحرى عبر انتصار "السوق" كمقولة رأسمالية موضوعية وابتلاعه التدريجي لانماط الانتاج السابقة على الرأسمالية. هل يمكن اذن حين نرى ان البريطانيين لم يقلدوا الفرنسيين ان ننتهي الى حكم يقول ان الثورة البورجوازية لم تحدث في بريطانيا؟. الناس لم تخرج ولم تدمر السجون المركزية او تحرق القساوسة والكنائس في الميادين العامة. دي ثورة دي؟ نعم. لم يثر الناس في مظاهرات عارمة تدمر النظام القديم في المانيا مثلا الا ان النظام الذي ولد من تلك المرحلة كان نظاما بورجوازيا. يعني يا عم عايز تقول ايه؟ انهيار النظام القديم في المانيا مثلا حدث بدون ثورة؟ كلا. ليس هذا ما اريد ان اقول. ما اريد ان اقول هو ان معيار الثورة في السؤال ذاته هو معيار خاطئ. انها قياس على نمط مجرد يتذبذب بين تجريدات جزئية ومن ثم ليست "حقيقية". ان الثورة "تحققت" في المانيا وفي بريطانيا ولكن بشكل مختلف عن شكل تحققها في فرنسا مثلا. لقد ولدت السيادة السياسية والثقافية والاجتماعية للمجتمع الجديد قيصريا في حالات وبالقدمين اولا في حالات وبالرأس اولا في حالات وبالتفاهم في حالات وهكذا. الا ان المهم بالنسبة لنا ان طبقة جديدة باتت تحكم. تلك هي لحظة الانقلاب الطبقي. انها لحظة انتصار الثورة. ويستخدم تعبير الثورة على مناح متعددة. وكما قلت توا فانه يتعين علينا هنا ان نتجنب تعميم ما هو خاص اي تعميم مقولة مثلا تقول "ان كل الثورات دموية" او ان "كل الثورات عنيفة" او ان كل الثورات شعبية. ولذا فان اردنا الحديث عن اي ثورة ولتكن مثلا الثورة البورجوازية البريطانية فان علينا ان ندرس خصائص تلك الثورة لنتيقن من ان الوصفات الجاهزة والمبرمجة للثورة هي وصفات لا تفيد مع حيوية الحياة ذاتها ولا تساعد على بلورة مفهوم نظري صحيح لمقولة الثورة. ثم علينا ان ندرك بوضوح ان لحظة انتصارالثورة هي "لحظة". اما ما سبق ذلك فكان هو نفسه الثورة التي انتصرت بعد ذلك ولكن في مراحل عمرها المختلفة التي سبقت لحظة الانتصار. لذا فحين نقيس الثورة على معيار "النجاح" في "تغيير" علاقات الانتاج السائدة بواسطة "العنف" فاننا - مرة اخرى - نحدد هنا ما هو عام بما هو خاص. نحن اولا نعمم نموذجا لفهم نظري او عددا من النماذج على تجارب البشر الاحياء ثم اننا نختصر العملية (اي العملية الثورية) في لحظة لو لم تصلها فليس ثمة ثورة. (من هنا جاء الحوار العقيم حول ما اذا كانت ثورة 25 يناير ثورة حقا. انها ثورة بالفعل في مرحلة معينة من مراحل نموها). والاصلاح بالمناسبة لا ينبغي ان يؤخذ كمقولة مطلقة باي حال. انه خطوة الى الامام لو كان يطور قدرات الناس على نيل حقوقها كاملة غير منقوصة. الا انه خطوة الى الخلف لو كان يستخدم لاجهاض حركة الناس وتفتيتها. ثم يقلب الكاتب ماركس ضد الماركسيين. انه يقول عن التحولات الاجتماعية "قدم ماركس التفسير العلمي لقوانين هذه التحولات واكتشف محركها التقني والاجتماعي. ولا حاجة اذن الى "الثورة الاجتماعية" او "الثورة السياسية" لان الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتحول عمليات تراكمية مترابطة. ولا مكان هنا لتفسير هذه التحولات بالثورات ضد ظلمها دون ان تخلقها". "لا حاجة للثورة السياسية او الثورة الاجتماعية؟؟؟". طيب نقدم طلب لمين نلغي بيه الحاجة محل الشكوى يا بيه؟. من هذا الذي يتسبب في صنع الثورة حتى نقنعه بكلام كاتبنا؟. الثورة ليست "قرارا" يمكن للكاتب ان يقنعنا بالغائه مهما اوتي من قدرة على اللف والدوران. نحن لا نصنع اسباب الثورة. الصراع الطبقي عند تطوره في وعي الناس هو الذي يصنعها. والصراع الطبقي ناجم عن المجتمع الطبقي. ونحن والانجيل الحي لم نصنع الصراع الطبقي ولا المجتمع الطبقي. كان نفسي اخدم والله. لكن مش عارف ازاي. الا انني اقول للكاتب دون كرم مفتعل انه لن يكون هناك دموية ولا فوضى ولا خراب مما يأتي به الناس ان سلمت البورجوازية سلطة المجتمع بشياكة. لو فعلت فسوف نحتفل وسوف نشكرها كثيرا وسوف ننتزع مصالح المنتجين الحقيقيين بعد ذلك. وانتزاع هذه المصالح يعني فعليا الغاء البورجوازية تدريجيا. وسوف نفعل ذلك ونحن نعتذر للبورجوازيين بادب ونقول لهم بكل تهذيب انهم لصوص وان من الضروري للمنتجين ان يأخذوا كل حقوقهم وان عملية سرقة عرق هؤلاء المنتجين التي قام بها اولئك البورجوازين انفسهم قد انتهت واوروفوار يا جماعه. لن يكون هناك عنف. سنمنع اللصوص من السرقة فحسب وسيحدث هذا بشياكة تستطيع الطبقة العاملة وحدها ان تفعلها. اما لو قبلنا باستمرار السرقة لانها ستنتهي (بحكم تطورها الكمي) واحدة واحدة وبالراحة وبالضغط من اسفل ومن الجنب اليمين والجنب الشمال فانه خيار سيقودنا الى الدم والخراب والدمار اي الى ما يعدنا الكاتب به لو تجرأنا على الثورة. لقد سقطت آخر اوراق التوت الآن. وما نراه يتجاوز في قبحه كل ما سبق. *** بقي ان اقول انني لم ابرهن هنا في متن هذه المداخلة الطويلة على ان هناك مسارا للتاريخ يمكن فهمه وتحديد قواه الفاعلة وذلك لدحض مجمل مقولات بوبر. الا ان الامر كان سيستغرق وقتا اطول. وحيث انني اغالب النوم (فما بالك بالقارئ الذي لابد قد غط في نوم عميق بالفعل) فانني سأرجئ ذلك برغم اهميته. الا انني سأعود اليه لاهميته في ايضاح نظرة ماركس للتاريخ ومن ثم خلاف الماركسيين الجذري مع محاولات اعلان موت التاريخ ووقف حركته اي في حالتنا الآن الابقاء على المجتمعات الرأسمالية على ما هي عليه بعد "تنقيحها" ان تسنى ذلك.
#يوسف_يوسف_المصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول هيجلية ماركس (3)
-
حول هيجلية ماركس (2)
-
هل ينبغي الآن رفع شعار اسقاط النظام؟
-
داعش وفتاوى العلماء وثرثرات اخرى
-
حول هيجلية ماركس (1)
-
الحل الارجنتيني
-
دور ما يسمى القطاع الخدمي في توليد القيمة المضافة
-
حول العمل المنتج والعمل غير المنتج
-
العلاقة بين الربح وفائض القيمة
-
حول رأس المال التجاري
-
ما العمل مع -فرمان- مرسي؟
-
مساهمة في مناقشة قضية امكانية التطوير الرأسمالي في مصر
-
حول ظاهرة الاسلام السياسي
-
رحلة -موت العمل- بين روبنسون كروزو و-ماد ماكس-
-
سؤال لشباب اليسار : هل كان عصام العريان محقا؟
-
الموقف من الانتخابات البرلمانية المقبلة
-
ملاحظات على مداخلة الدكتور محمد عادل زكي عن القيمة الزائدة
-
ملاحظات حول سلاح التظاهر في ضؤ 24 اغسطس
-
الاخوان والليبراليون
-
كلمتين لعمال مصر
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|