أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - نيتشه وتأويلية الاقتدار ...تمارين في الثورة















المزيد.....


نيتشه وتأويلية الاقتدار ...تمارين في الثورة


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3664 - 2012 / 3 / 11 - 21:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



كثيرا ما نعثر في كتابات نيتشه على تنبيهات من هذا القبيل: " حتى أقول ذلك في لغتي" أو "حتى أستعمل لغتي الخاصة" أو " متى تكلّمنا في لغتي" ...إنّ الأمر يتعلق بضرب طريف من الترجمة: إنّه الترجمة النشطة، كضرب من السيرة الذاتية المتعالية للعقل الحرّ. لا نترجم إلاّ بقدر ما نحرّر من المعنى. ولكن ممّاذا ؟ - تحت قلم نيتشه كلّ مفهوم بل قل كلّ لفظ هو ثمرة جهد مرير ولكن مقتدر ونضر لنقل اللغة من معجم ردّ الفعل إلى معجم الفعل: من معجم "الكاهن" إلى معجم "المحارب" أو "العقل الحر". في كلّ مرة ينبغي أن ننصت إلى السؤال المتواري تحت قلم نيتشه: كيف نفكّر قبل ظهور الكهّان على الأرض ؟ كيف نعيد للحيوان البشري قدرته "الحربية" على الحرية البدائية الصلفة المتهوّرة ؟ تلك التي أصبحت فجأة في خطر منذ ظهور الكاهن واختراع معجم "العبودية" (خير وشر، أخلاق، خطيئة، محبة، ثواب، عقاب، واجب، عدالة، ضغينة، ذاكرة، مسؤولية، وعي، ضمير، ذنب، مثل عليا، آلهة، تنسّك، شفقة، ...)، وهو ما يسجّله نيتشه تحت اسم الكاهن اليهودي. كما ينسبه إلى ورثته المسيحيين، وخاصة بولس. وإن كان علينا أن نتساءل عن مغزى غياب الحديث عن المسيح نفسه. كأنّ الأمر في واقع الأمر لا يتعلق إلاّ بالمؤسسة الدينية بما هي في جوهرها مؤسسة القيم المتخفّية وراء كلّ أنواع القيم.
ضدّ أيّ تصوّر أحاديّ الجانب للأخلاق، سواء يردّها إلى "المنفعة" أو إلى "الواجب" ، ينبّه نيتشه إلى أنّ القيم لها مصدر متردّم وسحيق القدم، هو ذاك الصراع بين قيم النبلاء وقيم العبيد، بين من يقول "أنا كريم" و"أنت لئيم" ومن يقول "أنا خيّر" و"أنت شرّير"، بين "الروح الحرّة" للمحارب و"الاضطغان" الدفين للكاهن.
كلّ تفكير هو، في تقدير نيتشه، محاربة لصورة الكاهن المختبئة في قاع العقل الإنساني الحالي. ولكن إلى أيّ مدى يمكننا ذلك ؟
يقول : "في الحقيقة، للمرء طاقةٌ على كلّ ذلك، متى كان قد وُلد من أجل وجود كمين تحت الأرض ومحارب؛ فشأن المرء أن يعود دوماً من جديد إلى وضَح النور، شأن المرء أن يعيش دوما من جديد ساعته الذهبيّة وأن ينتصر،- ومن ثمّ أن ينتصب هناك، كما وُلد، غَير قابل للانكسار، متوتّرا، متأهّباً للجديد، للأمر الأعسر والأبعد، كما قوسٌ لا تزيدها الشدّة إلاّ انتصاباً" (المقالة I، 12) .
التأويل هو فنّ القوس المشدودة التي تعلّم المرء كيف يذهب إلى أبعد من نفسه ويتغلب على حدود نفسه. هو فنّ "التغلب على النفس"، تلك النفس التي ورثها وراثة ولم يشارك في صنعها إلى حدّ الآن، وانقلبت إلى حجر عثرة أمام الطريق إلى هدف أبعد فأبعد.
قال: "أن نفسّر حياتنا الغريزية برمّتها بوصفها تهيئة وتفريعا لشكل أساسي واحد من الإرادة- ألا وهي إرادة الاقتدار، تلك هي أطروحتي الخاصة.."
كلّ كهنوت هو ارتكاس إزاء الحياة، تقنية للسيطرة على إرادة الاقتدار التي تحرّكها وذلك تحت عنوان مريب: "تربيتها" و"تهذيبها"، ولا يعني ذلك في لغة نيتشه سوى "تدجينها" ومعاقبتها من الداخل: بتحميلها "ذنب" كونها "هي" نفسها، أي كونها "حيّة"، ذنب الحياة أو الحياة نفسها بوصفها ذنبا لا يُغتفر. "الحياة" هي كلّ ما وجدنا عليه أنفسنا من حيوانية دفينة، من غرائز ودوافع وحريات ورغبات وآمال وطاقات ولذات وذكاء وحقوق، سابقة على الطبقة "الإنسانية" أو "المؤنسنة" والتي ندعوها "تخلّقا" بأخلاق "أفضل" أو "حسنى" أو "مثلى".
بيد أنّه لا يكفي أن نميّز مثل نيتشه بين "أخلاق الأسياد وأخلاق العبيد" حتى نفهم قصده ونمسك برهانه ونجاريه في مغامرته غير المسبوقة. ذلك تمييز كان رائجا حتى بين العبيد. – إنّ الخطير هو ما يقوم به "الكهان"، مهما كان لونهم أو اسمهم أو قومهم أو عصرهم، من صبّ للسمّ في الدسم، وفرضية "التسميم" متواترة تحت قلم نيتشه.
قال في الفقرة 7 من المقالة الأولى: " إنّ الكهّان، كما هو معلوم، هم أشرّ الأعداء- ولكن لماذا ؟ لأنّهم أكثر الناس عجزا. ومن العجز يتولّد عندهم الكُرْهُ، مرعبًا وموحشاً، روحيّاً ومسموماً كأشدّ ما يكون. لقد كان أشدّ الناس كرها في تاريخ العالم على الدوام كهّاناً، وكان هؤلاء الكارهون أيضا من أشدّ الأرواح مكراً: - فإزاء روح الثأر التي تسكن الكهّان يكاد لا يدخل أيُّ روح آخر في الاعتبار. وما أبلد تاريخ البشر لولا الروح التي تأتّت إليه من العاجزين."
إنّ العبارة التي تستوقفنا هنا هي : يتولّد الكرهُ عند الكهّان " روحيّاً ومسموماً كأشدّ ما يكون" (ins Geistigste und Giftigste). لا يكفي أن نعلّق هنا على أنّ نيتشه يستثمر التناغم الواقع في الأذن الألمانية بين العبارتين: "الأكثر روحا" و"الأكثر سمّا" يتصاديان. بل الأخطر من ذلك أشواطا هو تنبيه نيتشه المتكرّر إلى هذا الواقع الاصطلاحي المرير: أنّه ليس فقط من الصعب أن نفصل سلّم قيم العبيد عن سلّم قيم الأسياد في تاريخ الأخلاق السائدة إلى حدّ الآن، والتي بنى عليها الحيوان البشري تقويماته الحاسمة لمعنى حياته على الأرض، بل أنّ "المحدثين" قد نجحوا في إنشاء معجم قيمي وسطي، صوري، محايد، تصالحي،"موضوعي" و"كوني"،.. ردم الهوّة بين أخلاق الأسياد وأخلاق العبيد على نحو مخاتل وماكر ومنافق. وحسب نيتشه، يمكن الحكم على كلّ "الأفكار الحديثة" من قبيل المساواة والحس الديمقراطي والواجب والضمير المهني والاحترام...بوصفها تنويعات متنكّرة على المعجم الكهنوتي. وإنّ كانط هو البطل النموذجي عن هذا النجاح "اللاهوتي" المقنّع. النجاح "اللائكي" في إقامة كهنوت عقلي بلا طقوس.
أمّا النتيجة الأخلاقية المباشرة لهذا التحوّل المفهومي الخفيّ فهو إنتاج "الإنسان الحديث": هذا الكائن المشوّه الذي لم يعد يستطيع أن يكون لا سيّدا ولا عبدا. في هذه البؤرة "الحديثة" تكوّنت تقويمات سقيمة وباهتة تدعي أنّها محايدة ونزيهة من قبيل: الحسن والسيّئ، الجيّد والرديء، النافع والضار، اللائق وغير اللائق، المشروع وغير المشروع،...وهي كلّها تقويمات منافقة لأنّها لا تريد الحسم الأخلاقي في مرتبتها من إرادة الاقتدار: هل تريد السيادة أم تريد العبودية. مثلا: لا معنى لأنْ نقول عن شخص ما إنّه سيّء أو إنّه حسن، وإنّه جيّد أو إنّه رديء، ما لم أربط ذلك بتأويل حيوي نشط وجسور لإرادة الحياة التي تحدو ذلك الشخص. من أجل ذلك لا يكون الشخص "سيّدا" أو "عبدا" بالمعنى الاجتماعي أو السياسي السائد، بل في معنى إرادة السيادة على معنى الحياة التي يريد أن يخلقها وإرادة العبودية لمعنى مقرّر ومفروض عن الحياة.
لذلك فإنّ التقابل لا معنى له بين الخيّر والحسن أو بين الخيّر والجيّد أو بين الشرّير والسيّئ أو بين الشرّير والرديء إلا ظاهرا أو في الدرجة فحسب. والتسميم الحديث للروح إنّما هو متأتّ من هذا النفاق القيمي: أن نخفّف من وطأة الحكم المسبق اللاهوتي بواسطة حكم مسبق أخلاقي. وفي واقع الأمر هما سيّان. إنّ التقابل الحيوي والأصيل هو ما بين الخيّر (بالمعنى الديني والأخلاقي) وبين "الكريم" أو "الشريف" (بالمعنى الأرستقراطي). كما هو الشأن مع الحالة المضادة: بين "الشرّير" و"اللئيم" أو بين الشرّير والخسيس أو بين الشرّير والوضيع.
بيد أنّه علينا أن نحترس من أيّ فهم "أخلاقوي" لكتابات نيتشه: مثلا أن نعتبره معارضا يائسا للأنوار الحديثة أو داعيا خطيرا إلى البربرية أو عدوّا للسامية أو قوميا متعصّبا أو جماعويّا حزينا ضدّ المكاسب الحقوقية للدولة اللبرالية...تلك أفكار مسبقة أخرى، أو ضروب مريضة من الفضول. - إنّه فقط يمارس "أنوارا جديدة" يدفع بها بعيدا عن أيّ أنوار سابقة، بما فيها تلك التي سمّيت راهنا باسم "الأنوار الجذرية"، وهي ليست جذرية إلاّ بقدر ما تظنّ أنّ "الإلحاد" الحديث هو الطور الأعلى من كلّ "غريزة حرية". والحال أنّ نيتشه قد فضح حتى الإلحاد نفسه بوصفه لا يملك توضيحا جذريا حول قيمة الحرية التي يفاخرنا بها. إنّ الإلحاد لم يكن إلى حدّ الآن إلاّ إيمانا أو"مثالا نُسُكيّاً" مقلوبا (المقالة الثالثة، الفقرة 27) : استيلاء صفيقا على مكان الإله الأخلاقي الذي صار شاغرا، في خلط مزر بين "الإنسان الأعلى" (der höhere Mensch) ، الذي استولى على الأسماء الحسنى للإله التوحيدي، وبين الإقدام على الذهاب المجنون إلى "ما فوق الإنسان" (der Übermensch) ، بوصفه مطلب الحياة الحرة، التي تتمتع بصحة ميتافيزيقية جيدة، والتي لا تطلب أقلّ من هذا: خلق "نمط بشري" من نوع جديد.
يقول في الفقرة 11 من المقالة الأولى، متحدّثا عن "النبلاء"، خالقي قيمهم بأنفسهم :
"- أكان النبلاء روماً أم عرباً، جرماناً أم يابانيين، أكانوا أبطالا هوميريين أم فيكنغ إسكاندينافيين- في هكذا حاجة هُمُ كانوا سواء. الأعراق النبيلة، هي تلك التي تركت مفهومَ ’’البربريّ’’ على جميع آثارها، أينما ذهبت؛ (...) ’’جرأةُ’’ الأعراق النبيلة، وهي لعمري جرأة مجنونة، عابثة، خاطفة، كما تعبّر عن نفسها، وما لا يُتوقَّع وما لا يُصدَّق في ما تأتي من أفعال جسام – وبريكلس قد خصّ بالذكر çajumía الأثينيين- عدم اكتراثهم واستخفافهم بالأمن والجسد والحياة والترف، الصفاء المفزع وعمق اللذّة في كلّ دمار، في كلّ استمتاع بالنصر وبالقساوة- كلّ ذلك يُردّ عند الذين يألمون إلى صورة ’’البربريّ’’، و’’العدوّ الشرّير’’..."
علينا أن نأخذ تلك القائمة من الشعوب الأرستقراطية بوصفها ستة أمثلة عن تلك "الدابة" الحرّة القديمة التي رسمت ملامح النموذج الأخلاقي للنبيل في كل أصقاع الأرض التي صنعت تاريخا كبيرا للنوع البشري. – غير أنّه على عكس كلّ ما توحي به نصوص نيتشه من أحكام أخلاقية مسبقة (من قبيل نقده المقذع لليهود، كما في الفقرات 7 و16 من المقالة الأولى أو ملاحظاته على لون هذا الشعب أو نسبه، كما في الفقرة 5 من نفس المقالة...) فإنّ نيتشه ليس معاديا للسامية ولا داعيا للميز العنصري (انظر: المقالة الثانية، الفقرة 12، ما وراء الخير والشر،§ 251 ). بل هو يفكّر فيما أبعد من أيّ مركزية عرقية أو قومية أو جماعوية.. ولذلك ليس للمجازات الحيوانية في كتابات نيتشه إلاّ دور تأويلي: فضح "الإنسان الحديث" (الأوروبي ولكن أوروبا في معنى غير جغرافي وإنّما أخلاقي أو حضاري، حيث يشير نيتشه إلى أنّ أوروبا قد أخذت تجتاح الأرض بقيمها) بوصفه أقرب ما يكون إلى حيوان "مدجّن". - ما يريده نيتشه هو إعادة القدرة على الحياة إلى الشعوب الحديثة التي خدعها الكاهن الجديد في ثوب العالم الملحد والمحايد والنزيه. وسلّمها إلى "غول" الأزمنة الجديدة : دولة الإنسان الأخير أو الحيوان "الديمقراطي".
لكنّ كلّ تخريجات نيتشه تأويلية كأعلى ما يكون، ولا تستعمل التاريخ إلاّ تنميطاً أو توضيحا فحسب. بل: ليس من أصالة لأيّ فكر أو تقويم أو تأويل إلاّ بقدر ما يكون صيّادا للأنماط التأسيسية لمعنى مغامرة الحيوان البشري على الأرض. هذا الحيوان "النمطي" بامتياز. ولا يتحدث نيتشه عن "قوميات" جاهزة بل عن "أنماط" بشرية ليس بينها من "تراتب" إلاّ في ميدان القيم، قيم الاقتدار وقيم الحياة (المقالة الأولى، الفقرة 17، هامش).
ثمّة بالفعل، حسب، نيتشه "حرب" قيم بين الأنماط البشرية، وهو ما يعني تحديدا أنّه توجد حرب تأويلية بين الشعوب الكبيرة، بل إنّ نيتشه قد وجد الممثّلين الأكبرين لهذه الحرب في تأويل قيمة القيم التي تحكّمت في معنى وجود الإنسان على الأرض إلى حدّ الآن: "إنّ رمز هذا الصراع، مكتوبا بخطّ ظلّ إلى حدّ الآن مقروءًا على مدى تاريخ البشر برمّته، إنّما اسمه "روما ضدّ يهودا، يهودا ضدّ روما" (المقالة الأولى، الفقرة 16).
وإنّ دور الفلسفة هو أن ترصد الدوافع النفسانية المنتجة للتأويلات الأساسية للحياة في شكل سلالم قيم، وذلك من أجل تقويمها بحسب إرادة الاقتدار التي تحدوها.
يقول نيتشه في آخر المقالة الأولى، الفقرة 17 :" كلّ العلوم إنّما شأنها منذ الآن أن تهيّئ المهمّة المستقبليّة للفيلسوف: متى فهمنا هكذا مهمّة بأنّ على الفيلسوف أن يحلّ مشكل القيمة، أنّ عليه أن يعيّن تراتب القيم."
حسب نيتشه ليس ثمّة "واقع" موضوعي متفق عليه، كما أنّه لا لوجود لأيّ "مفاهيم" أو "مقولات" محضة أو بريئة أو جاهزة للعقل السليم. بل الواقع واللغة والمفاهيم هي "أمارات" حيّة عن إرادة اقتدار مخصوصة وشديدة التوقيع : لعبة تأويلات تدور حول زيادة مطّردة للقدرة على الحياة .
ولذلك لا يملّ نيتشه من تحويل وجهة المصطلحات الميتافيزيقية التقليدية واستخدامها بشكل مجازي ونفساني عالي الطراز . وهو يغيّر دوما من لغته ومصطلحه: ليس هناك اصطلاح نهائي للتفكير، ثمة باستمرار حاجة إلى التأويل والترجمة والتقويم والتحويل المفهومي والأسئلة الجديدة. وعلى ذلك فإنّ نيتشه يحرص على التمييز الحادّ والغاضب بين "التأويل" كغريزة سميوطيقية خاصة بالحيوان البشري بعامة وبين "التأويل الديني" (المقالة الثالثة، الفقرة 20) كمكر لاهوتي "لئيم" يقوم على تحريف النصوص واستعمالها كإرادة اقتدار مريضة لا تقوى على مواجهة الحياة فتعوّضها بضرب متنكّر من "إرادة العدم".
إنّ تأويل نيتشه هو فنّ التمييز بين "المعنى" والحاجة إلى "المعاناة" (المقالة الثالثة، الفقرة 28 والأخيرة) بواسطة ضرب صحّي من "غريزة الحرية". ولذلك هو لا يقصد إلى أقلّ من اختراع غرائز "جديدة" للحياة. وهي ليست جديدة إلاّ في معنى كونها لا تستطيع أن تعمل إلاّ بقدر ما تتخلّص من نمط التقويم الذي ظلّ يسيطر عليها. بهذا المعنى يدافع نيتشه عن "النسيان" بوصفه "قوة" بإمكانها أن تعيد لنا قدرتنا القديمة على "النسيان النشط"، ذاك الذي يعلّمنا أنّ عمل الغرائز مواز لعمل المعاني: كلّها تقويمات لإرادة الاقتدار. ومن ثمّة أنّه كما تحتاج الحياة إلى "الالتهام بالجسد"( Einverleibung)، هي تحتاج أيضا إلى "الالتهام بالنفس" (Einverseelung) (المقالة 2، الفقرة 1) أي إلى تحويل تفكيرنا إلى ضرب من الاستهلاك الصحّي لدوافعنا النفسية.
إنّ التأويل هو بذلك تمرين في النسيان الأرستقراطي لتلك "الأفكار الثابتة" أو للثوابت التي تفرضها الجماعة على الفرد الحر أو النابتة في شكل سلّم قيم يعمل بوتيرة آلية وينقلب آخر المطاف إلى "مثل عليا نُسُكيّة"، تدرّب النفوس على "التنسّك"، أي على "رياضة" كهنوتية ضدّ الجسد، تقوم على سياسة الذاكرة القادرة على "الوعود" أو "الأفكار التي لا تُمحى" (المقالة الثانية، الفقرة 3) .
من أجل ذلك فإنّ التفكير الفلسفي هو، حسب نيتشه، فنّ نزع الطابع النُّسُكي عن العقل البشري، وذلك بأن يحرّره من "مثل عليا" نهائية حول معنى وجودنا على الأرض. بالتأكيد على:
" أنّ كلّ حادثة في [314] العالم العضوي هي غلبةٌ وسيادة وأنّ كلّ غلبة وسيادة هي بدورها تأويلٌ جديد، وترميم ، لديه لابدّ وأن يصبح "المعنى" و"الهدف" السابق مستورا أو ممحوّا تماماً" (المقالة الثانية، الفقرة 12)؛ و " أنّ كلّ الأهداف وكلّ الفوائد إنْ هي إلاّ أمارات على هذا أنّ إرادة اقتدار قد صارت كما سيّد مقتدر على شيء أقلّ منه اقتداراً، وختم له من نفسه على معنى وظيفة ما؛ وإنّ التاريخ الكامل لـ’’شيء’’ ما وعضو ما وتقليد ما إنّما يمكن أن يكون على هذا النحو سلسلة علامات متصلة من التأويلات والاستصلاحات الجديدة على الدوام، لا تحتاج أسبابها ذاتها لأنْ تكون في تلازم فيما بينها، بل حَسْبُها على الأرجح إذا اقتضى الحال أن تتتالى على سبيل المصادفة وأن تتناوب...إنّ الشكل لمائعٌ، لكنّ ’’المعنى’’ أكثر وأكثر..." (المقالة 2، الفقرة 12).
ليس هناك معنى في ذاته. بل كلّ معنى هو "توليفة من المعاني"(المقالة 2، الفقرة 13) التي تقود إرادة الحياة في عصر أو ثقافة ما. لكنّ تحرير المعنى من "رياضة" اللامعنى التي انقلبت مع العصور إلى سلّم قيم يعمل بشكل آلي ليست نزهة استطيقية. بل هي، حسب نيتشه، حرب ضدّ المثل الأعلى التنسّكي الذي انتصر على الأرض وصار يعمل بشكل لا واعٍ تماما.
ومثلما أنّ عمل الكاهن في كل ثقافة هو تدجين "الوحش" بالمثل العليا(المقالة الثالثة، الفقرة 15)، والتي وجدت في "رياضة" العدم، أي في فنّ "التنسّك" نموذجها الأرقى،- فإنّ التأويل هو تحرير الوحش: تحرير المعنى من الكاهن. وهو فنّ صعب المراس ولا يأتينا في كل مرة إلاّ بـ"إبانة مؤقتة" (المقالة 2، الفقرة 16).
وإنّ علينا أن نقف عند هذا الطابع المؤقت للتأويل. إنّ المؤوّل الأرستقراطي لا يدافع عن أيّ جدار نهائي للمعنى. فإنّ التأويل كضرب من إرادة الاقتدار هو حراسة ومعاشرة وتفكّر طويل (المقالة 2، الفقرة 16). وكما أنّ "الدابة الفلسفية تصبو بغريزتها إلى أقصى ما يمكن من الظروف الملائمة، التي تستطيع من خلالها أن تطلق كلّ قوّتها وأن تبلغ إلى أوج شعورها بالاقتدار"(المقالة الثالثة، الفقرة 7)، كذلك التأويل تحرير للمعنى وإطلاق لقوة الإثبات إلى أقصى ما يمكن من إرادة السؤال عن قيمة الحياة.
ولذلك يحرص نيتشه على الربط بين "مصلحة الحياة نفسها" وبين "معنى" أيّ نوع من التقويم، ومن ثمّ فكلّ موقف "نُسُكيّ"، أي يدرّب النفس على الاستغناء عن دوافع الحياة، هو "تناقض مع النفس" (المقالة 3، الفقرة 11)، وهو تناقض في معنى أنّه يدرّب الحياة على إرادة العدم، من خلال فن "الرجاء" في عالم "آخر".
ولأنّ فنّ الرجاء هو لا يعدو أن يكون "مرضا" أخلاقيا انتصر على منافسيه القدامى، أي على غرائز الحرية القديمة، تلك التي عرفها "الأنا الحيواني السحيق القدم" والذي صاحب الإنسانية في تاريخها الطويل باتجاهنا،- فإنّ التأويل هو بالأساس سلوك طبّي، ولطالما حرص نيتشه على أن يقدّم الأخلاق وكأنّها عدوى (المقالة الثالثة، الفقرة 20).
لذلك هو ينبّه عديد المرات إلى الفرق بين "تربية" الحيوان البشري (Züchtung) وبين "تدجينه" (Zähmung). ومن لا يشعر بالمسافة بين التربية الحيوية والتدجين الحضاري لا يمكنه أن يفهم معنى التأويل لدى نيتشه: إنّه يكتب في تقابل عنيد بين النبيل والوضيع في الأنماط الأخلاقية كما في أصناف المعاني.
إنّ كراهية الحياة مثلا ليس موقفا عبثيا لدى المتنسّكين: بل هو مكر الحياة نفسها، كيف تستعمل الضعفاء للحفاظ على الحياة ذاتها. التأويل هو قراءة في ظاهرة كره الحياة بوصفها جزء من مكر الحياة في البقاء. يقول :" لابدّ أنّ ضرورة من الدرجة الأولى، قد جعلت هذا النوع المعادي للحياة ينمو على الدوام ويزدهر،- لابدّ أن تكون هناك مصلحة ما للحياة نفسها في أنّ مثل هذا النمط من التناقض مع النفس لا ينقرض" (المقالة 3، الفقرة 11).
ومن ثمّة ليس التأويل لدى نيتشه بحثا عن "المعنى" المختفي في النصوص أو في الظواهر الأخلاقية، بل محاولة الربط بين "المعنى" الذي يعطيه كائن حي لحياته وبين نمط "المعاناة" الذي أقام عليه ذلك المعنى. ولذلك ليس التأويل "دحضا" منطقيا لأيّ "تناقض مع النفس"، بل محاولة لفهمه حسب منطقه الحيوي الخاص، بعيدا عن أيّ منطق آخر، لأنّه سيكون مجرد مكر حيوي متنكّر.
يقول : "إنّ إرادة المرء أن يرى على نحو مغاير ليست تربية أو تهيئة هيّنة للعقل من أجل ’’موضوعيّة’’ مرتقبة،- دون أن تُفهَم هذه الأخيرة باعتبارها ’’حدساً خلوا من أيّ مصلحة’’( إذ تكون بذلك تصوّرا باطلا ولا معنى)، بل بوصفها القدرة على أن نملك نَعَمَنا ولاءَنا تحت سلطتنا وعلى أن نرفعهما أو نضعهما كما نريد: بحيث يعرف المرء حتى بإزاء اختلاف المنظورات[365] والتأويلات الوجدانية كيف يجعلها في خدمة المعرفة"(المقالة 3، الفقرة 12)
أن نفهم بشكل مغاير هو موقف تأويلي مضاد لكلّ نمط نُسُكيّ. ويربط نيتشه بين الطابع "المنظوري" للوجود والطابع "التأويلي" لمعانيه المتعددة واللامتناهية (المعرفة المرحة، الفقرة 374). ثمّة تأويلات بقدر ما ثمّة "لحظات" في وجودنا. وكلّ لحظة هي بذاتها تأويل.
ولكن لنحترس من "التأمّليين" الذين يعوّلون على "إلحاد" نظري من أجل حلّ لغز قيمة القيم الأخلاقية لوجودنا على الأرض. إذ ليس الكاهن نمطا دينيا مهددا بالانقراض، بل هو آلة قيم تشكّلت بعد تطوّر أخلاقي سحيق القدم طال كلّ أشكال الحيوانية النائمة في النوع البشري ولازالت إلى اليوم تأكل كلّ النفوس. ولذلك فإنّ النقد "الحديث" الهادف إلى دحض خطاب الكاهن لا يؤثّر في شيء على سطوته. إنّ هذا النقد نفسه ملوّث بعدوى المثل النّسكيّة، وبهذا المعنى حكم نيتشه على نجاح كانط بأنّه نجاح لاهوتي. إنّ الكاهن لم يعد يتخذ هيئة لاهوتية واضحة، بل صار يسكن كل المثل العليا التي عرفها البشر من الأخلاق إلى الفن ومن الفلسفة إلى العلم.إنّ الكاهن قد تسلّل إلى مخبأ "الحاجة إلى المعنى" التي تؤرق الحيوان البشري: أن تكون لحياته المعذبة معنى. وطالما يفلح الكاهن في توفير المعنى فهو سيستمر في تسميم الحياة وتحويلها إلى تهمة.
نحن لن نتخلّص من "التأويل الديني" (المقالة 3، الفقرة 20) بل علينا فقط أن نتحرّر منه بتأويل آخر أكثر صحّة. إنّ الحياة نفسها تأويل: نزاع غريزي مع المعنى واللامعنى. لكنّ الهدف واحد: " أنْ تبرّر نفسها، أنْ تبرّر ما فيها من ’’معاناة’’" (المقالة 2، الفقرة 7). ومن هنا علينا في كل مرة أن نفرّق بين "التأويل" الصحّي وبين "التبرير" الذي يقوم على عدم التمييز بين "المعنى" و"المعاناة".
ولذلك يميل التأويل الديني إلى الخلط بين التبرير والتأويل، وذلك من خلال الخلط بين الواقع والقيمة، وفي الأخير بين "القطيع" و"الجماعة". وهذا هو حسب نيتشه منبت إرادة "تكوين القطعان" وتكوين "الجماعات" و"الطوائف". إرادة اقتدار متنكّرة ومريضة ترغب في أمر واحد: تدجين الوحش الذي في الحياة الإنسانية من خلال إنتاج الحيوان الأخلاقي الذي يجد راحته من ألم الكيان في أفق معاناة معيّن بوصفه هو أفق المعنى المناسب لحفظ نوعه . وهو قد تعوّد العثور على تلك الراحة "النسكيّة" بقدر ما يستجيب إلى أمر الكاهن النائم فيه: الأمر بضرورة "الامتناع عن التأويل":
يقول نيتشه : " هذا الامتناع عن القيام بأيّ تأويل بعامة ( بأيّ عنف أو تعديل أو اختصار أو حذف أو سدّ للثغرات أو اختلاق أو تزييف وسائر ما يدخل في ماهية كلّ تأويل)- كلّ ذلك إنّما يعبّر، متى أُخذ في جملته، عن نُسُكيّة الفضيلة، بنفس القدر الذي يعبّر به عنها أيُّ نفي لشهوة الحس( لا يتعلق الأمر في الأساس إلاّ بضرب من هذا النفي)" (المقالة 3، 24)
إنّ الامتناع عن التأويل هو إذن الأمر النسكيّ الأخطر الذي تمارسه الأديان على الإنسان الأخلاقي الذي تحكّم في معنى الوجود على الأرض منذ بضعة آلاف من السنين. والحال أنّ الهدف الحقيقي لهذه الإرادة المريضة هو تدجين "الألم" وتحويله إلى "متعة" عدمية تحت التصرّف. لكنّ ما ينبّهنا إليه نيتشه، وهذا هو دور الفيلسوف في المستقبل، هو تعرية المكر النسكيّ مهما كان مختبئا، وذلك بإثبات العلاقة اللازمة بين المعنى والمعاناة، من حيث " أنّ ما يثير حقّا ضدّ الألم، ليس الألم بحدّ ذاته، بل لا-معنى الألم"(المقالة 2، الفقرة 7)، و " أنّ ’’ألم النفس’’ ذاته ليس يجب أن يسوغ على العموم بوصفه أمرا واقعا، بل بوصفه تأويلا فحسب (تفسيرا سببيّا ) لوقائع لم تُصَغْ إلى حدّ الآن على نحو دقيق: ومن ثمّ بوصفه شيئا لا يزال يتأرجح تماما في الهواء وغير ملزم من الناحية العلمية،- كلمة بدينة، في حقيقة الأمر، أخذت فقط مكان نقطة استفهام نحيلة"( المقالة 3، 16). هل كانت دعوة نيتشه إلى استئناف التأويل ضدّ لا معنى الألم ضربا من التنوير ؟
في خريف 1884، فكّر نيتشه في وضع كتاب لم يكتبه أعطاه هذا العنوان: " ’’الأنوار’’ الجديدة. مقدمة إلى فلسفة العود الأبدي" . ولكن إذا كان نيتشه يعرض عن إنسان الجموع، فأيّ معنى للتنوير ؟ - وعلى ذلك علينا أن نسأل: هل كان كتاب جنيالوجيا الأخلاق تنفيذا أو تدشينا مباشرا لمهمّة تلك "الأنوار الجديدة" ؟



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاطع من سيرة إله قديم...عاد من السفر
- فلانتينا....بكلّ أعياد الوطن
- وجه الجامعة...من وراء نقاب
- براقع العقل
- صلاة الجوع
- انتخابات على الهوية...أم الدروس غير المنتظرة للديمقراطية ؟
- في مصير الحاكم الهووي
- الإساءة إلى الذات الإلهية
- في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه
- بيوغرافيا البؤس
- بيان الشهداء قصيد
- هوية الثورة (1)
- الثورة والهوية أو الحيوي قبل الهووي
- الثورة والهوية
- قصائد إلى الياسمين المحرَّم
- قصيدة الأرض
- قصيد القيامة أو نشيد الإله الأخير
- شفة تحمرّ من خزف ونار
- سارتر -كان معلّمي-
- الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-


المزيد.....




- كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
- إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع ...
- أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من ...
- حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي ...
- شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد ...
- اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في ...
- القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة ...
- طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
- الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
- الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - نيتشه وتأويلية الاقتدار ...تمارين في الثورة