طالب هماش
الحوار المتمدن-العدد: 1943 - 2007 / 6 / 11 - 05:01
المحور:
الادب والفن
" قراءة في مجموعة الشاعر حمزة رستناوي طريق بلا أقدام"
يبدأ الشاعر د. حمزة رستناوي مجموعته الشعرية الأولى على غير العادة بقصائد تنم عن السوداوية والمكابدة العميقة للطرح الفلسفي بمعنى أن الشاعر من البداية يعلن عن رؤيته النادبة للحياة والوجود , ويغفل المرأة ونداءات الحب والعشق على غير عادة الشعر كما أسلفنا في البداية . و أما الإعاقة الوجودية التي يرى من خلالها الطريق بلا أقدام فدلالتها تصب في حيز المكان المتغير باستمرار بالنسبة للشاعر ، فهو لا يستقر في مكان حتى يغادره . وهذا الترحّل الدائم يجعلنا نتساءل : هل الكتابة وهم نحاول أن نقتله وننتصر عليه لنؤكد أحقّيتها وجدواها ؟
أم نحن موهمون بالكتابة والحبر واللعب بالكلمات التي تشبهنا ؟
نكتب عن الأماكن التي أحببناها بنبرة الرثاء ونفارقها مرغمين كيلا نتشابه معها . فالأماكن غالبا ما تتآخى مع سكانها وتتشابه معهم وتصبح هيأتها كهيأتهم وصمتها كصمتهم فإن غادروها أقفرت من وجودهم ، وان ساكنوها التفت عليهم كالرحم وغطتهم خشية البرد والفقدان . فالأماكن مأوى النفوس ولحاف أيامها الكريم . لكن المدن غالبا ما تكره الغرباء في الليل وتأبى مسكنتهم فهي تحشرهم في أنفاق الكآبة مفردين كي لا يتعرفوا أسرارها . من هنا تظل الكتابة عن المدن التي أحببناها وبقيت تنعتنا بالغرباء مغرية . فنحن نلاحق المدن التي نحبُّ أن نعيش في أيامها لاجئين, حتى إذا عرفت حزننا ووجدنا سارعنا إلى فقدانها لنظل مجهولين :
(( كاد النهار يزول
والفانوس يسقط
والسكون يزف رعشته الأخيرة
يطلق القبلات في جنبات
هذا العالم الملتاع الأعمى ))
وإذا استثنينا بعض الأمور التي تتعلق بخبرة الكتابة والتمرس في التقاط العبارات الموسيقية والإيقاعية العالية, واضعين نصب أعيننا أنها المجموعة الأولى بالنسبة للشاعر, وليس بخاف ما للمجاميع الأولى من أخطاء غالبا ما يندم عليها الشاعر متأخرا, فإننا سنجد لغة ليست جاهزة تماما ، وتتمتع بحيوية تكاد تصل أحيانا إلى حد اللهاث في تدوير العبارات و تعالقها ببعضها البعض . إذ يصل النص إلى ذرى شعرية سامية , فالشاعر يلجأ إلى تكرار اللازمة بهدف أفق جديد للنص كما في قصيدة : مذبحة الليل ،و قصيدة شظايا .
ومن جماليات التصعيد الدرامي, وأقصد به هنا درامية اللغة وليس تعدد الأصوات, إنه يتيح للشاعر استخراج المعنى من التلاطم الإيقاعي والتناغم الصوتي الذي يخلقه احتكاك الكلمات ببعضها البعض وكأنها أجراس موسيقى كلما لمستها يد الريح تصدر تناغمات مختلفة . بيد أن هذا التصعيد يجب أن ينتهي مع انتهاء القصيدة بصوت عال ذي معنى رفيع .. يظل رنينه يترجّع في الذاكرة, وهذه المهمة من أصعب مهام الشاعر عموما و الرستناوي خصوصا فهو تارة يستفيد من الموروث في إنهاء القصيدة كما في قصيدته : حطام الروح . (( خرجت نساء الأرض من ضلعك ))
وتارة يترك النص مفتوحا على التأويل بصيغة التساؤل كما في نص ( مسطاح ) .
وأما النصوص الموفقة بنهاياتها فهي كثيرة في المجموعة من مثل : بلسم الآلام ، تمتمات من جحيم ، شظايا ، معركة ، طريق بلا أقدام .
حيث نجد الشاعر في هذه النصوص يضبط الفكرة بفلسفته الخاصة ووعيه الحاد كما في قصيدة بلسم الآلام حيث ينتهي ب ( أبدع الفنان تمثالا واختفى بين السواري والأهلة ) والشاعر حمزة رستناوي يحاول – وهو صغير على هذا اليأس – أن يمنح ذاكرة ليأسه الذي يعكس حالة الوعي لديه فهو يحاول استرجاع الماضي ولمس نبضه الغارب ، ودقات الليل النائية في ملكوت الصمت والغياب . وكأني به يعصر بكلتا يديه اسفنجة الحياة الشحيحة ليحصِّل على ما بها من قطرات تمنحه الحب والدفء والحب الروحيين . والشاعر بهذا المعنى كعازف الناي الجوال والذي يذكر العشاق بالماضي الذي تصرمت ساعاته و أبلاه التكرار . فهو أبدا عازف عن الموت ورافض الحياة ، ضائع مابين الصوت والصمت يتطلع إلى الشمس وهي تشرق كرف الحمائم البيضاء في الفجر . وفي المساء يحفر بئرا عميقة و يغوص في كهولة نفسه, وكأني الراثي الأوحد لخصيصة الحياة المفتقدة .. يحمل صليبه ويمشي عكس اتجاه الريح . أو يخوّض وسط عاصفة من القمح الذهبي .. هذا التأطير النفسي يمثل شعرية الشاعر أصدق تمثيل . فكلمات من مثل : مُتَشَاردٌ ، غريبُ الدار ، مطعون ، المنافي ، الفيافي ، مقر الظلام ، أسود ، أختنق ، ذبيح ، القاتل ، العتم .. الخ كلها تدل على علاقة غير متوازنة مع المكان ، يقول الشاعر : ( مزقي يا ريح أقطار الفؤاد ِ
قطّعي يا موس بئريْ / أيقظيني من رقادي
زلزلي يا أرض تابوت الحصاد ِ ! ً 17
فالوجود بالنسبة للشاعر لغة يستظل تحت عباءتها كخيمة البدوي التي تقيه الريح الآتية من الصلبان البعيدة لتعول في سويداء روحه بصوتها المكسور و انشادها الكاتدرائي الغامض .فالشاعر وحده من يصغي لموسيقا اللحظات الضائعة ويحمل صليب عذابه ويوغل في الظلمة ليعود بمسيح جديد . هو من يملك جناحين كبيرين يعيقانه في المشي على الأرض ، لكنه يلحق عاليا في السماء بهما على حد تعبير بودلير . لذلك يجب ألا نصغي إلى كلماته بايقاعها الخارجي بل إلى إحساسه الذي ضمنه جماع روحه وسيّله كرقراق الماء على أصابع الكلمات فظل متواريا لا يفسح عن نفسه إلا من خلالها :
( موج جريح أسود / غطى الوجود وناء فوق الأذن ناقوس عليل .
عري أيائل حلمك المفضوح / تأتي لاجترار مدائح العشاق
في الرمس الطويل .ص 66
.........................
* شاعر سوري
#طالب_هماش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟