أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي سعيد - قصة من وحي الحرب العراقية















المزيد.....



قصة من وحي الحرب العراقية


صبحي سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 1943 - 2007 / 6 / 11 - 05:01
المحور: الادب والفن
    


ذكريات ـ 1
******
**أَوْقَفَ الضَّابِطُ الأَمْريكِيُّ (جيمي جوردون) دَوْرِيَّتَهُ المُسَلَّحَةَ، عِنْدَما لَمَحَ مِنْ بَعيدٍ أَطْفالاً يَلْعَبونَ بِكُرَةِ القَدَمِ.أَخَذَ مِنْظارَهُ المُكَبِّرَ،وَراحَ يَتَفَحَّصُ المَشْهَدَ الغَريبَ العَجيبَ،وَ يَتَأمَّلُ الأَطْفالَ بِشَوْقٍ . أَطْفالٌ يَلْعَبونَ بِكُرَةَ القَدَمِ بَيْنَ أَنْقاضِ المَنازِلِ التي دمَّرَتها الحَرْبُ . مَشْهَدٌ لَمْ يَرَ لَهُ مَثيلاً مُنْذُ وَطِئَ ، مَعَ قُوَّاتِهِ، أَرْضَ العِراقِ.حَتَّى الكُرَةُ كانَتْ مَثْقوبةً خاليةً من الهواءِ.فَمَنْ يُصَدِّقُ أَنْ هُناكَ أَطْفالاً في العِراقِ يَلْعَبونَ بِكُرَةِ القَدَمِ ، أَوْ أنَّهُمْ يُمارِسونَ أَيَّةَ لُعْبَةٍ أُخْرى في هَذا الدَّمارِ المُرْعِبِ ؟؟ . تَنَهَّدَ بِعُمْقٍ شَوْقاً إِلى كُرَةِ القَدَمِ الَّتي لَمْ يُمارِسْها مُنْذُ غادَرَ مَنْزِلَهُ لِيَلْتَحِقَ بالقُوَّاتِ المُتَّجِهةِ إِلى العِراقِ. وَكُرَةُ القَدَمِ ـ أَحَبُّ لُعْبَةٍ إلى قَلْبِهِِ. كانَ يَأْخُذُ ابْنَهُ البِكْرَ إِلى المَلْعَبِ مَعَ شُروقِ الشَّمْسِ، أيَّامَ العُطَلِ في الصَّيْفِ، وَلا يَعودان إِلى المَنْزِلِ إلاَّ بَعْدَ غُروبِها. وَكانَ أَمَلُ (جيمي) كَبيراً جداً بِابْنِهِ البِكْرِ (جون) ـ ذي السَّنَواتِ العَشْرِ. كانَ (جيمي) يَرى ابْنَهُ شُعْلَةً مُتَوَقِّدَةً في المَلْعَبِ. فَهُوَ لاعِبٌ سَريعٌ ، رَشيقٌ ذَكِيٌّ ، يَقودُ فَريقَهُ بِطَريقَةٍ ساحِرَةٍ، وَيَخْطُفُ الأَهْدافَ كَلَمْحِ البَصَرِ،عِنْدَما يَخوضُ المُبارَياتِ مَعَ أَتْرابِهِ مِنَ الأَطْفالِ.كانَ النَّدَمُ يَضْغَطُ عَلَى صَدْرِ (جيمي) بِقَسْوَةٍ،وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ ذِكْرَياتِهِ عَنْ أَيَّامِهِ الجَّميلَةِ مَعَ ابْنِهِ البِكْرِ .. وَاعْتَرَفَ(جيمي) لِنَفْسِهِ بِمَرارَةٍ بِأَنَّهُ ارْتَكَبَ خَطأً كَبيراً عِنْدَما وافَقَ عَلَى الانْضِمامِ إِلى القُوَّاتِ المُتَّجِهَةِ إِلى الخَليجِ . كانَتْ أَشْواقُهُ لِوَلَدَيْهِ وَزَوْجَتِهِ ، تَزْدادُ،وَهُوَ يَتَأَمَّلُ الأَطْفالَ يَلْعَبونَ بِكُرَةِ القَدَمِ في هَذِهِ الأَجْواءِ الَّتي لَمْ يَرَ أَخْطَرَ،وَلا أَسْوَأَ مِنْها في حَياتِهِ . تَصَوَّرَ لَوْ أَنَّهُ يَمْلُكُ الشَّجاعَةَ الكافِيَةَ لَخَلَعَ بَذَّتَهُ العَسْكَرِيَّة،َ وَارْتَدى لِباساً مَحَلِيّاً، ومضى يلعبُ مع هؤلاء الأَطْفالِ ..فَمُنْذُ أَنْ وَطِئَتْ قَدَماهُ هَذِهِ الأَرْضَ، يَتَمَنى أَنْ يَرْتَدي لِباسَ أَهْلِها المَحَلِّيَّ، ويَسيرَ بَيْنَ النَّاسِ كَما يَحْلو لَهُ،وَ يَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ،وَيُصْغي إِلَيْهِمْ، وَيُحَدِّثَهُمْ عَنْ بِلادِهِ (أَريزونا) السَّاحِرَةِ. رَفَعَ المِنْظارَ المُكَبِّرَ عَنْ عَيْنَيْهِ ، وَزَفَرَ (جيمي) بِغَضَبٍ مَمْزوجٍ بِأَلَمٍ وَحُزْنٍ،وَهُوَ يَشْتُمُ الحُروبَ وَمَنْ يَقِفُ وَراءَها، وَتَساءَلَ بِصَوْتٍ مَهْموسٍ غاضِبٍ:
ـ أَما آنَ للبَشَرِ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ هَذِهِ الحُروبِ القَذِرَةِ، وَآثارِها المُدَمِّرَةِ؟؟..
كانَ الصَّباحُ هادِئاً عَلى غَيْرِ العادَةِ، بَيْنَما كانَ رَأْسُ (جيمي) مُثْقَلاً بِصُداعٍ حادٍّ. أَحَسَّ مُساعِدُهُ بِأَنَّ رَئيسَهُ جيمي غَيْرُ طَبيعيٍّ .. وَقَدْ سَمِعَهُ يَتَحَدَّثُ إِلى نَفْسِهِ بِصَوْتٍ مَسْموعٍ يَنِمُّ عَنْ غَضَبٍ،وَ تَوَتُّرٍ،فَطَلَبَ سَيَّارَةَ إِسْعافٍ نَقَلَتْهُ إِلى مَقَرِّ القِيادَةِ . وَبَعْدَ فَحْصِ الطَّبيبِ لَهُ ، أُعْطِيَ (جيميي) حُقْنَةً مُهَدِّئَةً .. وَخَلَدَ إِلى النَّوْمِ بِضْعَ ساعاتٍ؛ شَعَرَ بَعْدَها بِأَنَّ رَأْسَهُ انْتَفَخ،َ وَأَصْبَحَ كَبيراً جِدّاً ..نَهَضَ وَحاوَلَ الخُروجَ، لَكِنَّهُ تَوَقَّفَ والخَوْفُ يَمْلأُ قَلْبَهُ. أَحَسَّ بِأَنَّ رَأْسَهُ أَصْبَحَ أَكْبَرَ مِنَ البابِ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ ؟؟ عَادَ إِلى سَريرِهِ يَرْتَجِفُ رُعْباً .. فَقَدْ سَمِعَ وَقَرَأَ الكَثيرَ عَنِ الأَمْراضِ الفتَّاكَةِ في هَذِهِ الأَيَّامِ. سَخِرَ مِنْ خَوْفِهِ ، وَاسْتَلْقى فَوْقَ سَريرِهِ، يَطوفُ بِخَيالِهِ مَعَ ذِكْرَياتِهِ..وَقَدْ أَدْرَكَ أَنَّ شَوْقَهُ الشَّديدَِ لِوَلَدَيْهِ وَزَوْجِهِ، هُوَ سَبَبُ وَضْعِهِ الصِّحِيِّ الصَّعْبِ. أَصْبَحَ شَوْقُهُ لِوَلَدَيْهِ، يَحْرِقُ كَبِدَهُ، وَيُقْلِقُ راحَتَهَ. وَقَدْ لاحَظَ زُمَلاؤُهُ أَنَّ (جيمي) أَصْبَحَ يَنْزَوي بِنَفْسِهِ، وَيَغْرَقُ عَميقاً في أَفْكارِهِ البَعيدَةِ . وَعِنْدَما شَكا حالَتَهُ النَّفْسِِيَّةَ، نَصَحَهُ الطَّبيبُ :
ـ مارِسِ الرِّياضَةَ قَدْرَ ما تَسْتَطيعُ في الصَّباحِ الباكِرِ .. الرِّياضَةُ تُشْفيكَ مِنِ الأَوْهامِ، وَتُقَوِّي مِنْ عَزيمَتِكَ. فَنَحْنُ في مِحْنَةٍ وامْتِحانٍ شَديدَيْنِ قاسِيَيْنِ ..
انْتَفَضَ (جيميي) غَضَباً، وَصَرَخَ في وَجْهِ طَبيبِهِ بِصَوْتٍ مَخْنوقٍ :
ـ أَيُّ وَهْمٍ يا دُكْتور؟!هَلْ حُبِّي وَشَوْقي لأَوْلادي وَزَوْجَتي وَهْمٌ ؟!..هَذِهِ
لَيْسَتْ أَوْهاماً ، بَلْ هِيَ الحَقيقَةُ .. لَكِنَّها حَقيقَةٌ مُرَّةٌ..كاوِيَةٌ..وَكُلُّ شَيْءٍ
وَهْمٌ في هَذِهِ الأَرْضِ إِلاَّ هَذا الحُبُّ .. حُبِّي لأَوْلادي ..هُوَ الحَقيقَةُ ..أَلا يَعْتَرِفُ طِبُّكُمْ بِهَذِهِ الحَقيقَةِ ؟؟..
جَلَسَ جيمي يَحْضِنُ جَبْهَتَهُ بِراحَةِ كَفِّهِ، يَبْكي بِحُرْقَةٍ. ثُمَّ نَهَضَ و اقْتَرَبَ مِنَ الطَّبيبِ، وَعانَقَهُ بِكُلِّ ما يَمْلِكُ مِنْ قُوَّةٍ، وَهُوَ يَبْكي بِمَرارَةٍ، وَيَهْتُفُ بِصَوْتٍ مَخْنوقٍ:
ـ اعذُرْني أَيُّها الصَّديقُ .. أَيُّها الحَبيبُ ..أَرْجوكَ اعْذُرْني ..أَنْتَ صَديقٌ قَديمٌ، وَأَعْرِفُ أَنَّكَ صاحِبُ قَلْبٍ كَبيرٍ، وَعَقْلٍ راجِحٍ .. لَقَدْ قَتَلَنا (بوش) .. إِنَّهُ يَحْرِقُنا .. يَحْرِقُ أَميركا كُلَّها ..وَرُبَّما يَحْرِقُ العالَمَ كلَّهُ...لماذا ؟! لماذا؟! ..
وَخَرَجَ (جيمي) مِنْ عيادَةِ الطَّبيبِ، كَما خَرَجَ (أَرْخَميدِس) ذاتَ يَوْمٍ مِنَ الحَمَّامِ إِلى ساحَةِ المَقَرِّ، وَراحَ يَرْقُصُ وَهُوَ يَتَصَنَّعُ بِأَنَّهُ يَعْزِفُ عَلَى القَيْثارِ، وَيُغُنِّي أُغْنِيَةً مَرِحَةً، عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أَنْ كَلِماتِها كانَتْ كالجَّمْرِ تَغْلي في صَدْرِ جيميي :
ـ قَتَلَتْنا الحُروبُ أيَّها الأَحْبابُ ..
َقَتَلَتْنا الحُروبُ .. طَحَنَتْ عِظامَنا! ..
أَيَّتُها القُرودُ المُتَوَحِّشَةُ !!..أَوْقِفوا الحُروبَ !
..فَفي فَضاءِ روحي أَطْفالٌ تَسْبَحُ في غُيومٍ
داكِنَةٍ هائِجَةٍ ماطِرَةٍ،
تَبْحَثُ عَنْ أَشْجْارٍ خَضْراءَ وَعَصافيرَ
تَلْعَبُ مَعَها..وَتُغَنِّي للسَّلامِ !
أَيُّها الأَحْبابُ!أيُّها الأَخْيارُ ! ..أَيُّها الأَحْرارُ ..
المَسيحُ! المَسيحُ ! المَسيحُ ! يُناديكُمْ ، يُناشِدُكُمْ!
ارْفَعوا مَشاعِلَ الحُّبِّ في وِجْهِ الظَّلامِ الأَحْمَقِ..!
ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ اليُمْنى ( وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يُمْسِكُ بِيَدِ ابْنِهِ البِكْرِ)، وَمَدَّ يَدَهُ اليُسْرى (وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِيَدِ ابْنِه الأَصْغَرِ) وَتابَعَ غَناءَهُ بِمَرَحٍ وَرَشاقَةٍ :
ـ نَحْنُ شُموعُكِ يا بَتولُ ! يا أُمَّنا الحَبيةَ ،
نَضْرِبُ دياجيرَ الظَّلامِ بِأَنوارِ أَرْواحِنا،
شُموعاً تَصْعَدُ مِنْ صُدورِنا كالنُّجومِ ،
نُجومٌ عاشِقَةٌ .. تَزْرَعُ الأَرْضَ..
بِأَشْجارِ روحِكِ السَّامِيةِ الطَّاهِرَةِ !
غَنُّوا مَعَنا يا أَطْفالَ العالَمِ ..
وارْقُصوا ! بَشِّروا النَّاسَ بِأَغَصانِ السَّلامِ!
بعَصافيرِ السَّلام!ِ
بَشِّروهُمْ بِعَبيرِ المَحَبَّةِ والوِئامِ .
بَشِّروهُم بِبَلابِلِ الرِّياضِ والجِنانِ !
وَعِنْدَما أَعْياهُ الإِرْهاقُ، اقْتَرَبَ مِنْ ظِلِّ شَجَرَةٍ .. واسْتَلْقَى عَلى العُشْبِ، وَسُرْعانَ ما غاصَ عَميقا في بِحارِ النَّوْمِ. وَ حينَما اسْتَيْقَظَ شَعَرَ بانْتِعاشٍ وَحَيَوِيَّةٍ وَنَشاطٍ، فَأَيْقَنَ بِأَنَّ صَديقَهُ الطَّبيبَ قَدْ أَسْدى إِليهِ نَصيحَةً لا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ ...فَجيمي رياضيٌّ وَيُحِبُّ الرِّياضَةَ، وَيُقَدِّرُ قيمَتَها، وَقُدْرَتَها في عِلاجِ العَديدِ مِنْ الأَمْراضِ، وَبِخاصَّةٍ التَّوَتُّرَ العَصَبِيَّ، وَما يَنْجُمُ عَنْهُ مِنْ أَمْراضٍ نَفْسِيَّةٍ وَجِسْمِيَّةٍ خطرة...
************
جراثيم الحروب ـ 2
*****************
*** لَمْ يَذْكُرْ جيمي كَيْفَ وَصَلَ إِلى سَريرِهِ. ما يَذْكُرُهُ هُوَ أَنَّهُ اسْتَلْقى عَلى العُشْبِ، وَشَعَرَ بِحاجَةٍ ماسَّةٍ للنَّوْمِ..ثُمَّ غاصَ في بَحْرٍ لَمْ يَذُقْ أَحْلى مِنْهُ في حَياتِه.ِ وَعِنْدَما اسْتَيْقَظَ كانَ نَشِطاً مَرِحاً، مُنْشَرِحَ الصَّدْرَ. وَلَمْ يَسْتَبْعِدْ أَنْ يَكونَ للأَدْوِيَةِ وَالمُنَشِّطاتِ دَوْرٌ كَبيرٌ في تَخَلُّصِهِ مِنْ آلامِهِ وَكآبَتِهِ. لا شَكَّ بِأَنَّهُمْ نَقَلوهُ إِلى سَريرِهِ بِإِشْرافِ الطَّبيبِ. أَخَذَ حَمَّاماً بِمياهٍ فاتِرَةٍ، ثُمَّ تَناوَلَ فُطورَهُ بِشَهِيَّةٍ، وَمَضى يَتَجَوَّلُ بَيْنَ الأَشْجارِ، وَهُوَ يُفَكِِّرُ بالإِنْسانِ الَّذي نَراهُ تارَةً ضَعيفاً إِلى أَقْصى حُدودِ الضُّعْفِ ، وَأَحْياناً يَظْهَرُ قَوِيّاً بِصورَةٍ لا تُصَدَّقُ. فَمَنْ يُصَدِّقُ أَنَّ جَرْثومَةً صَغيرَةً لا تُرى بالعَيْنِ المُجَرَّدَةِ، يُمْكِنُ أَنْ تَتَغَلَّبَ عَلَيْكَ أَيُّها الإِنْسانُ، وَتُحيلَ حَياتَكَ إِلى جَحيمٍ ؟!.. فَأَيْنَ هِيَ عَظَمَتُكُ وَقُوَّتُكَ ؟! وَفَكَّرَ جيمي:( لَقَدْ عَرَفَ الإِنْسانُ جَراثيمَ لا حَصْرَ لَها ، وَ تَغَلَّبَ عَليها (جَميعاً) إِلاَّ جَراثيمُ الحُروبِ الخَبيثَةُ، فَهيَ مازالَتْ تَفْتِكُ بِنا عَلى هَواها. فَلِماذا لا أَكونُ أَنا مَكْتَشِفَ هَذِهِ الجُرْثومَةِ اللَّعينَةِ ؟؟) لَكِنَّهُ قَهْقَهَ ساخِراً، وَهُو يَسْأَلُ نَفْسَهُ:
ـ مَنْ يَدْري، فَرُبَّما لدى الأَشْرارِ مِنَ بَني البَشَرِ، مَصانِعَ عَديدَةً لِتَفْريخِ جَراثيمِ الحَرْبِ، قَبْلَ أَنْ أُفَكِّرَ أَنا في هَذا المَوْضوعِ؟! فَالأَشْرارُ لا يَعيشونَ بَعيداً عَنِ الحُروبِ والدَّمارِ .. إِنَّهُمْ جُرْذانُ الدَّمارِ والخُرابِ وَأَفاعي الأَماكِنِ المَهْجورَةِ، وَعَناكِبُ المَصائبِ والشَّرِّ! فمَنْ أنتَ أيُّها الإنسانُ ؟! إنك كائِنٌ ضَعيفٌ، وَ ضَعيفٌ جِداً.. لِماذا تَتْرُكُ هَؤُلاءِ الأَشْرارَ يَتَحَكَّمونَ بِمصيرِكَ، وَيَزْرَعونَ الوَيْلاتِ والمَصائبَ والكَوارِثَ في حَياتِكَ ؟!..
واعْتَرَفَ جيمي بِمَرارَةٍ :
ـ لا شَكَّ بِأَنَّني أَنا واحدٌ مِنَ هَؤُلاءِ الضُّعَفاءِ. وَلَوْ لَمْ أَكُنْ ضَعيفاً لَما سَمَحْتُ لِلأَشْرارِ أَنْ يَقودوني إِلى هَذِهِ الحَرْبِ .. وَلَوْ لَمْ أَكُنْ ضَعيفاً لَما فَقَدْتُ أَشْواقي وَحَنيني وَحُزْنِيَ، عَلَى طِفْليَّ وَزَوْجَتي..لَما فَقَدْتُ دُموعي وَغَضَبي عَلى هَذِهِ الحَرْبِ اللَّعينَةِ!.
كانَ جيمي يُداعِبُ هَذِهِ الأَفْكارَ بِمَرَحٍ، كَما يُداعِبُ كُرَةَ القَدَمِ مَعَ ابْنِهِ (جون) في المَلْعَبِ. .. ثُمَّ طَرَحَ عَلى نَفْسِهِ هَذا السُّؤالَ:(هَلْ جيمي اليَوْمَ هُوَ جيمي نَفْسُهُ الَّذي كانَ في الأَمْسِ؟؟) وَأَجابَ عَلى السُّؤالِ بِنَفْسِهِ:(لا أُصَدِّقُ!.. لا شَكَّ .. أَنا لَسْتُ جيمي، الَّذي بَكى بِالأَمْسِ مِنْ أَلَمِ الشَّوْقِ وَحُرْقَةِ الحَنينِ .. أين هي لَهْفَتي لـ(جون ..و.. جورج) .. وَ زَوْجَتي ؟؟ أَيْنَ هِيَ أَشْواقي ؟؟ أَيْنَ هُوَ حَنيني؟؟) وَقَبْلَ أَنْ يُجيبَ عَلَى السُّؤالِ، وَجَدَ نَفْسَهُ قَريباً مِنْ ضِفَّةِ دِجْلَةَ. وَ جيمي يَهيمُ عِشْقاً بِالأَنْهارِ. وَقَفَ يَتَأَمَّلُ النَّهْرَ بِإِعْجابٍ وَحُبٍّ. هَتَفَ كأنَّهُ يُناجي كائِناً عَزيزاً عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدِ التَقاهُ بَعْدَ غِيابٍ طَويلٍ:
ـ أَهْلاً بِكَ أَيُّها النَّهْرُ! أَنْتَ شِرْيانُ الحَياةِ ..أَنْتَ دِماؤُنا الَّتي تَسْتَحِقُّ التَّبْجيلَ ..لَكَ كُلُّ الاحْتِرامِ وَالتًّقْديرِ أيُّها النهرُ الحبيبُ! ..
ثُمَّ وَقَفَ باسْتِعْدادٍ، وَحَيَّا النَّهْرَ تَحِيَّةً عَسْكَرِيَّةً، وَكَأَنَّهُ يُحَيِّ رُتْبَةً عَسْكَرِيَّةً رَفيعَةً مُبَجَّلَةً. ابْتَسَمَ جيمي ابْتِسامَةً أَشْرَقَتْ بِها كُلُّ أَفْراحِهِ .. فَقَدْ كانَ جيمي يُحَيِي ابْنَهُ أَحْياناً بِمِثْلِ هَذِهِ التَّحِيَّةِ، عَلى سَبيلِ مُداعَبَةٍ نابِعَةٍ مِنْ إِعْجابٍ وَحُبٍّ عاصِفَيْنِ. سَمِعَ جيمي انْفِجاراً عَنيفاً هَزَّ كَيانَهُ، تَلَتْهُ ثَلاثَةُ انْفِجاراتٍ أَشَدَّ عُنْفاً وَقُوَّةً. َنظَرَ حَوْلَهُ بِأَسىً. كانَ الدُّخانُ يَتَصاعَدُ مِنْ عِدَّةِ أَماكِنَ، تُرافِقُهُ أَصْواتُ إِنْذاراتٍ حادَّةٍ . لَمْ يَأْبَه لِكُلِّ ما يَجْري حَوْلَهُ. فَقَدْ عادَتْ (جَراثيمُ الحُروبِ) لِتَشْغَلَ تَفْكيرَهُ، وَتُسَيْطِرَ عَلَى انْتِباهِهِ وَمَشاعِرِهِ. جَلَسَ عَلى ضِفَّةِ النَّهْرِ، وَراحَ يَرْسُمُ عَلى رِمالِها أَشْكالاً غَريبَةً عَجيبَةً. قالَ جيمي لِنَفْسِهِ:(هَذِهِ هِيَ جَراثيمُ الحُروبِ) نَهَضَ،وَراحَ يَدوسُها بِحِقْدٍ وَتَشَفٍّ، بِهُدوءٍ وَ إِصْرارٍ .. لَكِنَّها كانَتْ ذاتَ أَجْسامٍ غُضْروفِيَّةٍ بَلُّورِيَّةٍ قاسِيَةٍ، كُلَّما داسَ عَليها، خَرَجَتْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ بِسُهولَةٍ وَيُسْرٍ، لَمْ يُصِبْها أَيُّ أَذىً. نَفَرَتْ واحِدَةٌ مِنْها ساخِرَةً هازِئَةً مُتَحَدِّيَةً، تَزْعَقُ بِصَوْتٍ أَجَشَّ ذي صَدىً واسِعٍ قائلةً:
ـ لو جِئْتَ بمداحلِ الأَرْضِ كُلِّها.. لَو حَرَقْتَنا في أَفَرانِ العالِمِ ..وَلَوْ صَهَرْتَنا .. فَلَنْ يُصيبَنا أَيُّ أَذَىً..نَحْنُ أَقْوى مِمَّا تَتَصَوَّرُ !!
وَراحَتْ الجُرْثومَةُ تَتَلَوَّى وَتَتَثَنَّى وَتَتَمَطَّى وَتَتَطاوَلُ إِلى الأَعْلَى، وَحَوْلَها جَراثيمُ قَزِمَةٌ تُشْبِهُها، تُقَلِّدُها وَتُكَرِّرُ ما تَقولُ، بِلَهَجاتٍ ساخِرَةٍ هازِئَةٍ خَرْقاءَ. تَخَيَّلَ جيمي أَنَّهُ يُشاهِدُ فَقَرَةً عَجيبَةً في السِّيرْك، وَهُوَ طِفْلٌ صَغيرٌ، بَيْنَ أُمِّهِ وَأَبيهِ ، يُتابِعُ هَذِهِ المَشاهِدَ بِفُضولٍ عَفَويٍّ ساذَجٍ، ضاحِكاً مِنْها بارْتِياحٍ. وَكانَ السِّيرْكُ يَغُصُّ بِأَطْفالٍ يُتابِعونَ بِفُضولٍ، جُرْثومةَِ الحُروبِ وَأَتْباعَها، وَهِيَ تَقومُ بِحَرَكاتِها البَهْلَوانِيةِ المُضْحِكَةِ. لَكِنْ سُرْعانَ ما تَحَوَّلَتْ هَذِهِ الجُرْثومَةُ إِلى وَحْشٍ كاسِرٍ، بِرؤوسٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَخالِبَ كَبيرَةٍ، طَويلَةٍ مُتَشَعِّبَةٍ، يَكْسوها شَعْرٌ كَثيفٌ قاسٍ.
كلُّ ما كانَ يُحِسُّ بِهِ جيمي أَنَّهُ أَصْبَحَ دُمْيَةً، أَخَذَها ذاكَ الوَحْشُ، وَراحَ يَلْعَبُ بِها ، كَما يَلْعَبُ السَّحَرَةُ بِأَدَواتِهِمْ أَمامَ جُمْهورِ المُعْجبينَ. صَمَّمَ جيمي عَلى المُقاوَمَةِ.. لَكِنَّهُ أَصْبَحَ دُمْيَةً لا حَوْلَ لَها وَلا قُوَّةَ، أَمامَ هَذا العِمْلاقِ وَجَماهِيرِهِ البَلْهاء. كانَ التَّصْفيقُ مُدَوِّياً عاصِفاً.. والسَّاحِرُ يَلْْعَبُ بـ(جيمي) وَ يُحَوِّلُهُ مِنْ شَكْلٍ إِلى آخَرَ، ثُمَّ يُلْقي بِهِ إِلى الأَعَلى، وَيَتَلَقَّاهُ بِخِفَّةٍ حاذِقَةٍ.صَرَخَ جيمي يائِساً:
ـ يَبْدو أَنَّهُمْ سَيْطروا عَليكَ بِعُلومِهِمْ وَسِحْرِهِمْ وَأَلاعيبِهِمْ .. لَقَدْ حَوَّلوكَ يا جيمي إِلى دُمْيَةٍ لا حَوْلَ لَها وَلا قُوَّةَ، لأَنَّكَ طَلَبْتَ العَوْدَةَ إِلى مَنْزِلِكَ.. إِلى أَهْلِكَ وَوَطَنِكَ...لأَنَّ الحَرْبَ مَزَّقتْ روحَكَ، وَأَلْقَتْ حُطامَكَ في جَحيمٍ!
ثُمَّ صَرَخَ جيمي بِكُلِّ ما يَمْلُكُ مِنْ قُوَّةٍ، وَقَد خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرى ساحِراً خَبيثاً مُراوِغاً أَمامَهُ:
ـ أَنْتَ خَصْمي! أَيُّها السَّاحِرُ اللَّعينُ ! أَنْتَ عَدُوِّيَ اللَّدودُ الحَقودُ ! آهٍ لَوْ كانَ بِيَدي سِلاحٌ لَقَتَلْتُكَ!
عِنْدَئِذٍ هَتَفَ السَّاحِرُ مُبْتَهِجاً مُتَبَجِّحاً بِنَصْرِهِ:
ـ لَقَدْ أصْبَحتََ الآنَ يا جيمي، مُقاتِلاً مِنْ عُشَّاقِ الحُروبِ!
ثُمَّ قَدَّمَ السَّاحِرُ لِجيمي بُنْدُقِيَّةً، وَقالَ بِدَماثَةٍ خَبيثَةٍ ماكِرَةٍ: ـ هيَّا يا جيمي ! افْعَلْ ما يَحْلو لَكَ!لا تَتَرَدَّدْ ! لا تَخَفْ !
خَطَفَ جيمي البُنْدُقِيَّةَ، وَأَدارَ فُوَّهَتَها باتْجاهِ السَّاحِرِ، وَضَغَطَ على الزِّنادِ بِحِقْدٍ..فَخَرَجَتْ النِّيرانُ كَثيفَةً، فَحَوَّلَتِ السَّاحِرَ إلى كُتْلَةٍ كَبيرَةٍ مِنْ نارٍ وَدُخانٍ كثيفين، ارْتَفَعَتْ إِلى كَبِدِ السَّماءِ . لَكِنَّ السَّاحِرَ، خَرَجَ مِنْها بَعْدَ دَقائِق،َ وَ هُوَ يَرْقُصُ، وَيُغَنِّي ِبمَرَحٍ، يُتابِعُ حَرَكاتِهِ البَهْلَوانِيَّةَ غَيْرَ مُبالٍ وَلا آبِهٍ، يَتَقافَزُ مَكْراً وخُبْثاً وَحَقارَةً!
*********

البَحْثُ عَنْ جيمي ـ 3
***********


**اسْتَمَرَّ البَحْثُ عَنْ جيمي ثَلاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيالِيها، دونَ أن يُعْثُرْ لَهُ عَلى أَثَرٍ .. وَفي اليْوْمِ الرَّابِعِ، عادَ جيمي إِلى مُعَسْكَرِهِ بِمُفْرَدِهِ مَعَ بُزوغِ الفَجْرِ، دونَ أَنْ يَلْحَظَهُ أَحَدٌ. دَخَلَ إِلى غُرْفَتِهِ وَنامَ في سَريرِهِ . اسْتَيْقَظَ صَباحاً مَع زُمَلائِهِ ، وَأَخَذَ حَمَّاما،ًوَتَناوَلَ إفْطارَهُ كَعادَتِهِ دونَ أَنْ يَلْحَظَ نَظَراتِِ زُمَلائِهِ،وَيَسْمَعَ هَمَساتِهِمْ وَتَساؤلاتِهِم الَّتي تَحْمِلُ الرَّيْبَةَ والشَّكَّ:(أَيْنَ كانَ جيمي مُخْتَفِياً؟؟) فَقَدْ بَحَثوا عَنْهُ في كُلِّ مَكانٍ اسْتَطاعوا أَنْ يَبْحَثوا فِيهِ .. وَعِنْدَما أَعْياهُمُ البَحْثُ،وَدَخَلَ اليَأْسُ إِلى قُلوبِهِمْ مِنَ العُثورِ عَلَيْهِ،أُرْسِلَتْ بَرْقِيَّةٌ إِلى القِيادَةِ اعْتَبَرَتْ جيمي مِنَ المَفْقودينَ أَوْ المَخْطوفينَ. لَمْ يُصَدِّقْ الطَّبيبُ عَيْنَيْهِ عِنْدَما رَأَى جيمي يَتَحَرَّكُ في المُعَسْكَرِ، وَكَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ. احْتارَ الطَّبيبُ في ما يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَهُ. اقْتَرَبَ الطَّبيبُ بِحَذَرٍ مِنْ جيمي، وَأَلْقى عَليه تَحِيَّةً طيِّبةً، وَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ بِرِفْقٍ وَوِدٍّ، وَمَضى بِهِ إِلى غُرْفَةِ الطَّبابَةِ. أَجْلَسَ الطَّبيبُ جيمي، وَراحَ يَتَأَمَّلُهُ بِعَيْنَينِ طافِحَتينِ بِمَشاعِرِ المَحَبَّةِ، وَيَسْألُهُ بِلَهْفَةٍ:(أَيْنَ أَنْتَ ؟ كَيْفَ حالُكَ ؟ أَلا تَسْأَلُ عَنْ أَصْدِقائِكَ ؟؟) كانَ جيمي يَتَنَقَّلُ بِناظِرَيْهِ بَيْنَ أَطْرافِ الغُرْفَةِ وَمُحْتَوَياتِها كَيْ لا يُتيحَ للطَّبيبِ النَظَرَ إِلى عَيْنَيْهِ. طَلَبَ مِنْهُ بِدَماثَةٍ:(أَرْجوكَ، انْظُرْ إِليَّ يا جيمي، وَحَدِّثْني!..) عِنْدَئِذٍ نَظَرَ جيمي إِلى صَديقِهِ الطَّبيبِ، وَقالَ بِبَساطَةٍ، وَظِلُّ ابْتِسامَةٍ مُشْرِقَةٍ تَرُفُّ عَلَى شَفَتَيْهِ، لَمْ يَتَوَقَّعْها الطَّبيبُ نَفْسُهُ:(لَقَدْ هَرَبْتُ يا دُكْتورُ .. أَقْصُدُ حاوَلْتُ الهُروبَ..) قاطَعَهُ الطَّبيبُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ:(هَذا تَصْريحٌ خَطيرٌ! لا شَكَّ أنكَ تمزحُ !) أكَّدَ جيمي بِمَرَحٍ وانْشِراحٍ، كأنَّهُ يَحْكي قِصَّةً مُحَبَّبَةً إِلى قَلْبِهِ:
ـ وَلِماذا تَراهُ خَطيراً ؟؟ لَقَدْ هَرَبْتُ مِنْ أَسْوَإِ سِجْنٍ عَرَفَهُ التَّاريخُ .. وَتابَعَ بِأَلَمٍ ساخِرٍ :
ـ مِنْ سِجْنِ (غوانتانامو) يا دُكتورُ! (غوانتانامو)! .. إِنَّهُ السِّجْنُ الَّذي وَضَعَني فيهِ مِسْتِرْ (بوش) عِنْدَما دَفَعَني إِلى هَذا المَكانِ، لَكَيْ أَقْتُلَ النَّاسَ الأَبْرِياءَ .. وَمِنْهُمْ أَطْفالٌ وَنِساءٌ وَشُيوخٌ. تَصَوَّرْ أَيُّها الصَّديقُ الحَبيبُ، كائِناً مَنْ كانَ، وَهُوَ يَقْتُلُ أَبْناءَكَ.. وَأَمامَ عَيْنَيْكَ .. هَكَذا.. فَماذا تَفْعَلُ بِهِ ؟؟. هَذا ما تَفْعَلُهُ القُوَّاتُ الأَمْريكِيَّةُ هُنا في أَرْضِ العِراقِ ..هَذا البَلَدُ الَّذي قَدَّمَ، وَقادِرٌ أَنْ يُقَدِّمَ خَدماتٍ لا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، لِلْعالَمِ كُلِّهِ ..وَنَحْنُ نَقْتُلُ أَطْفالَهُ، بَدَلَ أَنْ نُقَدِّمَ لَهُمُ الهَدايا وَالحَلْوى .. بَدَلَ أنْ نَمْضي مَعَهُمْ في نُزْهاتٍ عَلَى ضِفافِ الأَنْهارِ، وَشَواطِئِ البِحارِ، كَما نَفْعَلُ نَحْنُ الأَمْريكِيِّونَ مَع أَطْفالِنا..
كانَ جيمي يَتَحَدَّثُ بِهُدوءٍ وَبَشاشَةٍ، لَكِنْ بِأَلَمٍ كاوٍ، وَعَيْناهُ تُبْرِقانِ كَنَجْمَتَيْنِ في فَضاءِِ لَيْلٍ رَبيعِيٍّ بَديعٍ. حاوَلَ الطَّبيبُ أَنْ يُعْطِيَهُ حَبَّةً مُهَدِّئَةً، لَكِنَّهُ رَدَّها بِرِفْقٍ قائلاً:
ـ يا دُكْتورُ ، أَبْعِدْ عَنِّي عَقاقِيرَكُمْ، وَاعْطِني شَيْئاً مِنْ رَحيقِكَ الإِنْسانيِّ !..أَعْطِني نَهْلَة ًمِنْ جَداوِلِ روحِكَ أَرْتَوِ، بَلْ أُطْفِئُ بها سعيرَ روحي ..
وَنَهَضَ جيمي وَأَخذَ وَضْعِيَّةَ الخَطيبِ المُتَحَمِّسِ الواثِقِ مِنْ نَفْسِهِ، مُلَوِّحاً بِيَدِهِ اليُمْنى تارَةً،وَاليُسْرى، تارَةً أُخْرى:
ـ مِنْ حَقِّي أَنْ أَحْلُمَ بِبِلادي أَمْريكا، وَهِيَ تُقَدِّمُ الخُبْزَ والدَّواءَ لِكُلِّ مَنْ يَحْتاجُهما، بَدَلَ أَنْ تَقْتُلَ الأَطْفاَل والشُّيوخَ بِأَسْلِحَتِها الفَتَّاكَةِ .. فَما هُوَ رَأْيُكَ أَيُّها الطَّبيبُ ؟؟ أَلَسْتُ مُواطِناً في الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْريكِيَّةِ ـ بَلَدِ الديمُقْراطِيَّةِ كَما يَزْعُمونَ ؟؟ وَمِنْ حَقِّي أَنْ أَمْتَنِعَ عَنْ قَتْلِِ النَّاسِ وَأَطْفالَهُمْ ؟؟..
وَاقْتَرَبَ مِنَ الطَّبيبِ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ بِرِقَّةٍ، وَهَمَسَ في أُذُنِهِ كَأَنَّهُ يُغَنِّي لَحْناً حَبيباً إِلى قَلْبِهِ:(نَحْنُ كارِثَةٌ! لَقَدْ أَصْبَحَتْ أَمْريكا كارِثَةً عَلينا جَميعاً..عَلَى كَوْكَبِ الأَرْضِ!!)، وَراحَ يُغَنِّي بِصَوْتٍ خافِتٍ مُرَخَّمٍ:
أَنا إِنْسانٌ ! أَنا إِنْسانٌ ! أَنا إِنْسانٌ !
.. وَلَسْتُ وَحْشاً !
.. قَلْبي تُفَّاحَةٌ ،
تُداعِبُها أَنامِلُ الجَداوِلِ بِأَنْفاسِها،
تَعْزِفُ عَليها الفَراشاتُ أَلْحانَها .
قَلْبي يَسْبَحُ في بِحارِ الأَحْلامِ، وَغُيومِ الخَيالِ؛
يُعانِقُ قَوْسَ قُزَحٍ
في رَقْصَةٍ تَهيمُ بِها النُّجومُ
في مُروجِها البَديعَةِ !
ثُمَّ خَطَفَ سيجارَةً مِنْ طاوِلَةِ الطَّبيبِ، وَهَمَّ بِإِشْعالِها ..لَكِنَّهُ عادَ، وَ أمْسَكَ بِها ثانِيَة،ً وَرفَعَها إِلى الأَعْلى، وَرَمى بِها بِكُلِّ ما يَمْلُكُ مِنْ قُوَّةٍ وَقَرَفٍ عَلَى الأَرْضِ، وَصَرَخَ بِها كَأَنَّهُ يَصْرَخُ بِكائِنٍ آثِمٍ:(أَيَّتُها السِّيجارَةُ اللَّعينَةُ، أَيَّتُها السُّمُّ الخَبيثُ القاتِلُ، وَاللهِ إِنَّكِ أَسْوَأُ حَتَّى مِنْ كَوارِثِ الحُروبِ..)،وَراحَ جيمي يَدوسُ السِّيجارَةَ بِقَدَمِهِ بِعُنْفٍ، واحْتِقارٍ، مُعَبِّراً عَنْ قَرَفِهِ، واشْمِئْزازِهِ. أَجْلَسَهُ الطَّبيبُ عَلى الكُرْسِيِّ، وأجْبَرَه عَلى تَناوِلِ قُرْصِ الدَّواءِ، وَقَدَّمَ لَهُ المَاءَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الكَلامِ بِضْعَ دَقائِقَ .. ثُمَّ دَعاهُ أَنْ يُكْمِلَ حَديثَهُ، وَيَقُصَّ عَلَيْهِ:أَيْنَ كانَ مُخْتَفِياً طَوالَ الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ الماضِيَةِ؟ .. ابْتَسَمَ جيمي ابْتِسامَةً طَويلَةً وَقالَ:
ـ لَوْ قَدَّمْتَ لِي يا دكتور زَهْرَةً مِنْ أَزْهارِ روحِكَ، لَقَصَصْتُ عَليكَ كُلَّ شَيْءٍ، لَكِنَّكَ قدَّمْتَ لِي حَبَّةً لِتُسَكِّنَ آلامي .. وَرُبَّما لِتُسَكِّنَ مَشاعِري، وَتَلْجُمَ جِراحي، وَتَقْمَعَ أَفْكاري ..
قاطَعَهُ الطَّبيبُ بِلَباقَةٍ وَوِدٍّ :
ـ لا ! لا! يا حَبيبي جيمي !.أَنْتَ تَشْعُرُ وَتَعْرِفُ أَنَّني مُخْلِصٍ لَكَ، وَمُحِبٌّ .. يَجِبُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْ هَذا المَأْزِقِ سالِمينَ .. يَجِبُ أَنْ نَعودَ إِلى أَطْفاِلنا سالِمينَ ..
عِنْدَئِذٍ قَهْقَهَ جيمي بِصَوْتٍ مَخْنوقٍ خافِتٍ خَرَجَ مِنْ أَعْماقِ روحِهِ، وَقالَ، كَمَنْ يُذَكِّرُ بِحَقيقَةٍ مُرَّة :
ـ لا نُفَكِِّرُ إِلاَّ بِأَنْفُسِنا وَبِأَطْفالِنا، حَتَّى لَوْ أَلْقَيْنا العالَمَ كُلَّهُ إِلى الجَحيمِ؟!.. أَلَيْسَ كَذَلِكَ يا دُكْتور ؟؟! أَسْأَلُكَ : لِماذا لا نُقَدِّمُ أَ نْفُسَنا إِلى العالَم، ِوَنَعْتَرِفُ بِجَرائِمَنا ؟؟ لِماذا لا أَعْتَرِفُ بِأَنَّني مُجْرِمٌ .. قَتَلْتُ وَ أَقْتُلُ أَطْفالاً أَبْرِياءَ..بَيْنَما يَعيشُ أَطْفالي ـ أطفال أمريكا ـ في نَعيمِ الدُّنيا ؟!
وَضَرَبَ جيمي الطَّاوِلَةَ بِقَبْضَةِ يَدِهِ، وَهُوَ في قِمَّةِ نَشْوَتِهِ، وَهَتَفَ :
ـ نَعَمْ !هَؤُلاءِ العِراقِيُّونَ الآنَ هُمُ المَسيحُ .. المَسيحُ الَّذي يُصْلَبُ بِأَيْدينا الآثِمَةِ، وَفي كُلِّ ساعَةٍ آلافَ المَرَّاتِ ..
ثُمَّ صَمَتَ جيمي. زَفَرَ الطَّبيبُ زَفْرَةً طَويلَةً، ثُمَّ أَخَذَ راحَتَيْ جيمي بِيَدِهِ وَخاطَبَهُ مُتَضَرِّعاً:
ـ جيمي ، أَرْجوكَ..أنْتَ تَهْذي .. تُثَرْثِرُ . .قُلْ لي أَيْنَ كُنْتَ .. فَسَوْفَ تُسْأَلُ عَنْ هَذا .. وَأَنا أُريدُ أَنْ أُساعِدَكَ .. قدْ تُقْتَلُ.. أَوْ تُحاكَمُ إِذا اعتَرَفْتَ بِهُروبِكَ..
هَتَفَ جيمي باعْتِزازٍ:(وَهَذا ما أَتَمَنَّاهُ!). عِنْدَئِذٍ نَظَرَ الطَّبيبُ إِلى جيمي نَظْرَةَ عِتابٍ مُرَّةٍ وَقالَ:(أَتَبْخَلُ عَلَى صَديقِكِ بِأَنْ تَقُصَّ عَلَيْهِ..أَيْنَ كُنْتَ ؟؟.. فَأَنا صَديقُكَ!) تَشَتَّتَتْ أَفْكارُ جيمي، وَشَطَّ خَيالُهُ كَغَيْمَةٍ عَصَفَتْ بِها ريحٌ عاتِيَةٌ، لِتَهْطُلَ مَعَ جيمي في حَديقَةِ مَنْزِلِهِ الخَضْراءِ الواسِعَةِ في وِلايَةِ (أَريزونَا) الأَمْريكِيَّةِ . لَعِبَ جيمي مَعَ وَلَدَيْهِ بِكُرَةِ القَّدَمِ حَتَّى تَصَبَّبَ عَرَقاً، ثُمَّ جَلَسَ مَعَ طِفْلَيْهِ وَزَوْجَتِهِ يَحْكي لَهُمْ حِكايَةَ هُروبِهِ ..
**************

لا تَخْرُجْ عنْ أهلك ـ 4 !
********
ما أَرْوَعَ الخَيالَ، وَما أَجمْلَهُ، وَما أَقْواهُ، وَما أَسْرَعَهُ، وَما أَبْهاهُ، وما أَبْدَعَهُ. يَنْقُلُنا بطَرْفَةِ عَينٍ إِلى أَحَبِّ الأَماكِنِ الَّتي نَتوقُ إِليها، وَنَتَمَنَّاها. وَهَكَذا نَقَلَ الخَيالُ جيمي مِنْ مُعَسْكَرِهِ في العِراقِ، مِنْ بَيْنِ الدَّمارِ والمَوْتِِ، إِلى مَنْزِِلِهِ في وِلايَةِ (أَريزونا) في الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْريكِيَّةِ. لَكَنَّ الخَيالَ يَتَعامَلُ مَعَ الأَرْواحِ وَالأَفْكارِ فَقَطْ .. وَأيَّةُ فائِدَةٍ للْجِسْمِ بَعيداً عَنِ الأَفْكارِ وَالخَيالِ. قَرَأَ جيمي ذاتَ يَوْمٍ لأَحَدِ الحُكَماءِ هَذِهِ العِباراتِ:(الجِسْمُ أَرْضٌ قاحِلَةٌ، إِذا افْتَقَرَ إِلى الأَفْكارِ والخَيالِ .. فالجِسْمُُ ـ هُوَ الأَرْضُ، وَالأَفْكارُ هِيَ البَساتينُ والرِّياضُ .. أمَّا الخَيالُ فَهُوَ الغُيومُ الَّتي تَروي هَذِهِ البَساتينَ وَالرِّياضَ)،وَلَم ْيَنْسَ الحَكيمُ الشَّمْسَ في مِثْلِ هَذا التَّشْبيهِ ، فَقال:
ـ الشَّمْسُ تَكْمُنُ في العَقْلِ .. فَما أَرْوَعَ الشَّمْسَ مَعَ الأَشْجارِ وَالأَزْهارِ وَالحُقولِ وَالمُروجِ، وَما أقْساها في أَرْضٍ قاحِلَةٍ .. وَالأَفْكارُ تَجْعَلُ مِنَ العَقْلِ طاقةً مُفيدَةً .. والخَيالُ هُوَ الَّذي يَمُدُّ بَساتينَ الجِسْمِ، وَ رِياضَهِ بِالغِذاءِ، لِتَبْقى خَضْرَاءَ زاهِيَةً يانِعَةً وَمُثْمِرَةً .
وَمَعَ الخَيالِ عاشَ جيمي أَحَبَّ اللَّحَظاتِ إِلى روحِهِ وَقَلْبِِِهِ، مَعَ وَلَدَيْهِ وَزَوْجَتِهِ. وَفي هَذِهِ اللَّحَظاتِ القَصيرَةِ في الحَياةِ، والطَّويلَةِ في الحِكايَةِ، يَطوفُ الإِنْسانُ ، كُروماً وَرِياضاً وَحُقولاً، لا حَصْرَ لَها، مِنَ الأَحْلامِ وَالأَماني. وَهُنا في رِياضِ الخَيالِ وَكُرومهِِ، جَلَسَ جيمي مَعَ وَلَدَيْهِ وَزَوْجَتِهِ، في حَديقَةِ مَنْزِلِهِمْ الخضراءِ البَديعَةِ الزَّاهِيَةِِ، يَحكي لَهُمْ قِصَّةَ هُروبِهِ، وَعَوْدَتِهِ إِلى مُعَسْكَرِِِهِ.عانَقَ طِفْلَيْهِ، وراحَ يَقُصُّ الحِكايَةَ:
ـ بَعْدَ ثَلاثَةِ انْفِجاراتٍ مُتَتالِيَةٍ، أَحالَتْ المُعَسْكَرَ إِلى سَعيرٍ، خَرَجْتُ مِنَ المُعَسْكَرِ، بِأَقْصى ما أَمْلُكُ مِنْ قُوَّةٍ، وَشاطِئُ النَّهْرِ رَفيقي وَدَليلي وَأَنيسي، بَعْدَ أَنْ صَمَّمْتُ عَلى الهُروبِ مِنَ المُعَسْكَرِ، إِلى غَيْرِ رَجْعَةٍ. في اللَّيْلَةِ الأُولى، نِمْتُ عَلى ضِفَّةِ النَّهْرِ، وَعِشْتُ لَحَظاتٍ رائِعَةً حُرِمْتُ مِنْها، وَتُقْتُ إِلَيْها طَويلاً .. واستَمْتَعْتُ بـ( تَغْريدِ ) الجَنادِبِ وَ طَنينِ البَعوضِ ..وتَنَشَّقْتُ نَسائِمَ الحُرِّيَّةِ بَيْنَ الأَعْشابِ، عَلى أَنْغامِ خَريرِ النَّهْرِ الحَميمِ. كانَتْ أَنْغامُ النَّهْرِ تَأْتيني بَلْسَماً لِفُؤادي وَرُوحي، تُشْفيني مِنْ آلامٍ خِلْتُها أَشْواكاً هائِجَةً في أَعْماقي. وامْتَصَّ النَّهْرُ بِأَنْغامِهِ آلامي كُلَّها، وَغَدَوْتُ مَوْجَةً مَرِحَةً تَجوبُ مَجْراهُ .. رَأْيْتُ في كُلِّ مَوْجَةٍ مِنْ أَمْواجِ النَّهْرِ، سِرْباً مِنَ الأَطْفالِ، يَطوفُ مَعي في مُروجٍ خَضْراءَ .. كانَ هَؤلاءِ جَميعاً يُصَفِّقونَ لابْني (جون)، وَهُوَ يَخوضُ مَعَ فَريقِهِ، مُباراةً حَماسِيَّةً صاخِبةً .. كانَ (جون) يُطْلِقُ الهَدَفَ إِثْرَ الهَدَفِ، فَيَشْتَعِلُ المَلعَْبُ بالتَّصْفيقِ .. وَبَيْنَما أَنا في هَذِهِ النَّشْوَةِ العارِمَةِ، أَيْقَظَني رَجُلٌ عَجوزٌ بِكوفِيَّةٍ وَعِقالٍ وَعَباءَةٍ .. حَدَّثَني بِلُغَتِهِ العَرَبِيَّةِ. لَمْ أَفْهَمْ، لَكِنَّني شَعَرْتُ باطْمِئْنانٍ وَراحَةٍ، وَأَنا أَنْظُرُ في عَيْنَيْهِ الواسِعَتين السَّوْداوَيْنِ. تَأَكَّدَ الرَّجُلُ مِنْ أَنَّني أَجْنَبيٌّ .. فَسَأَلَني بِإِنْكليزِيَّةٍ سَليمَةٍ:(مَنْ أَنْتَ ؟؟ وَلماذا أَنْتَ هُنا؟؟) ..ثُمَّ بَدَأَ يُساعِدُني عَلَى النُّهوضِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ جَوابي . وَجَلَسَ الرَّجُلُ إِلى جانِبي يَقْرَأُ وَجْهي باهْتِمامٍ، وَأَنا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلا أَعْرِفُ ماذا أَقولُ لَهُ، وَبماذا أُجيبُهُ. لَقَدْ طارَتِ اللُّغَةُ مِنْ عَقْلي كَما يَطيرُ عُصْفورٌ مِنْ قَفَصٍ حَلُمَ بالحُرِّيَةِ، وَغَرَّدَ لَها طَويلاً؛ وَبَغْتَةً وَجَدَ نَفْسَهُ في رَوْضَةٍ غَنَّاءَ، يَتَقافَزُ مِنْ غُصْنٍ إِلى غُصْنٍ، وَشَجَرَةٍ إِلى أُخْرى، غَيْرَ مُصَدِّقٍ. وَكَمْ تَمَنَّيْتُ أَنْ يَقْتُلَني هَذا الرَّجُلُ لأَموتَ مُعَطَّراً بِفَرْحَتي .. لَكِنَّ الرَّجُلَ أَخَذَني مِنْ يَديَ وَساعَدَني عَلى النُّهوضِ، وَسارَ بِيَ كَما يَسيرُ وَفِيٌّ مُخْلِصٌ بِصَديقٍ حَبيبٍ . كانَ النَّهْرُ يَحْضُنُنا، وَيَغْمُُرُنا بِرائِحَتِهِ السَّاحِرَةِ، والرَّجُلُ يُساعِدُني عَلَى السَّيْرِ فَأَراهُ نَهْراً طَويلاً غَزيراً، يَحْمِلُني عَبيرُهُ، وَأَسْبَحُ فيهِ كَبَطَّةٍ شاقَها النَّهْرُ بَعْدَ غِيابٍ طَويلٍ مَريرٍ. يا إِلهي ما أَجْمَلَ، وَ ما أَرْوَعَ هَذِهِ السِّباحَةَ .. لَقَدْ شَفَتْ جِراحي، وَأَطْفَأَتْ سَعيرَ روحي ..هَذا هُوَ الطَّريقُ الَّذي يَقودُك إِلى ما تَحْلُمُ بِهِ، وَتَتَمَناهُ. يَبْدو أَنَّني سَقَطْتُ عَلى الأَرْضِ من شدَّةِ فَرَحي وَنَشْوتي .. وَخَجِلْتُ مِنْ هذا السُّقوطِ .. حاوَلْتُ النُّهوضَ بِكُلِّ ما أَمْلُكُ مِنْ قُوَّةٍ ..لَكِنَّني فَشِلْتُ .. هَلْ غِبْتُ عَنِ الوَعْيِ؟؟ لا أَدْري! اسْتَيْقَظْتُ وَأَنافي غُرْفَةٍ بَسيطَةٍ جِداً.. كُلُّ شَيْءٍ واضِحٌ حَوْلي ـ إِلى جانِبي يَجْلِسُ الرَّجُلُ العَجوزُ الَّذي أَيْقَظَني في اللَّيْلَةِ الأُولى لِهُروبي مِنَ المُعَسْكَرِ. كانَ وَجْهُ الرَّجُلِ يَطْفَحُ بِنورِ ابْتِسامَةٍ جَذْلى. أَتَمَلْمَلُ في فِراشي .. ثُمَّ أَجْلِسُ مُسْنِداً ظَهْريَ إِلى الجِِدارِ .. يُبادِرُني الرَّجُلُ بِلُغَةٍ إِنْكليزيَّةٍ:(كَيْفَ حالُكَ ؟؟ يَبْدو لي أَنَّكَ في صِحَّةٍ جَيِّدَةٍ) لَمْ أَكُنْ خائِفاً ، لَكِنَّني تَساءَلْتُ بِصَوْتٍ واضِحٍ:(أَيْنَ أَنا؟ .. هَلْ أَنا في حُلُمٍ ؟؟) طَمْأَنَني الرَّجُلُ:(أَنْتَ في مَكانٍ آمِنٍ .. وَلَنْ يُصيبَكَ مَكْروهٌ إِنْ شاءَ اللهُ!) ثُمَّ نادى:( يا نور! يا نور!!) سُرعانَ ما أَطَلَّتْ صَبِيَّةٌ ساحِرَةُ الجَمالِ .. أَلْقَتْ عَلَيَّ تَحِيَّةً مَرِحَةً رافِعَةً يَدَها اليُسْرى بَدَلَ اليُمْنى ..فَرَفَّ قَلْبي سُروراً بِها.. غابَتْ مُدَّةً قَصيرَةً، وَعادَتْ بِمائِدَةٍ عامِرَةٍ، بَيْنَما كُنْتُ أَقُصُّ عَلَى الرَّجُلِ حِكايَتي. وَضَعَتْ الشَّابَّةُ المائِدَة،َ وَانْسَحَبَتْ. دَعاني الرَّجُلُ إِلى الطَّعامِ..كانَ الفُضولُ يَهُزُّ كياني.قُلْتُ:
ـ لَنْ أَتَناوَلَ شَيْئاً مِنْ طَعامِكُمْ إِلاَّ إِذا حَدَّثْتَني عَنْ نَفْسِكَ .. فَأَنا أَذوبُ فَرَحاً بِكُمْ .. فَمَنْ أَنْتَ ؟؟ أَراكَ تَتَحَدَّثُ الإِنْجِليزِيَّةَ بِطَلاقَةٍ ..
ابْتَسَمَ طَويلاً مُرَحِّباً بالفِكْرَةِ وَقالَ:
ـ أَنا عَربيٌّ.. عِراقيٌّ .. مُدَّرِسٌ لِلُّغَةِ الإِنْجِليزِيَّةِ في جامِعَةِ بَغْدادَ .. كُنْتُ أَعيشُ في وَطَني بِأَمانٍ .. مِثْلَ كُلِّ البَشَرِ .. لَدَيْنا ما لَدَيْنا مِنْ آلامٍ وَآمالٍ .. لَدَيْنا وُرودُنا وَ أَشْواكُنا .. لَدَيْنا مَشاكِلُنا وَأَحْلامُنا .. حَتََّّّى داهَمَتْنا القُوَّاتُ الأَمْريكِيَّةُ، فَأَحالَتْ حَياتَنا إِلى جَحيمٍ .. وَ ها نَحْنُ نُقاتِلُ لِطَرْدِ هَذِهِ القُوَّاتِ الغادِرَةِ عَنْ أَرْضِنا ..لَقَدْ حَلَّتْ عَلينا بَلاءً ما بَعْدهُ بلاءٌ .. إِنَّها وَباءٌ عَلَيْنا كَعَرَبٍ، وعلى العالم كُلِّهِ،لأَنَّ هَذِهِ الحَرْبَ الشَّرِّيرَةَ أَحْرَقَتْ أَرْضَ الحَضارات، وَأَساءَتْ للتَّاريخِ البَشَري كُلِّهِ!
قاطَعْتُ الرَّجُلَ بِأَلَمٍ :
ـ وَهَذِهِ القُوَّاتُ بَلاءٌ أَيْضاً عَلَى العالَمِ كُلِّهِ ..وَأَنا ضابِطٌ في تِلْكَ القُوَّاتِ الَّتي ارْتَكَبَتْ جَرائِمَ ـ هِيَ عارٌ في جَبينِ أَمْريكا، وَالعالَمِ كُلِّهِ .. أَقْصُدُ العالَمَ الَّذي لَمْ يَجِدْ وَسيلَةً يَرْدَعُ بِها أَمْريكا، وَيُوقِفُ جَرائِمَها البَّشِعَةَ بِحَقِّ النَّاسِ الآمِنينَ ..
ثُمَّ نَهَضْتُ، وَقَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَينايَ بالدُّموع،ِ وَقُلْتُ راجِياً:
ـ افْعَلوا بِيَ ما شِئْتُمْ !‍ لا أَدْري كَيْفَ أُكَفِّرُ عَنْ ذُنوبٍ تَنْهَشُ ضَميري؟! سَرَطاناتُ الإِثْمِ تَخْنِقُني! فَماذا أَفْعَل ُ؟..
نَهَضَ الرَّجُلُ، وَعانَقَني بِوِدٍّ أَخَويٍّ، ثُمَّ أَجْلَسَني بِرِفْقٍ، وَطَمْأَنَني:(لا تَخَفْ ! أَنْتَ ضَيْفُنا!) قُلْتُ باحْتِجاجٍ:
ـ وَهَلْ تَظُنُّ بِأَنَّني خائِفٌ؟؟ ..لأَوَّلِ مَرَّةٍ أَشْعُرُ بِمِثْلِ هَذا الأَمانِ!
هَدَّأَني الرَّجُلُ، وَرَجاني أَنْ أَكُفَّ عَنِ الكَلامِ .. وَقالَ لِيَ بِلُغَةِ حَكيمٍ يُزْهرُ التَّاريخُ في عَيْنَيْهِ:
ـ لَقَدْ قَرَأْتُكَ جَيِّداً .. وَأَدْرَكْتُ أَنَّكَ تَنْوي الهُروبَ .. يا صَديقي مَنْ يَهْرُبْ مِنْ أَهْلِهِ يَسْقُطْ في الجَحيمِ . لَوْ رَأَيْتُ فيكَ خُبْثاً، أَوْ شَرّاً لَقَتَلْتُكَ،
ثُمَّ قالَ ناصِحاً بِحَزْمٍ:(لا تَخْرُجْ عَنْ أَهْلِكَ!) ثُمَّ نادى قَبْلَ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلى إجابَتي ، فَأَقْبَلَ عَلَينا ثَلاثَةُ مُلَثَّمينَ. وَدَّعَني الرَّجُلُ بِعِناقٍ حَميمٍ وَقالَ:
ـ كَمْ أَتَمَنَّى أَنْ نَلْتَقي حينَ يَحِلُّ السَّلامُ في أَرْضِ السَّلامِ!
وَأَشارَ إِلى المُلثَّمين وَانْسَحَبَ. مَضى بِيَ المُلَثَّمون عَبْرَ غاباتِ النَخيلِ، حَتَّى أَقْرَبِ نُقْطَةٍ، وانْسَحبوا عائدين ...
هزَّتْ ثلاثةُ انْفِجاراتٍ مُتَتالِيَةٍ، مَقَرَّ القوَّاتِ الأَمْريكِيَّةِ، فعادَ جيمي إِلى وَعْيِهِ ، وَأَدْرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ زَوْجَتِهِ وَ وَلَدَيهِ إِلاَّ في خَيالِهِ وَفي الأَحْلامِ..فَبَكى بِحُرْقَةٍ وَمَرارَةٍ..وكانَ صَدْرُهُ يَشْتَعِلُ ناراً .. فَراحَ يَرْكُضُ بِكُلِّ ما يَمْلُكُ مِنْ قُوَّةٍ حَتَّى أَوْقَفَهُ النَّهْرُ وَناداهُ بِشَوْقٍ.. فارْتَمى جيمي في أَحْضانِ النَّهْرِ وَاسْتَقَرَّ في قاعِهِ وَغَرِقَ في نَوْمٍ عَميقٍ..



#صبحي_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي سعيد - قصة من وحي الحرب العراقية