سَعْد اليَاسِري
الحوار المتمدن-العدد: 1940 - 2007 / 6 / 8 - 06:18
المحور:
الادب والفن
رواية : بابا سارتر
الروائي : علي بدر
قراءة : سَعْد اليَاسِري
الثقافة الأبويّة :
من أبرز ما أنتجته الثقافة الأبوية – العربية تحديدًا – ؛ فكرة المجايلة و الأجيال المقدّسة , تلك التي تتراوح قدسيتها بين الرفض الطاعن في القسوة أو التبجيل الضارب بالخنوع . ولن أكشف سرًّا لو قلتُ بأن جيل " الستينات " في الأدب العربي عمومًا , و في العراق بشكل خاص قد فرض نفسه على جدول تلك الأبوّة , فناله ما ناله من تهشيم وتهميش مبرمجين من قبل السبعينيين وبعض الستينيين أنفسهم بعد أن تغيرت أفكارهم أو جلودهم . و ترفّه الجيل بعد ذلك – بشكل غير مبرمج – بفكرة المظلومية .. تلك المظلومية التي يمكن اختصارها في انهيار حريات البلد برمّته و ليس في شأنه الثقافي وحسب . و قد تمَّ تسويق تلك المظلومية من قبل ذلك الجيل ليمرر أبوّته إلى الآخرين كما يفعل الآباء المقدّسون الذين تحيط برؤوسهم هالة النور , إلى أوصيائهم في الدعوة أو الخدمة . و نتيجة لذلك قام بعض الستينيون بتخليد تلك المرحلة , وكتابة بعض الكتب القائمة على نفَس " حكواتي " و بعض الذكريات التي يسردها أبطال من الفترة اللامعة , فتخرج إلينا توليفات سامي مهدي وفاضل العزاوي وسواهم في هذا المجال . و في الواقع ؛ العملية ناجعة و قد أتت أكلها , حتّى أنني في حديث مع أحد الأخوة الشعراء – المغمورين مثلي - ذات يوم , و قد طرأ على حوارنا اسم شاعر عراقي , كنتُ قد قلّلت من أهميته شِعريًا , فانتفض صاحبي المفعم بمشاعر الولاء , وقال :
( يمعوّد هذا ستيني , شقاعد تخربط إنته ؟! ) .
عن بابا سارتر :
عبر الناقد السينمائي العراقي ؛ الصديق " يوخنا دانيال " , استعرت نسخة من رواية " بابا سارتر " للروائي العراقي " علي بدر " , في طبعتها الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر , والواقعة في مئتين وتسع وثلاثين (239) صفحة من القطع المتوسط . ولم أكن قد قرأت شيئًا للروائي , سوى بعض المقالات العابرة التي يرد عبر سياقها اسمه , وهذا بسبب تقصيري في متابعة المشهد الأدبي العراقي المعاصر كما ينبغي .
العنوان " السارتري " و الفحوى " النيتشوية " :
الوجودية ؛ لم تبرز عبر العدم أو الفراغ , إنما هي نتيجة لفسلفات ضاربة في القدم تصل إلى سقراط والرواقيين بل وحتى بعض الأفكار المسيحية كما رأى القس جابرييل مارسيل . و ما وصل إليه سارتر كان نتيجة تزاوج الوجودية الإلحادية بالوجودية الإيمانية , و محصّلة لتراكمات و صراعات الديكارتية و الباسكالية ثم سورين كيركجورد الذي يعتبره البعض الأب المؤسس للمذهب خاصّة عبر " الوجود المطلق " الذي خصص لنقد هيغل و المثالية. فيما أن النيتشوية أوسع مدىً وتأثيرًا , و مثلت الإلهام لأكثر من خمس مدارس فلسفية و فكرية من ضمنها الوجودية .
وعليه أرى بأنه ليس للسارترية حظ أكثر من العنوان و كثرة ورود الاسم في سياق النص مترافقًا بـ " الغثيان " في إشارة إلى مسرحية سارتر . إنما اعتمد " علي بدر " على مطرقة نيتشه بشكل كامل في تهشيم الديناصور الستيني في العراق بشكل ساخر و لا يخلو من قسوة في بعض الاحيان , و لكنني أعتقد بأنّها قسوة مبررة و إن كنتُ ضد التعميم . إذ يقول في الصفحة 44 :
( كانت ثقافته شفاهية , كانت ثقافة تستند إلى الكلام لا إلى الكتابة , كما كانت ثقافة أغلب مثقفي جيله وهي : الجلوس في المقاهي والتحدّث بصورة لا نهائية على طق الدومينو وشجير النارجيلة صباحًا , الرقود في السينمات متراخينعلى الكراسي الخلفية عصرًا , وفي المساء السكر والعربدة في الملاهي والبارات و الأماكن العامة . الكتب لا تُقرأ منها إلا عناوينها , و لا يعرف أحد منها إلاّ العروض المبسترة في الصحف والمجلات الأدبية , ومع ذلك ممالك تبنى في الكلام , وممالك تهدّ , عروض يهزها الكلام ويخلخلها , ومدن يصنعها الكلام ويؤسسها , وليس هنالك في واقع الأمر من كان بإمكانه أن ينفّذ ما يقول أو من كان بإمكانه أن يصلح واقعًا , او حتى يفهم واقعًا ) .
و في مكان آخر , في الصفحة 215 :
( إن الغثيان والشعور بعدمية الحياة – لا بعدمها – ( لم يفرّق المثقفون العراقيون آنذاك بين العدمية والعدم ) هو سبب انتحار الفيلسوف . )
هل انقسموا فعلاً إلى فريقين ؟
يحاول " علي بدر " أن يقنعنا عبر شخوصه في رواية " بابا سارتر " ؛ أنّ المجتمع العراقي المثقّف قد انقسم حينذاك إلى فريقين هما " الوجودية " و " الشيوعية الماركسيّة " بكافّة تفرعاتها السوفيتية وقتذاك : اللينينيّة والتروتسكيّة . و من وجهة نظري أن الوجودية في العراق كانت ضامرة ؛ بل و هاجعة في ظل الماركسية , و بقيت الماركسية هي الصوت الاعلى في الثقافة العراقية حتى أبيدت بالضربة القاضية عام 1976 , أو ما سمي بانهيار الجبهة .. إلخ , حيث تم تكريس ثقافة الخاكي والعسكر والشوفينية البغيضة . و أكاد أجزم بأنّ الوجوديين العراقيين في غالبهم الأعم كانوا ينتمون إلى تياري الماركسية و القومية بفرعيها البعثي والناصري . لذا ليس من الدقة في شيء تمرير هذه المسألة عبر الرواية خاصّة وأننا – كعراقيين – نعلم تمامًا بأنّ السياسي والديني يطغى على الفكري بمراحل . و ليس من الدقة – أيضًا – أن يحصر الراوي اتجاهات شخصياته في هذين الفكرين لا غير , إذ لم يأتِ على ذكر القومية – إلاّ بشكل عابر - و البعث والناصرية والإسلامية , فكل تلك الاتجاهات كانت موجودة على الأرض بل و بعضها يحكم البلد و يؤدلج أفكاره . ولكنني أعزو سبب هذا الإهمال – المتعمّد – إلى وقت كتابة الرواية , حيث كتبها " علي بدر " في ظل النظام السابق وتحديدًا في 2001 , ولم يكن لديه أكثر من هذا المتّسع . ولكنني أثمن عاليًا انتباهه المبكّر , حين أشار بذكاء في نهاية الرواية وعبر مشهد الزي الإسلامي ؛ إلى القادم للعراق والمنطقة ربّما بعد الحقبة " القومجية " , حيث قال في الصفحة 239 :
( كان يسير أمامي رجل يعتمر عمامة بيضاء , ويمسك في يده مسبحة سوداء طويلة , وتسير وراءه امرأة وقد تحوّلت إلى قطعة سوداء من الأعلى إلى الأسفل , الفوطة السوداء والعباءة على الرأس , الحجاب الأسود على الوجه و القفازات السوداء كانت تلفّ يديها , صرخ شخص آخر عبر الشارع :
" يا شيخ جمال ... يا شيخ جمال "
لا أدري لماذا فكرت لحظتها بجمال الدين الأفغاني , فكرت بإسماعيل حدوب وقد تأثّر بجمال الدين الأفغاني , فارتدى عمامة بيضاء , و مسك بيده مسبحة , وكانت " نونو " وراءه ؛ بالحجاب الأسود الذي على وجهها ويديها )
على العموم ؛ بعيدًا عن مأخذي حول تقسيم الثقافة العراقية إلى هذين الفكرين دون غيرهما . أودّ ان أشير إلى براعة " علي بدر " في استعراض تأريخ الوجودية عربيًا / عراقيًا , من خلال تدرجه في سرد المعلومات حول سهيل إدريس و رواية " الحي اللاتيني " و أيضًا عن ترجمات أميل شويري و منقولات عبد الرحمن بدوي عبر مجلة " الكاتب " . وهذا ما نستطيع أن نلمسه بشكل واضح في الصفحات 144 , 145 , 146 .
لا طائفية في الحارة العراقية :
يخيّل للمرء أنّ " علي بدر " بذل جهدًا قاسيًا في محاولته للإمساك بزمام الطوائف العراقية دون عدوان على أحد . وقد كان ناجحًا و بشكل لا يخلو من الفطنة .. حيث أننا نجد :
المسلم ( مثقف / عاهرة / نشّال / بائع صور خلاعية / خبيث / طيّب )
المسيحي ( مثقف / عاهرة / شره / طيّب / صاحب خمّارة )
اليهودي ( ثري / صاحب فكر / قذر / فقير / خائن / بخيل )
وهكذا من خلال الشخصيات التي تنتمي للأديان والطوائف التي يتكون منها المجتمع العراقي ؛ لا يتعدى دور " علي بدر " أكثر من دور المراقب للحارة العراقية المسكونة بالقصص والحب والخرافات والجشع والأبيض أيضًا . ولم يفت عليه أن يمنح لكل انتماء بعديْن أو أكثر , دون أن يتعاطف معها .
الرواية معنية بالوحدة الوطنية :
نعم ؛ ولكن على طريقة فيلسوف الصدرية " عبد الرحمن " , يقوم " علي بدر " بدس مشهد وجودي حقيقي , أعتبره من أهم مفاصل الرواية , حيث يقول في الصفحة 53 :
( من قال أن الوجودية لا تعنى بالسياسة , ولا بالوحدة الوطنية , وإلاّ فما معنى الالتزام السارتري ؟
بعد صمت معجز , بعد صمت ملائكي , أمر عبد الرحمن " البوي " , أن ينادي على الراقصة " دمع العين " , أن ينادي على " وزّة " , و على " وريزان " الكردية بعد تختها الشرقي الراقص , وعلى " لميعة / منيبة / سنية " , ثم أعلن فيلسوف الصدرية تأسيس الوجودية الوطنية , التي تلم الشمل الوطني بإذن سارتر , فانقلب الملهى إلى ساحة رقص و ساحة مصارعة .. )
في هذا المشهد يتحدث " علي بدر " عن الوجوديات الحقيقيات , اللواتي أطلق عليهن " الراقصات المسكينات " , حيث كن ينظرن إلى " عبد الرحمن " و " إسماعيل حدوب " بأفواه فاغرة من جراء السيل الكلامي الفلسفي المتلاحق .. !!
المكان بوصفه الهاجس لعلي بدر :
من يعرف بغداد حقّ المعرفة , سيعرف تمامًا بأنّه يمسك بخارطة شوارع بغدادية و ليس براوية , لقد نجح الراوي و بشكل متقن في توظيف الأماكن , بعد أن أسبغ عليها اللمحة التراثية نظرًا لتأريخ أحداث الرواية , فكان يتنقل بنا بشكل بارع , و أعتقد بأنّ أكثر أجزاء البناء السردي تماسكًا في تلك الرواية هو العامل المكاني الذي يتعدى المدينة نحو المحافظات , ويتعدى الدولة إلى دول أخرى كفرنسا وعاصمتها باريس تحديدًا .
ناهيك عن الوصف الداخلي للأمكنة والبيوت والغرف والمكاتب والخانات والخمّارات وحتى بيوت الدعارة .
اللغة على اعتبارها أمّ العمل :
لغة " علي بدر " لغة رصينة ومتماسكة , و ساخرة بشكل يجبر المتلقي على التفاعل , و لكنني أودّ الإشارة – أو التذكير – إلى أنّ ميّزة الراوي الأولى تتبلور في مفرداته اللا متناهية , وقد أساء " علي بدر " في بعض أركان الرواية إلى اللغة السردية , حين كرر كلمات مثل " مبتذل , عجيزة , الربِل " ولأكثر من مرة في الصفحة الواحدة بعض الأحيان .
و أيضًا ؛ مع تقديري لكل التجارب التي تحاول المزاوجة بين الدارج والفصيح , فأنا مع أن تكون الكلمة الدارجة أو العامية بين علامتي تنصيص دائمًا وهامش معنى . وهذا ما لم يلتزم به الراوي , فأنا لا أظن بأن القارئ غير العراقي سيفهم - دون هامش يحيله لمعرفة المعنى - " صالنصة " وهي انكليزية مهجّنة و تعني في العراق " انبوب عادم السيارة " , أو " زمال " وتعني " حمار " أو " كلّجية " و تعني" بيت دعارة " .
ما تريد الرواية قوله :
تجتهد الرواية عبر مشاهدها المزدحمة ؛ في قول حقيقة واحدة , وهي أن الوجودية في العراق أو الثقافة برمّتها هي ثقافة المقاهي , وأنّ فيلسوف الوجودية العراقي " عبد الرحمن / فيلسوف الصدرية " نسبة إلى منطقة الصدرية في بغداد , الذي تم تصويره كرمز لجيل بأكمله , تبنّى الفكرة عبر مرحلتين من الغثيان السارتري , الأولى حين وجد أباه يضاجع أمّه في غرفة نومهما إذ كان يتلصص عليهما , والثانية حين تعرّف إلى " سعدون " السائس وبدأت مغامراته مع " رجينا " الخادمة , و أن ثقافته الوجودية مستقاة بالأصل من دفتر الصور العائلية للفيلسوف الفرنسي " سارتر " والذي بدا أنّه يشبهه تمامًا باستنثاء العين العوراء التي لم يمتلكها " عبد الرحمن " , وهذه ميزة جعلت لإحدى شخصيات الرواية " جاسب الأعور " ثقلاً ما . يذهب " عبد الرحمن " إلى باريس لدراسة الفلسفة , فيعود فاشلاً , و قد تزوج من خادمة فرنسية " جرمين " تم تسويقها على أنها ابنة خالة سارتر شخصيًا . يعود بها للعراق و يقضي وقته متسكعًا في البارات مع تابعه " اسماعيل حدوب " الذي سيضاجع " جرمين " لاحقًا , وتبرز خلال الرواية أصوات أخرى و لكنني أجد بأن الرواية ترتكز على " عبد الرحمن " و " إسماعيل " .. أما بقية الأصوات فقد كانت مكياجًا لتجميل الأحداث , و لن أنسى أن الاعتماد على صوت الراوي في السرد أعطى مساحة حرية معقولة لنمو الأحداث دون تعاطف مع أحد كما ذكرنا سابقًا .
و الرواية في النهاية ؛ تريد أن تقول بأننا قوم مستهلكون للأفكار , ولا ثقافة خاصة لدينا , حيث أننا بعد أن استهلكنا موجة الفلسفات الفكرية والسياسية من وجودية إلى ماركسية إلى قومية , يجب البحث عن فلسفة جديدة تتلائم مع المجتمع , وكان أن اقترح " إسماعيل حدوب " أن تكون الموجة القادمة هي " البنيوية " متأثرًا بالفرنسي ميشيل فوكو .. و ليطلق عليه فيما بعد " بنيويّ الوزيرية " نسبة إلى مكان الاجتماع في احدى مناطق بغداد .. !!
الرواية تسخر من القضايا الثقافية الكبرى , وتهمّشها بشكل ساخر , و قد راق لي هذا الأسلوب – للأمانة أقولها – حيث أنني أرى بأنّ الاحتفاء بالديناصورات الثقافية على حساب الأعمال أمسى أمرًا مملاً للغاية .
ختامًا ؛ شكرًا علي بدر .
ودّ
سَعْد اليَاسِري
السويد
حزيران / 2007
#سَعْد_اليَاسِري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟