الحياة 2003/09/11
لم يحل الدخان المنبعث من سيكار مايكل لِدين دون وضوح مُقلق أبدته شفتاه: فـ"الأميركان"، كما قال، "يعتقدون أن السلام أمر طبيعي. هذا ليس صحيحاً. الحياة ليست هكذا. السلام شيء غير طبيعي".
"المحافظ الجديد" الذي هو لِدين لم يكن يهذي، ولا كان يستمتع باستراحة محارب. فرفاق المدرسة الفكرية التي ينتسب اليها لم يحاربوا في معظمهم، حتى استحقوا تسمية رالف نادر الساخرة: "صقور من دجاج". وربما كان شغفهم الفائض بالشؤون الاستراتيجية والحربية هو نفسه جزءاً معكوساً من هذه الدجاجية أو تعويضاً عنها.
كان مايكل لِدين، فحسب، يريح شفتيه للحظة من السيكار كما يريح السيكار، وقد ابتلّ بلعابه، من شفتيه. مع هذا بدا، بين مجّة وأخرى، كأنه يعوّد الناس بملايينهم على التطبيع مع الموت.
في مطلق الأحوال، أوجزت العبارة أعلاه، وهي ليست نسيج وحدها، الأساس الفلسفي الذي ينهض عليه "حزب الحرب" في الولايات المتحدة. فالعالم وحشة إن لم تكن ذئباً فيها أكلتك الذئاب. فكيف وأن الذئاب ممنوعون، بموجب النظرية إياها، من أن يكونوا أكثر من خراف يحاذون ذئباً هو وحده الخائف؟
غني عن القول إن شكاً كهذا بالنوع البشري لا تبدده نهايات الحروب حين تنتهي، ولا يأتيه الشعور بأن استقراراً ما يقيم في آخر النفق. فالعالم إنما هو أنفاق يأخذ واحدها بتلابيب الآخر، والحرب إذ تضع أوزارها لا تكون غير افتتاح لملحمة أخرى. فللهول والثبور ينبغي إعداد الناس جميعاً، فلا يستسلمون لمِتعهم ولا يغطّون في سبات عميق. ومثل هذا الحض على التعبئة، المرفق بالنبذ المنهجي لسلام يوصف دوماً بالاستسلام، ليس جديداً. فهو تكرار حرفي لنقد وجهته أشكال الوعي النضالي والعقائدي كافة لمن لا يخفق قلبهم للحروب. فالأخيرون هم البورجوازيون والكوزموبوليتيون والمِتعيون المتهتكون. وهم الغفّـل ممن ينامون على حرير فيما البارود تحت وسائدهم يتكدّس. وقد يصل سوء ظن التعبويين بمثل هؤلاء الى رسمهم طابوراً خامساً يبث القنوط والانهزام في الجبهة الداخلية. وإنما من زاوية الاستنفار المستديم هذا، رأى المؤرخ ألان ليختمان أن "المحافظين الجدد" يحظون بـ "أهمية تاريخية لأنهم، في عالم ما بعد الحرب الباردة، يوفّرون التبرير الفكري لاستمرار دولة الأمن القومي". لكنهم، ومن غير أن يكونوا فاشيين أو بلاشفة، يشاركون سائر العقائديين الرؤيويين شيئاً آخر: انتظار ظرف ملائم، أو "موضوعي"، للانقلاب على الحياة العادية والمباشرة، بالتالي، في عسكرة الكون. فالنازيون الألمان، قبلهم، وجدوا ضالّتهم هذه في حريق الرايخستاغ مطالع، 1933، ذاك أن حكومة أدولف هتلر التي يُرجّح أن رعاعها أحرق البرلمان، استغلت المناسبة ففرضت ديكتاتورية غير مسبوقة ولا ملحوقة ألغت، بعد ذاك، كل برلمان. وقبل عقدين استقى البلاشفة من الحرب العالمية الأولى والهزائم المذلّة أمام الألمان فرصتهم. هكذا استولوا على روسيا فأخرجوها من حرب لم ينجح ألكسندر كيرنسكي في مغادرتها ليُدخلوها، من ثم، سجناً تقوم شرعيته على الحروب الطبقية.
و11 أيلول (سبتمبر) كان، بهذا المعنى، ذريعة الانقلاب الذي انتزع "المحافظون الجدد" بنتيجته شطراً أساسياً من السلطة الأميركية. فيوم بكت نيويورك وواشنطن عثروا، هم، على بيرل هاربرهم الذي انتظروه طويلاً. وكما كان لبيرل هاربر الأصلي أن قضى على تردد فرانكلين روزفلت وجرّه الى غابات آسيا وخنادق أوروبا، أريد لذاك الحدث الأسود أن يزجّ رئيساً ضعيفاً وبسيطاً، عازفاً عن "بناء الأمم"، في أبعد زوايا المعمورة، لا سيما منها الشرق الأوسط.
وهذا ليس من الأسرار ولا من المؤمرات. فوليم كريستول، القطب الآخر لـ"المحافظين الجدد"، أعلنه بيقين المؤمنين والعقائديين إذ يرون الأحداث مصداقاً لتقريرهم السابق. ذاك أن 11 أيلول ما جعل "المحافظين الجدد" يبدون أنبياء ذوي رؤى: "لقد رأينا، قبل معظم الناس، ان العالم خطر جداً. ذُعرنا وحاولنا أن ننبّه إلى هذا كله. لا أحب أن أقول إن ذمّتنا بُرّئت، لكننا نشعر أن تحليلنا صائب". أما غاري شميت الذي كان من خبراء الأمن في عهد رونالد ريغان، فلم يترك زيادة لمستزيد: فـ "لولا 11 أيلول لكان بوش هائماً في الصحراء في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. ربما كان سيبحث عن صوت أضعف فيها ليركّز على الشؤون الداخلية. هكذا فنحن ]لولا 11 أيلول[ ما كنا، على الإطلاق، لنتمتع بموقع جيد".
طلباً للسيناريو الكارثي
قبل تلك المأساة بدت لهم أميركا، المنتصرة في الحرب الباردة، تتصرّف على نحو لا يليق بالمنتصرين. فهي، بحسب أحدهم جيمس ولسي، انهمكت وطنياً "في حفلة على الشاطىء". والدليل على الفوات هذا "أننا لم ننه المهمة في 1991"، كما قال أكثر من "محافظ جديد" في تفسير عدم الزحف على بغداد بُعيد تحرير الكويت.
والحال ان ادارة جورج بوش الأب لم تكن فردوسهم الموعود. فهي ظلت أسيرة عقلية الحرب الباردة تحسب حساب الأصدقاء والأعداء وتعتبر بتوازنات القوى. وحده وزير الدفاع ديك تشيني من حرّك عواطفهم لأنه، بحسب مستشار الأمن القومي يومذاك برنت سكوكروفت، مثّل الصوت النشاز في الإدارة المذكورة: فقد مانع في استجابة النوايا الإصلاحية والوفاقية للزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، ولم يمانع في استخدام أسلحة نووية من الصنف التكتيكي في حرب تحرير الكويت.
مواقف كهذه خاطبت السعي الذي لم يكلّ لدى "المحافظين الجدد" طلباً للسيناريو الكارثي. وهو ما أرساه جيلهم المؤسس إبان الحرب الباردة، لا سيما الثلاثي إيرفنغ كريستول ونورمن بودورِتز وألبرت ولستَتر. فهؤلاء كتبوا وبشّروا وفعلوا كل ما وسعهم لإدامة التوتر مع الاتحاد السوفياتي واستبعاد كل ما يؤدي الى انفراج. وقد ارتبطت أسماؤهم بتحولات عدة تولّت نقلهم، مع الزمن، من يسار ملتبس إلى يمين صريح. إلا أن المطلب الفوري الذي استنزف معظم حبرهم وجهدهم ظل الدعوة الى زيادة الانفاق الحربي وتصميم الديكور الذعري الذي يسوّق المطلب هذا.
أما الإسهام الفكري الأعرض لجيل المؤسسين فكان أنهم أدلجوا اليمين الأميركي البسيط والتقليدي، مُستعينين ببعض أسوأ تقاليد الفكر السياسي الأوروبي وبعض أقلّها ليبرالية. بهذا، حرروه من محليّته الأبرشية فربطوه بالعالم الخارجي و"مخاطره"، كما اعترضوا على عنصريته تجاه السود ولاساميته حيال اليهود. غير أنهم، من الناحية الأخرى، صبّوه في قالب الحرب الباردة بعدما رفعوا ضرورتها إلى فضيلة إسبارطية. فهم في موازاة تحولهم من اليسار الى اليمين، راح يتراجع اهتمامهم بالشؤون الداخلية والاجتماعية لمصلحة الثنائية القطبية وموازين القوى المنجرّة عنها. وفي إحكامهم بناءَ منظومتهم الفكرية على تناقض واحد آحادي، بات يسهل تبسيط المشكلات إلى تفنّن في وصف الشر، وتبسيط الحلول إلى وصفات في إحراز القوة. وعلى الطريق هذه جعلوا يتصالحون تباعاً مع قوى، دينية ورجعية، في اليمين حتى تمّ لهم المعنى الذي استقرت عليه تسمية "المحافظة الجديدة". فما دام أولئك الرجعيون يشاركونهم الخوف من السوفيات، بادلوهم غض النظر عن أردأ مواقفهم في أمور الدين والجنس والمرأة والفقر والثقافة. وكان أن انتهى المطاف بهم إلى تبنّي معظمها واحداً بعد آخر.
لكن الانفراجات التي أحدثوها في الهوامش لم تُلغِ انقلابيتهم في بعض متون الحياة الأميركية وسياساتها. فهم دافعوا عن استراتيجيات للتوريط في مواجهة التقليد الأميركي اللاتدخلي: فقبل روزفلت في الحرب الثانية، لم يكتسب ودرو ويلسون قامته العالمية إلا بعد أن جرّته الاعتداءات البحرية الألمانية في المياه الدولية إلى الحرب الأولى. وقد جمعت هذه الخلفية الويلسونية - الروزفلتية بين أخلاقية قديمة وانعزال قاري ورفض للاستعمار يضرب جذره في تاريخ ثورة واشنطن وجيفرسون. وأدت الخلفية اياها إلى وضع الحروب، في الفكر السياسي الأميركي، في موضع المقابلة مع الديموقراطية: ذاك أن الديموقراطيين لا يختارونها بل تُفرض عليهم فرضاً. وهي لا تُفرض إلا حين يُعتدى على بلدهم اعتداءً صريحاً فيذهبون إلى الحرب عند ذاك فحسب، ولا يذهبون إلا محمّلين بالمخاوف والهواجس والمعاناة.
وكان "المحافظون الجدد"، كذلك، ضد التقليد الجمهوري كما أوّله ريتشارد نيكسون وهنري كيسينجر صاحب النظرية الشهيرة في "بُنية السلام المستقرة". فالسوفيات، في عرفهم، ليسوا ممن يُردعون بالديبلوماسية المصحوبة بقدر مضبوط من التفوق. وبالطبع، لم يحظ التقليد الديموقراطي في نسختيه الكنيدية والكارترية إلا بازدرائهم. فمزامير التسويات وحقوق الانسان لا تُتلى على مسامع موسكو التوتاليتارية ومن لفّ لفّها في "العالم الثالث". وكان من تحصيل الحاصل أن يبشّروا، كذلك، بخفض التعويل على العلاقات الدولية وأحلافها، وعلى الأمم المتحدة بصفتها حصيلة تسوية مرفوضة تعريفاً بين الله والشياطين. أما أوروبا، وفرنسا خصوصاً، فتفاوتت في نظرهم بين العجز والادعاء. ولم يكن إخراج شارل ديغول بلاده، عام 1966، من المظلة العسكرية للأطلسي غير قرينة على أن مركّب العجز والادعاء يمكن أن يكون شريراً أيضاً.
بيل كلينتون.
وبين انقلابات أخرى جسّدوها، انقلب "المحافظون الجدد" على التقليد اليهودي الأميركي في وجهيه الشعبي والنخبوي. فالكتلة العظمى من اليهود كانت، ولا تزال، توالي الحزب الديموقراطي، وهو ما ظل حالهم هم أنفسهم حتى 1972، حين تبنّى الحزب ترشيح جورج ماكغفرن للرئاسة. وبدورهم مثّل المثقفون اليهود، من دون انقطاع، عواطف وتطلعات تحتل يسار الخريطة الفكرية للولايات المتحدة. أما هم، وأكثريتهم العددية الساحقة من اليهود، فرقصوا على ألحان مغايرة حتى صاروا، من جهة، يمين اليمين الجمهوري الذي لا يطيق أدنى اعتراض على حرب فيتنام، ومن جهة أخرى، "الليكودنيكس" الأميركان الذين يتهمون "حزب العمل" الاسرائيلي بالتفريط والتنازلات. وفي السياق هذا كان لمحنة المنشقين السوفيات، وكثيرون منهم يهود، أثر خاص عليهم. فهي وفّرت لحظة التطابق الأنصع بين أميركيتهم ويهوديتهم المهددتين معاً على أيدي "ورثة ستالين". لكن لئن رأى ليبراليو العالم رمزهم في أندريه زاخاروف، العالم اليهودي المنشق والمناهض للتسلح، رأوه هم في ناتان شارنسكي، المنشق الآخر الذي انتهى وزيراً متطرفاً في اسرائيل.
في المجال النووي
ورداً على التهديدات، الفعلي منها والمزعوم، جادل ألبرت ولستتر الذي تتلمذ عليه أقطاب الجيل الثاني، كريتشارد بيرل وجيمس ولسي وبول ولفوفيتز، بأن نهج الردع لا يكفي، وما على الولايات المتحدة التي تقلل من تهديد العسكرية السوفياتية، إلا أن تخطط لحرب نووية تردع، عبر التلويح بها، خطر موسكو النووي. ولئن حضّر ولفوفيتز أطروحته للدكتوراه تحت إشراف ولستتر، حين كان بروفيسوراً في شيكاغو يعمل لمؤسسة "راند" أيضاً، فإن صديقه ريتشارد بيرل أطل على الدنيا معتمراً الخوذة. فمنذ يفاعته في السبعينات، حين كان يعمل في جهاز السيناتور الديموقراطي المتطرف، هنري جاكسون، عارض الوفاق معارضته التصديق على اتفاقية سالت2. وقد ساعد جاكسون في إعداد القانون الشهير الذي بات يعرف بقانون جاكسون - فانيك، رابطاً التجارة مع الاتحاد السوفياتي بسياسات موسكو حيال هجرة اليهود. بعد ذاك، حين غدا نائباً لوزير الدفاع في عهد ريغان، اشتهر بيرل بمعارضته معاهدات الحد من التسلح والترويج لأفكار ضيقة جلبت عليه لقب "أمير العتم".
وتُرك لـ"ألاعيب مُميتة"، كتاب ستروب تالبوت، الصحافي يومذاك قبل انتقاله الى الديبلوماسية، تسجيل أدوار بيرل وشلّته ومنهم كينيث أدلمان، رئيس "وكالة الحد من التسلح" الذي لم يكره شيئاً كما كره هذا الحد. فبالاستفادة من تأثيره على وزير الدفاع كاسبار واينبرغر، ومن جهل ريغان الفاضح بهذا الشأن الحساس، مضى بيرل في "لعبته المميتة" تحريكاً للسياسات وموظفيها ورموزها، وإعاقةً لجهود جدية بدأها الخبير الشهير بول نيتز، الذي تولى لسنوات عملية التفاوض مع موسكو. ولم يقف هنا عبث الصبية المهووسين. فقد درس تالبوت مساهمة بيرل وزملائه من زاوية اندراجها في تاريخ ايديولوجي وجهه الآخر درجة تطور تقنيات الموت والإهلاك. فهي لا تعدو كونها امتداداً لتعاليم كتعاليم ولستتر وأولئك الذين أعطاهم اكتشاف القنبلة النووية فرصة لتنظير لا يعبأ بالعواقب. فلأن استخدام القنبلة ليس موضوعاً مطروحاً على الاستخدام المباشر واليومي، غدا التنظير فيه، منذ الخمسينات، مهنة لا تخضع لأي تحدٍ تجريبي. إلا أنها، مع هذا، قد تساهم في تقريب الموت المعمم إن لم يكن رفع الطلب عليه. لكنْ بعدما كان الجيل الأول من "المحافظين الجدد" متفائلاً نسبياً بواقع الحرب الباردة، سرى في الجيل الثاني تشاؤم بادٍ لأن الحرب نفسها انتهت، ولأن أفراد هذا الجيل مدعوون إلى التكيّف مع عالم غير مألوف وغير مقبول بالمرة. ولما دشّن الجيل الأول التقليد السجالي المرّ في الحياة الثقافية الاميركية، كان الجيل الثاني من دفعه خطى إلى الأمام. فبيرل، مثلاً، بعمله مع مجموعة صغيرة من الصحافيين الذين يروّجون أفكاره، عُرف بشراسة في تحطيم المناوئين غير معهودة كثيراً في أميركا، علماً أنها معهودة جداً في نشاط الإيديولوجيين الأوروبيين وبعض تقاليدهم. وقد تحلى التشاؤم هذا بأنف ضخم في شمّ روائح الدم وتقصّي الجثث. فأرميا كان، بالتأكيد، أحد أكثر الذين قرأوهم طلباً للاستلهام. ذاك ان النبي التوراتي الذي عاش إبان حصار البابليين القدس، بكى فشل شعبه في تحكيم الإله يهوه في شؤونه، واعتبر أن مصدر الخطيئة ضعف قلوب البشر وفسادها، لاعناً أن تكون الأمم الغريبة أكثر ولاء لأربابها الوثنية من اليهود لإلههم الواحد.
و"المحافظون الجدد" لم يفهموا أن الأميركان الذين أعطي لهم مجد هذه الأميركا لا يقاتلون من أجلها. فحين انتهت حرب 1990-1991 وبقي صدام في السلطة، استضاف برنامج "نايت لاين" التلفزيوني وليم كريستول الذي رأى أن "الكثير من الأمور المخيفة سُـلّط على العالم لأن أميركا خجولة جداً، وضعيفة جداً، ولا تؤكد ذاتها نهائياً في حقبة ما بعد الحرب الباردة". مذاك و"المحافظون الجدد" يعلنون، بالتقارير والخطابات والأوراق والكتب، أنهم إنما يدفعون باتجاه سياسة خارجية متصلبة دفاعاً عن المصالح والقيم الأميركية في آن، فينقلون البلاد من كونها العذراء المنتَهكة إلى صيرورتها الفحل الذكري المنتهِك. وكان للنهاية التي كُتبت لحرب تحرير الكويت، لا سيما البطش بانتفاضتي الشيعة والأكراد اللتين "أوصى عليهما" الرئيس بوش الأب، أن عززت لديهم نظرية المماثلة بين المصالح والقيم التي ستترتب عليها لاحقاً نتائج بارزة منها انبعاث موضوعة الامبريالية على نطاق واسع. بيد أنه، وعلى عكس الامبراطوريات الاستعمارية القديمة، تنطوي المصالح الامبراطورية الراهنة على مساعدة المُضطهَدين وتطعيم ثقافاتهم وسياساتهم بديموقراطية الولايات المتحدة. وعن هذه المعادلة وُلدت أخرى تعاظم تأثيرها في السنوات اللاحقة، مفادها أن العلاقات مع الخارج لا تستأثر بها الدول إذ تطول المجتمعات أيضاً، ولا تقتصر على التحالفات الاقليمية والتصويت في الأمم المتحدة إذ تتصل، كذلك، بتفاصيل البناء السياسي والاجتماعي في دواخل البلدان المعنية.
وعكست هذه الأفكار، على اختلاطها، جملة من المصادر والمرايا. فاللغة لم تكتم كولاجيتها التي ألصقت بعض ما رسب من "عبء الرجل الأبيض" الى بقايا موروثة عن القاموس اليساري والليبرالي لدى جيلهم الأول لتستقر، في محطتها الأخيرة، عند زاوية أمنية مُروّسة جداً. وتحكّم بسلوك "المحافظين الجدد"، كذلك، شعور الأقلي المزاود في توكيد أكثريته، وإحساس الموظف بضرورة إرضاء رب العمل وطمأنته. ولما كانت الثقافة القناة الأهم لتفعيل هذه الوظائف، قلّد معظم رموزهم أدوار تاليران وماكيافيللي في نصح من يتوافر من "ملوك" الولايات المتحدة و"أمرائها". فهناك دائماً المتبوع الذي تعاقب عليه جاكسون فريغان فتشيني وصولاً الى جورج دبليو ورمسفيلد.
وفي مقابل العراق والكويت، قدمت حروب يوغوسلافيا برهاناً على نبل الرسالة وغيريتها. فالولايات المتحدة انما تتوجه الى هذا المكان النائي لتفكك امبراطورية شريرة أخرى وتدعم أقلية مسلمة في بلوغ حياة أكرم وأقرب الى المثال الديموقراطي. وهي لا تفعل هذا من أجل البلقانيين والمسلمين وحدهم، بل أيضاً من أجل أوروبا نفسها. فهذه الأخيرة ربما ربحت العالم بعدما أسكتت مدافعها، إلا أنها بالتأكيد خسرت نفسها. فساحاتها الخلفية تضطرب ومدنها الداخلية يتهددها إرهاب سرطاني النمو. وما من شك في أن ضعف أوروبا التي حمتها المظلّة الأميركية طوال الحرب الباردة، أغرت "المحافظين الجدد" بالتعويل على النشاط الآحادي وجددت اكتشافهم فضائل القوة العارية.
وقد تولى واحد آخر منهم، هو روبرت كايغان، تنظير هذه الميول في الزمن الجديد: فهو رأى في الصفحات الأولى من كتابه "عن الفردوس والقوة: أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد" ما يلي: "في خصوص مسألة القوة البالغة الأهمية - فعالية القوة، وأخلاقية القوة، ومرغوبية القوة - يفترق المنظوران الأميركي والأوروبي. أوروبا تبتعد عن القوة، أو لنقل بصيغة مختلفة قليلاً: إنها تتجاوز القوة الى عالم مُحتوى ذاتياً من القوانين والقواعد والتفاوض والتعاون الدوليين. إنها تدخل جنة ما بعد تاريخية من السلم والازدهار النسبي وبلوغ "السلام الأبدي" لعمانوئيل كانط. في غضون ذلك، تبقى الولايات المتحدة متورّطة في التاريخ، تمارس القوة في عالم فوضوي هوبزي حيث القوانين والقواعد الدولية غير موثوق بها، وحيث لا يزال الأمن الحقيقي والدفاع عن نظام ليبرالي وترويجه يعتمدان على امتلاك الجبروت العسكري واستخدامه". واستخلص كايغان، في الكتاب الذي بدأ على شكل مقال قبل توسيعه، تشبيهاً ذاع لاحقاً، هو أن أميركا المريخ وأوروبا الزُهرة.
فالأميركان والأوروبيون، في عرفه، أبناء ثقافة التنوير نفسها، وهم بمعانٍ عدة يتشاركون في رؤية واحدة لنظام دولي أمثل. كذلك يحكم الطرفين القانون فلا يختلفان إذاً اختلاف الليل والنهار. لكن الفارق المهم يكمن في تصورهم الدور الذي لا يزال منوطاً بالقوة العسكرية. لكن إذا صحّ أن أميركا تحض أوروبا على أن تقوى لأنها تشاركها قيم التنوير والديموقراطية، فهذا ما لا يصحّ إلا في أوروبا. ذاك ان الثور الهائج يحمل مفهوماً للقوة يفترض القدرة على العدوان جزءاً عضوياً منها. فلا بد، بالتالي، في الطرف الذي سيقوى أن يعتدي ويوجه شفرته الى أميركا، طالما أنها هي نفسها لا تريد أن تقوى الا لكي تمتلك القدرة على توجيه شفرتها الى من تريد.
على أية حال، ففي 1992 صاغ ولفوفيتز، الموظف في البنتاغون، لوزيره ديك تشيني وثيقة تسفر عن تلك الذئبية القصوى. ذاك ان على الولايات المتحدة، بحسبه، التحرك ضد أعداء محتملين، حتى لو اضطرت الى العمل وحدها. وقد اعتُبرت تلك الوثيقة أكثر راديكالية من أن يهضمها الحزب الجمهوري. لكن لم يمض غير أربع سنوات حتى حاول وليم كريستول ومعه روبرت كايغان تمرير الفكرة ثانيةً في مقال لـ"فورين أفيرز"، فكتبا أن الولايات المتحدة إنما تسعى "وراء الهيمنة الكونية الخيّرة" وعليها، في سعيها هذا، أن تجابه القوى المعادية و"تُحدث تغييراً في الأنظمة". وبدورها لم تحظ المقالة بكبير اهتمام. على أنه منذ ذاك العام نفسه، 1996، انطلق تحريض "المحافظين الجدد" في خصوص صدام وضرورة إسقاطه، وتبلورت حجتهم القائلة إن على بلادهم أن تعيد صنع العالم بما يخدم مصالحها. وكان أن تراءى بعض صنع العالم في مذكرة وضعها عامذاك بعضهم، كبيرل ودوغلاس فايث والزوجين ديفيد ومايراف ورمسر، لبنيامين نتانياهو الذي كان رئيساً للحكومة الاسرائيلية. وبموجب المذكرة تبدو إطاحة اتفاقية أوسلو وغزو العراق الخطوتين - الشرطين لتحويل الشرق الأوسط في المنحى المرغوب.
وما من شك في أن نتانياهو اهتم. فأقطاب "المحافظين الجدد" أصدقاؤه الشخصيون يجمعه بهم الموقع الذي يحتله الإرهاب في تفكيرهم جميعاً، واعتبارهم أمن إسرائيل، كائناً ما كان تأويله، أولوية أميركية بقدر ما هي إسرائيلية. وبعد كل حساب، فرئيس حكومة اسرائيل السابق شقيق القتيل الاسرائيلي الوحيد في عملية عنتيبي، والأهم أنه نجل أحد مؤسسي تلك النظرة المتشائمة بجنس بشري لا يُساق إلا بالقوة. فأبوه المؤرخ بنزيون نتانياهو الذي اعتنق دعوة فلاديمير جابوتنسكي القومية المتصلبة، هو من أصدر كتاباً من 1384 صفحة عنونه "أصول محاكم التفتيش في اسبانيا القرن الخامس عشر"، مدمراً ما كانت تواضعت عليه الرواية التاريخية لتلك الحقبة. أما الفكرة التي دافع عنها بنزيون فأن اليهود حتى لو تحولوا الى المسيحية قلباً وقالباً يبقون، في حساب غيرهم، يهوداً فحسب. ولأن كراهية اليهود تخترق الأزمنة والأمكنة فلا يسع الاندماج تذليلها، ما من علاج لهذا الداء اللاتاريخي الا الإنعزال المحروس بالنار والحديد. وبنيامين إبن بنزيون بقدر ما أن وليم إبن ايرفينغ كريستول، ودانيال إبن ريتشارد بايبس، المهاجر الروسي ومؤرخ "امبراطورية الشر" الذي عمل مستشاراً لريغان، وروبرت إبن دانيال كايغان الذي حذّر من "نوم" أميركا فيما السوفيات يتسلحون، ودوغلاس إبن دالِك فايث، المناضل في التنظيمات القومية الجابوتنسكية ببولندا الثلاثينات.
وهذه حالة ما بعد حداثية، إلا أنها بعض أسوأ عيّنات المزاج ما بعد الحداثي. فانبعاث الهوية وفعالية منظومة القرابة التي يحتفظ بها غالباً المهاجرون في مهاجرهم، يتجاوران مع وطنية تجمع بين شوفينية قومية جامعة وتحزيب مؤدلج بالغ التفتيت. وهذه العناصر كلها تذرّ قرنها في الجامعات ومراكز البحوث وقنوات الاتصال الأشد عصرية في شقها التقني، لتضخ من الكلام أكثر ما يحول دون خروج البشر من حرب قايين وهابيل. لكنها أيضاً، وهو الأخطر، تفتي غير هيّابة في شأن التسلح النووي وتلهو على مقربة من زناده.
بيد أن أميركا التي كانت تستمتع بثمار الازدهار الاقتصادي غير المسبوق لعهدي بيل كلينتون ليست نتانياهو. فحين أصدر وليم كريستول في 1 كانون الأول (ديسمبر) 1997 عدداً خاصاً من مجلته "ويكلي ستاندارد" بعنوان "صدام" ينبغي أن يذهب"، اقتصر الإهتمام على نطاق ضيق من المؤمنين بالدعوة ممن لا يعوزهم التبشير بها. وما لبث الجمهوريون ان تفرّغوا كلياً للمعركة الرئاسية، حيث راح المرشح جورج دبليو بوش ينتقد انشغال كلينتون بالخارج، مؤكداً على أن دور الولايات المتحدة في العالم عرضة للتقليص لا التوسيع. لكن قبل العدد الخاص، وفي العام نفسه، أسس كريستول المعهد الذي ربما كان أهم ما أنشأه "المحافظون الجدد" في وثوبهم على السلطة: معهد "مشروع القرن الأميركي الواحد والعشرين" الذي غدا واجهة يلتحم خلفها الجمهوريون الرسميون الأشد يمينية، كتشيني ورمسفيلد، والقيادات المسيحية الرجعية بما فيها الكاثوليكية، كغاري باور ووليم بينّيت، فضلاً عن العشيرة الايديولوجية للمؤسس نفسه. وكان ما يجمع بين هذه العناصر، عدا التوجه الايديولوجي العام، ما تعرّضوا له من عزل وتهميش في السنوات الكلينتونية. فقد تشارك الثالوث تشيني ورمسفيلد وولفوفيتز في التحول الى "مسؤولين سابقين" على يد رئيس مثّل لجميع المصابين بالإمساك النضالي كل الكريه والمكروه: العولمة والتعدد الثقافي والراحة الاقتصادية والتلوث الأخلاقي في وقت واحد. وكانت كبرى جرائم كلينتون أنه لم يملأ، على مدى سنوات حكمه، "فراغ القوة" الذي خلفه انهيار السوفيات. هكذا استحق الرئيس السابق صرخة مسعورة أطلقها وليم بينّيت، وزير التعليم في عهد ريغان وأحد أقطاب "القرن"، ناعياً "موت الغضب" في أميركا.
ولأن الغضب ينبغي أن لا يموت، تولى مشروع "القرن" في "بيان المبادىء" ذي الطبيعة المنيفستوية، قرع طبول التصحيح رداً على اعوجاج طاغٍ، وتوكيد الهوية الريغانية الجامعة للمنضوين فيه، ولنشاطهم التصحيحي بالتالي. كما تولى تطوير نظرية الابتداء بالعراق: ففي بلاد الرافدين تُستَهل الحرب على الإرهاب بقدر ما تنطلق منه صناعة الشرق الأوسط الجديد. فإذا صح أن تلك الآفة إسلامية وشرق أوسطية، صح أن العراق مدخل استئصالها، هو الذي يحاذي إيران غرباً، وسورية، ومن ثم الموضوع الفلسطيني - الاسرائيلي، شرقاً، والجزيرة العربية والخليج شمالاً، وتركيا، وبالتالي روسيا، جنوباً. وفي مقابل عبور الارهاب الدول والحدود، لا بد من مكافحته انطلاقاً من دولة - قاعدة بعينها. فإذا كان صيت صدام الأسود وضعف شرعيته واهتراء جيشه بسبب الحصار تؤهّله لأن يكون الهدف الأسهل، فثروة العراق النفطية وطاقاته البشرية وكفاءاته العلمية ترشّحه لأن يكون نقطة الانطلاق المضمونة لتغيير المنطقة بكاملها.
وقد آن بالفعل، بحسب تلك النظرية، تغيير المنطقة على وجه يجفف الإرهاب في ينابيعه فيما يفرض حلاً أميركياً - إسرائيلياً للمشكلة الفلسطينية، المصدر الأول للارهاب. فما خلا اسرائيل، وبدرجة أقل تركيا، تقف دول تلك المنطقة كلها في الطابور المزدحم انتظاراً والمتحرّق شوقاً للتغيير المنشود. ذاك أن البلدين هذين هما وحدهما من يمارس الديموقراطية وتجمعه بالولايات المتحدة المصلحة في مكافحة الإرهاب.
وثمة من قلقوا وهم يعاينون "القرن" كما يرسمه معهده. وثمة، بين الأوروبيين خصوصاً، من نبّهوا إلى وجود مسودّة للهيمنة الأميركية على نطاق كوني. غير أن القلق لم يصر خوفاً: صحيح أن انضمام تشيني ورمسفيلد إلى "المحافظين الجدد" أعطاهم وزناً غير مسبوق، إلا أن الصحراء التي تفصلهم عن بلوغ الذروة كانت لا تزال ضخمة جداً. فهم، في أحسن أحوالهم، أضحوا لوبي شرعياً يستطيع الضغط على القرار بفاعلية أكبر. وفي أسوأها، تعبير عن نوستالجيا الى الزمن الريغاني حيث احتل معظمهم مواقع متفاوتة التأثير. والراهن أن كريستول والآخرين لم يُخفوا صدورهم عن "مبادىء" رونالد ريغان التي أوضحها على النحو التالي: "أميركا قوية. سياسة خارجية متجذّرة أخلاقياً" تدافع عن الأمن الأميركي والمصالح الأميركية. وفهمٌ ]مفاده[ أن القيادة الأميركية هي المفتاح لا للاستقرار العالمي فحسب، بل لأي أمل في نشر الديموقراطية والحرية حول العالم". وغالباً ما ألمح المراقبون الليبراليون إلى أن "المحافظين الجدد" كلهم، أكانوا باحثين مقاتلين في مراكز الأبحاث أم معلّقين في الصحف والمجلات، يكثرون الاستشهاد بـ"الوضوح الأخلاقي" لدى ريغان.
مع هذا لم يلحظهم كلينتون، فوجّه إليه "مشروع القرن" رسالة مفتوحة، في 1998، يحضّه فيها على قلب صدام بالقوة يمارسها طرف واحد: "فنحن لم يعد في وسعنا الاعتماد على شركائنا في تحالف حرب الخليج" لفرض نظام التفتيش في بغداد. أما "الاستراتيجية الوحيدة المقبولة فتلك التي تستأصل إمكانية تمتّع العراق باستخدام أسلحة الدمار الشامل، أو التهديد باستخدامها".
وتمضي الرسالة: "وهذا ما يعني، على المدى القريب، رغبة في اللجوء الى العمل العسكري إذ الديبلوماسية، كما هو واضح، تعاني الفشل. أما على المدى البعيد فيعني إزاحة صدام حسين ونظامه من السلطة". لكن الرئيس الديموقراطي الذي عالج العراق البعثي عامذاك بعدد من الضربات الجوية، حافظ على استراتيجية "الإحتواء" التي بدىء بها أواخر عهد بوش الاب. وبدا، مجدداً، أن الدعوة لم تقع على آذان صاغية. فكلينتون، مثله في هذا مثل سلفه الجمهوري، رأى أن سياسة "تغيير الأنظمة" كيفما اتفق تتسبب، بين أمور أخرى، في مزيد من الارهاب الكوني الذي يرتدّ على الأميركان قبل غيرهم.
ولم يطل الانتظار في الظل وإن شابهُ قدر من التعثّر. فجورج دبليو إذ ترشّح للرئاسة لم يبدُ لمعظم "المحافظين الجدد" صاحب القامة الذي يتصدى للتحديات، لا سيما بالطريقة التي رسموها هم فيها. وهل يمكن لأي كان، حتى لو كان "محافظاً جديداً"، أن تخونه الفراسة هنا؟
والحال أن كثيرين منهم تعاطفوا، في الطريق الى الانتخابات، مع منافسه الجمهوري جون ماكين الذي ارتبط اسمه بالقتال والسجن في فيتنام. وكانت الخشية لا أن يكون جورج دبليو إبن أبيه فحسب، بل أن يكون أسوأ من ذلك. فالوالد، على الأقل، رافق ريغان كما عرف العالم الخارجي، فيما النجل لا يزال يخطىء الفرق بين غانا وباكستان.
لكنْ كان ثمة ما يطمئن. فقد تردد أن جورج دبليو استمد فكرته عن "المحافظة العطوفة" من غيرترود هيميلفارب، مؤرخة الحقبة الفيكتورية في انكلترا وزوجة إيرفنغ كريستول التي شاركته ارتكاب نجلهما وليم. كما أن جيب، شقيق دبليو، كان أحد موقّعي "بيان المبادىء" الذي أصدره "مشروع القرن" لدى تأسيسه في 1997. بيد أن الطمأنة الأكبر بما لا يُقاس صدرت عن اختيار دبليو ديك تشيني نائباً له. وعلى الاختيار هذا ترتبت نتائج خارقة تتالت تدريجاً. فقد جيء بصديق تشيني، دونالد رمسفيلد، وزيراً للدفاع، وببول ولفوفيتز نائباً له، وبريتشارد بيرل ليرأس المجلس الاستشاري للوزارة. وعلى العموم، فمن أصل الثمانية عشر اسماً الذين وقّعوا رسالة "مشروع القرن" إلى كلينتون، بات عشرة يتولون مناصب مهمة في الإدارة الجديدة. وبدت المفارقة الأبرز أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء مدنيون يتوزعون المناصب في وزارة الدفاع. واستحضر الوضع الجديد نظريته، فابتدأ أحدهم يومذاك، إليوت كوهين، تجهيز كتابه الذي صدر بعد عامين بعنوان "الإمرة العليا: الجنود والسياسيون والقادة في زمن الحرب". وما أراده البروفيسور والخبير الاستراتيجي المذكور البرهنة على ان الحروب أخطر من أن تُترك للعسكريين، على ما سبق أن رأى كلاوزفيتز. فما أن تدخل أمة حرباً حتى تغدو القرارات الأساسية، بما فيها كيفية توزيع الجنود وتحديد أولوياتهم وأي درجة من القوة ينبغي اعتمادها لضمان أمنهم، مهمة القيادة المدنية وحدها. وربما وجد دبليو، وقد حُمل على قراءة الكتاب، ما يدغدغه في "العبقريات" العسكرية لأربعة مدنيين هم ابراهام لينكولن في الحرب الأهلية الأميركية، وجورج كليمنصو في الطور الأخير من الحرب العالمية الأولى ومفاوضات الهدنة التي تلتها، وونستون تشرشل إبان الحرب الثانية، ثم ديفيد بن غوريون في حرب 1948 العربية اليهودية. لكن القراء الأعرف من الرئيس، وهم محيط من البشر، لا بد أن تقلقهم مماثلات تاريخية مع تجارب عقائدية سابقة: فبعد ثورة أكتوبر الروسية سمّي بعض الحزبيين البلاشفة مفوّضين في الجيش يراقبون الضباط الموروثين عن القيصرية ممن لا يثق بهم النظام الجديد. وإبان الحرب الثانية كانت القرارات العسكرية لهتلر وكبار النازيين غالباً ما تتعارض مع تقديرات الجنرالات الألمان المغلوبين على أمرهم. أما "الثورة الثقافية" الصينية الشهيرة فعنت، في أحد أبرز وجوهها، إخضاع المجتمع للجيش وإخضاع الجيش للحزب. على ان "المحافظين الجدد"، هنا أيضاً، لم يستوقفهم أن خصمهم صدام حسين كان هو الآخر مدنياً أخضع الجيش العراقي وزجّه في معارك وضع هو بنفسه خططها التي كانت آية في الفشل.
على أية حال، فلا المناصب في وزارة الدفاع بدت كافية بذاتها ولا الكتاب. المطلوب كان إقدام أسامة بن لادن على ما أقدم عليه في 11/9/2001. فهو الذي قدّم الهدية النادرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فانطلق من عقاله الجنون.
الحقيقة اللازمة للخرافة
الباقي غدا معروفاً، وقد تكشّف على إيقاع أحداث هيولية بالغة التسارع: حربين في أفغانستان والعراق، وجو ذعري لم تعرفه الولايات المتحدة ولا عرفه الشرق الأوسط. مع هذا يحتفظ بعض التفاصيل بأهميته. ففي اجتماع وزاري عُقد بعد 30 ساعة فقط على ضربات "القاعدة"، وقبل أن يتضح تماماً من الذي يقف وراءها، أصر رمسفيلد، بحسب رواية الصحافي بوب ودوارد، على ضرورة استهداف صدام. ومع الاجتماعات الأولى التي عقدها مستشارو الرئيس للأمن القومي بُعيد 11 أيلول، طرح وزير الدفاع ونائبه ولفوفيتز رأييهما في إطاحة النظام البعثي، إذ ما دام العراق دولة ارهابية باتت الحرب على الارهاب تستهدفه حكماً. وساد، في هذه الغضون، جو الترهيب والكوارث انطلاقاً من حقائق فعلية لكنها مضخمة ومنظمة. هكذا عمّ الكلام على شبكات تعمل على نطاق عالمي، وعلى دول إرهابية تنظّم نشاطاتها بدقة الكومبيوتر. وتبعاً للتحليلات الذعرية هذه، بدت الدول دائماً أخطر من الشبكات لأنها أقوى وأغنى، فضلاً عن استخدامها السفارات والحقائب الديبلوماسية لإنجاز عملياتها.
والأهم كان نشر الفرضية القائلة إن ما حصل في 11/9 أقل مما سوف يحصل ويتخذ شكل إرهاب ذري أو بيولوجي. اما العبرة فضرورة التضافر حول السلطة وأجهزة الأمن والتعامل بجدية مع رئيس قائد كان الشك، حتى تلك اللحظة، يساور ظرف انتخابه. وإذ تغلبت، هنا، "المحافظة الجديدة" على "الليبرالية الجديدة" من داخل مجمّع ايديولوجي وسياسي واحد، أعيد الاعتبار للدولة التدخلية، لا في خدماتها الاقتصادية والاجتماعية، بل في أنيابها القمعية المسنونة.
وامتدت عملية الخوف والتخويف الى جوانب أخرى. فمناقشة الحرب وسياساتها، أو التشكيك بالتأويل الرسمي للأحداث، قُدّما "عملاً غير أميركي" تخالطه شبهة الخيانة. واستورد المجتمع ما صدّرته له الدولة من خوف، فمارس أسوأ هواياته الوطنية: تجميع البنادق. هكذا لم ينقض غير أشهر ثلاثة على تدمير البرجين حتى بيع أكثر من مليون قطعة سلاح في الولايات المتحدة. ذاك أن الارهاب قد يأتي من تحت الأسرّة ومن وراء الجدران، كما كانت وسائل الإعلام التي يمتلكها روبرت مردوك، ويتولاها "المحافظون الجدد"، تشيع. ولأن الحال على ما هي عليه، افتتح معسكر غوانتانامو بموافقة شعبية تكاد تكون اجماعية في الولايات المتحدة، كما مرر الكونغرس، بعد شهر ونصف الشهر على 11/9، "القانون الوطني الأميركي" فلم يعارضه الا صوت واحد في مجلس الشيوخ. وتُرك لقبضة من النقاد الليبراليين واليساريين أن يحذّروا من أن ذاك القانون يخل بالأداء الديموقراطي ويضرب فلسفته المعمول بها تقليدياً في أميركا: فهو يعامل المواطن على انه متهم الى ان يثبت العكس، وفي انتظار الاثبات يحرمه معظم حقوقه وضماناته الــقانونية. وبموجب القانون إياه، طُلب من الأميركان أن يمارسوا الوشاية بما يفيض كثيراً عن ضفاف المثقفين والفنانين ممن طالبتهم مكارثية الخمسينات بالإخبار عنهم. فوزارة العدل، برئاسة جون أشكروفت، بادرت الى ملء علب البريد باستمارات تسأل من يتسلمها أن يشي بأي تصرف غريب أو مشبوه يبدر عن جيرانه.
كان الأمر، إذاً، بمثابة طائرة أخرى تقصف عقل أميركا وتكمل ما بدأه قاصفو البرجين. وإذ شكك هذا السلوك بمبدأ التعاقد الاجتماعي، تمكنت الأدلجة المحكمة من بوش نفسه، فإذا به بين ليلة وضحاها يفتي في أمور الشأن الإنساني والخير والشر. وفعلاً ظهر "محافظ جديد" آخر، هو ديفيد فروم، يكتب له الخطاب الذي ألقاه في كانون الثاني (يناير) 2002 عن "محور الشر"، شاملاً إيران إبان الإعداد لحرب على العراق! وبدا دبليو مُطالَباً بالاهتمام بشؤون المبادأة وحقائق الاستراتيجيا، عملاً بالوصية الضمنية المبثوثة في كتاب إليوت كوهين. فقد كان على الرئيس، بكلمات كريستول، أن يتعلم، قبل أي درس آخر، أنه "من غير المقبول أن نجلس في المؤخرة ونترك المجموعات الإرهابية أو الديكتاتوريين يطورون أسلحة دمار شامل يضربوننا بها أولاً".
وتروي الكاتبة والصحافية إليزابيث درو كيف أنه لم تمر الا فترة قصيرة على 11 ايلول حتى كان أعضاء مدنيون في الإدارة يطلعون بعض القادة العسكريين على أن ستة أنظمة، فضلا عن العراقي، ينبغي ان تطاح لاحتضانها مجموعات ارهابية. فالسلطات القائمة في كل من سورية ولبنان وإيران والصومال والسودان وليبيا مطروحة على جدول التصفية. ونشأت بورصة تصعد فيها وتهبط أسماء الأنظمة المرشحة لأن تُقلب والبلدان المعرّضة للتحويل الجــذري. وحتى 1 أيار (مايو) الماضي على الأقل، بدا دبليو ملتزماً هذه النظرية: فقد سمّى انتهاء "المعارك الكبرى" في العراق، "انتصاراً واحداً في الحرب على الإرهاب التي بدأت في 11 أيلول 2001 ولا تزال مستمرة".
لقد طفق الثوار يعيدون إنشاء العالم من صفر. فهم أرادوا، أيضاً بحسب كريستول، "أميركا توكيدية ومثالية لا تبحث عن أعذار، تطلق الثورات الديموقراطية في العالم، ولا تتردد، إذا لزم الأمر، في استخدام القوة لهذا الغرض". ولأن أي روبسبيير لا يطيق جيروندييه، اختاروا وزير الخارجية كولن باول، المعروف بحذره الشديد حيال الحروب والموت، خصمهم. والحق أنه لو تُرك الأمر لهم لبدأت الحرب العراقية خريف 2002، هي التي لم يؤخّرها إلا نجاح باول ورئيس حكومة بريطانيا توني بلير في إقناع بوش بالتوجه الى الأمم المتحدة. وفي تصعيد مفاجىء للمعركة، نيط بوافد جديد إلى "المحافظين الجدد"، هو رئيس المجلس السابق نيوت غينغريتش، التشهير بوزير الخارجية علناً، ومن على منصة أحد أبرز معاقلهم، "أميريكان إنتربرايز إنستيتيوت".
وكانت للمدنيين حربهم في موازاة السعي إلى قضم وزارة الخارجية، بعدما اخترقوها بجون بولتون، نائب الوزير، المفروض على وزيره. وقد جادلوا بأن الحرب تلك لا تستدعي أكثر من أربعين إلى ثمانين ألف جندي. ذاك ان القوة الصغيرة التي تتجه من واشنطن الى بغداد لا بد ان يضخّمها مقاتلو "المؤتمر الوطني العراقي" والفارون من الجيش والمنشقون عنه، فيما يتكفّل الورد المنثور على الجنود المحررين تعطير المهمة وتسهيلها. وراح العسكريون، وقد غدا عددهم في الخارجية التي يرأسها عسكري سابق أكثر مما في الدفاع "المدنية"، ينتفون شعورهم. هكذا أدلى رئيس أركان الجيش، الجنرال أريك شينسكي، بشهادة أمام الكونغرس مغايرة تماماً لتقديرات "المحافظين الجدد"، فرأى أن ما بعد انتهاء القتال يحتاج الى ما لا يقل عن مئتي الف جندي. وبدورهم كره رمسفيلد وولفوفيتز والآخرون المستعجلون أن يعرف الرأي العام الاميركي بأن الحرب مكلفة، فسارعوا الى التشكيك بشهادة الجنرال. ورفض رمسفيلد المطالبة بتوفير عدد مرموق من أفراد الشرطة العسكرية يكون جاهزاً لفرض الأمن حالما ينتهي القتال. وبالطبع رفضوا جميعاً انتظار الأمم المتحدة التي قدّر البعض ان مجلس أمنها يمكن ان يصدر قراراً ثانياً، كما رفضوا بناء أحلاف عسكرية تتعدى الحليف البريطاني.
هكذا كانت حرباً ايديولوجية بامتياز. فحين تبيّن ان الحروب لا تُخاض بالايديولوجيات، طوّروا نظريات أخرى لتطويق المآخذ. ذاك ان الرأي العام الأميركي، في حسبتهم، مستعد لتقبل الخسائر في العراق حيث لن تتكرر فيتنام مطلقاً. وحتى في فيتنام نفسها لم يصدر كره الحرب عن المجتمع الاميركي، إذ بقي التأييد لها قوياً برغم الجثث، فلم يتراجع إلا مع محاولات الادارات المتعاقبة اقناع الجمهور باستحالة النصر. والشيء نفسه يصح في الصومال والبلقان وغيرهما، بما يستوجب من جورج بوش أن يستنتج الدرس اللازم: إكمال الشوط وعدم التراجع في منتصف الطريق لأن ما يتخذه من قرار سيكون المصيري والحاسم. ولئن كان الباحث والمؤرخ البريطاني الأصل بول كينيدي قد تنبأ، منذ عقدين، بسقوط الامبراطورية الاميركية بعد فترة سطوة تطول، وابتكر تعبير "التمطّط الامبريالي" الذي يرفع الانفاق على الحرب والقواعد مفضياً الى الانهيار، فهم طوّروا نظرية نقيضاً: فحصة الدفاع من الإنفاق الأميركي الراهن لا زالت، قياساً بإجمالي الناتج المحلي، تقلّ كثيراً عما كانته إبان الحرب الباردة. ثم أن الولايات المتحدة لن تنفق على بناء العراق ما سبق ان انفقته على إعادة بناء أوروبا واليابان.
وإذا بدا بعض هذا الكلام صحيحاً، فبعضه الآخر أن أميركا تئن تحت عجز قيمته ثلاثة تريليون دولار لباقي العالم، وميزان مدفوعاتها العالمي لن يسمح لها، بالتالي، بحروب لا نهاية لها ولا شريك لها فيها. لكن إذا كان على الأميركان أن يقلقوا من جراء هذا المشروع الانقلابي، فعلينا نحن أيضاً أن نقلق. فالعرب إنما وفّروا الحقيقة التي لا بد لأي خرافة أن تستند اليها لكي تكتمل كخرافة. فمعظم الوصف الذي صدر عن "المحافظين الجدد" لأحوال الشرق الأوسط ونُظمه وتعليمه واستبداده صحيح. وهم إذا ما كذبوا في خصوص سلاح الدمار الشامل في العراق، أو العلاقة بين "البعث" و"القاعدة"، فإنهم لم يكذبوا في توصيف النظام الذي سحق العراقيين وروّع المنطقة نيفاً وعقوداً ثلاثة. وهم لئن أخفوا مسؤوليتهم عن الارهاب، فنحن أيضاً أخفينا مسؤوليتنا فعظّمنا فاعليه وأعلناهم "شهداءً" ولا نزال، بعد عامين على 11/9 نسبّق كل "إرهاب" بـ"ما يُسمى". وحتى الآن، لم يوفّق العرب في الاجابة عن سؤال طرحه "المحافظون الجدد" عليهم، وهو: أين هي الأواليات الداخلية للديموقراطية والإصلاح في المجتمعات العربية؟ وبمعنى مشابه تستثير الأنظمة التوتاليتارية، ومنها السوفياتي الراحل، الخوف المشروع حقاً، وتستدعي تعزيز القوة لمنع خطرها.
مع هذا، فردّ الخطر شيء والتهديد شيء آخر، تماماً كما أن وصف السؤ شيء وجعله أسوأ شيء مختلف. وقد يكون من الجائز السؤال عن قدرتنا على التغيير الذاتي، بل رغبتنا فيه. إلا أن المؤكد أن نزعة الاستئصال والتغيير الفوري الشامل لن تخلّف وراءها غير الدم وغير أفق لا ترسمه إلا علامات استفهام كبير. ففي حالة العراق، تتساوى احتمالات انهيار البلد مع احتمالات قيامه. وفي الحالات الأخرى، يتبدى كيف أن الخطأ الذي بنته عشرات السنوات، إن لم يكن مئاتها، يستحيل على "الصح" أن يقتلعه في غضون أيام، وهو ما تزداد استحالته حين ينعدم المثال الذي يُفترض بتقدم العرب أن يفضي إليه؟
لكن حتى لو جاز غض النظر عن الشق الإيديولوجي في هذا المشروع الخلاصي، وحتى لو جاز التغاضي عن طابعه الذعري، بقي شيء واحد غير قابل للإشاحة: أن المشروع لا يتمتع بالنزاهة. فلدى الاقتراب من إسرائيل شارون تختفي حقيقة يعرفها كل المتعاملين مع الحروب. ذاك أن مُمجدي هذه الأخيرة تغنّوا، منذ الأساطير الأولى للانسانية، بالمعاناة والتغلب على الذات فيما هم يقاتلون العدو. وحتى لو كانوا يحاربون العتم والشر، ظلت تتجاذبهم صراعات داخلية ووجدانية كانت جزءا من "المطهر". وهذا ما لا يبدي مثله أولئك الصامتون عن انتهاكات ما أن يطالها وصفهم حتى ينقلب مديحاً. فالقوس لا بد من أن يفرّط بسهم من سهامه حتى يصيب هدفاً قريباً، فكيف وأن الأهداف عديدة ونائية والحرص على السهام كبير جداً؟